هناك ثلاث ميزات أساسية
وسمت شخصية المخرج السينمائي اللبناني فؤاد عليوان: ارتباطه
الوثيق بهذه البقعة
الجغرافية المسمّاة بيروت، تعلّقه الغريب بالسينما مدخلاً إلى الحياة
والعيش على
التخوم الجميلة بين التناقضات، قدرته على تحويل الإحباط والانكسارات
الفردية
والجماعية إلى علامات فارقة في مسار شخصي في أروقة اليومي
والصورة واللغة. عاش
أعواماً طويلة في ظلّ حرب أهلية طاحنة، لكنه درس السينما في «جامعة الولاية
الأميركية مونتانا»، بين العامين 1988 و1991، جاعلاً من الدراسة ركيزة
تقنية وفنية
للقول، ومن السينما مرآة الذات والآخر. هاجر وعاد، كأنه أراد
الموازنة بين الهجرة
والإقامة في البقعة الجغرافية نفسها التي ارتبط بها، فإذا بالسينما، التي
عمل فيها
مخرجاً ومنتجاً (أشرف على إنتاج حلقات كثيرة من البرنامج التلفزيوني
المختصّ
بالسينما «العدسة العربية»، الذي بثّته المحطّة الفضائية
العربية «الجزيرة» في
الأعوام القليلة الفائتة)، تصبح بين يديه عالماً متكاملاً من الواقع
والمتخيّل
والجنون والانتماء: «أنا أشبه هذا البلد. كل يوم يتورّط المرء بشيء معيّن،
أو يقوم
بمغامرة، لأن الأمور ليست «ماشية» كما يجب. هذا مناخ سوريالي
نعيشه منذ العام 2005،
بل منذ العام 1975. كنا نأمل أن يخرج لبنان من العتمة. مرّ وقت شاهدنا فيه
خروجه
منها، لكنه عاد ودخل إليها، ثم خرج، ثم عاد، وهكذا. هذه الدائرة المغلقة
أوصلتني
إلى حالة متمثّلة بضرورة أن أعيش كل يوم بيومه، سواء كنت
راضياً أم لا. لبنان هو
يوم آخر دائماً. درست السينما، واشتغلت، وأنجزت أفلاماً قصيرة، والآن وصلت
إلى
مرحلة أخرى شهدت كتابتي سيناريو فيلم طويل، هو الأول لي».
صُوَر الواقع
ربما يختزل عنوان فيلمه الأول «شوق مريض لوطن مريض» (1992) المعاني
كلّها التي
عرفها فؤاد عليوان في تفاصيل عيشه اليومي في هذه المدينة. أنجزه في لحظة
انفتاح
داخلي على أفق ما لسلام بدا سريعاً أنه هشّ ومنقوص، فصار العنوان (والمضمون
الدرامي
للفيلم أيضاً) مرآة شفّافة وقاسية عكست شيئاً من ذاته وانفعاله
إزاء الذاكرة
والمتغيّرات. انتظر وقتاً طويلاً قبل أن يُقدِم على خطوته الإخراجية
الثانية، فكان «الليلة الزرقاء» (1998، وهو عمل مشترك مع
المسرحيّ اللبناني رئيف كرم)، الذي اختصر
واقعاً لبنانياً متوتراً وممزّقاً في ظلّ حرب أهلية طاحنة،
تبدّت معالمها في الذات
الفردية للشخصيات. لم يتردّد عن التعبير عن موقفه الإنساني إزاء الأحداث
المروّعة
التي ضربت فلسطين في مطلع الألفية الثالثة هذه، فأنجز «يا سلام» ضمن عمل
جماعي
أنتجته إدارة «مهرجان الشاشة العربية المستقلّة». ثم كان «هوا
بيروت» (2002) و«إلى
اللقاء» (2005): غاص الأول في حالات إنسانية وتمزّقات ذاتية داخل مبنى
واحد، وسلّط
الثاني ضوءاً على العلاقة المرتبكة بين الإنسان وبلده والمنفى والعائلة،
داخل منزل
واحد. حالياً، أنهى كتابة سيناريو فيلم روائي طويل بعنوان «عصفوري»، تدور
أحداثه
الدرامية داخل بناية بيروتية قديمة، في ثلاثة «أزمنة» متتالية،
بدءاً من العام
1970، أي قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، ثم
أثناء أعوامها المريرة، وما بعد
نهايتها المزعومة. إنه، بهذا، يستمرّ في جعل المكان الواحد
ركيزة أساسية للبحث في
شؤون الفرد والجماعة في زمن واحد او في أزمنة متفرّقة تلتقي كلّها في لغة
سينمائية
خاصّة به: «إن كلمة «عصفوري»، بالمعنى الذي أعرفه أنا والذي يعرفه كثيرون،
وبالمعنى
الشعبي، وليدة لغة مركّبة ومختَرَعة، يتداولها كشّاشو الحمام، مضيفين حرف
«ز» بين
كل حرفين، فيقترب صوت اللغة من صوت العصافير». أما السيناريو، فيروي سير
عائلات هم
سكان هذه البناية المنتمين إلى الطوائف كلّها، والملوّنين بنمط
اجتماعي واحد. جيران
«مهضومين»
قبل الحرب، وبيروت كانت جميلة قبل الحرب أيضاً. بينهم، هناك الطفل كريم،
الصبيّ المستمرّ في مسار الفيلم كلّه، حتى التسعينيات. هم يجتمعون في جلسات
يومية
مع بداية الليل، يشربون القهوة ويتداولون شؤون بنايتهم. ذات
يوم، بحثوا مسألة
تجديدها لأنها باتت قديمة. رُكِّبت ورشة دهان، لكن الورشة تعثرت، وبقيت
أعمالها
معلّقة حتى التسعينيات، بل لغاية اليوم».
