الصورة ما زالت نفسها، بعد عام على رحيلها: شابة مشاكسة، نشأت على أن الفنّ
هو الأسئلة التي يطرحها، والقضايا التي يحملها، والقدرة على التجاوز
واختراع الحدود البديلة. تلك هي رندا الشهّال التي انسحبت في منتصف
خمسينياتها، وهو العمر الذي يعرف فيه الإنسان أخيراً ما يريد. مضت رندا قبل
أن تبدأ مشروعها الفعلي. كانت مسكونة بطيش الشباب، تتقدّم على طريق الحياة،
من دون أن تحسب حساب الفشل. ذلك يفسّر ربّما التفاوت في مستويات النضج، من
تجربة إلى أخرى، في ثلاثيّتها الروائيّة الطويلة، وكل المحاولات الوثائقيّة
والقصيرة الأخرى. كانت تُقبِل على كل عمل جديد مدفوعة بالفطرة والحدس
والمزاج، فإذا بها تارةً مراهقة تعبث بالأشياء وتتحدّى العالم، وطوراً
مبدعة واثقة من انّها تبني «خطوة خطوة» تلك المسيرة المغايرة التي حلمت بها
منذ السبعينيات.
بعض الإعلام والجمهور احتفظ من تجربتها بطعم الفضيحة:
«حروبنا الطائشة» هو الأكثر راديكاليّة في الذهاب إلى جذور الصراع،
انطلاقاً من حكاياتها العائليّة
فيلم «متحضّرات» (١٩٩٨) كان الجانب الجماهيري من تلك المواجهة مع نظام
القيم السائدة. لكنّ الاصرار على قول المزعج والمقلق والصادم من دون
مهادنة، موجود في كلّ أعمالها. ولعلّ «حروبنا الطائشة» (١٩٩٥)، هو الأكثر
راديكاليّة في الذهاب إلى جذور الصراع، انطلاقاً من حكاياتها العائليّة.
كذلك إن «طيّارة من ورق» (٢٠٠٣ ــــ الأسد الفضّي في «البندقيّة») عنوان
التتويج والمصالحة مع الذات والجمهور.
عاشت رندا الشهّال حياة زاخرة بالمنعطفات، بمحطّاتها الرغيدة المطمئنّة،
والأخرى الرازحة تحت عبء إخفاقات فرديّة وجماعيّة، وجراح شخصيّة، ومواجهة
مُرّة مع المرض الذي جاء يحدّ من زخم مغامرة في بداية التكريس الفعليّ. لقد
اقترن اسمها بالسينما اللبنانيّة الجديدة، وترافقت مسيرتها مع الحرب
الأهليّة، لتطرح الأسئلة الموجعة، وجوديّة وسياسيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة
وحضاريّة.
نفرح اليوم، حين نعلم أن مؤسسة باسمها سترى النور، لتواصل أحلامها بأشكال
أخرى، ولتعيد تسليط الضوء على تجربتها من خلال تظاهرات وإصدارات شتّى...
ونكتشف بدهشة أنّها تركت ثلاثة سيناريوات لم تتمكّن من تصويرها، أحدها عن
حياة امرأة ذات مصير استثنائي، هي المغامرة البريطانيّة جيرترود بيل، راسمة
حدود العراق الحديث. رندا أيضاً مغامرة، وامرأة ذات مصير استثنائي: لقد
عاشت فيلمها الأجمل من دون أن تدري.
الأخبار اللبنانية في
24/08/2009
في انتظار عرض أفلامها كاملة في بيروت
«مؤسسة رندا الشهّال»... قريباً تبصر النور
زينب مرعي
اقترن اسمها بالسينما اللبنانيّة الجديدة. وفي الذكرى الأولى لرحيلها،
الاستعدادات جارية لإطلاق مؤسسة تحمل اسمها، ووضع أعمالها في متناول
الجمهور
لو أن
رندا الشهّال (1953 ــــ 2008) بيننا
اليوم، ترى ما هي الأشياء التي كانت ستسعى إلى تحقيقها؟ هذا هو السؤال
المحوري الذي يحدّد أهداف مؤسسة قيد التكوين ستحمل اسمها، بمبادرة من
عائلتها، وبعض الأصدقاء المقرّبين وشركاء المسيرة الصاخبة، من أمثال المنتج
التونسي طارق بن عمار، والممثل الفرنسي جان مارك بار... وقد أعلن عن
انطلاقها القريب ـــــ ضمن مجموعة مشاريع أخرى ـــــ في الذكرى الأولى
لرحيل صاحبة «حروبنا الطائشة» و«طيّارة من ورق» (24 آب/ أغسطس).
