في عام 2002 نشرت الروائية الأميركية أليس سيبولد كتابها «عظام محببة»
حول روح فتاة في الرابعة عشرة من عمرها، كانت تعرضت إلى جريمة مزدوجة، إذ
تم اغتصابها ثم قتلها وتقطيع جثتها. إنها تتحدث إلينا، في تلك الرواية،
لتخبرنا كيف تشعر، وكيف ترصد أثر الحادثة على أفراد العائلة، من دون أن
يفوتها تتبع الفاعل الذي بقي مجهولا حتى اللحظة.
إنها قصة عاطفية من ناحية ولغزية تشويقية من ناحية أخرى، والجانبان
صعب تفرقتهما في تلك الرواية. لكن ما أثار الإعجاب بين نقاد الأدب
الأميركيين كون الرواية ومفاداتها تتحدث عن ضم الجراح والتغلب على الآلام
التي تسببها كارثة. ولم يحتج قراء الرواية آنذاك إلى خارطة مرسومة من قبل
أن تتبدى الدلالات واضحة، فنيويورك قريبة، رغم المسافة الجغرافية، من بلدة
نوريستاون الصغيرة في بنسلفانيا (حيث تدور الرواية) وهي تعرضت لمأساة رهيبة
في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 كانت لا تزال ماثلة كثيفة وعميقة في
كل الأذهان. من هنا، رواية سيبولد جاءت مترابطة مع تلك الأجواء ولو على شكل
ميكروسكوبي بالمقارنة. لكن اللافت فيها أنها، وبين السطور، تدعو إلى
التسامح عوضا عن الرد على الفعل الآثم بالمثل.
سبع سنوات بعد نشر الرواية، والفيلم المقتبس عنها بات على الشاشة تحت
إدارة المخرج بيتر جاكسون المرتبط اسمه دائما بسلسلة «سيد الخواتم» رغم أنه
حقق قبلها وبعدها عدة أفلام أخرى، وسيبقى اسمه مرتبطا بتلك المجموعة
الفانتازية من الأفلام بعد مشاهدة هذا الفيلم، لأنها عبرت عن رؤية محددة
على شاشة عريضة مليئة بروح الخيال والمغامرة على عكس «عظام محببة»
(والمقصود بالعنوان هو أفراد العائلة التي يقودها على الشاشة مارك وولبرغ
وسوزان ساراندون) الذي يحمل طاقة جمالية، لكنه يتعثر دراميا بسبب خيارات
غير محسومة واهتمامه بتحليل شخصية بطلته (الأيرلندية سواريز رونان) على
حساب الشخصيات الكثيرة الأخرى التي بين يديه.
حين أخرج النيوزيلندي بيتر جاكسون (بالتيشيرت والشورت ومن دون حذاء)
الجزء الأول من ثلاثية «سيد الخواتم» سنة 2001، كان أنجز منذ عام 1987 ستة
أفلام روائية معظمها من الرعب. بعد السلسلة التي انتهت فصولها سنة 2003 كان
قد انتقل إلى حيث يجد كل مخرج ينجز فيلما ضخما ناجحا نفسه: ماذا بعد؟..
أغار سنة 2005 على رواية «كينغ كونغ» التي كانت صورت مرتين من قبل (1933
و1976) ثم أنتج «المقاطعة 9» الخيال العلمي الذي أخرجه شاب مجهول من جنوب
أفريقيا اسمه نيل بلوكامب، فإذا بالفيلم يحقق نجاحا طيبا بين الجمهور
والنقاد على حد سواء.
جاكسون حاليا، وكما سيتحدث إلينا، يبدأ بالتحضير لتصوير «مغامرات تن
تن.. سر اليونيكورن» وهو مشروع مشترك يحتوي (حاليا) على فيلمين يصور أولهما
ستيفن سبيلبرغ، وسيؤول الثاني إلى بيتر جاكسون. والعودة إلى عالم شعب
الهوبيت، الذي قدمه إلينا جاكسون في سلسلته تلك، ليست بعيدة، إذ يضع
اللمسات الأخيرة على السيناريو المعنون «The Hobbit: Part 1».
