في محطة السينما التي انطلق منها نور الشريف نجماً في سماء
الفن.. كانت البداية حباً ولولا هذا الحب ما كان عادل إمام الممثل المكافح
وقتها قد رشحه المخرج حسن الإمام الذي كان يبحث عن وجه جديد يلعب دور كمال
عبد الجواد في فيلم (قصر الشوق).. عن ذلك يقول نور:
كان عادل إمام قد شاهدني في امتحانات المعهد العالي للفنون
المسرحية وأنا أقدم الامتحان النهائي بدور «هاملت» وحصلت على الامتياز.
هكذا اختارني عادل إمام لوجه الله بدون مجاملة أو زمالة أو
صحبة تجمعني به بشكل واضح.. فقط كنت صديقاً لصلاح السعدني وكان هو أيضاً
صديقاً للسعدني وعادل كما تعرفون خريج كلية الزراعة وما أدارك ما شلة
الزراعة التي تحولت إلى مشاهير الفن.. وتصورت وأنا في الطريق إلى حسن
الإمام أنني قد عبرت كل حواجز الانتظار والترقب والقلق.. ففي هذا الوقت كان
يذاع مسلسل «القاهرة والناس» وكان ناجحاً وكنت أحد أبطاله لكن أجهزة
التلفزيون كانت محدودة قياسياً بالوقت الحالي.
ذهبت إلى حسن الإمام ولعبت الدور وخضت التجربة التي قفزت بى
سنوات في رحلة المعاناة السينمائية.. ولكنني فؤجئت بأقلام النقاد تهاجمني
وتصف أدائي بأنه متشنج وبأني أهوى إلى أسفل.. ورغم نجاح الفيلم إلا أنني
تأثرت بهذا الهجوم كثيراً، وعشت تسعة أشهر فيما يشبه العزلة لم يسأل خلالها
على أحد من المخرجين أو المنتجين أو حتى الأصدقاء أو الممثلين الجدد أمثالي
عنى.. تسعة أشهر كأنها فترة حمل في جنين الإحباط.. كانت بالنسبة لي كابوساً
بكل معنى الكلمة.. والمضحك أن دوري كوجه جديد حصل على شهرة لا بأس بها ومع
ذلك لم أجد كلمة تشجيع واحدة.. كنت وقتها أعيش مع أسرتي في حي السيدة
زينب.. ومن شدة الألم والإحساس باليأس والفشل فكرت مرة أخرى أن أترك مهنة
التمثيل لولا تشجيع الأخوة حسن يوسف وشقيقه منير.. والممثل الشاب نبيل
الحلفاوى.. ومن هنا أقول أن الفترة التي تقع تاريخياً بين مسلسل القاهرة
والناس وعام 1972 هي الفترة التي قبلت فيها أفلاماً من أجل لقمة العيش فقط.
مثل «نادية» و«زوجة لا رجل» مع نيللى وكمال الشناوي وصلاح السعدني وهي
أعمال يجب أن تسقط من تاريخي فقد قبلتها خارج قناعتي كممثل.
كان النمط السائد مصرياً وعالمياً حينها بالنسبة لمواصفات
البطل السينمائي أن يكون حلو العينين، هادئ نبرة الصوت، جميل الابتسامة،
رشيق الخطوة قادراً على أن «يسبل» عينيه أمام مرآة عيني البطلة.. وفي مصر
كان أنسب رجل سينمائي يحمل هذه الصفات صديقي حسن يوسف.. وكان السينمائيون
يبحثون بعد أن ارتفعت أجور ممثلي الصف الأول وفي مقدمتهم حسن نفسه عن وجوه
جديدة تملك مواصفات نجم الشباك وبأجور قليلة وكنت أول المختارين لهذه
الأدوار التي لا تلقى عندي قبولاً أو قناعة في داخلي.. ولقد حدث في هذه
الفترة أمر عجيب إذ حول النقاد هجومهم إلى مديح كبير.. وهنا اسمحوا لي أن
أقول أنني بالفعل كدت أفقد ثقتي في كل الكتابات النقدية الفنية إذ تفتقد
الكتابات ومع الأسف الكثير من الموضوعية والمنهج النقدي السليم.. وكان الحظ
حليفي إلى حد كبير مع أفلامي الناجحة جماهيرياً وفي مقدماتها «نادية» وهذه
مسألة تنتمي إلى درجات التذوق الجماهيري.. وتنتمي أيضاً إلى الوقت الذي
يظهر فيه الممثل الجديد.. فقد يأتي ممثل ضاحك في زمن البكاء والعكس صحيح..
