مشكلة نور الشريف انه مثقف يعرف الكثير مما يصيبه في أغلب
الأحوال بالاحباط ومشكلة الآخرين غير نور انهم لا يطيقون صبرا على الثقافة
ولأنهم لا يعرفون.. يركضون في دنيا الفن بلا هدف أو تخطيط مثلما يركض الوحش
في البرية.
الثقافة ليست مجرد كتاب تتزين به أرفف مكتبة فخمة.. الثقافة
وجهة نظر في الناس وفي الحياة وفي الكون الثقافة طريقة حياة ولابد لها بشكل
أو بأخر ان تتقاطع مع السياسة لذلك جرى اختيار عنوان الحلقات اقرب الى
السياسة منه الى الفن.. لأن كلاهما يعكس الأخر وعندما تقرأ مسيرة نور
الشريف وتتأمل أعماله بين عصور عبدالناصر والسادات ومبارك وأخيرا مرسي
ستعرف بكل سهوله أحواء العصر بكل ما فيه من تقلبات وتحولات وأحوال وتلك هي
روعة الفن واذا ما جرى تزييف التاريخ فأن الأفلام والمسلسلات لا تكذب.
ولهذا حاول بعض الأثرياء من هنا أو هناك شراء ذاكرة الأمة بامتلاك نيجاتيف
الأفلام حتى يتم العبث بها فيما بعد وتغيير ما فيها وفقا لتكنولوجيا حديثه
تفعل المستحيل. ولأن نور له رأيه السياسي الذي يعلنه هاجموه لأنه ناصري.
وهاجموه لدرجة وقف الحال بعد فيلم ناجي العلي وهاجموه لأنه مقرب من نظام
مبارك. وهاجموه لأنه اختفى والتزم الصمت لأشهر طويلة بعد ثورة 25 يناير.
هاجموه بمناسبة وبدون مناسبة وفي أغلب الأحيان هو يشعر ان الهجوم فاتورة
يجب ان يسددها لأنه يمتلك من الرأي ما قد يزعج غيرة. ويظهر حجمه الحقيقي
وهذه هي ضريبة التميز.. وللحكاية جذورها القديمة.
زكي ليـــــه
في كل مرة يسألون فيها نور الشريف عن الفرق بين الأداء عند
الأجيال القديمة والجديدة تكون الاجابة مثيرة للجدل لأن البعض يتصور ان نور
يهاجم بتلك الاجابة جيل الرواد.. ويوضح هذا الأمر هنا فيقول: حتى أعطي
مثالا حقيقيا فانني أصارحكم القول بأنني من أشد المعجبين بالفنان الراحل
زكي رستم لأنه يعني لي الموهبة المثقفة. لقد راقبت أعماله واكتشفت انه قد
سبق المدرسة الأميركية في الأداء. مع انه لم يتعلم لذا فأنني أصفه بأنه
صاحب الموهبة المثقفة ويصعب على أي فنان أخر ان يصل الى مستواه وربما يكون
بعضهم أكثر موهبة من زكي رستم لكنه يتفوق بأنه أكثر حرفية في العمل. لأن
حركة الممثل تتشابه مع عبارات الحوار.. ذلك ان قسما من جمل الحوار لا يتحقق
المعنى فيها.
والمطلوب من الممثل ان يؤدي أداء معلقا الى ان يتم معنى
الكلمة ويتحد معها. وهناك جمل حركية معلقة وجمل حركية تلتة المعنى.