·
رواية صعبة بلا ريب وتحدياتها
كثيرة على أي مخرج، فماذا إذا ما كان بيتر جاكسون؟
- يضحك: حسنا.. أولا وقبل أن أجيب عن سؤالك هذا، أريد أن أذكر شيئا
مهما بالنسبة لي.. لا يوجد شيء اسمه الفيلم الكامل، ولا السيناريو الكامل
ولا الاقتباس الكامل. بالنسبة إلي العمل العظيم هو الكتاب نفسه، وسيبقى
الكتاب نفسه.. رواية أليس سيبولد. السرد الذي فيه هو السرد الذي اختارته
الكاتبة وهو السرد المتكامل الوحيد. الاقتباس، مهما بلغت حسناته ومهما
تجاوز تحدياته، لن يخلف الرواية أو يصبح بديلا لها. هذا لأنه إذا ما أردت
أن أنقل الرواية كما هي، بشخصياتها وحكاياتها الجانبية، فسأحتاج إلى فيلم
من ست أو سبع ساعات. لذلك كان يجب أن نلغي أمورا.
·
إلغاء جزء من الأحداث أمر طبيعي
في الاقتباسات، لكن السائد أن الفيلم يصبح نتاجا قائما بحد ذاته. أليس
كذلك؟
- صحيح. لكن قبل الوصول إلى هذه النتيجة، فإن واحدا من اختلافات
الرواية عن الفيلم، أقصد أي رواية وأي فيلم، هو أن وقع الرواية التي وضعها
الكاتب بنفسه مسيطر على نواحيها كلها، على عكس الفيلم السينمائي الذي كما
تعرف شغل كثيرين، هو مختلف عن وقع الفيلم، فإذا أضفت ما أشرت إليه من نتائج
إلغاء أحداث أو شخصيات فإن الناتج هو فيلم مختلف، ولو إلى حد معين، عن
الأصل. في رواية تتعامل مع الحياة بعد الموت فإن الوقع الذي تحدثه الرواية
قد يختلف عن ذاك الذي يحدثه الفيلم. لا أدري تماما، لم يعرض الفيلم بعد لكي
استطلع الآراء.
·
هذا يعيدنا إلى السؤال الأول:
كيف تعاملت مع تحديات الرواية؟
- عملنا (أقصد كاتبي السيناريو فران وولش وفيليبا بوينس وأنا) لم يكن
صنع اقتباس عظيم، لأن الرواية حققت هذا الإنجاز أساسا، بل عمل فيلم جيد
يستند إلى الرواية. إذا ذهبت إلى مدينة رائعة كمدريد أو روما ومعك كاميرا
فوتوغرافية ستصور منها لقطات تذكرك بها. ربما تعود بعشرين صورة هي بالنسبة
إليك رؤيتك الخاصة، لكن روما ما زالت أجمل. التحدي بالطبع هو كيف تختار تلك
الصور.. وبالنسبة إلينا ماذا نختار وماذا نترك من رواية متشعبة.
·
بعض النقاد كتب عن تشابه بين هذا
الفيلم وفيلمك «مخلوقات - سماوية» الذي أنجزته في منتصف التسعينات. هل
توافق على هذا التشبيه؟
- أفهم السبب الذي من أجله تم ذلك الربط بين هذين الفيلمين. طبعا جزء
منه يعود إلى أنهما يتعاملان مع فتيات شابات. في «مخلوقات سماوية» فتاتان
تنتقمان من الكبار حين يتدخل هؤلاء في حياتهما.
·
فيلمك ذاك كان فيلما صغيرا لم
يكلف أكثر من بضع مئات - ألوف الدولارات، وحكاية واقعية نيوزيلندية، لكن
هذا الفيلم أيضا يبدو كما لو كان عودة إلى أعمال ذات دفع إنساني على الرغم
من أن ميزانيته ضخمة. هل أنت في مرحلة انتقال؟
- ليست لدي خطّة عمل لمهنتي. أنا شخص باهتمامات كثيرة. الشيء الوحيد
الذي أعرفه هو عدم الرغبة في تكرار نفسي.
