تمضي أفلام كثيرة باتجاه تقديم مقولة يتأسس حولها كل شيء، وتطويعه
في خدمة تلك المقولة، ولتكون عوامل نجاحها السينمائي قليلة،
وعلى أصعدة عدة كون
السينما تتحول إلى أداة لا أكثر، لها أن تتناغم مع ما يود الفيلم قوله أو
قد ينتصر
ذلك القول على ما عداه وهذا هو الاحتمال الأكبر.
فيلم Arranged (تدبير)
لا
أعرف مدى دقة الترجمة طالما أن الفيلم على عكس التدبير، كونه يبني حكايته
على
الصدفة أولاً، على ان يشكل الفيلم بامتياز مثالاً مخبرياً على
ما بدأنا به، وله أن
يكون حاملاً لمقولة تتمثل
بأن «الصداقة لا دين لها» مثل الفقر ربما، وليقدم لنا هذا
الفيلم درساً تعليمياً في عادات مسلمي أميركا وإلى جانبهم
يهودها، وإن كانا لا
يفعلان شيئاً خارج العبادة والصلاة، وليكون رفض اليهودي للمسلم أشد قوة،
كما لو أنه
ضحيته، وكل ذلك عبر قصة تتأسس على صداقة تنشأ بين فتاتين، الأولى سورية
الأصل
ومسلمة محجبة اسمها نصيرة خالدي (فرانسو بنهامو) والثانية
يهودية اسمها راخويل (زوي
جونز).
قبل المضي في سرد ما يقدمه الفيلم، علينا التأكيد أولاً أن أهمية
الفيلم لا تتأتى من قيمة سينمائية، ولا من فيلم يحمل أي جديد
على صعيد فني، لكن في
طموحه التعريف بعالمين مختلفين في المجتمع الأميركي، ولهما أن يناصبا
بعضهما
العداء، مقدماً في النهاية نقاط التشابه الكثيرة بين نصيرة وراخويل
وبيئتهما
المحافظة، ومن ثم الانتصار لخياراتهما المنغلقة التي تحمل
الكثير من الخصوصية في
مجتمع متعدد ومنفتح.
تتعرف نصيرة على راخويل في المدرسة التي يعملان فيها
معلمتين، وسرعان ما تصبحان صديقتين، بعد اكتشافهما نقاطاً مشتركة كثيرة
بينهما،
فنصيرة محجبة وراخويل تلتزم بثياب شديدة الاحتشام، بينما مديرة المدرسة
تقول لهما
أن يرتديا شيئاً يليق بعمريهما، وغير ذلك مما لا يخضعان له،
كونهما منسجمتين مع
العادات والتقاليد المفروضة على كل واحدة منهما، مع تقديس الروابط
العائلية، ومن ثم
اقتناعهما بأن علاقات الحب محرمة، وأن سبيلهما الوحيد لمعرفة الرجل هو
الزواج عن
طريق الأهل، وهذا ما يقنعنا الفيلم بصوابه، وأن بالإمكان تحقيق
السعادة عبر ذلك،
عبر تطويع السيناريو بطريقة قسرية في خدمة هذا الغرض، فنصيرة التي لا يفعل
والدها
شيئاً إلا الصلاة، لا تقبل بأي أحد، ترفض من يقدمه لها والدها، لكنها تقبل
بالشاب
الثاني الذي يتقدم أيضاً عن طريق الأب، لكن راخويل التي تمتثل
للتقليد العائلي
المتمثل بتوكيل أمر الزواج لـ«خاطبة» تعرفها بعشرات الرجال الذين لا يروقون
لها،
لكنها تقع على شاب يكون برفقة أخي نصيرة فإذا به- ويا للصدفة المدهشة-
يهودي فترسل
نصيرة بصورته إلى «الخاطبة» وتتحقق سعادة راخويل بالزواج منه.
الفيلم الذي
أخرجته كل من ديان غريسبو وستيفان شيفر يقول للمشاهد الأميركي ربما «من قال
لكم إن
المحافظين ليسوا سعداء؟»، فالمرأة يمكن أن تتزوج بمن يريد لها أهلها وتبقى
سعيدة،
وهي حرة بأن تكون كذلك، ولنصل هذه النتيجة المدرسية بعد تقديم حياة العائلة
المسلمة
والعائلة اليهودية، وعلى شيء من التعريف بكليهما، ونسج كل
القصة على لقاء عالمين
يتفقان تماماً على تقديس العائلة، وسطوة الأب، وتحقيق سعادة المرأة دون
تعارضها
معهما، بأمان وحنان، ووفق مقاييس حرية فريدة. طبعاً وكما هو واضح فإن
مخرجتي الفيلم
فاتهما تورية زاوية الرؤية التي قاربتا فيها عالم المسلم، والتي رغم بذلهما
مجهوداً
كبيراً لم تنجحا بمنع الشعور بأنها مقاربة على معرفة كبيرة باليهود
وعاداتهم ومعرفة
أقل بالمسلمين، كما أن أي اتهام في الفيلم يكون باتجاه المسلمين لكن سرعان
ما تتصدى
له راخويل -مشكورة- كونها صارت صديقة نصيرة ولا شيء آخر، بينما
ما من اتهام يوجه
تجاه اسرائيل على الأقل يستدعي تدخل نصيرة.
