يحقق المخرج الاسباني بيدرو آلمودوفار في فيلمه «عناقات محطمة» في
مغزى وجود حياة واحدة تتاح أمام المرء، وقد تخلى مرغما عن طموحاته في سياق
جريمة ليست كاملة بالمعنى الجنائي، وليست منتهية عند تخومها. فهاري كاين هو
نفسه ماثيو بلانكو المخرج الذي فقد بصره في حادثة يبدو للوهلة الأولى أنها
تمت بفعل فاعل، وإن أراد آلمودوفار كعادته أن يترك النوافذ أمام أبطاله
مشرعة على مصراعيها من باب عدم نفي هوية الفيلم البوليسية وعدم تأكيدها
بالكامل. فهو لا يجد نفسه معنياً بالتحقق من معنى حدوث جريمة هنا. وإن
حدثت، فإنها لاتؤشرعلى خلل في السياق الدرامي، بقدر ما تؤكد على حرية
أبطاله، وهم طلقاء، في التقلب ضمن فيلم يتحدث عن السينما وشواغلها الأساسية
لجهة السرد الحكائي الذي يقدم عليه من خلال قصة المخرج ماثيو، والتوثيق
الذي يقدمه لنا من خلال مخرج شاب سوف يكون له شأن رفيع في الفيلم، لأنه
سيكون بمثابة العينين لماثيو في معركة غير متكافئة مع ميلودرامية يجيد
آلمودوفار العزف عليها، ولايترك بالتالي أمام المشاهدين المتربصين بعوالمه
سوى امكانية التحقق من وجود جريمة بوليسية غير ظاهرة للعيان في فيلم ينسج
علاقته من عناقات أناس مجروحين وأحرار في الوقت نفسه.
ماثيو بلانكو يصر على أنه أصبح هاري كاين بعد أن فقد بصره. وهو، من
الآن فصاعدا، يتحول إلى كتابة سيناريوات سينمائية لمخرجين آخرين غيره.
فالمخرج السينمائي، بعد أن يفقد بصره، يتحول إلى جثة هامدة، وتصبح الكتابة
بطريقة من الطرق عالمه الأساسي وشغله الشاغل، ومعه بالطبع جوديت غارسيا
مديرة الانتاج الخاصة بأفلامه، وابنها دييغو، الذي يظهر في الفيلم بمثابة
سكرتير له ومريد ومحمس له على الاستمرارية في حياة قاسية أودت ببصره وحرمته
من مواصلة عمله كسينمائي فوق فيلم «فتيات وحقائب»، وهو الفيلم الذي كان يقف
وراء مأساته، وهو الذي سيعود بنا دائما للتذكير بان ثمة فيلماً يتحرك ضمن
دائرة فيلم، وأن السينما التي يمجدها آلمودوفار موجودة في هذه الأمتار
القليلة التي بقيت بحوزته بعد أن قتلت حبيبته لينا (بينيلوب كروز) في حادثة
السيارة التي فقد بصره فيها .
يبدأ الفيلم بحديث ماثيو عن امكانية تحقق المرء في حياتين من خلال
اختيار اسم آخر لأن حياة واحدة لا تكفي المبدع عادة، ولقاء جسدي عابر مع
فتاة ساعدته في عبور الطريق، وقرأت له الجرائد، وهو ماترفضه جوديت بحديثها
إليه عن التوقف عن الاستسلام لأول شخص يقدم له يد المساعدة. ثمة بالطبع
نظرات تكشف للوهلة الأولى عن هوية مديرة الانتاج من دون التحيز ضدها فهي
تبدو حريصة عليه، حتى إن التصاق ابنها به يبدو مبررا من دون اللجوء إلى
اعذار آلمودوفار الميلودرامية. نحن أمام شاب متحمس للكتابة السينمائية،
وتأثره بماثيو يبدو واضحا في هذا المجال، ولامجال لنكران هذه الطبيعة التي
تميز دييغو بمعزل عن أمه التي تخفي أسراراً وراء طبيعتها الكتومة
والمنغلقة.