على أن هذا الصنف من الممثلين ومهما كانت قدراته التمثيلية لن يحقق ما
يتناسب وطموحاته من النجاح.. لقد ظهرت سينمائياً في فترة الهزيمة في عام
1967 وكانت النكسة تمثل صدمة عنيفة على الصعيدين المصري والعربي.. ففي مصر
لم يكن أحد يتوقع بحال هزيمة الجيش الجرار الذي يضم أعداداً هائلة من
الألوية العسكرية والمدرعات وقوات الإمداد البحرية والمنشأة والدبابات
والقوات الجوية والمظلية وحين وقعت النكسة تسربت أثارها المعنوية إلى قلوب
وجوارح المواطنين حتى سادت حالة من القتامة واليأس المشابه لهذا الشعور
الذي ساد العالم أثر الحرب العالمية الثانية وما ترتب عليها من ويلات ودمار.
نكسة يونيو تكاد خسائرها المادية من وجهة نظري لا تقارن
بالخسائر السيكولوجية وبدأ الناس يبحثون عن وسائل الترفيه لنفوسهم المتعبة
من خلال السينما والمسرح وأغاني الكباريهات والملاهي الليلية التي تكاثرت
وظلت في ازدهار وصعود حتى نهاية السبعينيات.. ولهذه الأسباب جميعاً يعود
السر في نجاح أدواري والتي أرجو أن تسقط من ذاكرة السينما والناس.
وقائع ضد النسيان
من سنوات التكوين الأولى إبان دراسته بالمعهد يتذكر نور
الشريف واقعة يرى أنها كانت بالغة الأثر في فهمه لدور العلم في تكوين
الممثل كما يجب أن يكون.
ففي السنة الرابعة بالمعهد طالبه أستاذه جلال الشرقاوي بأن
يعد بحثاً في ثلاثة أيام فقط عن شخصية «بيكيت» في مسرحية «بيكيت أو شرف
الله» وأنهى نور البحث الذي لم يعجب الأستاذ لأنه وجده عبارة عن تجميع من
كتب وأبحاث سابقة، وسأل الأستاذ الطالب أين وجهة نظرك الخاصة؟.. فأجاب
الطالب: بأن الوقت غير كاف، فأمهله الأستاذ ثلاثة أسابيع كاملة لينهى
البحث، وبدأ نور في البحث عن تفسير «بيكيت» غير مكتف بالترجمة الوحيدة التي
كانت بين يديه فسأل إن كانت هناك ترجمات أخرى ووجد ترجمتين ووجد بينهما
خلافاً عن الأولى وبين كل منهما فأمسك بالنسخة الأصلية وتوجه بها إلى
أستاذه رفيق الصبان ليقارن بين الترجمات الثلاث إلى أقربها من الأصل. وهكذا
الباحث الصغير علا بحثه برغبة صادقة في المعرفة والوصول إلى التفسير الأقرب
إلى الحقيقة وبعد أن أنهى بحثه وقف أمام أستاذه ليناقشه في تفسيره الذي
فوجئ بأنه مغاير تماماً لجميع التفسيرات وهنأه الأستاذ في النهاية على جهده
مشيراً إلى أن الفن وجهة نظر.
هذه الواقعة العابرة أعتبرها نور الشريف واحدة من أهم
الأحداث التي شكلت ملامحه لا يكتفي بالتفسير السطحي للشخصيات والأعمال
الدرامية لكنه يجتهد في البحث حولها وسبر أغوارها مطعماً إياها بمخزونه
العامر من ملاحظاته اليومية للحياة والبشر.
وربما كان ذلك الملمح ملمح الباحث- هو ما ساعد نور الشريف
على الانتقال من شخصية إلى أخرى دون أن تغطى شخصيته الحقيقية على أي منها
ولعلنا إذا ما وضعنا شخصيات نور الشريف الدرامية بجوار بعضها سنندهش كيف
أستطاع أن يكون «كمال عبد الجواد» بطل «قصر الشوق» و «السكرية» ويكون بعدها
«عادل عوض» في مسلسل «القاهرة والناس» ثم يكون بعد سنوات نور في «زوجتي
والكلب» ثم يوسف شاهين «في حدوتة مصرية» و«حسن» في سواق الأتوبيس» و«سيد»
في «ليلة ساخنة» و«يوسف كمال» في «البحث عن سيد مرزوق» و»جعفر الراوي» في
«قلب الليل» و....و....و....