الإمارات اليوم في
12/08/2009
فيلم للأخوين تيفياني
«أبي
سيّدي».. الابن بوصفه عبداً
زياد
عبدالله – دبي
أمكنة منسية معلقة بين السماء والأرض، لها أن تكون مصدر غواية
رئيساً للسينما، وبالتأكيد في مبحث دائم عن دراما مأخوذة من
عوالمها الخاصة،
والأحلام التي تمليها على شخوصها، ومعها أخلاقيات محكومة بالمكان، تؤسس
لأسلوب عيش
مسكون بالعزلة عما حوله.
نكمل مع العزلة التي ستكون المنبع الرئيس لعودة
نقدم عليها هنا إلى فيلم Padre Padrone
للأخوين تيفياني «باولو وفيتوريو تيفياني»
الذي نالا عليه سعفة «كان» الذهبية عام 1977، وحققا ما له أن يكون قفزتهما
الكبرى
في مسيرتهما السينمائية، ناقلين إلى السينما كتاب جيفينو ليدا ومذكراته
التي لها أن
تكون مثاراً للدهشة، خصوصاً ونحن نشاهدها محمولة ومكتوبة
بالكاميرا .
بداية،
نوضح عنوان الفيلم بالاعتماد على عنوان تم تداوله هو «أبي، سيدي» ولعل
هاتين
الكلمتين ستكونان مجتمعتين مفتاح الفيلم ومعهما المكان الذي
تدور فيه أحداث الفيلم
ألا وهو سردينا في ايطاليا.
يبدأ الفيلم مع جيفينو ليدا وقد صار كاتباً وهو
واقف أمام باب صفه في المدرسة، شارحاً لنا أنه في صدد سرد لحياته، فإذا
بوالده يمر
إلى جانبه متجهاً إلى الصف، قائلاً «هذا والدي».
ويستوقفه ويعطيه عصا، ومن ثم نشاهد الأب يدخل الصف سائلاً عن جيفينو
يريد أن يخرجه من المدرسة، ومن هنا يصبح الفيلم، كل الفيلم،
استعادياً لحياته منذ
اللحظة التي يحرمه والده فيها من التعليم ويأخذه بعيداً عن المدرسة ويضعه
وحيدا في
الجبال مع قطعان الماعز ممنوعاً عليه التخاطب أو التواصل مع أحد.
إنه جيفينو
الذي نراه في المدرسة يعانق معلمته يريد ألا يفارقها، هو نفسه الذي يتبول
في ثيابه
خوفاً من والده الذي لا يعرف الرحمة، ممضياً الجزء الأكبر من
الفيلم تحت رحمة
اضطهاده المتواصل، وحرمانه من أي شيء سوى تحويله إلى راع معزول عن
الكون.
إنه أبوه وسيده، وله أن يرمز لكل أنواع الاضطهاد الذي يتشكل تحت راية
السلطة الأبوية، ونحن نراه يضربه بكل ما أوتي من قسوة، إلى أن
يمسي في العشرين من
عمره، بحيث نرى أنه بقي دائماً رهين العزلة ومع الماعز.
ولعل حاله من حال أقرانه ورفاقه الذين يتوزعون بين الجبال ويمضون
شبابهم وحياتهم في رعاية الماشية، وارتكاب كل أنواع الشذوذ مع
الحيوانات تحت وطأة
عزلتهم ومللهم وحياتهم المعطلة والمتوقفة، ولعل مرور أحدهم يعزف على
الأكورديون
سيكون حدثاً بحد ذاته، يدفع جيفينو إلى تقديم معزتين مقابل الأكورديون،
وحينها يطرأ
على عزلته تغير ما يتمثل في تعلمه العزف حينما يكون والده
بعيداً عنه. والده الفقير
سرعان ما تطاله ثروة ما.
ويشعر مرة واحدة لن تتكرر بأن ظلم ابنه الذي يكتشف أنه أميّ لا يعرف
القراءة والكتابة، لا بل يفشل مشروع هجرته إلى ألمانيا، بينما
ينجح كل رفاقه في
الذهاب، ونحن نراهم يبصقون ويشتمون قريتهم وهم يغادرونها.
