رُشِّحَ فيلم الثورالهائج في سنة عرضه لثمان جوائز
أوسكار: أفضل صورةِ، أفضل ممثلِ مساعد جو بيسي، أفضل ممثلةِ مساعدة كاثي
مورياتي، أفضل مخرج مارتن سكورسيزي، أفضل تصوير سينمائي مايكل جابمان،
وأفضل هندسة صوت، ورَبحَ جائزتي أوسكار فقط:
أفضل ممثل رئيس، وأفضل تحرير ثيلما شون ماكر. نال روبرت دي نيرو جائزة
أكاديمية الأوسكار لأفضل ممثل رئيس، عن قيامه بدور جيك لاموتا، وهو ملاكم
هائج سريع الغضب يعزل نفسه عن أصدقائه وعائلته، وجو بيسي الذي رشِّح لجائزة
الأكاديمية لأفضل ممثل مساعد.
مارتن سكوسيزي: شاعر ظلمات نيويورك
مخرج يقدِّم الفلم خفيفاً لعامة الناس كشطيرة همبرغر، وللخاصة كقطعة
موسيقية، أو قصيدة نثر، فيلمٌ ترى آثار المخرج في كل مشهدٍ فيه.
سكورسيزي الذي ولد في نيويورك عام 1942، وأخرج أول فلم سينمائي عام 1963،
ثم في عام 1964(موراي: ليس أنت فقط)، وآخر فلم له(Shutter
Island/ 2009) وتسلسله الثلاثون، من روائعه الاخيرة (عصابات نيويورك/2002)بطولة
ليوناردو دي كابريو، وكاميرون دياز، و(The
Departed/ 2006)، وسكورسيزي يكاد يكون المخرج أكثر ثقافةً بين مخرجي هوليود، ومن
الذين استطاعوا تجسيد هذه الثقافة في أجواء وحوارات أفلامهم، فهو يناقش
أزمة الوجود الإنساني من خلال رعاع الناس وسفلتهم، كما في فلم(شوارع دنيئة/
1970)وأعطى لربوبرت دي نيرو أول بطولة له، ومثَّل هو دور جيمي القصير،
وأعطاه دور البطولة أيضاً في(سائق التاكسي/ 1976) وفي(كازينو/1995)، كما
قام بتمثيل أدوار مختلفة في اثني عشر فيلماً، معظمها من إخراجه، ومن أهمها
دور فنسنت فان كوخ في فيلم(الأحلام/1990).
قبل أن يقدِّم (الثور الهائج/1980) وهو عن سيرة الملاكم جاك لاموتا
وارتقائه سُلَّم الشهرة والنجومية، كان قد قدَّم فلماً مشابهاً(الفتى
الأمريكي/ سيرة الأمير ستيفن/ 1978).
لم يتناول سيرة الملاكم المهنية فحسب، بل تطرَّق إلى مشاكله العائلية،
وأعصابه الهائجة، بحيث أنَّ أحداً لا يجرؤ على مفاتحته في أيِّ موضوع، وهو
كذلك في البيت أيضاً مع زوجته على مدار الساعة، ومع شقيقه الصغير، الذي لا
يفتأ يذيقه ألواناً من الإهانات والضرب والشتائم، وبسبب علامات الغضب التي
لم تكد تفارق وجه البطل والنجم روبرت دي نيرو، كانت الكاميرا قريبة على
الدوام، ويبدأ الفلم بلونين أسود وأبيض للدلالة على الزمن، مباراة بين جاك
لاموتا وجاك ريفز الأسود البشرة، ورغم أنَّ الأخير يسقط ولا يقوى على
الوقوف ولكن الحكَّام بالإجماع يقررون فوزه، مما يؤدي إلى غضب الجمهور وبدء
حالات شغب.
ربما كان تهيجه الدائم، بسبب كبته لتهيجه الجنسي، كي لا يؤثر سَلباً على
أدائه، رجلٌ يعيش بمخ ثور هائج، لا يميُّزُ شيئاً سوى شهوته للأكل والجنس
والشهرة، وحين يسجنُ فجأةً، ويكتشف وحدته، يدرك معاني الإنسانية التي
يفتقدها.