فهذه الشخصيات على تباين تكويناتها النفسية والاجتماعية
أستطاع نور أن يرتديها بسهولة ويسر لما يتمتع به من موهبة مزودة ببحثه
العلمي المدعوم بثقافته وقراءاته التي لا تنتهي في جميع جوانب الحياة
«أدب.. فكر.. فلسفة.. سياسة..»
يقول نور إن أكثر ما يحرص عليه في حياته هما القراءة
والملاحظة اليومية ويقصد بـ «الملاحظة اليومية» هي قراءته للبشر العاديين
بجميع تنوعاتهم وهو في ذلك لا يكتفي فقط بالملاحظة لكنه يدون هذه الملاحظات
في كراسات خاصة يرجع إليها إذا ما صادفته شخصية غريبة عليه فيطعمها بما
يجده في هذه الكراسات.
أما الملمح الثالث والمهم في شخصية نور الشريف الفنية أنه
لا يكف عن التعلم ولا يغضب من ملاحظات المحيطين به حول أدائه وهنا يتذكر
درساً تعلمه في بداية حياته وتحديداً حينما كان يلعب دور «عادل عوض» في
مسلسل «القاهرة والناس» يقول نور: مع الحلقة الرابعة في المسلسل فاجأني
كاتب المسلسل عاصم توفيق بأنني ما أزال غير قابض على روح الشخصية وأن بينى
وبين جمهور المشاهدين حاجزاً لم يحدده هو.. يومها رجعت إلى بيتي أسأل نفسي
«أين الخطأ»؟، حتى توصلت إلى أنني كنت متوتراً جداً لكنى كنت حريصاً في
الوقت نفسه- ألا يلحظ أحد هذا التوتر فادعيت وجوده فئ إخفائه من على وجهي
وجسدي، لكن ملاحظة عاصم توفيق نبهتني بعد تفكير عميق أن هذا التوتر وإن كنت
قد نجحت في إخفائه إلا أنني لم أنجح في التخلص منه، فتجمع هذا التوتر وسكن
صوتي فخرجت الكلمات من فمي ينقصها الصدق، وتزخر بإدعاء هو في الحقيق ادعائي
بأنني تخلصت من التوتر، وكان يظهر الادعاء واضحاً أكثر في ضحكاتي «ويضيف
نور: «من يومها تدربت على التخلص من توتري وبدأت أنجح بالتدريج في ذلك حتى
وصلت في الحلقة الحادية عشرة إلى الأداء الذي أتمناه ، وهذا وضح جلياً على
استقبال جمهور المشاهدين لشخصية «عادل عوض» الذي أصبح بعد ذلك وطوال حلقات
المسلسل نموذجاً لشباب مصر ومثلاً أعلى».
الإصغاء والتعليم من ملاحظات الآخرين بات ملمحاً أساسياً في
شخصية نور الشريف الفنية وظلا معه حتى هذه اللحظة وبعد كل هذا العمر من
الخبرة الفنية وهو الملمح الذي أكتسبه بالعلم والتجربة، وأصبح يعلمه الآن
لشباب الممثلين الذين يشاركونه أعماله ويحرص أن يعطيهم من خبرته وعلمه
متذكراً بينه وبين نفسه كيف كان هو وكيف أصبح؟
أربعة ملامح أساسية شكلت نور وهي الملامح الأربعة التي لا
يمكن أن تغيب عن شخصية أي باحث بالمعنى العلمي للكلمة وربما كان «الباحث»
هو أقرب الألقاب التي تليق بالفنان نور الشريف.
