»المصري يعيش بالضحك.. يتغلب به علي همومه وأحزانه، إنه يضحك علي الظلم والاضطهاد والجهل والتخلف ويطلق نكاته.. وإذا لم يجد شيئا يضحك عليه فهو يضحك علي نفسه.. فنحن شعب يحب الضحك«.

هذه كلمات الفنان القدير عبدالمنعم مدبولي الذي عاش طفولة بائسة حزينة يحاول الهروب منها إلي التمثيل الذي جعل منه فيلسوفا ساخرا أسعدنا وأبكانا خلال أكثر من نصف قرن.. بل نقل إلينا المسرح إلي البيت لأول مرة حين أسند إليه إخراج مسرحيات التليفزيون التي بدأت مع بداياته في الستينات.. فقدم لنا مسرحيات سنظل نعيش معها كلما شاهدناها علي قنوات التليفزيون.. فمن ينسي »المفتش العام« و »السكرتير الفني« و»جلفدان هانم« و»أنا وهو وهي« و»مطرب العواطف« و»أصل وصورة« و»لوكاندة الفردوس« و»حلمك ياشيخ علام« وغيرها.

إن مدبولي أحد رموز الفن في مصر ترك لنا ثروة كبيرة ستبقي مادمنا أحياء. من أجل هذا اتصلت بعبدالمنعم مدبولي الذي أطلق عليه الناس »بابا عبده« بعد أن قدم مسلسل »أبنائي الأعزاء شكرا«.

اتصلت به هاتفيا لمشروع كتابة مذكراته التي نشرت في مجلتي »آخر ساعة« علي هذه الصفحات.. وكنت أقوم وقتها بعمل مذكرات النجوم.. والتي أحسست فيها أن الفنان الصادق ليس علي استعداد للحديث عن نفسه في أي وقت.. ولكنه في وقت ما وفي حالة نفسية معينة يحب الحديث عن نفسه.. وهذا ما تعلمته من هذه التجربة.. وهي تعيد الفنان للحديث عن حياته وكتابة مذكراته في الوقت المناسب. اتصلت به لأسأله إذا كان مستعدا لكتابة مذكراته.. ووجدت منه الترحيب بل إنه قال لي إنه سيحضر لمكتبي في »أخباراليوم« لنبدأ العمل.. وأدركت لأول وهلة أهم صفاته وهي التواضع.. فأجبته لا ياأستاذ مدبولي أنا إللي حجيلك.. ولأول مرة أذهب إليه في منزله بمصر الجديدة.. وحين سألت عن مسكنه قالوا لي »عند حديقة مدبولي« وهي الحديقة التي سميت باسمه في الحي الجديد بعد أن كانت خرابة والتي بناها وزرعها مع أبناء الحي ليشاهدوا أجمل منظر في المنطقة.

< < <

كوّن مدبولي مسرحا أطلق عليه »المدبوليزم« اختفي منه التهييج السياسي.. ولكن قدمه في حدود النقد الاجتماعي الهادف دون الوصول إلي درجة التجريب لاكتساب بطولة أو شجاعة كما فعلت فرق أخري مثل فرقة تحية كاريوكا..

واستطاع مدبولي خلال رحلته الفنية الطويلة أن يجمع بين مهام المخرج والممثل والمعلم. .وتحقق ذلك من خلال الإنسان العادي البسيط الذكي المتواضع ذي الوجه الطيب.. إنه يتصرف بتلقائية.. وهو أستاذ الكوميديا وصانع النجوم.. استطاع أن يطور الكوميديا بعد عصر نجيب الريحاني منذ الخمسينات.. وتخرج في مدرسته معظم نجوم الكوميديا.. فؤاد المهندس وشويكار وأمين الهنيدي وأبو بكر عزت ومحمد عوض ونبيلة السيد وليلي طاهر ومحمد رضا وعادل إمام وسعيد صالح ويونس شلبي.

ونجحت تجربة مسرح التليفزيون التي قدمت نجوما جددا في التمثيل والإخراج والتأليف.. فكانت المسرحية بمجرد تصويرها تعرض في التليفزيون.. »ولما قدم الشيوعيون تركنا مسرح التليفزيون لأننا لم نستطع التعامل معهم«.

وكانت فرقة الفنانين المتحدين التي ارتبطت باسم سمير خفاجي والتي قدمت معظم نجوم الكوميديا.. كانت أول مسرحية أخرجها للفرقة »أنا وهي وسموه« بطولة فؤاد المهندس وشويكار ونظيم شعراوي ثم »البيجامة الحمراء« ثم »حواء الساعة 12« وحققت تلك المسرحيات نجاحا كبيرا وجعلت فرقة الفنانين المتحدين في المقدمة وسط الفرق الأخري.

