حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

كيف ينظر المجتمع الآن إلى الفنون والجمال؟!

«بالألوان الطبيعية».. وبجرأة فكرية وفنية بالغة

محمد بدر الدين

قبل أن ينتهى عام 2009 بأسبوع واحد (يوم 23 ديسمبر) عرض فيلم "بالألوان الطبيعية" إخراج أسامة فوزى وتأليف هانى فوزي، فكأنما أبت سينما 2009 فى مصر أن تنتهى إلا بفيلم متميز وجريء، بل بالغ التميز، وبالغ الجرأة الفكرية والفنية، كما يعتبر من أحسن أفلام العام إن لم يكن أحسنها على الإطلاق!. 

والحق أن هذا الفيلم لأسامة فوزى كان منتظراً، ويترقب عرضه بكثير من الشغف متذوقو السينما ونقادها، لأن فوزى من المخرجين القليلين فى السينما المصرية المعاصرة الذين تمكنوا من أن يضيفوا اسمهم ـ وإسهامهم ـ إلى طليعة مخرجى أفلامنا بعامة، الذين لديهم أفكار وتأملات جادة متعمقة، للحياة الاجتماعية والسياسية والإنسانية ـ فى آن ـ التى يعيشون فيها، ويدأبون ويجتهدون لتجسيدها عبر سينما راقية بجماليات وتقنيات متطورة باستمرار. 

هذا دأبه، واجتهاده، منذ فيلمه الأول "عفاريت الأسفلت"، مروراً بـ "جنة الشياطين"، ثم "بحب السيما"، وهو رغم إقلاله فى إبداع الأفلام، إلا أنه يظل من المخرجين الذى يصبح كل فيلم لهم منتظراً، وكل فيلم لهم حدثاً، ثم هو فيلم يحرك كثيراً من المياه ـ التى كثيراً ما تكون راكدة ـ ويصبح عملاً محل جدال ونقاش غنى لمدة طويلة. 

فى فيلم "بالألوان الطبيعية" ينظر المخرج إلى واقع مجتمعه الحاضر، نظرة فاحصة ساخطة ساخرة، مستنداً إلى سيناريو محكم ومتنامى متنوع الخطوط وحوار بارع ثرى لهانى فوزي، دعمه فى ذلك أعلى مستويات فنية إبداعية فى السينما المصرية المعاصرة فى التصوير (طارق التلمساني) والديكور (صلاح مرعي) والمونتاج (دينا فاروق) والموسيقى (تامر كروان) فضلاً عن التمثيل الذى اعتمد فيه مخرجنا بالأساس على مجموعة من المواهب الشابة المرهفة فى أدائها وإحساسها وتعبيرها فى آن عن شخصيات الدراما، وعن موهبة وحساسية جيل جديد طامح وطالع فى فن التمثيل، فى مقدمتهم يسرا اللوزى وكريم قاسم وفرح يوسف والممثلة التونسية فريال يوسف ومنى هلا ورمزى لينر وإبراهيم صلاح، فضلاً عن الكبار سعيد صالح وحسن كامى وانتصار ومحمود اللوزي.. وغيرهم. 

رؤية شاملة ونافذة للمجتمع المصرى ككل، فى الزمن الحاضر الذى ينتج فيه الفيلم، لكن من خلال مكان هو كلية الفنون الجميلة، وقضية هى كيف ينظر المجتمع الآن إلى الفنون والجمال؟!. 

ينطلق الفيلم فى تجسيد ذلك من خلال الطالب "يوسف" (كريم قاسم) الذى يجد فى نفسه استعداداً يدفعه دفعاً لصقل موهبة فى التعبير بالرسم، فتتحقق له رغبته فى الالتحاق بكلية الفنون الجميلة رغم ممانعة والدته (انتصار) ومحاولتها الدائمة للسطوة أو السيطرة عليه، وتوجيهه بشدة وإلحاح باستمرار، بدافع ما تتصوره صالحاً لوحيدها، وباسم تضحيتها إذ وهبت العمر فى سبيل تنشئته بعد وفاة الوالد المبكرة، وهى التضحية التى يمتن لها ويدين بقدر ما يشعر بأنها تنتقص من حريته أو تضغط على أعصابه طول الوقت. 

وينقسم سرد الفيلم إلى خمسة فصول منذ التحاق يوسف بالكلية، كل فصل يبدأ بعنوان على الشاشة يعلن عن بدء سنة من سنوات الدراسة، ويختتم الفيلم بـ "التحكيم" أى النتائج الأخيرة عند تخرج دفعة يوسف فى الكلية. 