التغيير الدرامي
في الفيلم يبدأ من هنا، حين يقبل والد جيفينو انضمامه إلى الجيش، وهناك
يتعلم،
ويصير منغمساً في تعلم كل شيء، بمساعدة زميل له، نشاهده يكاد
يحفظ القاموس، إضافة
إلى نجاحه في تعلم العمل على اللاسلكي.يمسي طموحه في الحصول على شهادة
جامعية من
أولوياته، وعندما يعود إلى قريته، يكتشف أن والده صار يضيق بحقيقة أنه صار
متعلماً،
لا بل يصنع المستحيل ليعيده إلى أعماله السابقة في الرعي
والزراعة، لكن سرعان ما
يقع الصدام بينهما، وينتصر جيفينو لحياته وحريته، ويصبح كاتباً كما سيقول
لنا في
نهاية الفيلم التي تلتقي ببدايته.
الفيلم مصنوع بخصوصية مفرطة، وإيقاع له أن
يكون مقتطعاً من الجبال والوديان الهاجعة، وهذه العلاقة بين الأب وابنه
محتكمة إلى
كل أساليب الاضطهاد وصالحة لنبش كل العلاقات المبنية على اضطهاد طرف لآخر،
ولعل أول
شروط هذا الاضطهاد هو حرمان الآخر من المعرفة، عزله عن الكون ومن ثم التفرد
به
واستنزافه، ولكم أن تمضوا بهذه الحقائق إلى علاقة المستبد مع
شعبه، وصاحب العمل مع
عماله، وغيرها من علاقات محكومة بهوس البشر باستعباد بعضهم بعضاً.
الإمارات اليوم في
17/06/2009
دور هيفاء وهبي «سوبر ستار
الرداءة»
«دكان
شحاتة».. كثرت المقولات فاحتـــرق الشريط
زياد
عبدالله – دبي
المخرج خالد يوسف زائد الكاتب ناصر عبدالرحمن يساوي فيلماً له أن
يدفعنا لمشاهدته بالتأكيد، واستعادة «حين ميسرة» و«هي فوضى»
وما لهما وعليهما لكن
بما يدفع في النهاية إلى فيلمين لهما من النجاح الكثير، ولنقول ها هي عملية
الجمع
تعاد مجدداً ولتكون النتيجة فيلم «دكان شحاتة» المعروض حالياً في دور العرض
المحلية، والذي يدفع لإعادة عملية الحساب
من جديد، والتفكير بعد الانتهاء من مشاهدة
الفيلم بالطبع، والبحث عن مكونات الفيلم الكثيرة، التي تعيد للأذهان مثلاً
شعبياً
يقول «كثرت الأيادي فاحترقت الطبخة» وليصير المثل أمام جديد خالد يوسف:
«كثر ما يود
قوله الفيلم فاحترق الشريط»، وبدا اجتماع السياسي والملحمة الشعبية والحب
أو الغرام
بلا انتقام، خلطة مضطربة، وفيلماً مركباً وفق المقولات المسبقة التي يود
الفيلم
قولها.
يسعى الفيلم إلى تقديم دكان شحاتة بوصفه بؤرة يرصد من خلالها تاريخ
مصر الحديث وصولاً إلى عام ،2013 ولعل الفيلم يبدأ من لحظة
خروج شحاتة (عمرو سعد)
من السجن، ووقوفه أمام مشهد قطع الطريق أمام قطار، وهجوم عدد هائل من البشر
على
الأكياس المحملة بالحنطة، وليمضي الفيلم خلف «فلاش باك» طويل يستعيد فيه
حياة شحاتة
منذ ولادته، لكن مهلاً، هناك ما يسبق ذلك، إنها عناوين الصحف
والصور الوثائقية التي
يخرج بها الفيلم، مستعرضاً فيها أحداثاً مفصلية في تاريخ مصر والوطن
العربي، ولعلها
من الكثرة بما يدفع إلى ذكر أمثلة مثل اغتيال الرئيس أنور السادات، غرق
العبارة،
حذاء منتظر الزيدي، ولو كان الفيلم مصوراً في هذه الأيام لمرر
خطاب أوباما
الأخير.
والد شحاتة (محمود حميدة) سيأخذ ابنه شحاتة إلى القاهرة بعد وفاة
أمه، ليعيش إلى جانب أخويه وأخته، والذي يعمل ـ أي والد شحاتة
ـ بستانياً في فيلا
رجل سليل الارستقراطية المصرية لكنه يساري (عبدالعزيز مخيون) ونقع عليه
معتقلاً
أثناء فترة حكم السادات.
