كانت لندن الثمانينيات تختلف كثيرا عما هي الآن. وعندما أتيت للإقامة
فيها في 1984
كان هناك عدد لا بأس به مما يعرف بدور السينما الفنية
art film houses
التي
تعرض التحف السينمائية والأعمال التي قرأنا عنها كثيرا دون أن نراها، ومنها
أفلام
كلاسيكية قديمة صامتة أو ناطقة.
كان هناك على سبيل المثال دار سينما "كلاسيك"
الرائعة المعمار في وسط "أوكسفورد ستريت" أهم شارع تجاري في العاصمة
البريطانية
وأشهر تلك الشوارع في أوروبا. وكانت هذه الدار العريقة تعرض في معظم
الحالات، ما
يطلق عليه الانجليز (والأمريكيون أيضا) "الأفلام الأجنبية" أي
غير الناطقة
بالإنجليزية، وهو تعبير غريب يرتبط بالتشكك في الأجنبي عموما، واعتبار كل
من لا
يتكلم الإنجليزية "أجنبيا" أو غريبا!
كانت هناك دار أخرى ربما تكون أقل رونقا
لكنها كانت تحتل مبنى رائعا قديما في منطقة كنجز كروس في وسط
لندن، على ناصية مهمة
من شارع بنتونفيل، هي "سينما سكالا" على اسم المسرح الشهير العريق في مدينة
ميلانو
الإيطالية.
وكانت هناك دار سينما للأفلام الفنية أيضا في ضاحية هامستيد تسمى "إيفري
مان" أي "كل الناس"، وكانت تعرض ثلاثة أفلام في برنامج واحد، وكان بوسع
المرء مثلا أن يشاهد ثلاثة أفلام لفاسبندر أو لجودار أو لهيتزوج بتذكرة
واحدة يومي
السبت والأحد أظن أنها لم تكن تتجاوز جنيها واحدا.
وكان لكل هذه الدور برنامج
شهري مطبوع، وكانت كل دار تعرض عدة أفلام في اليوم الواحد وليس
فيلما واحدا لعدة
يتكرر. وكانت توفر بالتالي فرصة لمشاهدة روائع السينما العالمية ببساطة
وسهولة، ولم
يكن سعر التذكرة يتجاوز فيها جنيها واحدا أو جنيهين في عروض الظهيرة التي
كنت
أفضلها لأنها تكون غير مزدحمة، وتوفر بالتالي جوا هادئا
للمشاهدة. طبعا أسعار تذاكر
السينما عموما قفزت قفزة هائلة في السنوات الأخيرة ووصلت حاليا إلى حوالي
عشرة
جنيهات في المتوسط.
اليوم أصبحت دار سينما "كلاسيك" في أوكسفود ستريت أثرا من
بعد عين كما يقولون، فقد تحولت إلى محلات تجارية لبيع القمصان والسراويل
وأشياء
أخرى، وتحولت دار سينما "سكالا" العريقة إلى ناد يضم حلبات
للرقص وبعض المشارب،
ويستوعب أكثر من ألف شخص. أما دار "إيفري مان" في هامستيد فقد تحولت إلى
مجمع فاخر
يضم مشربا ومطعما، وقاعتين للعرض السينمائي بعد أن تم تقسيم المبنى
الكلاسيكي
القديم وتحديثه. وتعلن مؤسسة "إيفري مان" أيضا عن إمكانية
استئجار قاعة من قاعات
السينما أو عروض الفيديو التي جهزتها في المبنى الجديد – القديم، لكنها لم
تعد تعرض
تلك الأفلام "الأجنبية" المتميزة بل أساسا أفلام أمريكية، منها ما هو من
الإنتاج
التقليدي مثل "الطريق الثوري" الذي يعرض حاليا، أو من الإنتاج المحدود
الميزانية أو
المستقل مثل فيلم وودي ألين الأخير "فيكي كريستينا برشلونة" وهو ما أجده من
أثقل
وأكثر أسماء الأفلام سخفا، بل إن الإسم السخيف قد يكون السبب الذي دفعني
حتى الآن
إلى عدم السعي لمشاهدته!