والجمهور قد يأخذ هذه الأمور ببساطة. ألا انها في غاية الصعوبة بالنسبة
للممثل الذي يبحث عن أسلوب خاص في الأداء بحيث يجسد الحوار بالشكل الخارجي
والداخلي وكل ما يؤكد المعنى الذي يريد ان يوصله للمتفرج. واذا أردت ان
تجرب ممثلا جديدا أو حتى من أصحاب الخبرة أطلب منه ان يؤدي الحركة مع
الحوار وأن يختتمها في نفس اللحظة أو يقدم جمله حركية بدون حوار ثم يستأنف
الحركة بعد ذلك. لقد فوجئت بزكي رستم يحتضن النظرية في داخله وهي التي تم
تقنيتها فيما بعد بطريقة عليمة مما يشير الى ان الموهبة القوية تتضمن الحس
الثقافي بدون نظريات سابقة لكنها الفطرة السليمة والاحساس الناضج. وأعتقد
ان الأستاذ يوسف وهبي يمثل النموذج الواضح لمدرسة الأداء المبالغ فيه وهي
مدرسة ينتمي اليها الكثير من نجوم الجيل الأول والثاني والثالث وبعض أسماء
من الأجيال الجديدة. ولا غرابة في ذلك فقد كانت أغلب مدارس الأداء في
العالم تعتمد على المبالغة. وانتقلت عنها عدوى المسرح كما قلت وعندما ترى
الأفلام الأميركية القديمة في بدايات التجارب السينمائية تلاحظ ان المكياج
المسرحي هو السائد. الوجه أبيض. الحواجب كثيفة. وللدلالة على ذلك أفلام
شارلي شابلن ولوريل وهاردي. حيث المكياج المبالغ فيه وذلك راجع لطبيعة
المسرح أيام زمان حيث لم يكن متطورا مثل هذه الأيام. لذلك كان الممثل يلجأ
الى هذا المكياج الصاخب حتى يراه كل رواد الصالة المسرحية.. وبالتوازي كان
الأداء الحركي على المسرح يعتمد كذلك على المبالغة وقد وصل هذا الارث الى
أجيالنا الفنية القديمة باستثناء زكي رستم ونجيب الريحاني وعلي الكسار الذي
لم يتعلم نهائيا لكنه الاحساس الأرتجالي القوي وكذلك سليمان نجيب ومحمد
عبدالقدوس. ولم يكن هؤلاء يقدمون الشخصيات التي يجسدونها بقدر ما يقمون
انفسهم. فاذا توقفت عند زكي ستم ونجيب الريحاني على وجه التحديد ستلاحظ
الاختلاف والتفوق. في فيلم «سي عمر» يقدم الريحانى شخصيتي «الفقير والغني»
ويجسد الفارق بينهما ببساطة وبدون مبالغة. وأنا لا أقصد الاساءة الى الرواد
ففي هذا المجال قدمت سعاد حسني شخصيتين في فيلم نادية واستعانت بصوت مستعار
لكي تميز كل شخصية عن الأخرى التي تعتمد على الصوت الطبيعي. الريحاني فعل
هذا بدون استخدام الصوت المستعار لكنه لجأ الى الحركات وأسلوب النطق
والاشارة ونجح.
يوسف وهبي يرد
وفي حوار دار بين نور الشريف ويوسف وهبي حول الاختلاف بين
الأجيال ونشرته مجلة المسرح في عددها الأول عام 1979 والذي صدر في شهر
أغسطس.. قال يوسف وهبي ردا على ذلك: من المؤسف ان بعض الصغار ينكرون الاباء
والرواد الذين مهدوا لهم الطريق وحببوهم في الفن وقد نسي هؤلاء الصغار انهم
يتبعون ذات القافلة وأنهم سيصلون بعد جهد جهيد الى عمراً أفنوه في خدمة
المسرح وسوف يقول عنهم من يأتي بعدهم انهم في غاية التخلف. هناك قيم
ومعايير تحكم المسألة.. هناك نص جيد ونص رديء هناك ممثل جيد وممثل رديء ولا
يوجد في الدنيا كلها فنان لا يحاول ان يطور نفسه ليلاحق العصر.. فالعصر
الآن لا يحتمل المغالاة.. وقد كانت المغالاة قديما أساسا في كل شيء.. حتى
في الجنازات فمشيعو الميت كان يجب عليهم ان يقضوا ثلاث ليال في بيته.. وهنا
كان المثل القائل «موت وخراب ديار» والمبالغة في الماضي كما كنا نشاهدها في
مسرحيات «روميو وجوليت , شهداء الغرام وهاملت» ومعظمها من أعمال شكسبير
لكننا اليوم لا نشاهدها كثيرا لأن الحب والجنس أصبحت أشياء مباحة عند
الكثيرين ولأن الزنا والخطيئة أصبحت أمور نتهرب منها بأقراص منع الحمل.
