شرلوك هولمز ليس فقط المتحري العبقري المتعاون مع اسكوتلنديارد كما
ابتدعته مخيلة آرثر كونان دويل، بل هو أيضا أحد أكثر الشخصيات التي نقلتها
السينما إلى الشاشة طوال تاريخها. سنة 1908 تم تسجيل أول فيلم مقتبس (صامت
وقصير)، ومنذ عام 1939 قام الممثل باسيل راثبون ببطولة الشخصية في أكثر من
عشرة أفلام ميزته بها، فعُرف لاحقا بشرلوك هولمز السينما، كما عُرف
كريستوفر لي، ولليوم، بدراكولا السينما لكثرة ما لعب تلك الشخصية، ولو أنه،
مثل راثبون، أدى الكثير من الشخصيات الأخرى.
هذه ليست مشكلة عند روبرت داوني جونيور، الممثل الذي يقوم بتقمص هذه
الشخصية المعادة إلى الحياة. إنه مستعد لتمثيلها مرة ثانية وثالثة وما دامت
مطلوبة، وليس قلقا إذا ما لصقت به، بل، وكما سنرى في المقابلة التالية، لا
يعتقد أنها ستلصق به.
اقتباس الشخصيات المشهورة ليس أمرا متكررا في مهنة روبرت داوني، لكن
حينما أم هذا الاقتباس ذات مرة تحت إدارة المخرج رتشارد أتنبوره في فيلم
«تشابلن» (1992) وجد نفسه على منصة الأوسكار يستلم «هديته» الأولى.
وُلد في ضاحية غرينتش فيلاج في نيويورك قبل 45 سنة، ابنا لمخرج طليعي
غير مشهور اسمه أيضا روبرت داوني، وحين كان في الخامسة من عمره أتى به
والده ليمثل دورا في فيلم له بعنوان «باوند». ومن حينها هو غزير في عمله
ومتنوع في اختياراته من دون تردد. من 1970 حتى 1987 كل الأدوار الشبابية في
أفلام درامية وكوميدية وعاطفية. في سنة 1987 ترك انطباعا جيدا كبطل لفيلم
«نشال فنان». بعده فترة من البطولات والأدوار الرئيسية من بينها «مؤمن
حقيقي» مع جيمس وود، و«طيران أميركي» مع مل غيبسون، و«قتلة بطبيعتهم» مع
وودي هارلسون، إلى جانب نحو خمسة وعشرين فيلما آخر حتى مطلع العقد الحالي.
هنا وقفة متململة ناتجة عن إدمانه المخدرات ودخوله السجن مرتين،
وتهاوي أسهمه لدى المنتجين، ليس لعدم الإيمان به، بل لخوفهم من تجيير
البطولة إلى ممثل قد يُلقى القبض عليه أو يصيبه عطب الإدمان بحيث لا يستطيع
تكملة الفيلم.
لا أحد يعرف تحديدا متى أقدم الممثل على «الشمة» الأولى، لكنه في عام
1987 لعب دور مدمن في فيلم «أقل من صفر». ومحتمل، ولو من دون إثبات، أن
يكون إدمانه انطلق من ذلك العام. المهم أن هذا الممثل الموهوب فعلا والجاد
جدا لم يستطع التغلب على إدمانه إلا بعد جهود جبارة شاركه فيها محبوه
وأقاربه.
عودته إلى السينما مع مطلع هذا العقد جاءت في مطلع الأمر غير واثقة،
نظرا لأن مستقبله تعلق فيما إذا كان سيبقى بعيدا عن الآفة أو لا. لكنه برهن
بعد حين على أنه جاد هذه المرة، بل وارتفع رصيده لدى الجمهور وعاد نجما
هوليووديا من الحجم الكبير.
شاهدناه في «زودياك» و«آيرون مان» ثم «رعد استوائي»، وقبل أن نشاهده
في الجزء الثاني من «آيرون مان» ها هو يؤدي شخصية شرلوك هولمز في فيلم
يعتبره المخرج غاي ريتشي، في مقابلة منفصلة، اتجاها جديدا في حياته
المهنية.