هناك أيضا دار سينما "اليكتريك" في بورتوبيللو رود
الشهير الذي يقيم حوله عدد كبير من أبناء الجالية الإيطالية في لندن. هذه
الدار
لاتزال قائمة لحسن الحظ، وتم تجديدها دون تقسيمها إلى قاعات،
ولكنها أصبحت تعرض
خلال أيام الأسبوع أفلاما من النوع الشائع (الأمريكي).. وهي حاليا مثلا
تعرض فيلم "الحياة
الغريبة لبنجامين بوتون". إلا أنها تخصص يوم الأحد عروضا للأفلام الفنية
مثل "الإفطار في تيفاني" (1961) لبليك إدواردز أو "الفصل"
الفرنسي (الحاصل على
جائزة مهرجان كان 2008).
من بين دور أفلام الفن أيضا دار سينما "برينس تشارلز"
أو الأمير تشارلز الموجودة في شارع متفرع من ليستر سكوير أو ساحة ليستر
الشهيرة
التي توجد فيها دور العرض البريطانية الرئيسية الكبرى ومنها قاعة أوديون
العملاقة
التي تعد الدارالأكبر في عموم بريطانيا، وقد أنشئت عام 1937 وتستوعب حاليا
1700
مقعدا بعد أن كانت تضم قبل إعادة تصميمها في 1988 حوالي 2000
مقعد. ولكن المساحة
الناقصة لم تذهب سدى بل لتوسيع الفراغ الكائن أمام الجالسين.
أما دار "برينس
تشارلز" فهي أيضا من القاعات القليلة التي لاتزال تحافظ على نفسها دون أن
يتم
تقسيمها إلى قاعات، رغم مساحتها الجيدة نسبيا، فهي تستوعب 462 مقعدا وتعرض
حوالي
عشرة أفلام أسبوعيا من الأفلام الفنية والأفلام المتميزة التي
تكون عروضها قد انتهت
في دور عرض الدرجة الأولى كما نسميها في مصر أو كما كنا نسميها قبل اختراع
سينما
المول التجاري على النمط الأمريكي التي أجد أن أفضل تسمية يمكن أن نطلقها
عليها هي
"علب أفلام التيك أواي"!
سينما "برينس تشارلز" اللندنية التي تجذب جمهورا من الشباب في معظمه،
توفر
الفرصة لمشاهدة الكثير من الأفلام التي لا يسهل العثور عليها في دور العرض.
ولهذه
الدار، مثل معظم الدور التي ذكرتها هنا، اشتراك سنوي ليس كبيرا، يتيح
للمشتركين
شراء تذاكر بأسعار مخفضة.
وهذا أيضا شأن أهم هذه الدور جميعا، وهي ما يعرف بدار
السينما الوطنية أو National Film Theatre (يترجمها
البعض "مسرح الفيلم الوطني" وهي
ترجمة غير دقيقة). وهذه الدار الرئيسية الواقعة على الضفة
الجنوبية لنهر التايمز،
تابعة للمركز السينمائي البريطاني أو
British Film Institute
الذي اعتاد البعض أيضا
على ترجمته بـ"معهد الفيلم البريطاني". ومرة أخرى هذه ترجمة
غير دقيقة اعتدنا على
مطالعتها ونحن صغار، لأن المكان ليس معهدا تعليميا، كما أن كلمة "فيلم" في
الإنجليزية تعني هنا في هذا السياق "السينما" وليس الفيلم كأن نقول مثلا
film culture
بمعنى الثقافة السينمائية وليس ثقافة الفيلم، ونظريات السينما film theories
وليس نظريات الفيلم.. وهكذا.
والاشتراك في مركز السينما البريطانية
يسمح بشراء تذاكر للمشاهدة في "دار السينما الوطنية" بأسعار
مخفضة كما يسمح أيضا
(في
الشريحة الأعلى من الاشتراك) بالتردد على مكتبة المركز الموجودة في وسط
لندن
والتي انتقلت إلى مبنى جديد واسع في أوائل التسعينيات. وتحتوي هذه المكتبة
الفريدة
على أكثر من 50 ألف كتاب، و6000 عنوان للمجلات التي نشرت عن
السينما منذ ظهور
السينما في القرن التاسع عشر، والكثير من أعدادها أو ما نشر فيها من مقالات
حول
السينما محفوظ في لوحات "ميكروفيش" يمكن الإطلاع عليها لمن يرغب. وتحتوي
المكتبة
أيضا على المجموعات الكاملة لكل ما ظهر من مجلات سينمائية متخصصة منذ عام
1912 سواء
باللغة الانجليزية من بريطانيا والولايات المتحدة، أو غيرها من اللغات
الأوروبية
الرئيسية. وتضم أيضا أكثر من 9 آلاف دليل سنوي عن الأفلام في
العالم، وكمية كبيرة
من الاسطوانات المدمجة للمواد السمعية البصرية.