يتأسس مسعى يوسف الرئيس في تقديم ملحمة شعبية
أساسها علاقة الوالد بشحاتة وحبه وتفضيله عن أخوته الذين يترصدون به وربما
على شيء
من قصة يوسف، ومن ثم حصول الأب على دكان من صاحب الفيلا يقتطعه له من
الحديقة
وليسميه باسم شحاتة، ومع موت الأب يتوحش إخوة شحاتة ويقومون
بإلحاق كل أنواع الظلم
به، وليكون شحاتة مثالاً للإنسان الذي لا يعرف إلا الطيبة، وإن تبدى في
لحظات أقوى
رجل على وجه الكرة الأرضية، قبضته لا ترد، وجاهز للتعامل مع كل أنواع
البلطجة، لكن
الطيبة تمنعه من الانتقام من إخوته الأشرار، الذين يزجون به في السجن
للتخلص منه
وبيع الدكان بمليون جنيه لأن السفارة ليست بالعمارة، بل بالفيلا هذه المرة،
ولا
يمكن أمنياً أن يبقى «دكان شحاتة» قرب السفير.
إلى جانب ذلك، هناك قصة حب
شحاتة لبيسة (هيفاء وهبي) وقيام والده بخطوبتها له، والتي سرعان ما تفشل
على الرغم
من الحب الجارف الذي يجمعهما.. أولاً بسبب أخي بيسة (عمرو عبدالجليل) ومن
ثم سجن
شحاتة، وسطو أخيه عليها وزواجه منها رغماً عنها والكاز الذي
أحرقت نفسها
به.
ذلك هو هيكل الفيلم الرئيس الذي يطالبنا أن نتعقب مراحله الزمنية عبر
خبر بالراديو أو التلفزيون، بحيث تترافق قصة الفيلم بأحداث
سياسية، ومقولات تؤكد
لنا ناصرية خالد يوسف عبر لقطات كثيرة، والفساد الذي طال كل شيء، والذي بدأ
مع
السادات، كما يؤكد مالك الفيلا، وعلى شيء من الحنين إلى قيم يجسّدها
عبدالناصر،
بحيث يمسي كل ما أتى بعده تشويهاً لها.
يتصارع في الفيلم الرمزي والمجازي مع
الواقعي والتوثيقي، ولينتهي بالمستقبلي حيث تعم الفوضى، وليكون المسعى
تمرير وثيقة
تروي كل ما لحق بمصر من تغيرات يرتبط فيها الاقتصادي بالسياسي بالاجتماعي
والأخلاقيات المترتبة عنها، وليكون شحاتة نموذجاً للإنسان
المصري الطيب الذي سيقتل
في النهاية وعلى يد إخوته في إشارة إلى اختفائه، بحيث تكون شخصيته أيضاً
على ثلاثة
مستويات واقعية ورمزية وخيالية، ولا يستقر على واحدة منها، وإن كانت بيسة
حبيبته
حاملاً لما يمثله شحاتة أنثوياً، فإن تمثيل هيفاء وهبي كفيل
بقتل الرمزي والواقعي
والخيالي في شخصيتها أيضاً، باعتبار دورها «سوبر ستار الرداءة»، ولكم أن
تبحثوا عن
تناغم واحد بين أدائها ودورها المتمثل بفتاة لها أن تشكل منبعاً للحنين إلى
الحب
الصافي الخالي من أية مصالح ومنافع وأحلام بالثراء، ثم راقبوا
تعابيرها الثابتة من
أول الفيلم إلى آخره، وقدرة خالد يوسف على الحفاظ على جمودها وحيادها
ببراعة.
وهذا يقود الفيلم مثلاً إلى أن يضع شحاتة صورة عبدالناصر على شق في الجدار
فلا تغطيه في تدليل على عمق الشرخ الذي حصل بعده، ولنشاهد في
الوقت نفسه رقصة لوهبي
في مشهد مركب لهذا الغرض، طبعاً هذا التناوب والتفاوت، الصعود والنزول
سيكون ميزة
الفيلم الرئيسة، إضافة لخضوعه للارتجال، بحيث تتوازى الملحمة غالباً مع
الأحداث
السياسية ولا يلتقيا، مع مشكلات عدة اعترت «مكساج» الصوت،
واعتماد الصراخ واللطم
والضرب والصفع.. إلخ لغة رئيسة في الفيلم.
شيء آخر يسترعي الانتباه، ألا وهو
قدرة الفيلم على أن يكون غنائياً بامتياز، كونه لم يفوت فرصة لم يتحفنا بها
بأغنية
أو موال، وفي مرات كثيرة كان يدع أمر السرد للأغنية، والتي أثقلت كاهل
الفيلم
المثقل أصلاً.
الإمارات اليوم في
14/06/2009
مقتبس عن رواية لفيليب روث
«رثاء»..