·
أي فيلم؟.. إذن ما هو العامل
الجاذب إليك. القصة؟ الموضوع؟ أم النتيجة المتوخاة من المشروع؟
- أعتقد أن النتيجة المتوخاة من المشروع.. ذلك التصور بقيمة وجمالية
الفيلم الذي أعتقد أنني سأنجزه هو ما يحركني.
·
أنت وفران وولش التي كتبت معك
هذا الفيلم تعملان معا منذ سنوات طويلة.. ما هي علاقة العمل التي بينكما؟
- علاقة تمتد لخمس وعشرين سنة. نكتب معا. إنها شريكتي في الكتابة،
وفيليبا بوينس باتت شريكتنا الثالثة منذ نحو خمسة عشر سنة. نحن أصدقاء
نعتبر أنفسنا كذلك، وهذه الصداقة تسهل الكثير من علاقات العمل.
·
قبل هذا الفيلم مباشرة، أي في
خريف العام الماضي، حققت نجاحا جيدا بفيلم اكتفيت أنت إنتاجه هو «المقاطعة
9».. كيف تنظر الآن، وبعد مرور هذه الأشهر، إلى هذا النجاح.. ما هو الشيء
الخاص به؟
- جنوب أفريقيا (حيث تقع القصة) ونيوزيلندا (حيث تم التصوير)
متشابهتان في أكثر من ناحية رئيسية. كلتاهما لا تتمتع بصناعة سينمائية
طويلة الأمد. كلتاهما لا تقوم على تجارب متعددة أو كثيرة تصلح لأن تكون
مثالا يقتبس منه أو مجموعة من النماذج التي يمكن العودة إليها واختيار
المناسب منها للمشروع المقبل. حين قرأت المشروع وجلست مع نيل (بلوكامب -
المخرج) مطلعا على تلك الأفلام القصيرة التي حققها، أحسست بأنني كما لو كنت
سأنتج فيلما تقع أحداثه في نيوزيلندا وليس في جنوب أفريقيا. أقصد من
الناحية الإنتاجية الصرفة، ذلك لأن الحكاية تبقى جنوب أفريقية في نظري، ليس
هناك من شك.
·
قبل أيام جلست والمخرج جيمس
كاميرون الذي صور فيلمه «أفاتار» في الاستديوهات التي بنيتها في نيوزيلندا
واكتشفت أن كليكما مغرم بالأفلام ذات القدر الكبير من المؤثرات. حتى «عظام
محببة» فيه مؤثرات تقنية مستخدمة جماليا..
- صحيح لكن بحدود. أنا وجيمس كاميرون متفقان من دون إعلان أو تصريح،
على أن السينما الفانتازية بشكل عام لا يمكن لها أن تعود إلى الوراء على
الإطلاق. لم يحدث في تاريخ سينما الخيال العلمي أو السينما الفانتازية بشكل
عام أن تم اكتشاف قدرة على تنفيذ خيال بصري والعودة عنه لوضع سابق.
·
كثيرون ينتظرون اليوم «تن تن».
مشروعك مع ستيفن سبيلبرغ. كيف تشعر حياله؟
- «تن تن» مشروع خاص يتطلب جهودا مضنية على أكثر من مستوى. في الأساس
الشخصية الكارتونية غير معروفة كثيرا في الولايات المتحدة. معروفة في كل
مكان من العالم وبعشرات اللغات، لكنها ليست معروفة كثيرا هنا. معروفة في
نيوزيلندا ومحبوبة جدا هناك. هذا هو مستوى من التحدي الذي أمام ستيفن
وأمامي، إدخال الشخصية إلى الجمهور الأميركي، وأعتقد أننا سننجح في ذلك،
لكنه تحد على أي حال.
·
الأفلام الأميركية حاليا تعتمد
على السوق الدولية أكثر من أي وقت سابق. فيلم «أفاتار» آخر الأمثلة..
- صحيح، لكن هذا لا يغفل أهمية السوق الأميركية. قليلة هي الأفلام
التي تسقط في أميركا وتنجح كثيرا بعد ذلك في مختلف أنحاء العالم. فيلم
كاميرون نجح في أميركا ونجح أكثر في الخارج وربما هذا ما سيحدث مع «تن تن».
