عندما نورد اسم المخرج التركي نوري جيلان تغدو
حركة الزمن على هذه الصفحة ارتدادية، ولعل ما يلي سيوضح معنى ذلك الوصف.
وعلى شيء
من الاصرار على ترسيخه، حيث أن أول مقاربة لفيلم من أفلامه كان مع آخرها
"ثلاثة
قرود" 2008 الذي نال عليه جائزة أفضل مخرج في الدورة 61 من مهرجان كان
السينمائي،
ولنتبعه بمقاربة عوالمه في فيلم سابق له في سنتين هو "مناخات".
وعليه تبدو مواصلة تعقب ما كتبه وأخرجه جيلان دعوة ملحة للعودة إلى كامل
أفلامه الروائية الطويلة الخمسة، ولنكون اليوم بصحبة
Uzak (بعيد) 2002 الذي نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة
في كان عام 2003 وجائزة أفضل ممثل رئيس مناصفة بين الممثلين الرئيسيين فيه.
بعيدا عن صدفة تقديمنا أفلام جيلان على التوالي لكن في أثر رجعي، ثمة في
السينما التي قدمها ما يؤرق وما يجعل استكمال صورة عامة لمنجزه دعوة جمالية
خاصة لا تهدأ لمعرفة قديمه وتعقب جديده، وخاصة إن كنتم مهتمين بالتلصص على
خصوصية إبداعية تصرخ بأعلى صوت: إنها الحياة اليومية وجماليتها ومآسيها
وأفراحها، إنهم البشر من لحم ودم على قدر ما تتسع الشاشة لهم، وبما يتيحه
الإيهام من واقع.
ولعل الواقع سابق الذكر سيمضي تصاعديا، ستكون اللقطات الطويلة التي
لا تفارق أفلامه محاولة مضنية لإجراء نوع من المصالحة بين زمن الفيلم
الافتراضي والزمن الحقيقي، وإيلاء التفاصيل الصغيرة في حياة البشر اهتماماً
يجعلها حاملاً لمأزق وجودية وحياتية ونفسية، ودائماً عبر كاميرا ثابتة
تتحرك أمامها الشخصيات دون أن تبادلهم الحركة، ودون أن تسألهم الثبات.
في (بعيد) سنجد أننا نؤكد على ما تقدم بعد أن فعلنا في "ثلاثة قرود"
و"مناخات"، ولعل الوحدة أو العزلة ستأتي مجدداً وهي مدججة بكامل عتادها
وتسكن الشخصيات التي أمامنا، وبالتأكيد الثلج، والحب أيضاً ووعورته، وما
يخلفه من آثار وما يقف حائلاً بينه وبين من يتوق إليه، إنها الأخطاء
مجدداً، الثمن الباهظ لما نصّر على أن نبقى عليه، جنباً إلى جنب مع ما
تجبرنا الحياة على أن نكونه.
بنية (بعيد) أشد اتساقاً مما تلاه، استنتاج أولي يحتاج إلى مزيد من
المراجعة ربما، لكن هناك ما يدفع لقول ذلك مع لقطة الفيلم الأولى ونحن
نراقب شاباً يأتي من بعيد، لقطة طويلة يستغرق فيها كامل المسافة وهو يقطع
وادياً مغموراً بالثلوج، وحين يصل الطريق المعبد يكون عليه أن ينتظر سيارة
تقله، إنه يوسف (أمين توبراك) هارباً من قريته باتجاه اسطنبول، وفي طريقه
لأن يستعين بمحمد (مظفر ازدمير) الذي يعمل مصورا فوتوغرافياً، الأول أصبح
عاطلاً عن العمل بعد أن أغلق المعمل الذي يعمل فيه ووالده وربما جميع سكان
قريته، وكل ذلك تحت وطأة أزمة اقتصادية تعصف بتركيا، بينما الثاني غارق
بالصمت والحياة المتوقفة، بعد أن تحول إلى مصور يسترزق من الإعلانات.