يقول الناقد السوري محمد الأحمد:(سكورسيزي شاعر ظلمات المدينة الكبيرة،
وظلمات النفس المتدهورة إلى أعماق جحيم الشر، الخطيئة المميتة والخوف من
القصاص الحتمي المنتظر.. فيلم سكورسيزي ليس عن الملاكمة، لا يحوي سوى 11
إحدى عشرة دقيقة من لقاءات على الحلبة، تشكِّل لحظات درامية ذروة..فما يهتم
به سكورسيزي هو أولاً التقلبات النفسية التي يكابدها الملاكم) محمد الأحمد-
أفلام أثارت العالم- منشورات وزارة الثقافة- دمشق- ص82.
وللدلالة على ثقافته ذات الأبعاد الإنسانية ينهي سكوسيزي فلمه بعبارة من
إنجيل القديس يوحنا 9: 24-25 (فدعوا ثانية الإنسان الذي كان أعمى و قالوا
له: أعط مجدا لله. نحن نعلم إن هذا الإنسان خاطئ. فأجاب وقال: وإنْ كان
خاطئاً، فلا أعلم، وإنما أعلم شيئا واحداً إني كنت أعمى والآن أُبصر).
وفي فلم (The
Departed/ 2006)لا يفتأ زعيم المافيا الإيرلندية الذي قام بدوره
جاك نيكلسون عن ترديد عبارات من الكتاب المقدَّس(قبل السقوط الكبرياء وقبل
الانكسار تتشامخ الروح/ سفر الأمثال16: 18).
الفلم عن قصة حقيقية لبطل ملاكمة من الوزن المتوسط، مأخوذ عن السيرة
الذاتية التي كتبها جيك لاموتا بعنوان “الثور الهائج: حكايتي”. وعمل
الملاكم لاموتا كمستشار فني لازمَ دي نيرو طيلة فترة تصوير الفلم، كما قام
بتدريب دي نيرو قبل التصوير لأكثر من سنة سبقت البدء بالتصوير، وربما
استفاد المخرج من قصص همنغواي القصيرة عن الأجواء المصاحبة لمباريات
الملاكمة من مراهنات، وشجارات وانتقام من الذات ومن الآخرين.
لم يفت سكورسيزي التلاعب بالزمن السردي، فالفلم يبدأ وينتهي سنة 1964، وبين
اللقطة الأولى: هزيمة سكورسيزي، والأخيرة، تكون أحداث حياة بطل الملاكمة
للوزن المتوسط الذي فشل في الاحتفاظ باللقب، زواجه من الحسناء الشقراء التي
لا يهمُّها إلا أن تحيط نفسها بجوٍّ من السِّحر والجمال، ويجعل سكورسيزي
حركتها غامضة فلا يترك لأيِّ مشاهدٍ أنْ يتأكَّد إذا ما كانت زوجته الحسناء
فيكي تخونه أم لا، وربما فعل ذلك مراعاةً لمشاعر لاموتا، أكثر منه محاكاة
لرائعة جيمس جويس(يقظة فنيغان)التي لم يجرؤ أحدٌ على محاولة ترجمتها إلى
العربية، وأجمع جميع النقاد على استحالة التأكد من معرفة الشخص الذي رأى
الحلم.
ونقل محمد الأحمد قول سكورسيزي عن بطله(“لاموتا كائن بدائي، شبه حيواني،
لذا فهو يفكر بطريقة مختلفة، يعي أشياءً لا نلاحظها لأنَّ أدمغتنا مليئة
بالأفكار المثقفة والمعقدة والعواطف، ولأنَّهُ كائن حيواني فهو أقرب إلى
الروح المجردة” ويقول لاموتا: عندما شاهدتُ الفيلم غضبت لكني عدتُ وفكرت،
واكتشفتُ أنَّ الفيلم يقول الحقيقة، كنتُ هكذا آنئذٍ لكني تغيرتُ اليوم).
