لا تستطيع أن تضع فيلم «اليتيمة» (Orphan)
تحت طائلة قانون سينما الرعب وأنت مطمئن، لأنه ينتمي أكثر إلى سينما «السيكودراما»
(الدراما النفسية).. نعم في لحظات يتملكك الخوف على أبطالك وقد تصرخ وأنت
في دار العرض، إلا أنك في كل الأحوال لا يمكن سوى أن تدرك أننا بصدد فيلم
نفسي من الطراز الأول وأن الرعب ما هو إلى غطاء أو إطار تشويقي ولن تدرك
أبعاد العلاقات في الفيلم إلا بعد أن تتعرف على تلك الحالة النفسية
المهيمنة على أبطال الفيلم والتي قدمها المخرج «جومي كوليت سيرا» وهو يتحسس
باقتدار جمهوره متبعا سياسة الخطوة خطوة.. كل لقطة تمنحنا معلومة ما لا
تكتمل إلا مع نهاية الأحداث، وقد تفسرها سريعا على محمل ما وتكتشف بعد ذلك
أنه قد جانبك الصواب، وهو أيضا ما عانى منه أبطال الفيلم وانتقلت تلك
المعاناة إلينا.. الأم في طريقها إلى مستشفى الولادة، نكتشف أنها كانت تحمل
طفلة ميتة طوال 15 يوما وتقع فريسة للخمر كرد فعل لهذا الحدث وتشعر أيضا
بالذنب يعتصرها.. ويسألها الطبيب هل هو طفلها الأول، نكتشف أنه الثالث..
لها طفل، 11 عاما، وطفلة، 5 أعوام صماء بكماء وتتحدث معها بلغة الإشارة..
موت الطفلة وهي مجرد جنين طرح لدى الأم مأزقا نفسيا لم تستطع معه أن تقلع
عن إدمان الخمر إلا بعد مساعدة الطبيبة النفسية، أما جسد الطفلة المتوفاة
فلقد أحرقته ونثرته رمادا في قنينة لتزرع من خلاله زهورا، وكلما نبتت
الزهور شعرت الأم أن ابنتها تحيا أيضا.. وكتبت على قبرها: «أنا أراك رغم
أنني لم أر وجهك وأسمعك تتحدثين رغم أنني لم أسمع صوتك».. دائما تحكي
لابنتها أن تلك الشقيقة الصغيرة التي لم تأت للحياة هي مع الملائكة في
الجنة بعد أن انتقلت للسماء.. تسألها: هل من الممكن أن يصبح لدينا أخت
ثالثة؟، كانت الأم قد فقدت الرحم أثناء عملية الإجهاض الإجباري فأصبحت غير
قادرة على الإنجاب ولكن التبني أحد الوسائل الممكنة بالطبع، ولهذا تقول
لها: ممكن. وهكذا، دراميا، نجد أنفسنا بصدد رغبة مشتركة لميلاد طفلة جديدة
تتملك الأم وابنتها. في دار الأطفال نرى الممرضة السمراء المسؤولة عن رعاية
الأيتام، ويختار المخرج تقديم معلومة أخرى.. كان هناك حفل صاخب، تتجه الأم
إلى البهو حيث الأطفال معا، وفي حالة ضحك ولعب وغناء تجد الأم نفسها حائرة
في اختيار الطفلة، بينما الأب يذهب إلى الطابق الأعلى.. تستوقفه فتاة ترسم
وتعزف، تدعوه بصوت مهذب ليقترب إليها، يكتشف أنها ترسم أنثى الأسد التي
تبحث عن أشبالها الضائعين ولديها عدد من الرسومات الأخرى التي تدل على
موهبة حقيقية.. تحمل هذه الرسوم غموضا ما. ويحرص المخرج على تفاصيل محددة
نعرف من خلالها أن لديها يدا وعينا مدربة على الرسم لا تتفق مع سنواتها
التسع. تدخل على الفور قلب العائلة. الأم أيضا تشعر بسعادة وهي تعثر على
تلك الفتاة المتميزة بين أقرانها. المشرفة السمراء توافق على إجراءات
التبني، فالعائلة قادرة على الإنفاق. الأم تهوى الموسيقى والأب مهندس
معماري.. وتبدي تفوقا ملحوظا كفتاة تنضم للأسرة، بل إنها أيضا تكتشف أن
طريقها لقلب هذه الأسرة ينبغي أن يمر عبر الطفلة التي رحلت، وتبدي تعاطفا
مع الأم وتقول لها إن هذه الطفلة افتقدت حضن أم مثلها كما كانت تتوق
إليها.. تكسب قلب العائلة في لحظات فيما عدا الابن الكبير الذي يشعر بقدر
من الفتور لا نستطيع نحن كمشاهدين اكتشاف أسبابه.. بلمحات تشبه الطرقات
الخفيفة على الباب مثلا مشهد مقتل الحمامة عندما تصيبها طلقة من مسدس غير
قاتل، ولكن الطفلة اليتيمة تطلب من الطفل أن يقتلها، يرفض فعل القتل، لكنها
بقلب بارد تمسك حجرا وتلقي به على الحمامة بكل قسوة.. تتناثر الدماء ولا
نشعر أنها قد تأثرت بهذا الفعل الدموي. هذا المشهد لا يمكن أن يمر بسهولة
علينا كمشاهدين، ولكننا في تتابع الأحداث نعبر فوقه حين نقفز إلى المشهد