·
هل سيكون «تن تن» فيلم أنيماشن
أو فيلم أنيماشن - كابتشر؟
- سنجلب شخصية «تن تن» إلى الحياة معتمدين على «الأنيماشن كابتشر»
وليس على الأنيماشن أو أنيماشن غرافيكس.
·
كما فعلت حين أسندت إلى أندي
سركيس شخصية غولام في «سيد الخواتم». ممثل حقيقي يتم إلباسه ملامح وهيئات
فنية مختلفة..
- صحيح. مثال أندي سركيس لا يزال مثالا جيدا للتعريف بماهية الأنيماشن
كابتشر. إنه نوع من «ترسيم الشخصية» وليس رسما للشخصية. رسم الشخصية هو من
أمر الكاتب، ترسيمها أو معالجتها بالأنيماشن كابتشر هو ما يجعل الممثل يبدو
غير نفسه تماما. لا يزال التمثيل حيا بممثلين أحياء لكن تمت معالجتهم كما
لو كانوا في مرحلة انتقال إلى هيئات أخرى مختلفة تماما.
·
أعتقد أن الممثل في هذه الحالة
يستطيع أن يأتي إلى التصوير مرتديا البيجاما إذا أراد فذلك ليس مهما، لأن
كل ما هو عليه من ملامح ومن ثياب سيختفي..
- (يضحك): هذا صحيح، ولو أنني لم أشاهد بعد ممثلا يأتي للعمل وهو
بالبيجاما.
·
لنعد إلى «عظام محببة».. ما رأيك
في وجود حياة بعد الموت؟
- لا أستطيع أن أتحدث كثيرا عما لا أعرفه تماما، لكن بما أنك ذكرت
«عظام محببة» فأستطيع أن أتحدث عن رؤية الفيلم إلى ذلك الوضع وأبدأ
بالتصحيح: الرواية لا تتطرق إلى موضوع الحياة بعد الموت. هذا ليس الموضوع،
في الرواية تستخدم الكاتبة عبارة «الحياة المنتصفة» لتعبر عن المكان الذي
تتحدث منه بطلة الرواية إلينا. أيضا، الحياة بعد الموت، كفلسفة وجود أمر لا
يشغلنا في هذا الفيلم. الفيلم ليس عن هذا الوضع على الإطلاق. حين تغادر روح
بطلة الفيلم جسدها، فإنها تبقى - إذا أردت - في وسط المسافة بين الأرض
والسماء والبدن لا يعود مسكنها.
·
هناك الكثير من المشاهد التي
للمؤثرات الخاصة فيها حضور. هل بات من الصعب إنجاز أفلام، خصوصا إذا ما
كانت درامية وعاطفية مثل هذا الفيلم من دون المؤثرات؟
- لكن المؤثرات هنا ضرورية. إنها جزء من التنفيذ. حين تقرأ الكتاب
ولنعتبر أنك مهتم بإخراجه، فإن خيالك حين تقرأه سيحتم عليك من ذلك الحين
تصور الأحداث مع مؤثراتها التقنية. لقد عمدنا إلى استخدامها من دون إفراط.
إنها لتزيين الخيال الذي في الفيلم وليست لإدارة الأحداث مثلا أو توجيه
المشاهد ليراها أكثر من اهتمامه بمتابعة الفيلم كدراما.
·
هل ترتاح أكثر حين تكتب أم حين
تنتج أم حين تخرج؟
- كما ذكرت لم أحقق فيلما كأجير. لم أنفذ فيلم غيري بكلمات أخرى، لذلك
أستخدم في وصف نفسي كلمة
filmmaker
وليس كلمة
Director.
·
الكلمة الأولى أكثر شمولا..
- صحيح، وهو ما أقوم به في الحالات الثلاث، أي كاتبا ومنتجا ومخرجا.
كل فيلم أحققه أمر به وسط هذه الحالات، وأنا مرتاح فيها جميعا.
الشرق الأوسط في
08/01/2010 |