ورطة
بعد انتهائه من كتابة
السيناريو وعرضه على جهات إنتاجية متفرّقة (هناك منتج فرنسي يقرأ المشروع،
في حين
أبدت جهة إنتاجية سويسرية اهتمامها بالموضوع، بالإضافة إلى الشركة
الإنتاجية
اللبنانية
«Exit”
الخاصّة بالمخرج نفسه، والتي تستكون منتجاً مشاركاً)، بدأ عليوان
مرحلة الـ «كاستنغ»: «أبدأ التصوير في العام المقبل. أفكّر في تقسيمه إلى
مراحل
أربعة، بدءاً من الشهر الثاني. الفيلم مرتكز على ثلاث مراحل:
قبل الحرب وأثناؤها
وبعدها. والبناية مثل التصوير. هناك أيضاً مشكلة إنتاجية. أو ربما لأني
راغبٌ في
الاشتغال عليه بهدوء». هذا ما يُمكن اعتباره بمثابة التجسيد الفعلي للعلاقة
القائمة
بين المخرج والمدينة ومشاريعه السينمائية: «أعالج المشروع
تماماً كالعلاقة
السوريالية بالبلد. الأمور كلّها غير واضحة. لعبة الإنتاج غير واضحة. لكن
الأهمّ من
هذا كلّه أني اتّخذت قراراً بتصوير الفيلم. فعلى الرغم من وجود أناس كثيرين
يحبّون
السينما، لا يزال الإنتاج اللبناني غائباً».
يعترف فؤاد عليوان أن هناك «ورطة»
حدثت في علاقته بالسيناريو: «بعد كتابتي إياه، شعرت بأني تورّطت فيه، أو
ربما تورّط
هو معي، أو إنه هو الذي ورّطني. على أساس هذه العلاقة بيني وبين السيناريو
والبلد
(انتبه
إلى أن كل ضلع في هذه الثلاثية يشبه الضلعين الآخرين)، قرّرت أن أشتغله
بشكل
سوريالي. أشتغل على الإنتاج وعلى الكتابة، لأن الكتابة لا تنتهي (السيناريو
انتهى)،
لأن الكتابة تتطوّر دائماً. أقوم الآن بالـ «كاستنغ»، وأعمل على تشكيل فريق
عمل
متجانس». أضاف أن لديه علاقة وجودية بـ «الورطة»: «وُلدتُ في منتصف
الستينيات. وفي
منتصف السبعينيات، دخلت مرحلة الحرب والملاجىء. جيلي جيل
متورّط، يبحث عن مَخرَج.
شخصيتي صارت مركّبة. لا أعرف أن أعمل شيئاً على أساس أنه متوجّب عليّ فعله،
إلاّ
عندما أبلغ المرحلة الأخيرة من مسار معيّن أو عمل معيّن، حيث أجد نفسي
«ملزماً» أن
أعمل. نحن شعبٌ يحبّ الحياة، لكنه ما إن ينتهي من ورطة، حتى يقع في أخرى.
هذه
مشكلة. القصّة كلّها أني جئت إلى بلد فيه حالات مستمرة من
الصدامات، كما أنه يولّد
ورطات. تملّ من الورطات، لكنك كيفما ذهبت، تواجه ورطة، أو تقع في أخرى».