ويقول الناقد محمد الروبى إنه داعب نور بقوله: لو كنت أمتلك
جائزة كبرى لأعطيها لك عن دورك «يوسف كمال» في فيلم «البحث عن سيد مرزوق»
فما ردك؟
ابتسم نور الشريف وهو يهز رأسه موافقاً ثم قال: «أنا شخصياً
أعتبر هذا الفيلم من أهم أفلامي على الإطلاق، بل أرى أنه سيعاد إليه
الاعتبار بعد سنوات طويلة، وسيكشف فيه الناس أنه كان قراءة شديدة العمق
لواقعنا السياسي والاجتماعي دون خطابة أو مباشرة، فيوسف كمال في هذا الفيلم
هو أنا وأنت وكل من ينتمي إلى اليسار بأطيافه المختلفة الذين ارتضوا أن
يتخلوا عن دورهم الحقيقي، وانزووا بعيداً تاركين حيتان الانفتاح يلتهمون
ثورة الوطن، ويفرضون عليها قوانينهم وقيمهم الجديدة، وحينما أفقنا، -كما
يوسف في الفيلم- كان الوقت قد فات، وكانوا هم الحيتان الجدد- في قمة
توحشهم، واستطاعوا جر الوطن إلى الوراء البعيد!!.
فرحت كثيراً بتفسير نور الشريف لفيلم داود عبد السيد
الرائع، وأكد لي هذا التفسير إحساسي تجاه هذا الفنان من أنه ليس فقط ممثلاً
كبيراً بالمعنى الذي يخص الإجادة في الأداء، ولكنه أيضاً مفكر وباحث واع
بدوره كفنان، وبدور الفن باعتباره كاشفاً لجرح الوطن راغباً في تغييره. بل
أن نور يؤكد لي الإحساس حين فاجأني بأن داود عبد السيد حينما عرض عليه
السيناريو، كان يختاره لأداء دور «سيد مرزوق»!! لكن نور بعد قراءة
السيناريو، اكتشف حقيقة دور «يوسف» فأصر على لعب دوره، وفوجئ داود باختيار
نور ولفت نظره إلى أن الفيلم يحمل اسم «سيد مرزوق» وهو ما يعنى أن البطولة
الفيلمية لهذا الدور. إلا أن نور أصر إصراراً أسعد داود وبدأ الاثنان
يعملان على الفيلم.
دنيا السراب
نور يصر على أهمية العلم والتعليم رافضاً تماماً لفكرة
الاكتفاء بالموهبة، بل إنه تذكر واقعة قديمة تخص فيلمه «السراب» الذي عرض
عام 1970 من إخراج أنور الشناوي عن قصة نجيب محفوظ، وهو الفيلم الذي لفت
أنظار النقاد إلى ذلك الممثل الشاب القادر على أداء دور صعب بما يحمله من
مشاعر متناقضة، وبما يحتويه من أحاسيس نفسية شديدة التركيب. لكن الحادثة
التي يتذكرها نور الشريف، كانت قبل أدائه للدور بسنوات ويقول عنها: «قرأت
قصة السراب وأنا مازلت فتى يافعاً يقف على أعتاب المراهقة، وأعجبت بها
للغاية وتوحدت مع شخصية «كامل» بطل القصة وحلمت كثيراً بأدائها.
وفى مرحلة الدراسة الثانوية قرأت في الصحف أن المخرج الكبير
«صلاح أبوسيف» يستعد لإخراج فيلم عن قصة «السراب» ثم توالت الأخبار حول
الفيلم منها أن حسن يوسف مرشح للدور، ثم خبر عن اعتذار حسن، ثم خبر آخر عن
ترشيح الفنان إيهاب نافع للدور، وحينها اندهشت كثيراً من هذا الترشح
فمواصفات إيهاب سواء العمرية أو الجسمانية وأيضاً وسامته الشديدة أراها
جميعاً مخالفة تماماً لهذا الدور، وفجأة سمعت الأستاذ إيهاب في حديث إذاعي
يتحدث بمناسبة ترشحه لهذا الدور وفي سياق الحديث تساءل نافع عن أهمية معهد
التمثيل وقال شيئاً أثار غيظي الشديد كان معناه أنه ليست هناك ضرورة
لافتتاح معهد يدرس التمثيل: «وهو التمثيل محتاج دراسة» وأغاظني كثيراً هذا
القول، فأنا من ناحية كان حلمي ومنذ مرحلة الدراسة الإعدادية أن أدخل هذا
المعهد، ومن ناحية أخرى أحسست أن إيهاب نافع يتحدث بتعال شديد عن التمثيل
وكأنه شيء شديد التفاهة يتناقض تماماً مع تصوري عن التمثيل وعن أهمية
دراسته دراسة علمية، وبعد دخولي المعهد تأكد غيظي من كلمات إيهاب نافع
فهناك عرفت أنني كنت على صواب، وأن الدراسة العلمية لفنون الأداء التمثيلي
لا يمكن الاستغناء عنها مهما كانت درجة موهبة الممثل. تذكر نور الشريف لهذه
الحادثة جاء في سياق الحديث عن أهمية العلم والتعليم لكنها الحادثة- جعلتنا
نور وأنا- نمسك بخيط السراب في الفيلم الذي أكد قدراته الأدائية عند النقاد
ووضعه بسرعة في طابور النجوم، وحمله مسؤولية اختيار الأدوار بعد أن شعر
بفرحة النقاد والجمهور بأدائه».