حب يانع في خريف العمر
زياد عبدالله – دبي
«الشيخوخة
أكبر مفاجأة في حياة الإنسان»، يقول تولستوي، ويردد
العبارة بن كينغسلي في فيلم
Elegy «رثاء» 2008 . وعلى شيء يدفعنا لاستعادة عشرات
الأقوال التي تجمع على قدرة الشيخوخة على مداهمة الإنسان من
حيث لا يدري، وهبوطها
عليه دفعة واحدة من دون مقدمات، أو كما تقول سيمون دي بوفوار «الشيخوخة
تمسك بك على
نحو مباغت»، لا بل إن الأمر يمتد بنا لاستعادة ما يرويه فيدريكو فيلليني في
هذا
الخصوص، حين كان يعود إلى بيته، ويتفقد بالشم
إن كان خلّف وراءه رائحة رجل عجوز،
الرائحة نفسها التي تحدث مراراً عنها غابريل غارسيا ماركيز.
الاسترسال في ما
للشيخوخة أن تشكله من هواجس، لها أن تجد هاجسها الأكبر في أدب الروائي
الأميركي
فيليب روث، وبالتالي فيلم «رثاء» المأخوذ عن روايته «الحيوان
المحتضر»، ولنكون في
النهاية أمام فيلم يهب من تلك الجهة، ويقدم حياة بروفيسور آداب يقع في غرام
إحدى
طالباته. ولعل فيلماً سابقاً مقتبساً أيضاً عن رواية لروث كان مسكوناً
بالهم نفسه،
وأقصد فيلم
Human Stain «لطخة إنسانية»، وإن كان الأخير أكثر تشعباً، فنحن نشاهد
فيه أستاذاً جامعياً أيضاً «أنتوني هوبكنز» في خريف العمر، يقع في غرام
امرأة شابة «نيكول كيدمان» ذات ماض مليء بالمآسي
والمشكلات، تمتزج وماضي الاستاذ الجامعي الذي
يكون أبيض البشرة، لكنه منحدر من عائلة زنجية يتنصل منها.
بالعودة إلى «رثاء»، يبدو الأمر امتداداً لتلك «اللطخة
الإنسانية»، ولكن بتمركز أكبر حول الحب،
وقدرة مدهشة على تقديم قصة حب، لها أن تأسرنا في النهاية،
طالما أن الدراما مبنية
على تبادل الأدوار وانعدام معرفة كل شخصية للأخرى، فالبروفيسور ديفيد كيبش
«بالأداء
المميز دائماً لبن كينغسلي» مسكون بحريته واستقلاليته، منغمس في عالمه
الأدبي،
بالكتب والموسيقى والمسرح، وله من الحضور ما يجعله على شيء من
النجومية، وقد وصل
الـ 60 من عمره، ولتكون تلك الحقيقة مؤرقة تماماً بالنسبة إليه، هو الذي -
كما يقول
على اعتباره راوي الفيلم أيضاً- يغوي طالباته، لكن بعد ظهور علاماتهن
واجتيازهن
امتحانات المقرر الذي يدرسه، وهذا ما يحدث مع كونسيلا «بينلوبي
كروز»، الأميركية
ذات الأصول الكوبية.
العلاقة التي تنشأ بينهما، وملابسات اندلاعها تشكل بناء
جميلاً وهادئاً في حد ذاته، ولننتقل بعد ذلك إلى مشاعر ديفيد
التي يختبرها للمرة
الأولى في حياته. إنه غرام مغاير، حب جارف يتجاوز توقعاته هو المعتاد الخفة
والانتقال من امرأة إلى أخرى من دون عناء، وبعيداً عن تحويل الحب إلى قيد
يعيق
حريته وحركته، لكن الأمر مع كونسويلا مختلف، إنه يغار، مسكون
بهواجس كيفية تلقي
جسده العجوز، ومتأكد من أنها على علاقة مع غيره، مع شبان من عمرها، وهو
يقول «لقد
كنت من أولئك الشبان». في المقابل، تكون كونسويلا طبيعية وكلها حب اتجاهه،
من دون
أن يتاح لنا كمشاهدين التأكد من حقيقة ذلك، ولعل في ذلك ما
يمنح الفيلم جمالية
خاصة، كوننا نشاهد كل شيء في البداية من زاوية رؤية ديفيد.
تفشل علاقتهما
من جراء رفض ديفيد التعرف إلى أهلها، ومن رغبته في التخلص من مخاوفه ووطأة
حب
كونسويلا عليه، وشعوره الدائم بأنها سرعان ما ستهجره.
