يختلف مهرجان “بالم سبرينج” السينمائي الدولي في أمريكا عن باقي
المهرجانات الكثيرة والمتعددة حوله بأمور قد تبدو صغيرة من الخارج، لكنها
تبقى مهمّة بالنسبة للعديدين من الذين يحضرونه . أحد هذه الأمور أنه يسعى
لعرض ما يستطيع الوصول إليه من الأفلام الأجنبية المرشّحة لجائزة أوسكار
أفضل فيلم أجنبي . وبذلك يُتيح للمتواجدين مشاهدة ما تراه لجان أكاديمية
العلوم والفنون السينمائية، مانحة الأوسكار، في عروض خاصّة أو على شاشات
أجهزة ال”دي .في .دي” .
الأمر الثاني، هو أنه مكان مريح جدّاً للأعصاب إذ يُقام في بلدة
صحراوية بالاسم نفسه تقع على بعد ثلاث ساعات ونصف الساعة شرقي مدينة لوس
أنجلوس . للوصول إليه عليك أن تتسلّق الطريق السريع من النقطة التي أنت
فيها وتنتقل من طريق سريع الى آخر فوق وتحت كل تلك الجسور المتشابكة قبل أن
تجد نفسك، بعد نحو ساعة، في بداية الطريق خارج المدينة المكتظّة . بعد ساعة
ونصف الساعة ستجد نفسك في بداية منطقة صخرية ثم منها الى منطقة صحراوية
(رمالها تختلف عن تلك التي في الصحارى العربية) قبل أن تلتقي عيناك بأفق
أخضر بعيد ما أن يقترب حتى تجد نفسك في واحة كبيرة تأسست فيها مدينة بالم
سبرينج التي يعيش فيها بعض أرباب الأمس من مشاهير هوليوود معتبرينها خير
ملاذ لمرحلة الشيخوخة او التقاعد .
هناك 188 فيلماً جديداً هذا العام من 70 دولة في إطار الدورة الحادية
والعشرين التي انطلقت الثلاثاء الماضي وتستمر حتى الثامن عشر من الشهر
الحالي .
فيلم الافتتاح “المحطة الأخيرة” عمل جميل وآسر في مراحل عديدة منه
يتولّى الحديث عن السنوات الأخيرة من حياة الكاتب الروسي ليو تولستوي كما
يؤديه كريستوفر بلامر، الذي كلّما تقدّم به السن، كلما برهن على عمق موهبته
. لجانبه بضعة ممثلين متميّزين منهم بول جياماتي وهيلين ميرين وذلك تحت
إدارة مايكل هوفمَن الذي كان أغار على السينما ذات النحو الأدبي قبل عدّة
سنوات حين قدّم “حلم منتصف ليلة صيف” عن مسرحية وليام شكسبير الشهيرة .
هناك فيلم آخر عن الأدباء، ولو كان الأديب فيه مبتدعاً وخيالياً، هو
“كايت الجميلة” للممثلة راتشل وورد التي تقف وراء الكاميرا لأول مرّة .
فيلم استرالي يتحدّث عن روائي يعود من المدينة إلى الريف باحثاً عن نفسه
حين كان لا يزال يعيش بين أتراب عائلته . فيلم استرالي آخر متوفّر في عروض
المهرجان ومن مخرج جديد هو وورويك ثورنتون عنوانه “شمشون ودليلة” الذي فاز
بجائزة الكاميرا الذهبية حين عُرض في مهرجان “كان” .
والسينما المصرية ممثّلة بفيلم “هيليوبوليس” الذي شهد عروضاً مختلفة
في الأشهر الأخيرة منتقلاً بين أكثر من مهرجان وهو للمخرج الجديد أحمد عبد
الله وبطولة خالد أبو النجا .
إنه واحد من فيلمين عربيين مشتركين في قسم “أصوات جديدة” الآخر هو
الفيلم السوري “الليل الطويل” لحاتم علي مع خالد تاجا وأمل عرفة في البطولة
. مثل زميله المصري، يلقي الفيلم السوري نظرة اجتماعية جادّة على الحياة
ولو أنها مغلّفة هنا بقدر من التعميم .
الشر الذي لابد منه هو وجود نسبة كبيرة للأفلام الآتية من الكيان
الغاصب . تحديداً ثلاثة بينها “عجمي” المتسلل لمحاولة دخول الأوسكار هذا
العام . إنه فيلم يتحدّث عن أحد أحياء يافا بأسلوب واقعي، ولو أن النظرة
تبقى سياحية وتخفي في أحيان نظرة سياسية غير محايدة .