وقد قضيت فيها أوقات طويلة خصوصا
في الثمانينيات وقت أن كنت أعد لكتابي الأول "سينما الهلاك:
اتجاهات وأشكال السينما
الصهيونية"، حيث استعنت بالكثير من المراجع من كتب ومقالات ومعلومات
ودلائل.
وتنقسم هذه الدار حاليا إلى ثلاث قاعات، كما أقيم إلى جوارها مباشرة
أسفل جسر ووترلو الشهير متحف الفن السينمائي.
أعود إلى دار السينما الوطنية التي
يعرض في قاعاتها قسم كبير من عروض مهرجان لندن السينمائي الذي
يقام بانتظام منذ 53
عاما. وتعرض الدار برنامجا شهريا يتكون من أكثر من 200 فيلم من خلال أقسام
محددة
وبرامج وأحيانا في إطار مهرجانات معينة مثل "مهرجان المستقبل"، و"مهرجان
أفلام
المثليين" وغيرهما.
وربما تكون هذه الدار هي الأهم على الإطلاق من كل الدور
المتخصصة في الأفلام الفنية في العاصمة البريطانية، بل والوحيدة الباقية
التي تُخصص
بشكل منظم ومن خلال منهج واضح، وعلى مدار العام، برامج لاتجاهات محددة في
السينما،
أو لمخرجين معينين أو لحركة سينمائية ما، وبالتالي فهي تعتبر
مقصدا رئيسيا لكل من
يرغب في الإطلاع على تاريخ السينما بشكل عملي، وليس من خلال قراءة الكتب
والمجلات.
وقد قضيت عدة سنوات في بداية وجودي في لندن
في الثمانينيات أتردد بصفة منتظمة على
هذا المكان، الذي أعيد الآن تصميمه وشيدت له ديكورات مختلفة
تماما، تسمح بمساحات
أكثر اتساعا من الداخل، كما أضيفت إليه أقسام أخرى اقتطعت في الغالب من
موقف
السيارات القديم، لكي تضم مطعما فخما ومشربا ومقهي ومكتبة للكتب والأفلام
المتوفرة
على اسطوانات رقمية. وفي مقصفه التقيت بالكثير من الأصدقاء،
والزملاء الأفاضل،
واستضفت أيضا الكثير من الأصدقاء الذين جاءوا لزيارة لندن. وأتذكر أنني
عندما علمت
بوجود الناقدين أحمد الحضري، متعه الله بالصحة والعافية، والناقد المرحوم
سامي
السلاموني في لندن، واظن أنهما جاءا مباشرة إليها بعد حضورهما
مهرجان كان عام 1988،
وكان متحف السينما قد افتتح حديثا، اتصلت بإدارة مؤسسة "ساوث بانك" كما
يطلق عليها
وهي الجهة التي تدير دار السينما الوطنية والمتحف، وقلت للمسؤولين في قسم
الإعلام
والصحافة فيها إن عميد معهد السينما في القاهرة موجود في لندن
مع أحد كبار النقاد،
ويرغبان في القيام بجولة في المتحف والاطلاع على نشاطات الدار حاليا. وكان
الحضري
بالطبع من أوائل الذين اطلعوا على ما تقدمه تلك الدار عندما قضى سنوات في
لندن في
أوائل الخمسنيات وعاد إلى مصر لكي يؤسس "جمعية الفيلم".
وقد تمت الجولة، وحصلنا
على نسخ من الكتالوج الفخم المخصص للمتحف، وكان السلاموني-
رحمه الله- متعجلا كثيرا
لأنه كان على ما يبدو، مرتبطا بموعد مهم في ذلك اليوم، بينما كان الحضري
على العكس
منه، يتوقف بتمهل مبهورا أمام كل الأجهزة السينمائية العتيقة التي يشاهدها
ومنها
كما أتذكر آلة "زويتروب" القديمة للعرض السينمائي، وهي آلة من
القرن التاسع عشر في
بداية اختراع السينما، وكان يعلق بالقول: آه.. هذه هي الزويتروب.. ياسلام..