ستكون مجاورة كلا الشخصيتين فعلاً فاضحاً، اقتحاماً لعزلة محمد
وتعميقاً لخيبة يوسف، عزلة الأول متأتية من حياته التي يوحي كل ما فيها
بأنه عاشها وانتهى ولا شيء سوى تسجية الوقت أو قتله بكل أدوات مكافحة
الملل، بينما يوسف يمضي إلى الميناء يبحث عن عمل على إحدى السفن وما من
وعود أو آمال في أن ذلك سيتحقق، كل شيء يقال باللقطات، والحوار أقل من أن
يحتل خمس الفيلم.
يوسف ومن اللحظة الأولى التي يمضي فيها إلى الميناء تستقبله سفينة
جانحة مرمية على الرصيف، وحين يرمق امرأة جميلة تمر من أمام بيت محمد فإنه
لا يقوى على مبادلتها كلمة واحدة، وحين يقرر اللحاق بها يجدها على موعد مع
رجل، ويمضي الفيلم وهو هائم على وجهه في شوارع اسطنبول بثياب لا تقيه ثلجها
وبردها القارص، يلاحق بعينيه النساء الجميلات، وهو عاجز عن مبادلتهن كلمة
واحدة.
لا شيء في حياة محمد سوى الماضي، إنه رجل مطلّق، يلتقي زوجته السابقة
التي تصارحه بأنها صارت عاقراً من جراء عملية الاجهاض التي أجبرها على أن
تقوم بها قبل طلاقهما، بينما تقول له بأن لديها أمل بالشفاء في كندا التي
ستهاجر إليها مع زوجها الجديد.
منجز محمد الوحيد أنه مستقر مالياً ويمتلك ما يريده، أمه مريضة، يعيش
علاقة عابرة مع امرأة مأزومة من خيانتها زوجها، يشاهد أفلاما اباحية ويحاول
اخفاء ذلك عن يوسف، ومن ثم يلتقط صوراً ليواصل بثمنها حياته.
سرعان ما سيضيق محمد بيوسف، سيكون ذلك واضحاً من البداية، من لحظة
ضيقه بحذائه، وبتراكم ما يمكن أن يكون عبئاً ينوء تحته رغم أن الشيء الوحيد
الذي يقدمه إليه هو السرير الذي ينام عليه يوسف.
الاستعراض السابق استعراض للبنية العامة للفيلم، فما يقوله يأتي على
سبيل المثال من تقديم لقطات طويلة لمحمد ويوسف يدخنان، مئات السجائر ستحترق
في هذا الفيلم وهما ساهمان في البعيد، وسيكون الثلج الذي يغمر اسطنبول
عاملاً حاسماً في العزلة والحزن، ولتأتي اللقطات الطويلة لتقدم لنا حياتهما
واحساسيهما كما هي، كما لو أننا أمام يوميات للحزن العادي، أو متواليات من
العيش التي تتصادم مع كل شيء، دون أية انزياحات أو انعطافات لا تشبه
الحياة، أو حتى تصعيد درامي مقحم، إنه الواقع التي تقاربه كل شخصية بناء
على عزلتها ومشاكلها الخاصة التي تقول كل شيء بصمت ولا أثر يدل عليها لا
السجائر.
شخصية يوسف المتناغمة مع بساطتها القروية، ستعيش خيباتها، وستمنح كل
الوقت لتصلنا، هذه الشخصية التي تبقى عالقة في الذهن، لن تمنح الممثل الذي
قدمها فرصة لتجسيد شخصية أخرى، بمعنى أن الممثل أمين توبراك وبعد حصوله على
جائزة أفضل ممثل في كان 2003 سيلقى حتفه في حادث سيارة ولم يتجاوز الثامنة
والعشرين من عمره، نهاية حزينة ومؤسفة لها أن تمضي بشخصية يوسف التي قدمها
إلى نهاية لم يتجرأ نوري جيلان تقديمها، ولعل في الحياة – وبالتأكيد- ما هو
أشد حزناً، حيث النهاية نهاية لكل شيء بحق.
