صورة الزوجة المضطهدة التي ترتعد خوفاً من سلطة زوجها وجبروته،
انتقلت من الدراما المصرية والسورية اللتين قدمتا نماذج كثيرة
منها على مر سنوات
طويلة إلى الدراما الخليجية مؤخراً.. فالمسلسل الكويتي (أم البنات) الذي
انتهت قناة (إم. بي. سي) من عرضه مؤخراً، يمثل نقلة
متطورة نحو طرق مثل هذه الموضوعات.
طبعاً قدمت الدراما الخليجية من قبل العديد من المسلسلات التي كان محورها
المرأة كبطلة وكأم ومربية تتعرض لمشكلات وضغوط اجتماعية، لكن
خصوصية هذا المسلسل
أنه تناول الاستبداد داخل مؤسسة الحياة الزوجية بمنظار نقدي جمع بين
الكوميديا
الخفيفة والمأساة القاتمة، وهو لم يكتف بتسليط الضوء على اضطهاد الزوج
المزمن
لزوجته كثقافة متأصلة في سلوكه ونمط تفكيره وحسب، بل فتح أفقاً
واسعاً أمام تلك
الزوجة من أجل إعادة بناء حياتها من جديد، وحماية بناتها الست، ودفعهن إلى
التحصيل
العلمي الذي حرمن منه، وتأمين حياة كريمة لها ولهن... قوامها الإيمان
بأهمية العمل
في إعلاء قيمة الإنسان، ودفعه في مسارات البذل والعطاء!
المسلسل من تأليف هبة
مشاري حمادة، ومن إخراج عارف الطويل الممثل السوري الذي تحول إلى الإخراج
منذ
سنوات... وهو دراما مثيرة للاهتمام عن امرأة تعيش لسنوات طويلة
في كنف زوج قاس
ومتجبر، وتنجب له ست بنات وصبيا واحدا، إلا أن هذه المعاملة القاسية
والنظرة
الاستعلائية تظل هي معيار التعامل معها حتى بعد سنوات العشرة الطويلة، وبعد
أن يكبر
الأولاد... ويأتي موت الابن الوحيد للعائلة وهو على أبواب الزواج، ليبدل
المسار
الساكن للبيت الذي تحول إلى سجن نفسي ليس للزوجة وحدها بل
للبنات الست أيضاً..
فالزوج يقرر الزواج مرة ثانية كي ينجب ابناً ذكراً من جديد، والزوجة
الثانية تجعل
البيت جحيماً، ينتهي بطرد البنات وأمهم... لتبدأ رحلة الكفاح والمعاناة
والمسرات
والآلام... حيث نعثر على صورة مليئة بالشجن لحياة تحقق فيها
الأم ذاتها بالعمل
والدأب والصبر، وتدفع بناتها لكسر طوق العزلة وتعلم مهن يعتشن منها، ثم
تقرر بعد أن
يستقر الوضع الاقتصادي قليلاً، أن تدفع بهن إلى العودة لمتابعة تعليمهم
الذي حرمن
منه... كما تدرس باهتمام بالغ عروض الزواج التي تقدم لهم،
وتعمل على انتزاع
الضمانات الأخلاقية من المتقدمين لهن بحسن معاملتهن وصون كرامتهن... في
الوقت الذي
تقاوم فيه صنوف الأذى والشر الذي تتعرض لهن من طليقها وزوجته بدوافع كيدية
تنضح
غلاً وشراً... وإن يكن هذا الشر مبالغا فيه أحياناً من حيث
استسهال صناعته، وسرعة
نجاحه!
من عادة المسلسلات التي تتحدث عن قضايا المرأة، أن يبدأ التحرر من
المظهر الخارجي... من شكل اللباس وطبيعة بعض القيم المحافظة...
وهذا غالباً كان
يدفع الفئات الشعبية التي يفترض أنها بحاجة لمثل هذه الأعمال أكثر من
غيرها، أن
تنفر من تلك المسلسلات، وتعتبر أن هدف تعزيز مكانة المرأة هو شكل من أشكال
الإفساد... لكن أهمية مسلسل (أم البنات) أنه وعى مرجعيات
المجتمع الخليجي... وأكد
أن انتزاع المرأة لهامشها الفاعل في الحياة، لم يكن على حساب قيم المجتمع
المحافظ... بل أضحى قيمة اجتماعية متنورة غير مرتبطة ببيئة معينة أو نمط
لباس
معين...