هنا تحدث الانعطافة الأولى عندما يقرأ ماثيو خبرا في صحيفة محلية عن
وفاة الصناعي الشيلي الأصل أرنستو مارتل صاحب المشاريع الاستثمارية الضخمة
في أميركا اللاتينية واسبانيا. الخبر سوف يعيد ماثيو اربعة عشر عاما إلى
الوراء. فالرجل الكهل كان على علاقة عاطفية ملتبسة بلينا، وقد استغل مرض
أبيها بسرطان المعدة ليدخل من هذه الكوة، بعد أن أخفقت في اللجوء إلى
شخصيتها الأخرى، التي تؤكد عملها في الدعارة السرية تحت اسم سيفيران بحثا
عن المال لمساعدة أبيها المطرود من المشفى. وهي تتصل بالسيدة التي تدير
اعمالها لتؤمن لها زبونا يمكنه أن يقدم لها المال المطلوب. وتكون المفاجأة
أن العميل المتصل يكون هو نفسه مارتل. وسرعان ماتتنصل لينا من المكالمة
بالتذرع بوقوعها خطأ، وتعود إلى شخصيتها الأولى، فتطلب المال منه مباشرة في
مكالمة أخرى، وهو لايبخل بمد يد المساعدة طالما أنه سيحصل على لينا. تخفق
لينا بالعثور على شخصيتها الثانية، ولاتعود إليها ثانية لأنها ستدفع حياتها
ثمنا للعبة السينما التي أرادتها بملء ارادتها، فيما يوغل ماثيو بزرع
شخصيته الثانية في عوالم الكتابة والفن من دون رغبة واضحة منه أو من دون أن
يدعي الرغبة بذلك .
يقرع الباب المخرج الشاب اكس راي ليغير من مجرى الأحداث، ويطلب مقابلة
ماثيو بذريعة كتابتهما سيناريو مشتركاً، ويرده الكاتب الأعمى إلى مديرة
انتاجه جوديت لتنسق الموضوع معه، وتؤمن هذه الأخيرة لقاء بينهما، وتجيء
رواية القصة على مسامعه بمثابة الفاصل الثاني الذي يرد ماثيو إلى أصل القصة
كلها، اذ سرعان مايكتشف أن اكس راي هو أرنستو مارتل الابن الذي كلف من قبل
أبيه في وقت سابق بتصوير فيلم تسجيلي عن عشيقته لينا وقد أخذت تعمل في فيلم
«فتيات وحقائب»، وهو قبل بإنتاجه لها كرمى لعينيها، رغم معرفته المسبقة
بتواضع امكاناتها كممثلة. حتى إنه يساومها قبل أن يخضع لرغباتها، وهي
الرغبات التي ستفقده إياها، فهي ستصبح معبودة ماثيو، ويكون للفيلم الوثائقي
الذي يصوره الابن شأنا موازيا يضبط واقع الحياة إلى جانب الحياة الفنية
لكلا الحبيبين لينا وماثيو وقد أغرم أحدهما بالآخر الى درجة هروبهما معا،
قبل أن يخرج الفيلم المنشود إلى النور. وهنا يريد مارتل من خلال الدعوة إلى
عرضه، أن يكون فخا كي يظهرا، وقد أراد تدمير الفيلم انتقاما منهما، وقد عمل
على تقطيع أوصاله مونتاجيا حتى يخرج بطريقة مريعة. فهو يشعر بالخذلان أمام
هروبهما من سلطته المالية. ويحدث هنا أن تتواطأ جوديت معه في النيل منهما،
فهي تشعر بخذلان من نوع آخر، اذ تسر له بذلك، وتذهب في حديثها إلى ابنها
بنوع من التطهر إلى القول له بأنه ابن ماثيو.