هذا التغيير كان الثيمة الرئيسة للفيلم، وهي التي استطاع الممثل دي نيرو
تجسيدها بصدق، تغيير جذري في شخصية البطل لاموتا وفي نفسيته خلال فترة 23
سنة امتدَّتْ بين(1941- 1964)فشل في الحلبة، وفي الحب والزواج، وفي
العلاقات الاجتماعية، نجاح في الحلبة، فشل في الاحتفاظ في اللقب، هبوطه
بالسرعة التي صعد فيها وربما أسرع، يتحوَّل إلى مالك ناد ليلي في نيويورك،
وممثل كوميدي فاسق ومهرِّج يحاول إضحاك جمهوره الهابط في حضيض المجتمع
الأمريكي. ونحن الذين ندين العالم وترديه في الضحالة بعيداً عن الإنسانية،
متى سنتغيَّر؟ ونحن لا نعمل بحسب وصية غاندي(كُنْ أنتَ التغيير الذي تريد
أن تراه في العالم).
في المشهد الأول، وباللون الأسود والأبيض، مباراة ملاكمة في مدينة كليفيلند
بين لاموتا والملاكم الأسود جيمي في سنة 1941، الضربات إلى وجوهِ الملاكمين
الاثنين: مُكَبَّرة بتَخْدير الصوتِ والطلقة المجسّمةِ مِنْ نقطتِهم مِنْ
وجهةِ النظر، تأثير اللكمات يبدو حقيقيا من خلال التلاعب بالأضوية اللامعة
السَّاطِعة، ولآلئُ العرقِ البشري من جباههم، في الجولة التاسعةِ
والعاشرةِ، يندلع الشغب بين الجمهور بعد أن تصرخ امرأة، تستأنف الجولة،
لاموتا يَضْربُ منافسه بِشَدَّة ويُسْقِطُ معارضَه الذي فشل في حماية وجهه،
أرضاً، يعدُّ الحكم إلى العشرة، يَنْزُّ الدمُّ مِنْ عينِ الملاكمَ بينما
يَصِلُ العدّ التنازلي تسعة، لكن الجرس ينقذه، ورغم أنَّ النصر يبدو
للملاكم لاموتا، لكنَّ الحكَّام يجمعون على أنَّ الفائز هو جيمي. ويبدأ
الشغب بين الجمهور. وموقف لاموتا الغاضب يذكرني بعين المشهد في فيلم
المحصنون حينما يغضب في نهاية الفيلم ويبدأ في شتم المحامي وهيئة المحكمة
وتهديدهم وهو بدور رجل المافيا الشهير آل كابوني. جميلٌ جديد ومبهج ومضحك
ومبكي، مشهد دي نيرو وهو يهذي من الغضب ويزبد فمه.
وفي المشهد الرائع الثاني، حين يرى لاموتا فيكي لأول مرة في النادي، وهي
بثوب السباحة، وتجذبه بجمالها ودلالها، ويبدأ بسؤال أخيه عنها، الذي يزيد
من لوعته ويخبره بأنَّها ليست ككلِّ البنات، وهي ليست من ذاك النوع الرخيص،
تخرج معها وتنساها.
فيسأل لاموتا شقيقه الصغير:
- هل خرجت معها؟
- مرتين فقط.
- هل نلت منها؟
- كلا.
- قل لي الحقيقة.
- أنا دائماً أُخبرك الحقيقة، وليس من الضروري أن تَسْألُني ثانيةً. أنا
أَقُولُ لك الحقَّ دائماً. إذا أنا عَمِلتُ هو، أنت تَعْرفُ. أنا أخرجتُها
مرتان.
ينتبه لاموتا إلى سلوفي وأصدقائه، وينظر إليهم بحقد، ويقول لو أنَّني
أشبعتهم ضرباً،
تنْهضُ فيكي فجأةً بشكل مثير، وتَنتقلُ إلى حافةِ البركةِ، تدلي بقدمِيها
في الماءِ، ويَدُورُ وجهَها نحو الشمسِ. يُذكّرُ جوي شقيقه الكبير جايك
لاموتا بأنّه مُتَزَوّجُ. اتركْ البناتَ الشاباتَ لي. يَنتهي المشهد، في
مَشْهَدٍ آخر، يقوم جوي بتعريف شقيقه لاموتا بفيكي.
جوي: فيكي، هذا أَخُّي جايك. سَيصْبَحُ بطلَ العالم القادمَ.
فيكي: مرحباً. يأخذها جولة في سيارته نوع نيس.
الإتحاد العراقية في
16/08/2009 |