«مؤسسة رندا الشهّال» أصبحت منجزة من الناحية الإدارية، ولم تعد تنتظر سوى
الإذن الرسمي لتبدأ العمل الفعلي. وفي انتظار ذلك، ستتعاون مع جمعية «بيروت
دي سي»، و«سينما متروبوليس»، وشركة «كاكتوس فيلم»، على تنظيم أسبوع احتفالي
في شهر حزيران (يونيو) 2010 في بيروت، تستعاد فيه أفلام الشهّال الروائية
والوثائقية، بما فيها الأعمال التي لم تعرض في بلدها حتّى اليوم. هذا
الأسبوع سيكون نقطة الذروة في جولة عالميّة، تبدأ من مركز لينكولن» في
نيويورك (كانون الأول/ ديسمبر المقبل) الذي استضافها مراراً في حياتها،
وتمرّ بإيطاليا وباريس.
أما في بيروت فإن رندا الشهّال ما تزال تثير المشاكل بعد رحيلها. إذ إنّ
أفلامها لا تملك إجازات عرض في لبنان، إضافة إلى قرار المنع الذي لا يزال
ساري المفعول على فيلمها «متحضّرات» (الحائز جائزة «نيستور ألميندروس» في
نيويورك عام 2000)، بسبب ما ينطوي عليه من مباشرة وفجاجة ونزعة اتهاميّة
للسلطة. لذلك تركت ٣ سيناريوهات، أحدها عن جيرترود بيل صانعة الملوك
فإن الموعد معها في الخريف المقبل، كما يلفت القيّمون على تنظيمه، سيكون
هديّة حقيقية للجمهور. سنشاهد أفلاماً لم تعرض قبلاً، مثل «الشيخ إمام»
(1983 ـــــ 1984) الذي صوّرته الشهّال على هامش حفلتي «الأماندييه»
الشهيرتين في باريس، ولم تجد الوقت أو الحافز لإكمال المونتاج. ويتولّى أحد
الاختصاصيين الذين اشتغلوا معها، إنجازه في الوقت المناسب. وسيقام خلال
الأسبوع التكريمي معرض صور مختارة من أرشيف السينمائيّة الراحلة.
«مؤسسة رندا الشهّال» مصرّة على عرض جميع أفلامها في بيروت، حتى لو عرضت في
ظروف لا تقع تحت طائلة الرقابة، علماً بأن المبادرة تشارك في تنظيمها
جمعيّة «بيروت دي سي» وصالة «متروبوليس»، وهما حالياً من الجمعيّات الناشطة
في المطالبة بقانون جديد للرقابة. هل يكون القانون هديّة رندا الشهّال
للثقافة اللبنانيّة؟ وستصدر أيضاً في المناسبة أفلامها على أسطوانات
dvd.
وأخيراً يجري الإعداد لكتاب فنّي شامل ومرجعي، يتضمن مقتطفات من سيناريوهات
أفلامها المعروفة، إضافة إلى ٣ سيناريوهات مكتملة لم تصوّرها المخرجة
الراحلة، تتمّ حالياً ترجمتها إلى العربيّة.
السيناريو الأوّل كتبته الشهال بطلب من منتجين إيطاليين، وهو عبارة عن
تكملة افتراضيّة لـ«عائد إلى حيفا» لغسان كنفاني... الثاني يدور حول شخصيّة
الدبلوماسيّة البريطانيّة جيرترود بيل التي عاشت في أوائل القرن العشرين في
العراق والسعوديّة، وعُرفت بـ«صانعة الملوك». أمّا الثالث فهو «يصطفلوا»
الذي أثار زوبعةً قبل تصويره، لارتباط أحد أدوار الفيلم باسم هيفا وهبي،
وهو فيلم كوميدي غنائي ساخر. وتبحث عائلة رندا في إمكان اتخاذ قرار صعب وهو
تصوير هذه السيناريوهات...
لا تملك المؤسسة حتى الآن إجابات عن كل الأسئلة المطروحة عليها. همّها
الأوّل الحفاظ على صورة رندا، وتركة السينمائيّة التي رحلت باكراً قبل أن
تعطي كل ما عندها... الأساس هو إطلاق مبادرات تشبه شخصيّة رندا وتعيد شيئاً
من نفَسها وديناميكيّتها إلى المشهد الثقافي. كل الاحتمالات (منح دراسيّة،
منح إنتاجيّة...) ما زالت قيد الدرس، انطلاقاً من مشاغل هذه الفنّانة
المميّزة والقضايا التي آمنت بها.
الأخبار اللبنانية في
24/08/2009 |