في مهرجان «كان» الأخير، عرض فيلم «Up»
(أعلى) في الافتتاح، مستخدما تقنية الأبعاد الثلاثة 3D
«التجسيم» وكانت تجربة بالنسبة لنا تحمل قدرا لا ينكر من المتعة خاصة ونحن
نرتدي هذه النظارة التي بدونها لا تستطيع أن تستمتع بحالة التجسيد للشخصيات
التي تتحرك أمامك وتقترب منك لتملأ حيز الفراغ بينك وبين الشاشة.. أثناء
العرض قررت أن أمارس قدرا ولو ضئيلا من اللعب ولهذا خلعت النظارة لمدة لا
تتجاوز بضع ثوان لأعرف بالضبط ما الذي تضيفه هذه النظارة التي لا تختلف
كثيرا عن أي نظارة دأبنا على وصفها بتعبير نظارة شمس وافتقدت تلك المتعة
التي كنت أعيشها قبلها بلحظات وبعد انتهاء العرض كان لا بد أن أسلم النظارة
لإدارة المهرجان لكي تمنحها بدورها إلى متفرج قادم للحفل يتوق مثلي ليعيش
تلك اللحظات.. لم يكن الفيلم يتسابق على جائزة ولكن إدارة المهرجان منحته
شرفا أكبر وهو أن يصبح عنوانا لتلك الدورة من مهرجان «كان»؟! وعندما عرض
فيلم «العصر الجليدي» الجزء الثالث باسم «فجر الديناصورات»
Ice Age3 Dawn of Dinosaurs
في العديد من البلدان العربية وبينها مصر ذهبت إليه وأنا أمني نفسي للحصول
على نفس تلك المتعة البصرية التي تجعلك تشعر في لحظات عديدة وكأنك تمسك
بيديك الشخصيات التي تتحرك أمامك.. شعرت للحظات أن هذه هي السينما فكما
أننا في الحياة نتعامل مع الرؤية البصرية بالأبعاد الثلاثة (الطول والعرض
والعمق) فإن الشاشة ينبغي أن تشتمل أيضا على هذه الأبعاد.. وكان هذا هو
حقيقة ما ذهبت إليه السينما في محاولة أن تحاكي الحياة للتجسيد وليس الأمر
قاصرا فقط على أفلام التحريك التي نصفها بتعبير ينقصه الكثير من الدقة
«الرسوم المتحركة» ولكن التجسيد هو أسلوب من الممكن أن يتحقق في كل الأفلام
إلا أن ما يعوق انتشار هذا النوع من الأفلام الذي تعود بداياته إلى أكثر من
60 عاما من تاريخ السينما هو تلك التكلفة المرتفعة التي تجعل الفيلم يصل
إلى ضعف الميزانية المقررة وحيث يحتاج إلى تقنيات خاصة أثناء التنفيذ
وتذكرة الدخول إلى دار العرض بالتالي تصل أيضا للضعف ولهذا ظلت الأفلام
المجسمة مشروعا قائما دائما وأيضا قادما دائما فهو لم يزح بعد السينما
التقليدية بشريطها العادي ذات البعدين!! في دار العرض المصرية ذهبت لمشاهدة
فيلم «العصر الجليدي» الجزء الثالث، لا توجد نظارات خاصة تحصل عليها، وعلى
هذا فإن المتعة البصرية تتضاءل كثيرا ربما لم يشعر المتفرج بجواري بهذا
الفارق لأنه لم يسبق له أن شاهد فيلم «Up» في مهرجان «كان» ولكني بالتأكيد أحسست
بأن المتعة البصرية ينقصها الكثير.. فيلم «فجر الديناصورات» كما قدمه
المخرجان «كارلوس سالدانا» و«مايك تورمايز».. يتناول الإحساس الأسري
وضرورته للكائن الحي، كل الشخصيات في الفيلم تبحث عن الأمان الاجتماعي
العائلي وأيضا الأمان الجماعي لكل أفراد القبيلة، فنحن مثلا مع «إيلي» و«ماني»
اللذين ينتظران مولودهما الأول ويشعر «ماني» بأن عليه أن يوفر الاستقرار
والحماية لعائلته الحالية وذلك بعد أن كانت له تجربة سابقة في عائلة أخرى
ولكنه فقدها بعد أن قتلهم الصيادون ولهذا فإن رغبته تبدو مضاعفة في إقامة
جدران تحمي عائلته الجديدة.. من الشخصيات الرئيسية أيضا «سيد» الذي يشعر
بالغيرة لأنه ليس لديه عائلة ويعثر بالمصادفة على ثلاث بيضات مغمورات في
الثلج ويقرر رعايتها ويقدم المخرجان معاناته في الوصول إليها وأيضا دفعها
إلى بيته حتى يأتي وقت الفقس ويكتشف أنه بصدد ثلاثة ديناصورات يصبح بمثابة
الأب والأم لهم.. هو سرق ما ليس له لكنه يعيش أحاسيس تجعله يقفز على تلك
النقطة الفارقة ويتذكر فقط مسؤولية حماية صغاره، ورغم أنهم بحجمهم
كديناصورات صاروا أكبر منه.. فإن هذا لا ينفي مسؤوليته الافتراضية عنهم..