< < <

قال لي الأستاذ مدبولي الذي مثل في البداية دور ناظر مدرسة المشاغبين ثم اعتذر وقدمها بعده حسن مصطفي.. وشارك في بطولتها عادل إمام وسعيد صالح وسهير البابلي ويونس شلبي وهادي الجيار وأحمد زكي.. إنها مختلفة عن كل المدارس التي عرفناها فما شاهده الناس في النهاية لم يكن له علاقة بكاتب النص علي سالم.. ضاع معني المسرحية ومغزاها فكل واحد تحول لمؤلف لحسابه الخاص علي خشبة المسرح.. كل ليلة نفاجأ بإضافات جديدة.. وتتسع مساحة الضحك أكثر لدرجة أن العرض أصبح مترهلا من كثرة الإضافات.. وتركت دور ناظر »مدرسة المشاغبين« ولم يكن القرار سهلا ففرقة الفنانين المتحدين فرقة عظيمة لكن مشكلتي اني انضباطي جدا أحب الالتزام.

< < <

قد لايعرف الكثيرون أن حياة معظم نجوم الكوميديا ــ هؤلاء الذين يمتعونا بأعمالهم ويثيرون البهجة والفرحة فينا.. مليئة بالأحزان..

»المعروف أن مسرحية ريا وسكينة« التي قدمتها فرقة الفنانين المتحدين لاقت من النجاح مالم تلاقه أي مسرحية أخري شجعني علي موافقة العمل فيها أنها أول تجربة مسرحية لشادية وكان الإقبال رائعا.. وأذكر أن قلت لسهير البابلي: »ياسهير الجمهور اللي جاي ده مش عشاني ولا عشانك.. الجمهور ده جاي يشوف شادية ودي حاجة متزعلكيش« تقبلت سهير كلامي بصدر رحب وكونت مع شادية علي المسرح دويتو رائعا.. لكن النجاح الهائل لماذا يكون مختلطا بالأحزان والدموع.. إنها لعنة »ريا وسكينة« التي لم تطاردني وحدي بل طاردت العاملين فيها.. فجأة أدركت الفنانة شادية أنها مطالبة بإجراء عملية جراحية خطيرة كان تأجيلها نوعا من المخاطرة.. وأجرت بالفعل الجراحة الخطيرة الناجحة.. وأثناء عرض المسرحية توفي شقيقها.. أما سهير البابلي فبدأت تعاني من متاعب صحية ومتاعب أخري غير صحية.. أما أنا فبدأت أعاني من حالة إسهال لاتريد أن تتوقف«.

كان كلام مدبولي يدعو للتأمل .. فالمفروض أن ينسي الفنان آلامه وأحزانه ليثير الضحك والابتهاج لجمهوره.

في هذه المسرحية قام الفنان حمدي أحمد بدور عبدالعال .. وكنا نطلق عليه »السيناتور« فقد كان عضوا بمجلس الشعب والحقيقة انه أدي دور العسكري عبدالعال بشكل مختلف.. وكنا نطلق علي شادية »الهانم« لكن شيئا ما حدث ين السيناتور والهانم.. فحمدي أحمد صريح جدا وشادية حساسة جدا.. مما دعا شادية إلي الانسحاب من المسرحية بعد النجاح الهائل الذي حققته وبعد أن تكاثرت الغيوم فضل الفنان حمدي أحمد الانسحاب وتم ترشيح أحمد بدير.

عذاب الحب لفن المسرح يخسره الكثير.. فأحيانا يكون الفنان في منتهي الحزن قادما من توديع أعز الناس لكن ستار المسرح يجب أن يرفع في موعده والجمهور جاء ليتفرج ويضحك دون أن يلمح دموع الفنان الذي يضحكه كنت أقدم مسرحية لفرقة المدبوليزم »مولود في الوقت الضائع« وكان الحفل مباعا لهيئة قناة السويس.. وعلمت بنبأ وفاة أمي التي هي كل شئ بالنسبة لي ترملت مبكرا في سن الثلاثين ورفضت الزواج من أجلنا.

< < <

وإذا كان مدبولي علامة بارزة في تاريخ المسرح وله تلاميذه النجباء فإن السينما لم تستفد من إمكانياته الفنية.. ربما لأن النصوص التي قدمت إليه أدني بكثير من طاقاته وإبداعاته.. قدم مدبولي للسينما خمسين فيلما أو أكثر.. لكن ثلاثة أو أربعة أفلام تركت علامات في السينما منها »الحفيد«،..وأهم دور سينمائي في حياته »مولد يادنيا«.. دور صاحب العربخانة هذا الدور التراجيكوميدي الذي غني فيه من كلمات مرسي جميل عزيز وتلحين كمال الطويل أغنية »طيب ياصبر طيب«.

من أهم أدواره أيضا »إحنا بتوع الأتوبيس«.. وكان إدانة لمراكز القوي.

أما في التليفزيون فأتوقف عند مسلسل »أبنائي الأعزاء شكرا« إن دور الأب لا ينتهي بخروجه علي المعاش.. ففي الوقت المحتاج فيه إلي الراحة والهدوء يشعر بأن مسئوليته أكبرمن أي وقت.. إنه مسلسل إنساني يجسد عقوق الأبناء.. وكانت هاتان الكلمتان »بابا عبده« اسمه في المسلسل في الأغنية الأساسية المميزة للمسلسل.. ولم أكن أعلم أن الناس سينادونني باسم »بابا عبده«.

آخر ساعة المصرية في

18/11/2009