ويتذكر نور خلافاً حدث بينه وبين المخرج أنور الشناوي حول
مشهد رئيسي في الفيلم وهو المشهد الذي يثور فيه كامل على أمه فقد كانت رغبة
المخرج أن ينفعل نور ويعلو صوته على أمه في ثورة عارمة، وكنت أرى هذه
الشخصية التي تعانى من مركب أديب في علاقته بأمه لا يجب أن تثور عليها بهذا
الشكل «صوت عال وصراخ و....»، لكن يجب أن يكون عتاباً يبدأ رقيقاً ثم
يتصاعد، وحاولت إفهام المخرج أن هذه الشخصية لو ثارت في وجه الأم ربما تخرج
كلمة واحدة عفوية تجعلها تبكى وتنهار ويهرول ناحيتها يقبل يديها ثم يكمل
حواره وهو مخنوق بالعبارات والشعور بالذنب، لكن المخرج أصر ودارت الكاميرا
واضطررت إلى إعادة هذا المشهد الذي صور بطريقة «اللقطة الواحدة» حوالي ست
مرات لعدم اقتناعي بالتفسير الذي يصر عليه المخرج، وفي النهاية أديت المشهد
بطريقة احترافية «دون اقتناع كامل» كما يريده المخرج. وفي ليلة العرض الأول
بسينما «ريفولى»، وحينما وصل الفيلم إلى هذا المشهد فوجئت بأن الصالة
انفجرت في تصفيق حاد، فنظر لى أنور الشناوى ليسألنى وهو يبتسم: «وما كنتش
عاوز تصرخ؟! «لم أرد ولكنى ظللت على إقتناعى بأن المشهد كان سيصبح أكثر قوة
وأكثر توافقاً مع الشخصية لو أديته بالطريقة التي أنا إليها، بل إن تصفيق
الجمهور في الصالة إعجاباً بأدائي لم يقنعني بأنه الأداء الأفضل، فأنا أشعر
أن التصفيق جاء كرد فعل شرطي للصراخ الذي قمت به، وهي طريقة بدائية ومعروفة
تجعل أي ممثل مهما كانت قيمته يستدر تصفيق الجمهور بصعوده الصوتي إلى ذروة
تحث الجمهور على التصفيق، ولكن لم يكن هذا ما أريده، وكنت أريد تأملاً
للمشهد بصرف النظر عن التصفيق- بل ربما سيأتي التصفيق بعد لحظات بعد
استيعاب الجمهور لموقف الشخصية ولكلمات الحوار المعاتبة التي كشفت العلاقة
بينهما وبين الأم». يضيف نور: «اختبرت هذا الإحساس بعد ذلك بسنوات في
مسرحية «ست الملك» وكانت أمامي الرائعة سميحة أيوب، وأتذكر أنه في أحد
المشاهد المهمة، وهو آخر مونولوج لي في المسرحية، كنت أصر على أن أختم
«المونولوج» بأقل طبقة صوتية، وكان الجمهور بعدها يغيب في صمت لمدة ثلاثين
ثانية وبعدها تنفجر عاصفة من التصفيق تغمرني بإحساس لم أتذوقه من قبل،ـ بل
أنى أشتاق إليه دائماً: إنه التصفيق بعد الاستيعاب.. تصفيق حقيقي، غير
مزيف، وغير مستجد» وهناك واقعة يعتبرها دلالة على روح الفريق الذي عاش به
جيله كله، يقول نور:
«كنت
أيامها مستأجراً لشقة فوق سينما «قصر النيل»، وكان صلاح السعدني مستأجراً
لشقة أخرى قريبة، وأذكر أننا بعد خروجنا من سينما «ريفولى» بعد العرض،
حملني الجمهور على الأعناق حتى شقتي عند سينما «قصر النيل» وأذكر أن صلاح
السعدني مع بقية الأصدقاء شاكر عبد اللطيف وهادى الجيار وآخرين أصروا على
الاحتفاء بى ولم يكن أحد منهم يملك أموالاً تساعدنا على هذا الاحتفال
ولكنهم أصروا وأشتروا بالأجل كباباً وأنواع من الجبن ويومها قال صلاح
السعدني جملة لن أنساها حتى اليوم تدل على الروح النبيلة التي يتمتع بها
هذا الفنان: اليوم نحن نحتفل بنجاح جيلنا.. ياه كم كانت رائعة جملة صلاح
السعدني وكم كان صادقاً وهو ينطق بها هكذا هو الفنان الحقيقي.. ولمن لا
يعرف أقول: إن صلاح السعدني قائل هذه الجملة- هو من لعبت أمامه دور كومبارس
في سهرة تليفزيونية كان يلعب هو بطولتها.. كم أنت جميل أيها الـ «صلاح
السعدني»..