لقد كنت
أدرسها في المعهد دون أن أشاهدها. وكانت هناك بالطبع، ولاتزال، نماذج من
هذه الآلة
وغيرها، يمكن للزائر أن يراها وهي تدور بعد أن يضع فيها بعض
العملات المعدنية التي
تتوفر في جيبك وأنت في لندن بغزارة حتى تحتار فيما يمكنك أن تفعل بها كما
كان ذلك
حال سامي السلاموني الذي كان يريد أن يتخلص من تلك "الحمولة" المعدنية التي
أثقلت
على جيبه، ولم يكن يعرف بالطبع أن بينها الكثير من العملات من فئة الجنيه
الاسترليني وكانت عملة حديثة ظهرات لاستبدال الجنيه الورقي
القديم الذي لم يعد له
وجود الآن بل لقد ظهرت الآن ايضا عملة معدنية من فئة الجنيهين أيضا.
الجزيرة الوثائقية في
10/12/2009
ذكريات سينمائية من لندن (2)
عن دور سينما الفن بين الماضي والحاضر
أمير
العمري
في دار السينما الوطنية المطلة مباشرة على بقعة رائعة من نهر التايمز
الشهير،
أتيحت لي الفرصة لمشاهدة عشرات الأعمال العظيمة في تاريخ السينما، منها على
سبيل
المثال فيلم "الجشع" The Greed
الصامت من عام 1925 للمخرج الألماني الأسطوري إريك
فون شتروهايم، وقد عرض بمصاحبة عزف موسيقي مباشر على البيانو. وشاهدت أيضا "نوسفيراتو:
مصاص الدماء" من أفلام التعبيرية الألمانية للعبقري مورناو، وتابعت
عروض موسم أفلام تاركوفسكي كلها، ثم حضرت المناقشة التي شارك فيها المخرج
الروسي
الكبير الراحل، كما حضرت أيضا المناقشة التي دارت بين جمهور الدار وأعضاء
مركز
الفيلم البريطاني وبين المخرج الألماني فيرنر هيرتزوج عندما
عرض فيلمه الأحدث
وقتها، "كوبرا فيردي" عام 1987 في ختام موسم مخصص لعرض كل أفلامه، واستمعت
إلى
هجومه الحاد واتهاماته المرعبة للممثل الألماني الراحل كلاوس كينسكي الذي
ارتبط به
في معظم أفلامه وصنع معه أعظم أفلامه ومنها "أجيرا غضب الرب"
و"ستروشيك"
و"فيتزكارالدو" و"نوسفيراتو"، والفيلم الأخير إعادة إخراج للفيلم الألماني
الكلاسيكي الشهير. ولاشك أن العلاقة بين هيرتزوج وكينسكي هي علاقة كلاسيكية
من نوع
"الحب والكراهية" التي تكون عادة دافعا إلى الإبداع المتألق، وقد أبدع
الإثنان
وتألقا كثيرا وتشاجرا واتفقا واختلفا واصطدما وأقسما ألا يعملان أبدا بعد
ذلك مع
بعضهما البعض ثم عادا واستأنفا العمل في افلام أخرى، لكي يتكرر السيناريو،
سيناريو
العذاب المشترك. وفي هذا يروي هيرتزوج الكثير جدا، خصوصا ما
يتعلق بتجربة العمل معا
في فيلم "أجيرا غضب الرب" الذي صور في أماكن وعرة من غابات الامازون في
البرازيل.
وقد شاهدت فيلما تسجيليا طويلا رائعا عن
تجربة العمل في هذا الفيلم.
وفي القاعة
الكبرى من دار السينما الوطنية حضرت المناقشة المهمة التي دارت مع المخرج
الروسي
الشهير إليم كليموف صاحب التحفة السينمائية الشهيرة "تعال وشاهد" (1984)
Come and See.
وكان قد انتخب عام 1986 رئيسا لاتحاد السينمائيين السوفيت في زمن
البريسترويكا (الانفتاح
السياسي في الاتحاد السوفيتي في عهد جورباتشوف) وكان منصبا شديد الأهمية
له فعاليته وخطورته ويملك التدخل في الكثير من الأمور. وأتذكر
أن النقاش معه كان
ساخنا، وأنه ذكر معلومات كثيرة عن منع الكثير من الأفلام أو "وضعها فوق
الرف"- حسب
التعبير الشائع، رغم أنها كانت بالطبع من إنتاج ستوديوهات السينما التي
كانت تملكها
الدولة السوفيتية. وكانت الأسباب مضحكة كثيرا. وأتذكر أنه قال إن الكثير من
تلك
الأفلام "الممنوعة" كانت قد منعت لرداءة مستواها الفني فقط،
وإنه عندما تولى
المسؤولية وعرض على مخرجي تلك الأفلام السماح بعرضها، رفضوا عرضها بل
وتبرأوا
منها!