ولا يكتفي المخرجان بأن نرى الصراع على الجليد رغم أن الأحداث في الجزأين
السابقين تتناول العصر الجليدي لكن النصف الثاني من الفيلم الثالث ينتقل
إلى ما هو تحت الجليد.. عالم آخر تتعدد ألوانه أكثر حيث لا يسيطر عليه
اللون الأبيض مثلما كنا فوق الجليد.. الفيلم يضع في اعتباره الخيال الجامح
للأطفال فهو يدخل في معركة مع هذا الخيال بتلك الحيوانات الخرافية التكوين
التي نرى فيها ملامح لحيوانات معروفة تأخذ من الفيل والنعامة والحصان وتضيف
إليها!! الفيلم يعمق تلك العاطفة التي لدى «سيد» تجاه البيضات الثلاث فهو
يشعر بأنهم أبناءه الذين أحبهم كما أن الأحداث تتواصل في تجسيد حالة الحب
تلك عندما نرى أيضا هذه الحيوانات تكبر أمامنا كما أن كل الحيوانات في تلك
الغابة الافتراضية فوق الجليد برغم صراعاتها فإنها عندما تفتقد «سيد» تقرر
أن تغامر وتذهب إلى تحت الجليد لإنقاذه.. إنه فيلم يدعو من يشاهده إلى أن
يشعر بأهمية أن ينتمي إلى كيان عائلي.. وأن العطاء هو السعادة الحقيقية
وهذا هو تحديدا ما عاشته الشخصيات في هذا الفيلم كما أنه يجعل من الضعف قوة
عندما يتحدى حيوان ضعيف الديناصور الشرير بل وينتصر عليه.. يستخدم المخرجان
أصوات ممثلين معروفين مثل «كوين لطيفة» و«راي رومانو» و«دنيس ليري» و«جون
لجيزامو» لتحقيق جاذبية لفيلمه.
تلك المغامرة التي يراها البعض موجهة للأطفال فقط قد نظلمها كثيرا رغم أنك
في صالة العرض تكتشف أن 90% من روادها أطفال وأن الآباء والأمهات جاءوا فقط
تنفيذا لإرادة أطفالهم إلا أن الحقيقة هي أن هذه الأفلام تملك سحرا خاصا
فهي تخاطب الطفل الكامن في أعماقنا لكي نعود في لحظات إلى طفولتنا المسروقة
وأننا أيضا نسقط بشريتنا على هذه الشخصيات المختلفة وأن السنوات التي
نحملها على كاهلنا لا تخصم منا المتعة ونحن نعيش هذا العالم بل تضيف إلينا
متعة أخرى.. فهل فكرت أن تذهب يوما إلى رحلة استكشافية فوق الجليد لتكتشف
بعض البراءة في أعماقك التي لم تغتلها سنوات العمر بعد!!
الشرق الأوسط في
28/08/2009 |