كل ذلك سينقلب بهدوء،
بعد موت صديقه الشاعر، واكتشافنا لعلاقته المأزومة مع ابنه الوحيد من زواج
قديم،
ستتصل كونسويلا بديفيد بعد سنتين من فراقهما وفي ليلة رأس
السنة لتراه، وهنا نكتشف
بأن حبها لديفيد من القوة بأنها لم تفكر في أحد غيره، وأن لجوءها إليه ليس
إلا
لإصابتها بسرطان الثدي، وهي تقول له بأنها صارت أكبر منه عمراً وليس عليه
أن يقلق
من فارق العمر بينهما، وتسأله أن يصور جسدها قبل أن يعبــث به
الأطبــاء. بنية
الفيلم وفية للدراما ومتطلباتها، وعبر تغيير زاوية الرؤية، وكل ما نشاهده
مبني
بهدوء وعمق، ولعله من الأفلام التي تشعرنا ونحن نكتب عنها بأن تفاصيله أشد
أهمية من
هيكل القصة العام، مثل مشهد بكاء ديفيد عند معرفته بمرض كونسويلا، كونه
يأتي بعد
صموده بمواجهة كل ما يحدث معه، وعلى نحو يؤكد أنه من أولئك
الصامتين الذين لا
يلفظون الدموع. أخرجت الفيلم أيزابيل كويكست، وكتب السيناريو نيكولاس ماير
الكاتب
الذي اقتبس رواية «لطخة إنسانية» لفيليب روث.
الإمارات اليوم في
04/06/2009
من أفلام السينما الإنجليزية
المستقلة
«لندن
برايتون».. حكايا العالم السفلي
زياد
عبدالله – دبي
يمكن أن تصنع فيلماً بإيقاع سريع لا يلتقط أنفاسه من دون أن تصفه بـ
«الأكشن»،
الوصف الجاهز والممطوط إلى ما لا نهاية، كما يمكن للجريمة ووقوعها أن
يكون مفاجئاً، لكن بناءً على تأسيس اجتماعي ونفسي لها. من جهة أخرى، يمكن
الحديث
أيضاً عن سينما إنجليزية مستقلة هنا، وكيف تصنع فيلماً مؤثرا
ومتدفقاً بميزانية
منخفضة، وربما من دون ميزانية تذكر.
كل ذلك يمكن مشاهدته في فيلم كتبه
وأخرجه شاب اسمه بول أندرو وليامز، بعنوان
London to Brighton «لندن برايتون» ،2006
والذي قدم عبر ممثلين غير معروفين أيضاً قصة مأخوذة من واقع
اجتماعي يرصده، يمضي
بها إلى تشويق لطيف، ومبني بعناية ووفق حركية معاكسة في الزمن «فلاش باك»،
حيث حاضر
الفيلم يمضي جنباً إلى جنب مع ماضيه، وفي استعادة دائمة لما يوضح الأحداث
التي تجري
أمامنا.
يبدأ الفيلم من فتاة صغيرة (12 سنة)، اسمها جوان (جورجيا غرومي)،
محبوسة في حمام عمومي مع امرأة ثلاثينية، اسمها كيلي (لورينا
ستانلي)، جوان خائفة
وكيلي التي يحمل وجهها كدمات كبيرة وواضحة، تحاول تهدئتها، ومن ثم تخرج
كيلي من
الحمام، وتسأل جوان أن تبقى وتنتظرها وتقفل على نفسها الباب، خرجت كيلي
لتحضر
مالاً، ولنكتشف أنها بائعة هوى، تسعى للحصول على أي زبون، يرضى
بها مع وجهها المشوه
من جراء تعرضها لضرب مبرح. يخرجان من الحمام، ويستقلا القطار من لندن إلى
برايتون،
ومن جهة أخرى، نجد ديريك (جوني هاريس) الذي يعمل «قواداً»، يلتقي ستيوارت
(سام
سريول) الذي يسأله أن يحضر له البنتين، ولنكتشف أن الأمر ليس
متعلقاً بستيوارت بل
بوالده الذي يسأل عنه ديريك وإن كان يأخذ من عنده دائماً فتيات.
ستيوارت
ترافقه حراسة خاصة وهو على قدر كبير من الغنى الواضح، وليهدد ديريك من دون
رحمة، إذ
يطلق رصاصة على رجله، وكل ما يسأله إياه هو إحضار البنتين كما
يقول. كل شيء سيتضح
في وقته، ستتشابك الخيوط الواضحة جدا في الفيلم وسرعان ما تحل، سيكون والد
ستيوارت
قد طلب من ديريك أن يحضر له فتاة لم تتجاوز الثانية عشرة ليمارس معها ما
يشاء،
فيطلب ديريك من كيلي أن تحضر له هكذا فتاة، فتعثر على جوان
المشردة المفترشة
للرصيف.
تعاني كيلي كثيرا من وطأة ما تقدم عليه، ديريك طوال الوقت خائف
ومضطرب، وعندما تأخذ كيلي جوان إلى والد ستيوارت، يقدم هذا
الأخير على أفعال شاذة
مع جوان الطفلة، يقيدها في السرير بعد تعريتها، ويمرر سكيناً عليها، ولتصرخ
جوان
وتهب كيلي لنجدتها ولنخلص في النهاية إلى جريمة قتل.