كذلك يعتبر ريتشي أن عاطفة داوني للدور لا تماثلها عاطفة أخرى: «حالما
يقرر أنه يريد أن يلعب دورا، ينصرف إليه بكل ما أوتي من جهد وبذل. والمخرج
يرتاح كثيرا لذلك. المخرج يريد ممثلا ملتزما ومبدعا يستطيع أن يمنح الفيلم
ما ليس محسوبا بالضرورة لدى المخرج».المقابلة (الثانية بيننا) تمت ظهر يوم
الثلاثاء بحضور زوجته التي لم تتحدث (لم أطرح عليها أي سؤال) وحارسهما
الشخصي واثنين من الجهاز الصحافي الذي يدير الآن الحملة الإعلامية بمناسبة
طرح الفيلم في الأسبوع المقبل إلى الأسواق.... إلى الأسواق وإلى
الأوسكار... لم لا؟
·
هل تعتقد أنك ترى جائزة أوسكار
ثانية في مطلع العام المقبل؟
* دعني أرى (يتظاهر بأنه ينظر إلى البعيد باحثا) ربما... لا أستطيع أن
أقول هذا بثقة كاملة. قد أفوز وقد يبقى «تشابلن» أوسكاري الوحيد.
·
على ذكر «تشابلن»، هل من
اختلافات جوهرية تمثل شخصية حقيقية وشخصية معروفة لكن غير حقيقية؟
* نعم ولا. الطريقة التي أتقرب بها إلى الدور هي أن أمثل كل شيء كما
لو كان حقيقة. حين استلمت مهمة تمثيل شخصية الرجل الحديدي (في «آيرون مان»)
قلت للمنتجين: سأمثله بواقعية وبجدية (يضحك). قالوا لي ستكون تحت القناع يا
بوب، ولن يرى أحد كيف تمثل الدور. أجبت: أعرف، لكن إما أن أمثل الدور بجدية
وإما أن لا أمثله على الإطلاق (ضحك).
·
لكن على صعيد الشخصية نفسها، ما
الذي يتحكم في مسألة الاقتباس ذاته؟
* عوامل كثيرة، ما دمت تريد العودة إلى هذه النقطة فلا بد لي أن أجيب
بجدية... دعني أقنعك (ضحك). في تمثيل «تشابلن» تريد أن تتقمص الشخصية كما
لا تزال في بال الكثيرين حتى لا تأتي مختلفة عن الواقع، لكن هذا في الوقت
الذي تريد فيه أن تبرع أيضا في تطويرها. إنها ليست مسألة تقليد، بل مسألة
تشخيص مع ما يشترك في ذلك التشخيص من إضافات ولو نسبية. الحرية أكبر إذا
مثلت شخصية مثل شرلوك هولمز. طبعا لا تزال تريد أن لا تجعله مضادا لما
ارتسم في أذهان الكثيرين، لكنك تريد أن تبتكر شخصية تواكب الجمهور وذوقه،
وكل ذلك من دون أن تتخلى عن شروطك الخاصة حين تؤدي أي دور.
·
في هذا الفيلم تقوم بجهد بدني لم
أرك تمارسه من قبل، حتى في «آيرون مان».
* هذا ما أقصده. عليك أن تبتكر وتضيف.
·
لكن هذه الدرجة من الأداء،
الدخول في معارك يدوية وقتال كراتيه أو كونغ فو، واعذرني إذا ما أخطأت
بينهما، هو على 180 درجة اختلاف من شرلوك هولمز الذي قرأناه.
* أتصور أن هذا حقيقي. لكن هذا شرلوك هولمز لجيل لا يعرفه، معظم
الجمهور الحالي لم يقرأ روايات كونان دويل ولن يفعل إذا ما لم يثر حماسه،
ولكي يفعل، على الفيلم أن يتواصل مع الجمهور. والجمهور، كما لا بد تعلم،
مؤلف من غالبية من الجيل دون الثلاثين. أصغر منك ومني.
·
ماذا عن اللكنة الإنجليزية؟ كيف
تعاملت معها؟
* لدي ملقن رائع عملت معه حين مثلت «تشابلن»، وحين التقينا قلت له
أريد تعليمي لكنة أرستقراطية. سبب طلبي هو تصوري من خلال ما قرأته من
روايات هولمز وما شاهدته من أفلام باسيل راثبون أن هولمز لا بد أن يكون ذلك
الأرستقراطي الذي يتحدث بتلك اللكنة المميزة (يقلدها). لكن الملقن رأي عكس
ذلك. قال لي، وربما لأنه لا يثق بقدراتي (ضحك)، دعنا نستغني عن تلك اللهجة
ولو كانت حقيقية، ونتوسط لهجة يفهمها ويتعامل معها كل الناس. وأعتقد أنه
كان على حق. هذا يناسب الفيلم أكثر.
·
هل قرأت الكثير من روايات هولمز؟
* لا أستطيع أن أقول الكثير، لكني قرأت، وأعتقد أنك تقصد قبل تصوير
الفيلم أو قبل استلامي المشروع. بعض الأعمال من باب الفضول.