من الساحل الشمالي لأوروبا هناك فيلم فنلندي بعنوان “رسالة إلى القسيس
جاكوب” حول صداقة تنطلق بين قسيس أعمى وخريج سجون .
الفيلم للمخرج كلاوس هارو الذي قدّم قبل عامين فيلماً جيّاشاً بعنوان
“أم لي” أثار بكاء العديد من النساء اللواتي شاهدنه: و”بعضهن، كما يتذكّر
المخرج، جاؤوا إلى باكين ليتحدّثوا عن تجاربهم الشخصية التي جعلتهم
يتجاوبون مع الموضوع” .
والسينما السويدية النشطة عموماً لديها أربعة أفلام قد يكون أكثرها
إثارة للاهتمام “الفتاة ذات وشم التنين” المقتبس عن رواية لستيج لارسن، أحد
أبرز كتاب القصة البوليسية في المنطقة الإسكندنافية . الفيلم يتبع رحلة
صحافية في أعقاب قاتل يرتكب جرائمه منتقلاً من مدينة إلى أخرى .
الأفلام التي يعرضها المهرجان من بين الإنتاجات الأمريكية فهي نوعية
مستقلة وصغيرة، بذلك يقترب مما يوفّره مهرجان “سندانس” الذي سينطلق بعد
أيام قليلة بدوره . هذا العام يحتوي “بالم سبرينج” على 27 فيلماً أمريكياً
والفيلم الأشهر من بينها “غالية” هو دراما اجتماعية حول فتاة سوداء بدينة
تتعلّم كيف تتوقّف عن كره نفسها والبداية من جديد .
"فتيان الأرز" مشكلة لبنانية وحل
أسترالي
استرعت، قبل سنوات قليلة، المتاعب التي جرت في بعض مدن أستراليا بين
المهاجرين اللبنانيين والسُلطات الأسترالية، الاهتمام على أساس أنها كشفت
أن الجيل الشبابي من أبناء المهاجرين العرب في كل مكان ربما كانوا يتشاركون
في مشاعر العزلة والاضطهاد الممارسة، بقدر لا يخلو من العنصرية . القليل
الذي عُرف عن تلك الاضطرابات التي سادت المدن الأسترالية تم تداوله على
شاشة التلفزيون (بالمقارنة مع تلك التي قام بها أبناء المهاجرين الجزائريين
والأفارقة في ضواحي باريس في فترة متقاربة)، لذلك ربما من الطبيعي أن يعتقد
المرء أن فيلماً بعنوان “فتيان الأرز” سيلقي الضوء على بعض الشؤون التي
تجعل من اللبنانيين هناك (وهم أبناء جالية منتشرة ومؤلفة من أكثر من جيل)
يشعرون بحاجتهم الى التمرّد على الوضع السائد .الفيلم، الذي أخراجه سرحات
كرادي، يتوقّف عند الحدود الأدنى كلما سنحت الفرصة أمامه ليقول شيئاً
مفيداً.
نعم هناك الإحاطة بكيف يعيش هذا الشباب الحياة التي يتطلّع للخروج
منها، لكنها ليست الحياة المضنية أو البائسة والمحمّلة بأسباب الاضطهاد
والعنصرية، التي قيل إنها أشعلت فتيل تلك الأحداث .
ما نراه مرتسماً على الشاشة على نحو ساعة ونصف الساعة هو كيف يتصرّف
صديقان هما طارق ونبيل كل على نحو منفصل حين يأتي الأمر إلى محاولة كل
منهما الخروج من واقعه المادي الصعب إلى حياة من البذخ والترف . الأول لا
يريد الخروج عن القانون، الثاني مستعد لذلك ويحضر لعملية سطو تنقله، وستنقل
صديقه طارق إذا ما وافق على الاشتراك، إلى مستوى جديد من العيش .
لكن لنعاين أي مستوى جديد يتحدّث عنه الفيلم .
هذان الصديقان، كما نماذج لبنانية أخرى يوفّرها الفيلم، تبدو، في أفضل
أحوالها، ترجمة لتلك الشخصيات التي تقدّمها الأفلام الأمريكية حين تتحدّث
عن شباب مراهق يصبو للغاية ذاتها . أحياناً هم من السود وأحياناً من
المكسيكيين واللاتينيين عموماً، وفي أحيان كثيرة هذا التمييز بين لون بشرة
وآخر لا يهم، فنجد أن الطامحين إلى الثراء، في معظمهم، شبّان بيض بعيون زرق
وشعر أشقر . لمَ لم يحاول المخرج كرادي تقديم عمق اجتماعي يتناول فيه
الشريحة التي تعاني فعلاً من مغبّات الهجرة؟ لمَ لم يوسّع دائرته لتحتوي
على شخصيات أكثر اختلافاً بدلاً من أن تبدو كل الشخصيات متشابهة في الشكل
والمضمون والتصرّف؟
المخرج يختار أيضاً معالجة “هوليوودية” لما يتحدّث عنه ويطرحه .