سيبدو لنا في البداية
أن ستيوارت يريد كيلي وجوان، لينتقم منهما لقتلهما والده في النهاية، إلا
أن الأمر
سيتكشف عن أشياء كثيرة مرتبطة بطفولة ستيوارت نفسها وعلاقته
بوالده الشاذ، ولتكون
النهاية على شيء من العدالة التي لا يجدها ستيوارت في القصاص من الفتاتين
بل من
ديريك ورفيقه، لا بل إننا سنكتشف أن ستيوارت نفسه لم يساعد والده الذي
استنجد به
بعد إقدام جوان على طعنه.
فيلم «لندن برايتون» اكتشاف لطيف لفيلم مصنوع بدقة
تجعله متماسكاً تماما، وبقدرة خاصة على جعلنا نتعقب أحداثه المكثفة
والمتسارعة في
تناغم مع إيقاعه، وليقول لنا في النهاية ها هو فيلم لا يتجاوز الـ86 دقيقة
من دون
زيادة أو نقصان في أي شيء من عناصره.
الإمارات اليوم في
01/06/2009
تاريخ إيطاليا في أكثر من 5
ساعات
«1900» ..
قصة فيلـــــــم طويل
زياد
عبدالله – دبي
لا يمكن مقاربة
منجزات المخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي من دون المرور بفيلمه الملحمي
«1900»،
وربما في محاولة لتسليط الضوء على فيلم غيب أمام ارتباط
برتولوتشي بأذهان المشاهدين
وعشاق السينما بأفلام أخرى مميزة له، يأتي في مقدمها «الإمبراطور الأخير»
الذي حصل
عليه «أوسكار» أفضل مخرج عام ،1987 مع أفلام أخرى كثيرة، مثل «آخر تانغو في
باريس»
1972
مع ماريا شنايدر ومارلون براندو الذي يصفه برتولوتشي بالملاك كإنسان
والوحش
كممثل وصولاً إلى آخر ما
أخرجه عام ،2003 أي فيلم «الحالمون»، عن ستينات القرن
الماضي والأفكار الثورية والتحررية التي تسيدت تلك المرحلة،
وتحديداً مع الثورة
الطلابية في فرنسا.
لكن الأمر مغر أيضاً باستعراض حياة برتولوتشي، ومنابعه
السينمائية وتوضيح أنه جاء إلى السينما من الشعر، مثل بازوليني الذي يمكن
اعتباره
من أهم أسباب تحوله إلى مخرج بعد عمله كمساعد له في فيلم «أكاتوني»، الأمر
الذي
قاده مباشرة إلى اعتزال الشعر والتحول إلى الإخراج، ونزعة
يسارية لا تفارق أفلامه،
لها أن تكون على أكبر قدر من الوضوح في فيلم «1900» الذي سنقدم له
.
يحكى عن
هذا الفيلم بوصفه مرتبطاً بأشياء كثيرة، أولها تكلفته الضخمة التي بلغت ستة
ملايين
دولار في ،1976 وتجاوز برتولتشي تلك الميزانية بثلاثة ملايين
إضافية ليكون المجموع
تسعة ملايين دولار، كما يمكن الحديث عنه بوصفه من أطول الأفلام في تاريخ
السينما،
إذ يبلغ زمن الفيلم خمس ساعات و15 دقيقة (طبعاً هذا لاشيء أمام الفيلم
الروسي
«الحرب
والسلم» الذي وصل إلى تسع ساعات)، وهو متوافر أيضاً بنسخ أخرى أقل بساعة
فقط، الأمر الذي يبقيه طويلاً وجداً. ولعل عرضه العالمي الأول في مهرجان
«كان» كان
مناسبة قائمة بحد ذاتها، ولتكون مدة عرضه الطويلة أول مصدر
خيبة بالنسبة للجمهور
الذي احتشد بأعداد هائلة، بعد أن بيعت تذاكره في السوق السوداء بأرقام
خيالية، كما
يورد الناقد الأميركي روبرت ايبرت له في مقال عن هذا الفيلم.
التأكيد مجدداً
على طول الفيلم لن يكون إلا بداعي الإشارة إلى أنه لم يكن إلا مثاراً
للإعجاب
بالنسبة إلي، وأنا أشاهد تلك الملحمة المترامية، والشخصيات
الكثيرة ومصائرها، من
دون إيلاء أي اهتمام لضرورات التكثيف هنا والحذف هناك، مع الأخذ في الحسبان
بأن ذلك
يعد استعراضاً لمشاعر شخصية في المقام الأول، وتتبعاً لمتعة اللقطات،
وجماليات
الصورة، وملحمية الحكاية.