ومن البداية نلحظ التقارب والتجانس بين يوسف و"إلهام" (يسرا اللوزي)، ولا تلبث أن تأخذهما العاطفة الجميلة المتدفقة بعيداً حتى انهما يصلان إلى علاقة حميمية، لكن مع متغيرات مذهلة وتحولات تظل تجرى باستمرار من حولهما وحتى فى أعماقهما، تؤدى باطراد إلى حال معاكس تماماً، فيتباعدان إلى حيث يستحيل اللقاء بينهما فى آخر المطاف. 

إنهما صورة، من انعكاس تناقضات كبيرة يعيشها المجتمع، سواء فى نطاقه المصغر (الكلية) أو المجتمع الكبير ككل والذى يوشك على التفجر لمدى الغليان. 

ليس يوسف وإلهام وحدهما، وليس يوسف و"ليلي" (فريال يوسف) فيما بعد وهى بتركيبتها النفعية التسلقية نقيضة لإلهام، ولكن أيضاً مجمل الزملاء والزميلات فى الكلية، والأساتذة والمعيدين والعميد!. 

إن الفيلم تتضافر أو تتقاطع فيه مشكلتان أو كارثتان، وفى جوهر الحال فإن كلتيهما ترتبط بالأخرى عضوياً: إنهما استشراء ظاهرة التزمت والتحجر والهوس الديني، وإلى جانبها تفاقم اهتراء وتحلل مختلف المؤسسات فى المجتمع، وبينها ـ مما يركز عليه الفيلم ـ المؤسسة التعليمية ونموذجها هنا الجامعة وتحديداً كلية تدريس الفنون الجميلة، فالفساد يشمل معظم القائمين عليها، بصورة وتفاصيل عديدة يقدمها الفيلم لذلك الفساد. 

إنها الكلية وهو المجتمع اللذان يصبح فيهما على ألسنة المتحدثين شكلياً وسطحياً باسم الدين: الفنون وتعلمها حرام ورجس من عمل الشيطان!.. ويدخل ذلك حتى فى روع بعض أفضل الفتية والفتيات وأحسنهم تكويناً وموهبة (نموذج إلهام التى ارتدت الخمار ثم النقاب فى النهاية فى حالة ابتعاد وارتعاد كاملين جديرين بالتأمل والبحث)، ويوسف نفسه الذى قاوم بصعوبة وعنت شديد التناقض العاصف من حوله وداخل نفسه، وإن كان قاوم وتدارك وتماسك، واستطاع تلمس طريق سوى منطقى فى النهاية. 

ويوجد فى الفيلم ـ فيما نعتقد ـ المشهد ـ المفتاح (ولكل عمل فنى مفتاحه لقراءته ولتفسيره وتحليله) وهو حوار يقول فيه أحد الأساتذة وعميدهم (حسن كامي) ليوسف وزملائه معترفاً: "إن الدولة الآن لا يمكن أن تشجع على تعلم الفنون الجميلة.. فكيف لمن يعرف الجمال أن يقبل بالقبح الذى يحيط به فى كل مجتمعه؟!.. إن الجهل هنا أفضل لها وأضمن!". 

وفى هذه العبارات نضع يدنا على الارتباط العضوى بين المسألتين أو الكارثتين: تخلف وتطرف إلى حد الغباء باسم الدين وهو منه براء يعرقل تطور وانطلاق الفن والجمال بل الحياة!. 

وسلطة سياسية تجد فى كل ذلك التخلف والتطرف والجهل: صالحها وهدفها الوحيد وهو البقاء والتمكين المستمر لها ـ رغم أنها شاخت واهترأت فوق مقاعدها ـ وهنا يلتقى سطو ونهب واستبداد السلطات السياسية، مع جمود وغلو وحمق تيار التدين الشكلى البائس، فى مصلحة واحدة!. ولا يجد المجتمع الشعبى الحقيقى أمامه من بد سوى المقاومة والمجابهة. 

إن "بالألوان الطبيعية" هو آخر أفلام سنة 2009، وآخر أفلام العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، وواحد من أحسن أفلام السنة والعقد، ومن أجدرها بالتأمل الحقيقى العميق، وبالمناقشة الجادة الشاملة. 

العربي المصرية في

29/12/2009

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)