عندما نتأمل آخر مهرجان دولي عالمي شاركت فيه السينما المصرية بعدد لا
بأس به من الأفلام سوف نكتشف أنه «فينسيا» الذي عقد في شهر سبتمبر (أيلول)
الماضي؛ كان لمصر ثلاثة أفلام وهي ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ السينمائي
المصري حيث عرض «المسافر» لأحمد ماهر. «احكي يا شهرزاد» يسري نصر الله.
«واحد صفر» كاملة أبو ذكري.. جهات الإنتاج مختلفة؛ وزارة الثقافة هي التي
أنتجت الفيلم الأول والذي شارك رسميا بالمهرجان وتسابق على الجوائز في رابع
اشتراك رسمي لمصر في «فينسيا» بعد «وداد» لأم كلثوم عام 36 (فيرتز كرامب)
و«حدوتة مصرية» 1982 ليوسف شاهين و«هي فوضى» 2007 ليوسف شاهين وخالد يوسف..
وفيلم «المسافر» مهما تباينت وجهات النظر فإنه يظل فيلما منسوبا إلى مخرجه.
الفيلم الثاني «احكي يا شهرزاد» إخراج «يسري الجندي» الذي يشكل بطبعه أيضا
حالة استثنائية في تاريخ السينما المصرية خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة
حيث إنه يقدم أفلاما تنتمي له وليست خاضعة للنجوم وهو من إنتاج إحدى
الشركات الخاصة. الفيلم الثالث «واحد صفر» أيضا للمخرجة «كاملة أبو ذكري»
برغم استعانتها بعدد من النجوم «إلهام شاهين»، «زينة»، «نيللي كريم»، «خالد
أبو النجا» وغيرهم، إلا أنها تقدم أيضا مشروعها السينمائي بلغة سينمائية
عصرية. الفيلم إنتاج جهاز السينما الذي تشرف عليه وزارة الإعلام، ورغم ذلك
فإن جهة الإنتاج لم تكن تعني شيئا محددا؛ لأن جهاز السينما قدم مباشرة قبل
هذا الفيلم فيلما تجاريا مثل «قبلات مسروقة» إخراج «خالد الحجر». الأمر هنا
مرهون بإصرار المخرجة «كاملة أبو ذكري» على أن تكون نفسها وتقدم فيلما
مختلفا عن سياق أفلام السينما المصرية. الأفلام الثلاثة استعانت بنجوم
لكنها لم تخضع لهم ورصدت لها أيضا ميزانيات كبيرة وصلت إلى أكثر من 4
ملايين دولار لفيلم «المسافر». بينما تجاوزت الميزانية مليوني دولار مع
فيلم «احكي يا شهرزاد» ومليون ونصف لفيلم «واحد صفر». الأفلام الثلاثة صورت
مباشرة على شريط السينما وتبنتها شركات إنتاج لها باع ولديها أيضا قدرة
إنتاجية وتسويقية ولكن التجربة التي أحدثكم عنها مختلفة وهي في الواقع ثاني
فيلم في هذا الاتجاه وهو فيلم «هليوبوليس» للمخرج «أحمد عبد الله»، الأول
كان فيلم «عين شمس» للمخرج إبراهيم بطوط. هذه الأفلام تقدم بميزانية محدودة
لدرجة أن نجم مثل «خالد أبو النجا» يشارك في إنتاج «هليوبوليس» بأجره رغم
أنه ليس من النجوم الذين يحصلون على أجور مرتفعة، إلا أن طبيعة هذا النوع
من الأفلام لا تحتمل أي تجاوزات لميزانية الأجور. الأهم في هذا النوع من
الإنتاج هو الفكر الذي يحمله المخرج وهو ما نجح فيه «أحمد عبد الله» الكاتب
والمخرج وأيضا المونتير في فيلمه «هليوبوليس» والذي مثل مصر رسميا في
مهرجان «أبوظبي» وخلال الأيام القادمة يشارك أيضا رسميا في مهرجان