أثرى المسلسل دراماه بقصص لنساء تتعرف عليهن هذه الأم بعد استقلالها عن
زوجها، أو هن من قريباتها اللواتي عادت للاختلاط بهن، يقدمن
كذلك صوراً نابضة
بالأمل عن إعادة بناء أو تجديد حياتهم... في سياق تمتزج فيها الضحكات
بالدموع
ولحظات الإخفاق والفشل بالنجاح والظفر!
وهكذا فالمسلسل يقدم بانوراما نسائية
فيها الكثير من التنوع، وفيها قصص نجاح تكللها عزيمة الإصرار والتحدي
الخفي... وهذا
يبدو أكثر واقعية وقرباً من نبض الحياة وصناعة أمثولاتها، من كثير من قصص
المسلسلات
الخليجية التي تعتمد على المبالغة في تصوير الفجور واختلاق
الجرائم وافتعال مشكلات
كبرى، من أجل تقديم صراع درامي مثير وإن كان لا يعبر عن واقع المجتمع
الخليجي
وحقيقة المشكلات التي ينبغي الالتفات إليها، ومنها قدرة المرأة على صياغة
حياتها من
جديد... ومما لا شك فيه أن الفنانة القديرة سعاد العبد الله قد قدمت واحدا
من أجمل
أدوارها، وشكلت مع الفنان القدير غانم الصالح ثنائياً فنياً
يجسد كل عيوب الاستبداد
الأسري الذي يمارسه الرجل على المرأة... كما استطاعت أن ترسم معادلا فنياً
أخاذاّ
لتحولاتها نحو النقيض، ساعدها في ذلك شخصية مكتوبة بعناية، ونص لا يخلو من
حبكة
مشوقة، وحس واقعي جيد في الرؤية والمعالجة، وإن كان ينحو نحو
حلول ميلودرامية غير
ضرورية أحياناً... كما أن المخرج عارف الطويل، استطاع أن يقود العمل بشكل
متوازن،
مغلباً حسه الدرامي على استعراض عضلاته كمخرج، إنما مع رغبة في إغناء دراما
العمل
بحلول بصرية تكثف مقولاته، وتحافظ على لغة التشويق في صياغة
دراما شعبية تقترب من
قلوب مشاهديها.
وفي المحصلة فدراما (أم البنات) عمل اجتماعي يكسر رتابة الدراما
الخليجية التي تجتر موضوعات متشابهة، ويتنازعها طموح متشابه في
رفع لغة الإثارة
بفبركة قصص تفتقر للصدق في ملامسة الواقع المعاش.. ومن الضروري تشجيع
المسلسلات
التي ترى الواقع الاجتماعي بعيون صادقة، لأن أي دراما محلية لا يمكن أن
تحيا على
قصص الآخرين!
قناة 'العالم' وخسارة التعاطف الشعبي!
أفردت قناة (الحوار) حلقة من برنامج (الرأي الحر)
لمواكبة ردود الأفعال تجاه إيقاف بث قناة
(العالم)
الإيرانية، على القمرين (عرب سات) و(نايل سات) في وقت واحد... وفي خطوة
مفاجئة جاءت بقرار من (جهات عليا) حسبما أفادت مصادر صحافية.
البرنامج يعتمد
بشكل أساسي على اتصالات المشاهدين، وقد شعر مذيع قناة (الحوار) بكثير من
الحرج،
وبأن الرأي الحر الذي يفترض التنوع ينحرف عن مساره، لأن معظم
الاتصالات كانت شامتة
بقرار إلغاء البث، وبدلا عن أن تدافع عن القناة المحجوبة ـ والحجب دائماً
مدعاة
للتعاطف وللظهور بمظهر البطولة ـ أخذت الاتصالات تكيل الشتائم لما أسموه
(قناة
الفتنة) التي تدعم الحوثيين، وتنحاز إلى حزب الله بالحق
والباطل، وتتصيد الأخطاء
وتهول الأحداث في الدول التي تربطها مع إيران علاقات متوترة... ناهيك عن
ترويجها
لمفهوم (الخليج الفارسي) كبديل عن الهوية التاريخية للخليج العربي، وعن
تبريرها
لسياسات إيران بشكل استفزازي، وإلغائها للرأي الآخر في الكثير
من البرامج الحوارية
الخلافية القضايا!