كاميرا محمولة (التصوير رقمي) وتوليف سريع لخلق إيقاع لا يتيح للمشاهد
الذهاب الى أبعد مما ترسمه الصورة: الصديقان يتقدّمان صوب فتاتين للتعرّف
إليهما وهذا كل ما في الأمر . لا معالجة نفسية لمسألة الشعور المسبق لدى
أحد باختلاف الآخر، بل مجرد عبارة أو عبارتين تردان في هذا السياق قبل
الانتقال إلى مشهد آخر، وهكذا .
فتيان هذا الفيلم يجدون الحل في التجارة بالمخدّرات، لكن على عكس فيلم
جاك أوتيار “النبي”، الفرنسي الذي يتناول حياة السجون التي يتعرّض إليها
أبناء مهاجرين من شمالي إفريقيا ينتقلون خلالها من البراءة إلى تجارة
المخدّرات، فإن المخرج الأسترالي يتعامل وممثلوه غير العرب في أدوار عربية
على نحو أن ما نراه هو تحصيل حاصل لا يستدعي جهداً في سبيل البحث عن
مسبباته .
علامات
السينما المستقلة حقيقة
عملياً، كل الأفلام التي يتم إنتاجها بعيداً عن السينما المهيمنة هي
أفلام مستقلّة . الآن لا يبقى سوى تعريف ماهية السينما المهيمنة وكيف تخرج
السينما المستقلة، التي يتردد الحديث عنها كثيراً هذه الأيام عنها .
المهيمنة هي تلك السينما التي عادة ما تعمد إليها شركات الإنتاج بهدف
التوزيع التجاري للجمهور السائد . إنها تخدم هدفين متّصلين بنقطة واحدة هي
الإنتاج نفسه: تروّج لمواضيع تعجب الجمهور السائد، وتلبّي بذلك حاجة الجهة
المنتجة لتعليب هذا الإعجاب وإيداعه المصارف كعائدات خاصّة . هذه الناحية
التجارية تشكّل بالنتيجة أنماطاً من الأفلام هي واحدة سواء أكانت مصرية، أم
فرنسية أم ألمانية أم نيجيرية، (حيث ترتفع نسبة المنتج من الأفلام المحلية
عن عداها من دول إفريقيا)، أم هندية أم أمريكية . ويستطيع أي من كان ملاحظة
كيف تختلف تلك الأنماط تبعاً لاختلاف الذوق العام: سينما “الأكشن”
والمؤثرات أمريكية، سينما الميلودراما والاستعراض هندية، سينما الكوميديا
القائمة على رؤوس أقلام عوض موضوعات تحليلية مصرية . . . الخ .
المستقل عليه لا النفاذ من نطاق ما تفرضه المؤسسات المهيمنة على السوق
من تعليمات فقط، بل أيضاً من “التيمات” والحلقات الناتجة عن الآلة الصانعة
للأفلام السائدة . إذا ما استطاع المخرج المستقل الخروج من شروط اللعبة
السينمائية الممارسة على شكل مواضيع وطرق معالجات مخصصاً عمله لمتذوّقي
الفن السابع والباحثين عن القيمة في الفيلم، فكرياً وفنيّاً، حقق الشرط
الأهم . وشرط الخروج من تبعية شركات الإنتاج المهيمنة تحقق منذ أن عزف عن
نبذ منواله الخاص ورفض (تجاه نفسه أوّلاً) الارتباط بأي عقد لا يخوّل له
إنجاز الفيلم على طريقته .
هذه الأيام، الكثير مما يطلق عليه الأمريكيون صفة السينما المستقلة
بحاجة الى تمحيص، ذلك لأن ما يتم إنتاجه تحت هذا البند بات، ومنذ سنوات، لا
يختلف كثيراً عن السينما السائدة الا في أنه أرخص تكلفة، أما الشرط الأساسي
المتمحور حول اختيار موضوع ذاتي ومعالجته بإبداع فني من دون التفكير مطلقاً
باحتمالات الربح والخسارة، فغير متوفّر إلا في أدنى حدوده .
م .ر
merci4404@earthlink.net
http://shadowsandphantoms.blogspot.com
الخليج الإماراتية في
10/01/2010 |