وشاهدت العرض الأول للنسخة التي تمت استعادتها بعد أن كانت قد اختصرت
إلى
أكثر من النصف، من الفيلم الكلاسيكي الشهير "1900" لبرناردو برتولوتشي بعد
أن رد له
الاعتبار وعرض للمرة الأولى منذ اختفائه في السبعينيات، في منتصف
الثمانينيات في
إطار برنامج كامل لكل أفلام مخرجه.\
أنا هنا أكتب بالطبع عما قبل الانتشار الكبير للأفلام المتوفرة على
شرائط
الفيديو (ثم اسطوانات دي في دي)، رغم أن الفيديو ظهر في أوائل الثمانينيات
إلا أن
الأفلام الفنية للسينمائيين الكبار في العالم لم تكن قد وجدت طريقها إلى
شرائط
الفيديو بعد، وكانت متعة المشاهدة في دور العرض هي المتعة الأساسية (ولاتزال)
بالنسبة لكاتب هذه السطور وهو ما قد يجد فيه البعض خضوعا لـ"موضة" قديمة،
بل يمكنني
أيضا أن أضيف أنني من الذين يجدون صعوبة كبيرة حتى الآن في الكتابة عن
أفلام لم
أشاهدها سوى على الاسطوانات الرقمية "دي في دي" وليس في دور العرض أي على
الشاشات
السينمائية الكبيرة، ولا يرجع ذلك فقط إلى أنني أعتبر النسخة السينمائية من
الفيلم
هي "الأصل"، أي الأنقى والأكثر سحرا ورونقا، وأن غيرها من
النسخ المتوفرة على
الاسطوانات الرقمية وشرائط الفيديو هي "الصور" الشبيهة بـ"الفوتوكوبي"، بل
لأن
المشاهدة في دار العرض هي الجوهر الأساسي لفكرة السينما، أو لـ "سحر
السينما"، أي
متعة الجلوس في الظلام مع جمهور، والاندماج في الشاشة الكبيرة والاستغراق
في الفيلم
الذي يصبح هنا عالما بأسره، يشاهده المرء بروحه وقلبه، ولا
يكتفي فقط بمجرد "تصفحه"
بينما يقوم بصب الشاي او القهوة أو ينشغل بالرد على التليفون في غرفة
الجلوس في
منزله!
كان الإعلان عن عرض فيلم مثل "دكتور فاوست من جراسا" للمخرج المجري
الكبير ميكلوش يانتشو Jancso (88
سنة) الذي اعتبره أحد أعظم السينمائيين في تاريخ
السينما في هذه الدار عام 1984 فرصة هائلة للاطلاع على أحدث ما
أخرجه ذلك العبقري
صاحب "جمع الشتات" Round Up
و"الأحمر والأبيض" و"المزمور الأحمر" و"رابسودي مجرية".
غير أن الفيلم لم يكن في الحقيقة قد صور للتليفزيون ولكن بالكاميرا
السينمائية في
عشر حلقات، وكان توقيت عرضه يبلغ أكثر من تسع ساعات. وقد
استمتعت بقضاء أكثر من عشر
ساعات (بما في ذلك فترتا الاستراحة) اشاهد وأستمتع بهذا العمل العبقري الذي
يظل
بالنسبة لكثيرين مجهولا حتى الآن بل إن قائمة أعمال يانتشو لا تحتوي عادة
على هذا
العمل باعتباره ليس من الأفلام السينمائية.
في الوقت الحالي وأنا أكتب هذه
السطور تبدأ دار السينما الوطنية في لندن موسما كاملا يستغرق
شهرا ونصف الشهر، لكل
أفلام ستانلي كوبريك، كما تقيم معرضا يصاحب عرض الأفلام، يضم نماذج من
التصميمات
والديكورات من الفيلم الذي توفي كوبريك دون أن يتمكن من تنفيذه وكان يفترض
أن
يتناول موضوع الهولوكوست.