·
وماذا عن الأفلام؟
* نعم، شاهدت بعضها. لكن على فترات طويلة بحيث نسيتها منذ سنوات. لم
أحاول، إذا كان هذا سؤالك التالي، أن أشاهدها من جديد لأتميز أو لأختلف أو
أي شيء. على الممثل أن يكون قادرا على إضافة ما يريد بمنأى عن تمثيل ممثل
آخر للشخصية نفسها.
·
في حديثي مع غاي ريتشي سألته إذا
ما كان «شرلوك هولمز» الفيلم قصد به أن يحمل على «جيمس بوند».
* هذا سؤال جيد. ماذا قال لك؟
·
نفى أن يكون ذلك في خاطره، وقال
إنه يحب أفلام بوند وليس لديه مانع في إخراج أحدها.
لكن لماذا سألته هذا السؤال؟
·
هكذا لاحظت من خلال معالجة
الفيلم. هناك فصل تمهيدي لما سيلي، ثم هناك نوعية المعارك والمغامرات. ألا
تعتقد؟
* أرى ما تقصد، لكني لا أعتقد أن الغاية في هذا الفيلم تقديم عمل يشبه
أفلام جيمس بوند. لكني أرى ما تقصده. أعتقد أن هذا الخاطر له مبرره.
·
لقد نوّعت كثيرا وبشكل صحي في
أدوارك. مثلت تقريبا كل شيء. عمَّ تبحث في السيناريو المقدم إليك؟
* أبحث عن أشياء كثيرة تنتهي بسؤال نفسي: هل أريد تمثيل هذا الدور أم
لا؟ يجب أن يعني لي الدور الكثير. أحيانا أجد أنه بات مقبولا مني أن أقدم
دورا كوميديا صرفا. أحيانا أجد أن شخصية من شخصيات السوبر هيرو هي نقلة
حرفية إلى الأمام... هذا الفيلم نقلة أخرى.
·
هل ندمت على أفلام مثلتها؟
* لا. أنا لا أندم ولم أمثل أفلاما أندم عليها (يضحك). هناك أفلام بدت
على الورق جيدة وخلال التنفيذ لم تنجح، أو كان التنفيذ جيدا لكنها لم تنجح
تجاريا.
·
هل تعتبر «طيران أميركا» و«بانغ
بانغ كيس كيس» من بينها؟
* كيف عرفت؟ لا أمزح. ما أقصده هو أن من مثّل أفلاما كثيرة لا بد أن
يجد أعمالا لم تثبت جدارتها أو بدت مهمة في حينها ولا تبدو مهمة اليوم.
·
ماذا عن «زودياك»؟ هذا من أفضل
أفلام العام الماضي ودورك لفت اهتماما كبيرا، لكنه لم ينجز ما استحقه من
نجاح.
* ربما. لكن ليس كلامي عن ضرورة مراعاة الجمهور، يعني أنني سأدير ظهري
لأفلام متخصصة. «زودياك» فيلم متخصص، ناضج، له معالجة خاصة ويتوجه إلى
جمهور تروق له الأعمال ذات القيمة الفنية. أنا أيضا معجب بالفيلم.
·
شبيه من حيث المستوى بفيلم «تصبح
على خير، وحظا سعيدا» لجورج كلوني.
* نعم. هذا صحيح.
·
هل تجد أنك مستعد للانتقال إلى
مهنة الإخراج؟ كما فعل عدد كبير من الممثلين؟
* ذكرت قبل أيام أنني قد أفكر مستقبلا في الإخراج. في اليوم التالي
عنوان عريض: «داوني سيتحول إلى الإخراج». لكن ماذا لو فكرت بالأمس وغيرت
رأيي اليوم؟ ربما عبرت عن خاطرة... لماذا يلغون الخاطرة ويأتون بالتأكيد؟
هناك كلمات مناسبة لكل مقام، وقد ذكرت أنني قد أفكر... يعني قد لا أفكر
أيضا.
·
سواء تحولت إلى الإخراج أو بقيت
ممثلا فقط، تأكد أننا هنا، على الطرف الثاني من هذه الطاولة، نحبك ونقدرك.
* شكرا. كثيرون هم الصحافيون الذين لا يكترثون من هو الجالس على الطرف
الآخر من الطاولة. أنا إنسان لديه الكثير مما في باله، وله حياة خاصة وماض
شهد الكثير من التقلبات، لكنني أيضا إنسان حساس وأحب من الصحافي، أو من
الناقد كما قدمت نفسك لي، أن يراعي هذه الحقائق. وأراك فعلت. شكرا لك.
الشرق الأوسط في
04/12/2009 |