سيد محسن
يمثل عام 1983 نقطة تحول بارزة في مشوار نور الشريف
السينمائي الطويل.. حيث تم تتويجه بجائزة مهرجان نيودلهي عن فيلم «سواق
الأتوبيس» تأليف «بشير الديك» وإخراج «عاطف الطيب» إنه الفيلم الذي حقق
الانقلاب في واقعية ما بعد «صلاح أبو سيف» رأينا شوارع القاهرة صباحاً
وعربات الفول وحياة كانت بعيدة عن السينما المصرية أو هي تباعدت عنها
لأسباب تجارية ساذجة.. الفيلم أجتمع فيه وعليه كوكبة من أبناء جيل واحد وإن
كان نور الشريف كممثل قد سبقهم بخطوة وسهل لهم الكثير لظهور الفيلم إلى
النور.. هو يلعب دور «حسن» سائق الأتوبيس.. وبعد 13 سنة يلعب شخصية سيد
سائق التاكسي في فيلم «ليلة ساخنة» ويلتقي فيه مجدداً مع مخرجه القريب من
قلبه ووعيه وتفكيره «عاطف الطيب».. وبعد سنوات حدثت فيها الكثير من
المتغيرات لكن السائق يرى ويسمع ويراقب ويتحرك.. في الأتوبيس يجئ العالم
إليه جماعات.. وفي التاكسي يجئ العالم فرادى في أغلب الأحوال.. قد يكون
راكب الأتوبيس أحياناً هو راكب التاكسي وقد تباعد بينهما الفوارق الطبقية
ويظل كل راكب في مركبته يمضى إلى حال سبيله.. لكنهما حتماً يلتقيان في شارع
واحد وربما في نفس المسار.
نور يرى أن «سواق الأتوبيس» هو التعبير الفني عن الحالة
الأخلاقية والاقتصادية لعصر السادات بينما فيلم ليلة ساخنة هو تعبير عن
الحالة الأخلاقية لعصر مبارك فهل وقفت صداقة نور مع الرئيس السابق حائلاً
دون أن ينتقد عصره في أعماله وأن يتكلم بكل صراحة لا يخشى في الحق لومة
لائم..؟
الإجابة ببساطة: لا.. لأن الرواد الموجود في عقل هذا الفنان
يعمل بكل يقظة وينتبه في اللحظات المناسبة لكي لا يتحول إلى ممثل يعمل
لحساب السلطة ويمشى على هواها طلباً لغنيمة أو مكسب.
هنا رفض دائماً الانضمام إلى حزب أو جماعة وأختار أن يقول
كلمته بكل حرية. الصداقة سلوك إنساني.. والسياسة فعل عقلاني ووجهة نظر..
لذلك قد يختلف الأب مع ابنه لكنه أبداً لن يكرهه أو يحاربه.. وهذه هي روعة
المحاولة بين العقل والقلب وبين الإنساني والسياسي والممثل الحقيقي ليس
مجرد «ببغاء» يردد النص المكتوب.
النهار الكويتية في
18/07/2013 |