الأكثر عنفا ونعود إليه بعد ذلك لنكتشف أن المخرج قد حذرنا دراميا بأننا
نتعامل مع شخصية مريضة في مشاعرها. فهو يمهد للاعتداء على المشرفة السمراء
عندما تأتي للسؤال عنها ولديها بعض المعلومات من أجل إعادتها إلى دار
الأيتام مرة أخرى. تقرر أن تقتلها بحيلة مليئة بالشر المطلق، حيث ترمي
الطفلة الصغيرة أمام عربتها فتنحرف العربة وذلك تفاديا للطفلة، وعند عودتها
لإنقاذ الطفلة تنهال عليها بالضرب حتى الموت، وقبل ذلك تتلصص على الزوجين
لحظة لقاء عاطفي بين الزوج والزوجة، يكتشفا ذلك، وتقول لهما ببساطة إنها
تعلم أن هذه علاقة جنسية، لا يملكان تفسيرا، ولا نحن أيضا كمشاهدين نملك
هذا التفسير، ولكننا فقط نشعر أن الطفلة تعرف أشياء تتجاوز عمرها الزمني،
وهي تعزف على البيانو تكتشف أنها كانت تكذب على الأم عندما ادعت أنها لا
تعرف العزف، وتبرر ذلك بأنها لم تكن تريد أن تؤذي مشاعرها، فهي لها ابنة لا
تسمع وابن ليست لديه موهبة العزف، ولهذا آثرت ألا تكشف عن موهبتها كعازفة
أيضا. موقف يتجاوز المرحلة العمرية التي تعيشها! كل شيء يبدو وكأنه يجري في
هذا الاتجاه. الأم تتنازعها الشكوك، بينما الأب لا يدري شيئا سوى أنه
متعاطف مع هذه الطفلة اليتيمة. ويكشف الفيلم في جانب منه إلى أي مدى أن
الأطباء النفسيين لا يدركون شيئا مما يتعلق بالطب النفسي، وهكذا عندما تعرض
الطفلة على الطبيبة النفسية لا تكشف شيئا مما تخفيه، بل إننا نكتشف قرب
النهاية أنها كانت مريضة في مستشفى الأمراض العقلية، وأن عمرها 33 عاما،
وأنها مصابة بضمور في الغدد النخامية المسؤولة عن النمو، ولديها حالة أقرب
إلى التقزم. ملامحها طفلة ولكنها أنثى تعيش كل مشاعر الأنثى ورغباتها تتحول
إلى الزوج، الذي يظل موقنا ببراءتها قبل أن تصدمه مع اقتراب النهاية بتلك
الرغبات. إنها الطفلة القاتلة التي تحاول قتل الابن حرقا وتحاول قتل الطفلة
في العربة، فهما يعلمان جريمتها، بل في المستشفى تحاول نزع الأوكسجين عن
الطفل وخنقه بالمخدة. وتتعدد الجرائم. وعلى الرغم من القسوة، فإن المخرج
يلعب على قانون المفارقة. المشاهد يعلم، وبعض الأبطال لديهم بعض المعلومات،
لكن البطل الرئيسي لا يعلم. دائما في النهاية نأمل أن نتخلص من هذه الفتاة
والتي نكتشف أنها امرأة مريضة تعتدي بالضرب المبرح على الأب، إلا أننا نراه
في المشهد قبل الأخير وبه بعض النبض، كذلك الابن يتم إنقاذه وأيضا الابنة،
لم يتبق من هذا كله إلا الأم التي تنتصر في النهاية عليها من خلال حرب تحت
الجليد. لم يترك المخرج الفرصة، من خلال السيناريو الذي كتبه «ديفيد ليزلي
جونسون» عن قصة «أليكس ماس»، تمر من دون لحظة توتر ساخنة، ولكنه وبالقدر
نفسه كان حريصا على أن يمنحنا بعض الأمل في أن تتجاوز الأسرة محنتها وينجو
الأب وابنه مثلما نجت الأم وطفلتها! تلعب الموسيقى دورا محوريا في التأكيد
على حالة الترقب. كان هدف المخرج أن يضعنا جميعا ضد هذه الفتاة المريضة،
فنحن في العادة نتعاطف مع المريض، إلا أن المخرج منع أي إمكانية إحداث لهذا
التعاطف من خلال اعتدائها على جميع الأبرياء، خاصة أبناء العائلة التي تعيش
بينهم. كما أن قسوتها الدموية كانت كفيلة بإحداث كل ذلك مثل هذا المشهد
القاسي عندما تقطف الورد من القنينة التي بها رماد الابنة الراحلة مدعية
أنها تريد أن تقدمها هدية للأم على الرغم من أن الأصل في الدراما أن تتعرف
على المريض وترثى له وهي غير مسؤولة عن هذا المرض الذي أصابها، إلا أننا
جميعا كان يسكننا الرعب مثل أفراد تلك الأسرة، وكنا نتمنى مثلهم تماما
التخلص منها وأن تختفي تماما من الوجود ليعود الوئام والسعادة لتلك الأسرة
الصغيرة ولنا أيضا ونحن نشاهد الفيلم الذي صار في بعض مشاهده أشبه
بالكابوس!
الشرق الأوسط في
30/10/2009 |