«القاهرة» ممثلا لها في مسابقة الفيلم العربي. ويبقى السؤال: هل يتغير وجه
السينما المصرية التي نراها خاضعة لإرادة النجوم؟! هل من الممكن أن تتمرد
على تلك القواعد الصماء التي تمنعها من أن تتنفس أوكسجين السينما؟! الواقع
أن هناك محاولات تبرق بين الحين والآخر لتحطيم هذا القيد وفي العادة فإن
الدافع لنجاح هذه المحاولات يتحقق مع توفر مشروع سينمائي بميزانية محدودة
حتى تتضاءل أيضا في هذه الحالة مخاطر جهة الإنتاج وهو مفهوم من الممكن أن
نطلق عليه سينما مستقلة مع الأخذ في الاعتبار تغير معنى الاستقلال والذي
كان قد ارتبط تاريخيا بالسينما الأمريكية التي قدمت قبل نصف قرن تجارب
موازية للسينما الهوليودية ضخمة التكاليف والتي تعتمد على جاذبية النجوم
وبدأت السينما المستقلة في إثبات قدرتها على التواجد داخل أمريكا وخارجها
خاصة في المهرجانات ومؤخرا انتقل تعبير السينما المستقلة إلى مصر لتحمل
خصوصية أخرى.. إنها أفلام بعيدة عن هيمنة شركات الإنتاج الكبرى تعتمد على
التصوير أولا بكاميرا الديجيتال قبل أن يتم نقل الفيلم إلى شريط سينمائي
وفي العادة فإن النجوم لا يشاركون في بطولة هذه الأفلام لأنها لا تصنع طبقا
لشروطهم فهي ليست مشروعا للنجم مثل أغلب الأفلام التي نراها لعادل إمام
والسقا وحلمي وغيرهم، ولكنها أفلام تعبر عن مخرجيها أولا.
كان فيلم «عين شمس» لإبراهيم بطوط أحد هذه الأفلام التي استطاعت أن
تفتح الباب بقوة لهذا النوع وذلك قبل نحو أكثر من عام. ويقف خلف هذه
التجارب المنتج والمخرج «شريف مندور» وفي التجربة الثانية لنفس المنتج نرى
فيلم «هليوبوليس» تأليف ومونتاج وإخراج «أحمد عبد الله».. اختار المخرج
يوما يرصد خلاله أبطاله في أحد أحياء مصر الجديدة وبالتحديد شارع «بطرس
غالي باشا» وأراد من خلال شخصيات متنافرة أن يقدم بانوراما لكل أطياف
الحياة في مصر.. شاب مسيحي يسعى للهجرة خارج الحدود أدى دوره «هاني عادل»..
باحث اجتماعي يعد رسالة ماجستير عن الأقليات في مصر «خالد أبو النجا»..
يهودية تعيش في أحد أحياء مصر الجديدة «عايدة عبد العزيز».. عسكري أمن
مركزي يقف على ناصية الشارع لا يؤنس وحدته إلا صوت «محمد عبد الوهاب» وكلب
ضال.. بائع مخدرات يصطاد زبائنه.. عريس وعروس على مشارف الزواج يبحثان عن
شقة ويأتيان للحي للاتفاق على شراء شقة «هاني عادل».. فتاة تعمل موظفة
استقبال في أحد الفنادق المتواضعة «حنان مطاوع» وتعيش مع زميلتها «سمية
الجويني» الأولى لديها حلم مجهض وهو أن تسافر إلى فرنسا وتحديدا باريس
مدينة النور.. أهلها يعتقدون أيضا أنها في باريس وترسل لهم مبالغ نقدية
متواضعة لإعانتهم على الحياة. الفتاة الثانية «سمية» تقع فريسة إدمان
المخدرات.. لا يقدم الفيلم حكاية تقليدية؛ كان المخرج ينتقل من شخصية إلى
أخرى بقدر من النعومة الإبداعية بدون أن تشعر بمفاجآت تخصم من تدفق الفيلم
في داخلك ثم تنتهي أحداثه بمكالمة على الأنسر ماشين بصوت «هند صبري» وهي