الإمارات اليوم في
16/09/2009
«إل
مايسترو - 2»
مالك القعقور
كما جيّر الإعلامي اللبناني نيشان «ايجاباً» ما يكتب في الصحف من نقد
«ايجابي»
لمصلحته باستهلال حلقاته بتوجيه الشكر الى الصحافيين، موحياً للمشاهدين بـ«مهارة»
أن ما كتب ليس إلا اهتماماً به شخصياً وببرنامجه «إل مايسترو»، يحق
للناقدين أن
يعتبروا التطور الذي طرأ على الحلقات الأخيرة ناتج ممَّا وجهوه إلى
البرنامج ومقدمه
ومعدّيه.
ولئلا تعتبر هذه الخلاصة تجنياً، فلا بدّ من تذكير القراء – بمن فيهم
نيشان نفسه –
بأن الفكرة الأساسية التي قامت عليها التعليقات بعد اتمام الحلقة الـ 15 من
البرنامج، كانت نقداً لاستضافة نيشان 3 من زملائه في محطة «أل بي سي»،
وبخاصة أن
الثلاثة قادرون من خلال حضورهم الدائم واليومي على الشاشة عن
التعبير عماّ يريدون
ويرغبون فيه بينما هناك كثيرون من العاملين في كل الحقول الفنية والأدبية
والثقافية
لديهم تجارب مميزة أيضاً تستحق الإضاءة عليها لاعطائها بعضاً من حقها.
وفي هذا الإطار أيضاً رمى التعليق إلى انتقاد مقدم البرنامج ومعدّيه
لحصرهم ضيوف
البرنامج في نصفه الأول بنجوم من لبنان ومصر باستثاء الفنانة الكبيرة وردة
الجزائرية، علماً أن هواها مصري، من دون ان يسعى المقدم إلى توسيع مروحة
ضيوفه الى
سائر أنحاء العالم العربي.
أما ما طرأ من تطور على البرنامج بعد حملة النقد، فهو تماماً ما سعت
إليه هذه،
أي استضافة البرنامج نجوماً عرباً تجاوزوا لبنان ومصر إلى الكويت والعراق
وسورية
والعقبى لسواها من الدول العربية.
ومن أهم نقاط التحول في البرنامج هو تسجيله سابقة جديرة بالثناء تمثلت
باستضافته
الثنائي الغنائي طروب ومحمد جمال اللذين أقاما الدنيا ولم يقعداها في الزمن
اللبناني الجميل. ففكرة استضافتهما معاً كثنائي غنائي بعد ثلاثة عقود من
افتراقهما
فنياً وعائلياً مهمة جداً، والأهم من الفكرة هو قبول الفنانين
العملاقين أن يظهرا
معاً بعد تلك السنوات. كان حضورهما مميزاً لنواح عدة أولها تعرّف الجمهور
الجديد
اليهما والى شؤونهما وشجونهما وما يعانيانه راهناً من صعوبة في العيش –
كمعظم
الفنانين في الوطن – وكذلك ليستردا ولو تلفزيونياً بعضاً من
حقوقهما التي أهدرتها
أصوات جديدة بالتعدي على تراثهما وأغانيهما الأصيلة، عبر تأديتها من جانب
مغنين جدد
ليتسلقوا الشهرة على حسابهما ومن دون اذنهما.
وكم كانا (طروب وجمال) كبيرين بكلامهما وشكواهما وعتبهما، وكذلك
كريمين
بمسامحتهما من أخذ حقوقهما
بمجرد اتصاله هاتفياً اثناء البرنامج بهما.
هذا العمل التلفزيوني يستحق الشكر، وهذا تماماً ما يراد لساعات البث
المفتوح في
الذروة أن تؤديه فتقدم إلى المشاهد ما يستحق الانتظار ليشعر في نهاية
الحلقة بأنه
متضامن بكليته مع فنان غير قادر على استرداد منزله «المصادر» ومع فنانة
تعيش في
غربة قسرية... وهنا تماماً يشعر المشاهد بأنه خسر شيئاً كثيراً
إذا ما فوّت حلقة
بهذا المستوى، حتى بات من حق المشاهد أن يعتب على الصحافة اذا مرّت على
معاناة هذين
الفنانين مرور الكرام.
الحياة اللندنية في
16/09/2009 |