وأشار إلى
أن الأجيال كلّها بات بعضها يشبه البعض الآخر في الانفصام والخيانة: «عندما
كنا
صغاراً، كانت الخيانة أمراً خطراً. وصلنا إلى فترة صرنا نعيش
خيانة أنفسنا وخيانة
بعضنا البعض. كل واحد منا بطل. ندافع عن خيانتنا ونبرّرها. فوصلنا إلى حالة
الانفصام. لا نعرف أنفسنا: «نحن ماذا» مثلاً. لا نستطيع تقديم حلٍّ
للمشكلة. كلنا
نعاني ضغوطاً جبّارة، في الأمور كلّها. والضغط يبدأ في الداخل، في أرجاء
البيت
كلّه، وينتقل إلى الشارع».
نهاية مفتوحة
في لقائي به، ردّد فؤاد عليوان
كلمات «ورطة» و«انفصام» و«خيانة» أكثر من مرّة. سألته عمّا إذا
تناول «عصفوري» هذه
المسائل الثلاث التي تُشغل باله كمخرج وكفرد مقيم في مدينة يعشقها: «لا
يتحدّث
الفيلم عنها بشكل مباشر أبداً. لكن السيناريو يُظهر لك تاريخ المكان
وجغرافيته،
ويعكس تفاصيل تُنبئ بالانفصام والخيانة والورطة. تبدأ أحداث
الفيلم في السبعينيات،
وتنتهي في التسعينيات كأنها لم تنته. في البداية، وصل السيناريو إلى العام
ألفين
وما بعده، غير أني تراجعت لسبب درامي، إذ رأيتُ أن أُنهيه في التسعينيات،
شرط أن
تبقى النهاية مفتوحة». فهل تعكس «النهاية المفتوحة» ثلاثية الانفصام
والخيانة
والورطة، أم إنها (أي الثلاثية) تحتلّ مكانة جوهرية «في فيلم
آخر»؟ الجواب معلّق
كتلك النهاية المفتوحة. والنقاش، إذ استفاض في تشريح الذات وعلاقتها
بالمدينة
وفضائها وواقع العيش فيها وغيرها من العناوين الأساسية، بلغ سؤال الحماسة
التي
يُفترض بالمرء أن يعيشها: «لم تعد لدى المرء حماسة. لم يعد
يتحمّس للذهاب إلى صالة
مسرح، أو ليعشق صبيّة، أو ليكون سعيداً. في أيام الحرب، أُغرمتُ بفتاة في
الملجأ.
الآن، لا أستطيع أن أحبّ فتاة في الجميزة.
كنا نقيم في الملجأ، لكن كانت هناك شمعة
مضيئة فينا. الآن، قد تجلس مع أجمل امرأة في العالم، لكن
العتمة في داخلك. هذه
الحالة البشعة دفعتني إلى الانتقال إلى حالة أخرى: تصوير فيلمي الروائي
الطويل
الأول، على أمل أن أخرج من الورطة». في أيام الحرب، كانت هناك إلفة بين
الناس: «هذه
الالفة موجودة في البناية قبل الحرب وأثناءها وبعد انتهائها،
من خلال كريم المراهق،
الذي لديه حلم موقت. كريم بداية انفصام. التقى مايا، الواقفة بدورها في
محطة
انتقالية، ولديها نوع من الانفصام. وقع الحب بينهما، وتكلّما «عصفوري»،
وطارا».
لكن المدينة تبدّلت كثيراً، وأحوالها مقلقة: «أنا ابن بيروت. لي الحقّ
في
الدفاع عنها وعن ذكرياتي فيها. أحبّ الصنايع والحمرا والجميزة، لأنها
تذكّرني
بطفولتي وشبابي. إنها مريحة للنظر. في فيلمي الجديد، أقول إن بناء بيروت
جميل. سقف
بارتفاع أربعة أمتار أفضل للعين من تلك الصناديق التي تشبه
القبور. كانت بيروت
صندوق فرجة، صارت اليوم تشبه نشرة الأخبار. حتى صوت المذيع لا تحبّ
الاستماع إليه».
والسينما تعاني مآزق جمّة: «هناك مشاريع
سياحية وإعمارية ضخمة، لكن السينما لا تجد
من يهتمّ بها ويرعاها، مع أنها أقوى صناعة، إن لم تكن الأهم
والأكبر».