تؤكد لحبيبها السابق «خالد أبو النجا» أنها فقط وجدت لديها رغبة للحديث
إليه فتكلمت وأثناء زمن المكالمة تنتقل الكاميرا لنشاهد لمحات أخرى من تلك
الحكايات التي تعيشها الشخصيات في الفيلم.. تستطيع أن تلمح في هذا الفيلم
قدرة المخرج على الإمساك بالتفاصيل.. أيضا ضبطه لحالة تدرج الزمن حيث يبدأ
الفيلم مع الصباح وينتهي قبل صباح اليوم التالي.. الانتقال من حكاية إلى
أخرى يضعنا في إطار عام يسيطر على حالة الفيلم.. ورغم ذلك كانت هناك أيضا
لنا ملاحظات.. مثلا المخرج يضع أحيانا تفاصيل مجانية تفسد حالة الفيلم مثل
ذهاب أحد الأبطال «هاني عادل» إلى الكنيسة لحضور قداس تؤديه «يسرا اللوزي»
ولم يستثمر هذه المعلومة الدرامية كما أن علاقته مع «يسرا اللوزي» كانت
بحاجة إلى تعمق درامي أكبر. تنفيذ الجرافيك في الفيلم وهو يجسد الحلم
المستحيل لحنان مطاوع بالسفر إلى فرنسا كان بدائيا جدا وبحاجة إلى إعادة
صناعته مرة أخرى حتى نشعر بالفعل أننا نعيش نفس الحلم مع البطلة.. أسرف
المخرج والكاتب كثيرا وهو يريد أن يعثر على مبرر يتيح له أن يقدم المشهد
الأخير بصوت «هند صبري» وكان عليه بين الحين والآخر أن يذكر لماذا لا يحمل
البطل تليفونا محمولا حتى يصبح الحل هو أن تسجل له «هند» صوتها على الأنسر
ماشين رغم أنه لم يكن بحاجة إلى كل ذلك، يكفي أن «هند صبري» لديها رغبة في
أن تتحدث إليه من طرف واحد فهي قد تركته ومستقرة في حياتها الجديدة إلا أن
لديها رغبة أن تتحدث لتروي مشاعرها ولا تنتظر ردا فلم يكن بحاجة إلى تسويق
كل هذه المبررات في أكثر من مشهد.. كذلك الفيلم يحمل حنينا للماضي من خلال
تلك الدراسة التي قدمها المخرج في إطار ريبورتاج مرئي يجريه «خالد أبو
النجا» مع عدد من سكان الحي والكثير من هذه اللقاءات تميزت بنبضها التسجيلي
فلقد كانت بالفعل لقاءات حية استغل فيها المخرج توظيف «خالد أبو النجا»
والذي كان في بدايته ولا يزال بين الحين والآخر يقدم أيضا البرامج وهكذا
نجح «خالد» في ضبط هذه الحالة الآن ولكن على المخرج ألا يعتبر أن الحنين
للماضي هو فقط حنين الأجانب الذين غادروا مصر من الخمسينات وهكذا تغيرت
معالم مصر الجديدة عندما غادرها هؤلاء.. لقد كان هذا المبرر الذي يتكرر
كثيرا كلما سألوا عن الزمن الماضي وتأتي الإجابة في هجرة الأجانب وليس مثلا
تغير القيم والعادات والتقاليد وانتفاء الإحساس الجماعي لدى الناس
بالمسؤولية. ولكن يظل أننا بصدد تجربة مغايرة للسائد تسعى للتحرر من القيود
التي كبلت كثيرا السينما المصرية.. كما أن «أحمد عبد الله» ومن خلال تعاونه
مع عناصر فنية مبدعة مثل مدير التصوير «محمود لطفي» وواضع الموسيقى
التصويرية «أمير خلف» أكد أن لديه إحساسا فنيا ينتظر منه بالفعل ما هو
قادم.. «هليوبوليس» تجربة لم تكتمل تماما على المستوى الفني ورغم ذلك
امتلكت الكثير من جراءة الاقتحام وومضة الموهبة!!
t.elshinnawi@asharqalawsat.com
الشرق الأوسط في
06/11/2009 |