جماليات
وإن كان من
إضافات هنا وهناك بداع ومن دونه، فإنها جميعاً احتوت على جماليات يأتي في
مقدمها
الصورة، ومسعى برتولوتشي بالنهاية لتقديم تاريخ الصراع الطبقي
في إيطاليا، ومنبع
الفاشية التي حكمت إيطاليا، ومن ثم سقوطها، وترافق ذلك مع الحب والموت
والصراعات
النفسية والحروب والثورات والمجاعات والفقر، وتاريخ العمل النقابي، وغير
ذلك ما
يضعنا في النهاية أمام قطعة سينمائية توثق إيطاليا بدايات القرن الماضي وكل
ما عصف
بها.
تبدأ قصة الفيلم من لحظة ولادة ألفريدو، الحفيد الذكر الأول لإقطاعي
يملك أراضي لا نهاية لها وكل ما عليها، ويولد في التوقيت نفسه
حفيد أيضا لفلاح يعمل
لدى ذاك الإقطاعي، الفلاح صاحب عائلة هائلة العدد، لا بل الابن المولود
الذي يسميه
ألمو غير معروف من هو والده.
وعليه تمضي حياة ألفريدو «روبرت دي نيرو في
الشباب» جنباً إلى جـنب مع حياة أميلو «جيرارد دبرديو شاباً» من الطفولة
إلى
الكهولة، ومصائر كل واحد منهم وفق نشأته، ومصائر من حولهم أيضاً، وعلى
احتكاك وتأثر
دائم بما يطرأ على إيطاليا.
صداقة عميقة تربط ألفريدو بألمو، الأول ينتمي
للحزب الشيوعي ويبقى يعمل في الأرض، بينما يتبع ألفريدو ملاذاته، الأول
يكون على
صراع مرير مع الظلم والاضطهاد الذي يتعرض له ومن في قريته، خصوصاً بعد وفاة
جد
ألفريدو وحلول والده محله، بينما ألفريدو يعيش الحب والحياة
بالطول والعرض. ووفق
هذه العلاقة لا تتلاقى المصائر، لكن تبقى الصداقة، ولتفتقد تلك العلاقة بعد
وراثة
ألفريدو لوالده وتحالفه شاء أم أبى مع الفاشية التي تلتقي مصالحـه مع
مصالحها، من
دون أن يكون ظالماً وعاتياً مثل والده.
ملحمية
بريخت
كتابة ما تقدم من أحداث لا يشكل إلا خيطاً رفيعاً جداً يربط
بين أحداث لا مجال لحصرها أبداً، ولعل إيرادها هنا سيكون من المستحيلات،
لكن لا
ننسى إدا وقصة حبها لألفريدو، وعلاقتها الخاصة مع ألمو الذي سرعان ما تموت
زوجته
التي كانت تتحلى بالشجاعة وتكريس نفسها لنضالات الطبقات
المسحوقة.
في
الفيلم، تقديم للفاشية عبر مهندس متوحش، مع تسليط الضوء على
تحالف الإقطاع الإيطالي
مع الفاشية، ونهوضهما سوية في وجه الحزب الشيوعي الإيطالي، ولعل الفيلم في
ملمح منه
يمتاز بملحمية برتولد بريخت أيضاً، حيث يمكن لمشاهد كثيرة أن تتبع مبدأ
«التغريب»
البريشتي، حيث ردات الفعل غير التي يتوقعها المشاهد، وعلى شيء من الإصرار
على إيصال
الفكرة الرابضـة خـلف المشهد، وليس التطهير وبناء التعاطف.
يحار المرء ما
الذي سيذكره من الفيلم، ما المشاهد التي يتوجب رسمها بالكلمات، مثل ذاك
الخيل
الأبيض في حفل زفاف ألفريدو من إدا، ومشهد الحب بينهما، أو
وفاة جده في حظيرة
الأبقار، أو اللقطات الطويلة لوقوف الفلاحين أمام الجنود المتقدمين نحوهم
لقمع
إضرابهم. أم أن النهاية ستقول الكثير، ونحن نرى ألفريدو الناجي من محاكمة
الشعب له
وعلى رأسهم ألمو، وكيف يمضي ألفريد وألمو جنباً إلى جنب وهم
يتبادلان اللكمات
والصفعات إلى ما لا نهاية، وصولاً إلى ما يوحي بانتحار ألفريدو تحت عجلات
القطار
نفسه الذي كانا يتمدد ألمو تحته طوليا ويدعه يمر من فوقه، وليتمدد ألفريدو
هذه
المرة عرضياً وعلى سكتي القطار وليس كما فعل حينما كان طفلاً
مقلداً لألمو.
الإمارات اليوم في
25/05/2009 |