تأملت ملياً في حالة الحنق والرفض الشعبية التي تعامل بها
المتصلون مع أزمة قناة 'العالم' وشعرت بداية بأن ثقافة الإلغاء
ما زالت تسيطر على
أذهان الكثيرين، الذين يرون الحل في المنع والشطب وسن تقاليد العقاب بدل
تقاليد
الحوار والمحاججة... لكن أحد المتصلين ذكر مذيع البرنامج بأن قناة 'العالم'
لم تكن
تحترم تقاليد الحوار، لأنها كانت تستضيف ـ في معظم الحالات ـ
ضيوفاً متفقين مع
الرأي الذي تحب أن تظهره القناة... وبالتالي هي جزء من إعلام موجه ولا
تنتمي
للإعلام الحر كي تستحق أن نتضامن معها!
وهكذا فالجمهور لم يعد غبياً...
ولعل هذا النفور الشعبي من لغة وسياسة قناة 'العالم' الإعلامية لا يخلو من
دلالة... فأنا لا أتوقف كثيراً عند غضب الأنظمة وأجهزة
إعلامها، إلا باعتباره مؤشرا
جيدا على صحة توجه القناة، كما هو الحال بالنسبة لقناة 'الجزيرة' مثلاً...
لكن
عندما يكون هذا النفور شعبياً... فإن الأمر يستحق من قناة 'العالم' أن
تتوقف لتفكر
في جدوى خطاب منحاز يستفز المرسل إليه بدل أن يؤثر فيه!!
ألمانيا الشرقية
في متحف: جرائم الحكم الشمولي!
خصصت ألمانيا متحفاً للحياة في ألمانيا
الشرقية... يقصده الزوار في برلين ليستعيدوا ذكريات الحياة تحت نظام من
أنظمة الحكم
الشيوعي الديكتاتوري... ومن بين إحدى أطرف مقتنيات المتحف، أجهزة التنصت
على
المكالمات الهاتفية في المقاسم الهاتفية المركزية، وأجهزة
التلفزيون التي تبث على
مدار الوقت نشرات إخبارية تلقينية مضجرة!
في التقرير الذي بثته قناة 'الجزيرة'
عن هذا المتحف في فترتها الإخبارية (الجزيرة هذا المساء) قالت إحدى زائرات
المتحف،
وهي سيدة مسنة كانت من مواطني ألمانيا الشرقية كما يبدو:
(التأمينات الصحية
والاجتماعية كانت في ألمانيا الشرقية أفضل... الحياة رخيصة... الجميع كان
لديهم
عمل... لكننا كنا نشعر أننا مراقبون، جارتي كانت تتعاون مع المخابرات وتكتب
تقارير
عن سكان البناء).
أعتقد أن شهادة هذه المواطنة البسيطة والموضوعية، هي أبلغ
شهادة في جوهر أنظمة الحكم الشيوعي... فرغم اعترافها بكل مزايا
الحياة التي كانت
تؤمنها تلك النظم... إلا أنها لم تستطع أن تنسى أن لا شيء يعدل غياب الحرية...
فالأنظمة الشمولية التي تتجسس على نشاطات
مواطنيها في حركاتهم وسكناتهم، والتي تحول
الحياة فيها إلى سجن كبير موحد الزي والرأي، والتي تعيش على
هاجس المؤامرة وبيع
شعارات العداء للآخرين، سوف لن تترك ذكرى في نفوس مواطنيها سوى هذه الذكرى
البائسة
التي تبدو الحياة فيها ذات طعم كريه وخانق حين تغيب منها نسائم الحرية!
'
ناقد فني من سورية
mansoursham@hotmail.com
القدس العربي في
11/11/2009 |