والفارق بين اليوم وأمس هو الفارق بين الوصولية والهداية. لا اقصد بهذا
حكما شاملا على من يعملون من شباب الحقل الفني. لأن هناك من الشباب الهواة
من يملكون الجلد وقوة الاحتمال مثلما كان يفعل هواة الماضي. والقضية اننا
يجب ان ندرك الاختلاف بين الرائد وناشر الدعوة وبين من وصلوا الى احتراف
المهنة بسهوله وساروا على طريق عبره الرواد وفرشوه بالورد. والنظرية تقول
ان من يسعى الى الحصول على رغبة تملكت نفسه يحتمل الشدائد والصعوبات. ولهذا
أوكد ان اكتشاف «كريسوفر - كولمبس» لأميركا رغم انه تم بواسطة سفينة شراعية
أشرف بكثير من اكتشاف القمر بالسفن الفضائية لأن كولمبس حقق أكشافة المجهول
بروح المغامرة أما الذي ذهب الى القمر فقد درس وخطط لكل شيء وكل خطوة.
لقد حاول البعض من التافهين انكار أدب طه حسين وتوفيق
الحكيم وفقا لنظرية خالف تعرف ولم يصبهم ألا الاستهزاء والاستخفاف وهناك من
شباب المسرح من يستحق التحية والتقدير ومن هؤلاء «نور الشريف» الذي هجر
المسرح رافضا لما يقدم على خشبته من تهريج ولقد شاهدته يؤدي دور الحاكم
بأمر الله وهو دور أديته منذ أربعين عاما وقد قدمه بأسلوب جديد ومختلف
وسعدت به. وليس مهما ان يقلد يوسف وهبي ولكن الأهم ان يحس الشخصية ويتعايش
معها ويؤديها باحترام. ونور الشريف فنان يحترم الكلمة ويحترم خشبة المسرح
وهو بلا شك من رواد جيل الشباب. ويعلق نور الشريف في نفس اللقاء على كلمات
الفنان يوسف وهبي ويقول: نظرية التشخيص التي كان يؤدي بها الأستاذ يوسف
وهبي لاتزال موجودة في أماكن عديدة من العالم حتى الآن. وهذا اللون مطلوب
في بعض الأعمال وله تأثيره على الجمهور أكثر من الأداء الواقعي في بعض
الأحيان. وأنا أختلف مع الذين يتهمون يوسف وهبي بالتخلف فهو صاحب تجارب في
بعض الأفلام الكوميدية كان فيها واقعيا لدرجه طبيعية. وقد كان يملك القدرة
على التكوين في الأداء بما يؤكد انه فنان عظيم وفي الحقيقة انا لم أتعلم
شيئا من يوسف وهبي لأنني لم أسعد بالعمل معه ولم أتابع أعماله العظيمة التي
قدمها باستثناء ما قدمه التلفزيون. وما يقوله الأستاذ يوسف وهبي عن الجيل
الجديد فيه شيء من الصح.
مع البوسطجي
ويتوقف نور الشريف عند مدرسة أخرى في الأداء أحد أساتذتها
الفنان الكبير شكري سرحان ويقول: لا يمكن ان انسى تلك اللقطة الخرافية التي
يقف فيها البوسطجي «شكري سرحان» أمام المرآة ليقول لنفسه في يوم العيد جمله
بسيطة لكنها قيلت بصدق واتقان واحساس مذهل بالشخصية. ان شكري سرحان كسر
انماط الشخصيات التي مثلها حتى أغلب أبناء جيله رفضوا تقديم شخصيات العامل
والفلاح والميكانيكي وقد تأثروا في ذلك بالمدرسة الأمريكية التي فرضت نظرية
النجم اللامع الذي يظهر دائما في ملابس نظيفة ومكياج جميل وشعر مسبسب وكانت
أغلب الأفلام المصرية مقتبسة عن أفلام أجنبية. انني أعشق أدوار شكري سرحان
في أفلام «احنا التلامذة» و«الزوجة الثانية» و«رد قلبي» و«شباب امرأة» ورغم
انني قدمت نفس الدور الذي لعبه شكري سرحان في «اللص والكلاب» من خلال «ليل
وخونة» الا انني أود ان أقدمه من جديد لأنه هناك عدة أبعاد لم يتم ابرازها
في هذا العمل خاصة علاقة الانسان بالقدر ما يثير شكوكا حول نجيب محفوظ
وحرصي على اختيار الأداء المناسب لكل شخصية وضعني في مصادمات عديدة مع
النقاد خاصة في فيلم «قلب ليل» و«كتيبة الاعدام» لقد اصطادني اثنان من