وتعرض الدار أيضا على مدار 16 يوما 11 فيلما من أفلام
المخرج الفرنسي من عصر الواقعية الشعرية مارسيل كارنيه (1909- 1996) وهي
تلك التي
كتبها له كاتب السيناريو والشاعر جاك بريفير (1900- 1977) في
ثلاثنينات القرن
الماضي مثل "وداعا ياليونار" و"أطفال الفردوس" و"فندق الشمال" و"بوابات
الليل"
و"تيريز راكين".
وربما يكون من بين الأسباب التي أبقت على هذه الدار حية أن
الجهة التي تتبعها وهي "المركز السينمائي البريطاني" يتلقى دعما من الدولة
مع
المحافظة على استقلاليته وهو الشكل الذي كان البريطانيون سباقون في التوصل
إليه كما
حدث مثلا عند إنشاء دار الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في عام
1922 فقد أنشئت هذه
المؤسسة على أساس أن تكون شبه مستقلة وتخضع لنوع من الإدارة الذاتية أو
التسيير
الذاتي، وتتبع لمجلس أمناء مستقل عن الدولة وعن إدارة بي بي سي، والهدف
بالطبع أن
تظل المؤسسة بمنأى عن الضغوط السياسية والتجارية.
وإن كان نشاط مركز الفيلم
البريطاني لا ينحصر فقط في إدارة "دار السينما الوطنية" بل
يمتد ليشمل دار
المحفوظات السينمائية أو السينماتيك (حسب التعبير الفرنسي) أو ما يعرف
ببساطة
بـ"أرشيف الفيلم البريطاني" دون أن يعني هذا أنه يحفظ فقط الأفلام
البريطانية بل
يضم عددا هائلا من كل الشرائط المصورة، وثائقية أم روائية منذ اختراع
السينما حتى
اليوم، كما يضم عددا كبيرا من النيجاتيف الأصلي للأفلام
البريطانية منذ ظهور تلك
السينما حتى اليوم.
ويضم هذا الأرشيف نحو 50 الف فيلم روائي، و100 ألف فيلم غير روائي،
و625
برنامجا تليفزيونيا، كما يحتوي على عدد هائل من الملصقات والصور.
ولعل من أكثر
المجموعات التي يحتويها هذا الأرشيف أهمية المجموعة الخاصة بأفلام السينما
الصامتة
من عام 1895 إلى 1929 وتضم كل ما ظهر من أفلام روائية ووثائقية وتسجيلية،
من أقل من
دقيقية واحدة إلى الأفلام الطويلة جدا، ومنها أيضا الجرائد السينمائية
والرسوم
والأفلام الدعائية التي أنتجتها الشركات التجارية للترويج
لمنتجاتها.
ولاشك أن
الأرشيف السينمائي البريطاني يعد من أهم دور المحفوظات السينمائية في
العالم إن لم
يكن أهمها، بحكم أنه بدأ الاهتمام بجمع الأفلام وقت أن كانت الإمبراطورية
البريطانية ممتدة من أقاصي الشرق إلى أقصى الغرب، وكانت كما
كانوا يقولون لنا" لا
تغرب عنها الشمس". وكان من السهل بالتالي الإحاطة بكل ما يصور من أفلام
وشرائط في
البلدان التي كانت تحتلها الجيوش البريطانية، ومنها مصر والهند.
وإذا لم يتمكن
أي باحث اليوم العثور على أي وثيقة مصورة قديمة فيمكنه العثور عليها هنا في
هذا
الأرشيف الهائل. وأظن أنهم هنا يبيعون نسخا من الشرائط القديمة يتم
استنساخها خصيصا
مقابل مبالغ مالية ضخمة بالطبع، وعادة ما يلجأ صناع الأفلام الوثائقية
للتليفزيون
والسينما للحصول على وثائق من هذا النوع. ولا ننسى أيضا أن
البريطانيين حصلوا على
جزء مهم، من أرشيف الفيلم الألماني بعد هزيمة النازية في الحرب العالمية
الثانية،
وإن كان القسم الأعظم من هذا الأرشيف استولى عليه الروس الذي دخلوا برلين
العاصمة.
وقد أعيد فيما بعد، الكثير من الأفلام القديمة إلى الأرشيف الألماني، ولكن
بعد أن
استنسخ البريطانيون نسخا لأنفسهم.
الجزيرة الوثائقية في
20/12/2009 |