السفير اللبنانية في
29/08/2009
بلا «وجع
رأس»
نديم جرجورة
لا ترغب المحطّات
التلفزيونية العربية، الفضائية والأرضية، في إنتاج برامج خاصّة بالتسلية
تمتلك
شروطاً ثقافية سليمة. ترى أن التردّي والسطحية أسهل إعداداً، ما يعني انهما
أربح
مادياً/ إعلانياً. تجاهد من أجل لا شيء، وتأبى البحث عن
الإفادة. لا وقت لديها
للتثقيف، ولا مال تنفقه على الجدّي. تذهب إلى المسلسلات الدرامية (غالبيتها
محتاجة
إلى تأهيل إبداعي جذري، في المضمون والشكل والمعالجة وتنفيذ التقنيات
المتفرّقة)
وبرامج «توك شو» سياسي أو فني (تشبه الواقع المزري الذي تُقيم فيه شعوب
ومجتمعات)،
وإن كلّفها الأمر كثيراً؛ لكنها لا تجد في الثقافة الجادّة مصدر غنى مادي
لها، هذا
إن لم تنظر إليها شزراً، لأنها مكلفة وإيراداتها خاسرة بمقاييس العمل
التلفزيوني
العربي. لا مبالغة في هذا، علماً بأن هناك أعمالاً تلفزيونية
قليلة تحتوي على
مضامين مهمّة، وترتكز على اشتغال حرفي جيّد. غير أن خطورة المسألة كامنةٌ
في غلبة
التردّي والتسطيح على البرمجة.
تتكاثر برامج التسلية في شهر رمضان، لأن
الصائمين يسهرون الليل منتظرين موعد السحور، ما يعني أنهم
محتاجون إلى كل ما
يُسلّي، مفضّلين الابتعاد عن «وجع الرأس»، أو هكذا يُخيّل لمدراء المحطّات
التلفزيونية وبرامجها اليومية. و«وجع الرأس» هذا ناتجٌ من مسلسل جدّي ومليء
بحكايات
وحبكات مشوِّقة (بالمعنى الإبداعي للكلمة)، أو من «ألعاب» و«تسالي» قد
تُقدّم ربحاً
مالياً ما. لا مشكلة إزاء برامج التسلية، لأن الفنون البصرية
عامة قابلةٌ لهذا
النوع العادي والسهل من الأعمال. غير أن المأزق الخطر كامنٌ في الغياب
الكامل
للتتمة المطلوبة للتسلية، أي للمقابل الثقافي. بمعنى آخر، لا ضرر
تلفزيونياً في
إشباع غريزة المتلقّي؛ لكن، لا ضرر أيضاً في أن توازن إدارات المحطّات
التلفزيونية
بين التسلية البحتة (المسطّحة غالباً) والتسلية المفيدة، مع أن
هناك من يُطالب
بتغليب الثانية على الأولى. فالمحطات التلفزيونية الغربية مثلاً تبثّ هذا
الصنف من
البرامج العادية، لكنها منتبهة في الوقت نفسه إلى أهمية إتاحة مجال واسع
أمام شريحة
أخرى من المتفرّجين، ترغب في برامج منتمية إلى المعادلة
الطبيعية بين التسلية
والإفادة، أي إلى برامج ثقافية بحتة، أو إلى برامج للتسلية تُدخل أسئلة
جدّية في
مسابقاتها «التسلوية» الطويلة.
لا تقتصر أزمة برامج التسلية العربية على
المضمون المسطّح. هناك ملاحظات عدّة تُساق في هذا المجال،
بدءاً من الأسلوب المعتمد
في تقديمها، والمذيعين/ المذيعات المختارين لإدارتها، ومدى إدراكهم فحوى
الأسئلة
المطروحة، وكيفية نطق الأسماء العامة والخاصّة (ناهيك عن نطق الجمل
بالعربية
الفصحى، وهو غالباً ما يكون سيئاً أو خاطئاً، لغةً وقواعد)،
والعلاقة القائمة بين
المذيع/ المذيعة والمُشاهد، بالإضافة إلى سلوك مشاهدين ينتشون عند سماعهم
أصواتهم
مبثوثة على الشاشة الصغيرة، فيتصرّفون بالطرق كلّها المغايرة لأبسط قواعد
الإطلالة
التلفزيونية. وهم، بهذا، لا يختلفون أبداً عن سياسيين منصرفين إلى الشاشات
الصغيرة
لتنفيس احتقان ما لديهم، أو لتسطيح مسائل عامّة. ذلك أن بعض
مقدّمي هذه البرامج
يميل إلى غنج أنثوي فاقع لا علاقة له بجمالية الإغراء السوي، أو إلى محاولة
ذكورية
باهتة وفاشلة لإثارة مناخ ضاحك يتناقض والمنطق الكوميدي السليم؛ ولا يتردّد
بعضٌ
آخر عن تحديد الإجابات الصحيحة علناً على الهواء مباشرة، أو عن
استخدام «ميوعة»
لفظية وحركية لحثّ المُشاهدين على الاتصال.
لا شمولية في هذا الرأي، بل محاولة
خفرة لتبيان معالم درك آخر بَلَغته محطّات تلفزيونية عربية
كثيرة، مقيمة أصلاً في
انحطاط مجتمعي وأخلاقي وإنساني عربي خطر.
السفير اللبنانية في
04/09/2009 |