آلمودوفار الذي قال في وقت سابق إنه استوحى فيلمه من وجود امرأة ورجل
وحيدين عند شاطئ البحر، يريد من لقاء لينا وماثيو أن يتحقق بالفعل من مغزى
وجود كائنين وحيدين ومفردين ولاحول لها ولاقوة وفي لحظة ضعف انسانية . هنا
يدقق في الاطارات التي يضعها أمامهما ليقول الحكاية من خلال محاولة كل منها
العيش في حياة أخرى ليست له، ولكن النهاية تكون مؤلمة، اذ سرعان مايكتشفان
أن الواقع في بعض لحظاته أقوى من الفن الذي جمع أحدهما إلى الآخر. هذا
مايقوله على الأقل الفيلم التسجيلي الذي استمر الابن بتصويره بعناد مبالغ
فيه. وهو إن احصى نأمات العاشقين عليهما، فليس لإرضاء سلطة الأب التي
لاتقاوم في تلك اللحظات، بل لاعجاب مبالغ فيه بسلطة المخرج الفنان ماثيو
بلانكو، وقد فقد بصره في مواجهة سلطة غاشمة، تتطلب من الصناعي أن يستأجر
قارئة حركات شفاه لتعينه على اكتشاف كل كلمات لينا بحقه .
« عناقات محطمة» فيلم عن السينما المفقودة التي لم تعد تعيش بيننا،
وهي السينما التي أرادها آلمودوفار ان تكون تحية إلى رموز سينمائية أخرى،
إلى اودري هيبورن، وإلى آلفريد هيتشكوك، من دون أن يقرب العوالم المثيرة
لهذا الأخير، اذ يكتفي بالوقوف عند تخومها، من خلال عناصر أخرى لم يشغل
آلمودوفار نفسه بها كثيرا. لم تكن تعنيه الجريمة، بقدر الملابس والمونتاج
والمشاعر المتدفقة بين الأبطال، والانتقال بين ماهو واقع وماهو فن . قراءة
حركة الشفاه تعود إلى زمن السينما الصامتة البهي، نبع السينما الصافية،
العناد في تتبع أثر الحبيبين انتصار لنوع من السينما يؤكد على أحقيته في أن
مايحدث في الواقع عند شاطئ البحر بين كائنين أعزلين هو أقوى من تلك الصور
التي تهيمن على عوالم «فتيات وحقائب»، عوالم من زمن ميلودرامي متقلب قد
تجده في أفلامه الأخرى مثل «نساء على حافة انهيار عصبي» أو حتى «العودة».
هل كان الحبيبان مذنبين إلى حد ما وهما يقفان عند ذلك الشاطئ هربا من
عوالم الصناعي الموحشة؟
سؤال لايجيب عنه آلمودوفار بسهولة. هو لايقتنص من عالميهما عقدة الذنب
التي تعيشها لينا وهي تهرب إلى صفاء اودري هيبورن، المرأة القطة، تهرب إلى
عزلتها بالموت، لأنها تريد أن تساعد. الجميع يظهر بهذا المظهر، حتى الابن
الذي يسعى للانتقام من ذكرى أبيه باصراره على تحويل الفيلم إلى كتلة
وثائقية مجيدة تكشف عن انبهاره بحياة المخرج الخلاق، الذي ينتصر في عزلته
الاجبارية، ويرسم حدود شغفه بها بوقوفه دائما عند الشاطئ ليؤكد بطريقة ما
معنى تدقيق آلمودوفار نفسه بصورة عابرة مرت من أمام عينيه مرة، ومن دون أن
يحفل كثيرا بالمغزى قرر أن يصنع فيلما عنهما ليكشف لنا عبر قصة حب معنى أن
تصطدم رغبات الناس ببعضها البعض، وتتبدد مثل رمل البحر الغامض والمشتعل تحت
أقدام الجميع في حادثة ليست مدبرة وليست مصادفة. هنا الفن يقول كلمته ويعيد
هاري كوين إلى مجد ماثيو عندما يقرر اعادة مونتاج «فتيات وحقائب»، بعد أن
تبوح جوديت له بسر احتفاظها بالمادة المصورة وأشرطة الصوت التي سعى الصناعي
مارتل إلى تدميرها في لحظة هباء مدروسة سمحت بالصفح عن نهاية ميلودرامية
محببة لدى آلمودوفار. ولدى مشاهدي «فتيات وحقائب»، الفيلم الكناية عن
عناقات محطمة لشخصين وقفا عند شاطئ البحر وأطال المخرج الاسباني في التدقيق
بهما، وهما لا يقولان شيئا عند هذا الحد، ولايتفوهان بكلمة انتصارا للسينما
الصامتة وهي تبعث المشاعر على الدوام.
المستقبل اللبنانية في
27/12/2009 |