النقاد وسلخوني حتى كدت ان اشك في نفسي مره أخرى رغم أسمي وشهرتي وتذكرت ما
حدث معي في المعهد عند امتحاني أمام الأستاذ نبيل الألفي. وللأسف الجيل
الحالي من النقاد يكتب انطباعات والناقد المتخصص في فن التمثيل غائب
وبالتالي أصبحت المعايير الفنية غير واضحة. وفي فيلم «العار» عندما عرض على
السيناريست «محمود أبوزيد» قصة الفيلم مع مخرجه على عبدالخالق كنت متحمسا
لدور رئيس النيابة الذي لعبه الفنان حسين فهمي ولكنني أدركت انه دور مكروه
فاخترت الدور الأسهل الذي يلعب بالأفيهات ويقدم الحركات واعترف ان هذا
الاختيار فيه جزء من خبث المهنة وفوجئت بأن جوائز الفيلم أصبحت من نصيبي
انا ومحمود عبدالعزيز فقط في حين ان حسين فهمي كان أحق منا بالجائزة. ولكن
الناقد غير المتخصص خدعته شوية الحركات التي قمت بها انا ومحمود ولم يلتفت
الى الدور المتميز لحسين فهمي ولذلك يقال هناك دور يسند الممثل وهناك ممثل
يسند الدور فمثلا دور هاملت يسند أي ممثل حتى لو كان سيئا لأن صياغة شكسبير
مبنية على التعاطف الذي يجعلك تحب الشخصية ومن ثم تصاحبها. ومسألة غياب
النقد موجودة أيضا في أوروبا. واذكر أم فيلم «بيكيت « الذي لعب بطولته
ريتشارد بيرتون وبيتر اوتول أوضح مثال لذلك فقد أدى ريتشارد أحلى وأعظم
أدواره ألا ان الأقلام صفقت وهللت لأداء أوتول لأن أدوارة مبهره وحركاته
على الشاشة شكلها حلو وهو ما يسمى بالأداء الاستعراضي وهو ما يخدع الناقد
غير المتخصص والمتفرج أيضا بعكس الأداء الداخلي الذي قدمه بيرتون بعمق واذا
أردت ان تكشف فنانا اطلب منه ان يعبر عن احساسه بخيانة زوجته بدون كلمة أو
حوار.
انتقال إلى وحتى لا نترك نور يتحدث عن نفسه نرى من الواجب
هنا وبطريقة المونتاج السينمائي ان نقطع عليه وأن نتجه بالكاميرا الى احد
بلاتوهات السينما في عام 1984 حيث يقف المخرج حسن الامام يعطي تعليماته
لنور ومعالي زايد قبل تصوير احد مشاهد فيلم «دنيا الله» وكان الامام من أول
من قدمه في فيلم «قصر الشوق» أو الجزء الثاني من ثلاثية نجيب محفوظ.. كانت
المسافة بين اللقاء الأول بين المخرج والممثل واللقاء الثاني 11 سنة نظنها
كافية جدا لمتغيرات عديدة رصدها الامام أمام الناقد وجيه خيري وقال عن نور:
لقد أكتسب خبرة كبيرة خلال هذه السنوات لأنه عمل في أفلام متنوعة ومع
مخرجين يمثلون أجيالا ومدارس مختلفة ونور ممثل معجون تمثيل وموهبته قويه
فضلا عن كونه دارس ومثقف والخبرة التي اكتسبها جعلته يفهم كيفية التعامل
بسهولة مع كاميرات السينما وكيف يمثل بشكل طبيعي أمامها دون تكلف أو افتعال
ومع مثل هذه النوعية من الممثلين لا تشغلني أساليبه في الأداء لكن أركز
جهدي فقط في حركة الكاميرا وكيفية اصطياد لحظات تعبيره بأفضل الزوايا
والاضاءة وفوق كل هذا هو ممثل ملتزم ورغم كونه ينتمي الى جيل الشباب ألا
انه يتمتع بوقار الرواد فهو أول من يصل الى البلاتوه ويأتي وقد حفظ دوره
كاملا ولا نضطر معه الى الاعادة ألا للتجديد أو عند خطأ الممثل الذي أمامه
فهو اقتصاديا موفر جدا كبطل ومهما تقاضى من اجر فهو رخيص قياسا بغيره.
وأراهنكم على ان هذا الشاب سيستمر على القمة لأكثر من ثلاثين سنة قادمة.
قالها حسن الامام ورحل ولكن النبوءة تحققت بل وبسنوات أكثر مما توقعها
فأمثال نور لا يعترفون ألا بالقمة وكم حاول البعض ازاحته عنها بكل السبل
وفي ذلك مزيد من الحواديت.
النهار الكويتية في
14/07/2013 |