لا داعي للذهاب بعيدا في عملية تقديم الممثل أنطوني هوبكنز. الممثل
البالغ من العمر 72 عاما، ليس فقط غنيّا عن التعريف، بل من الشهرة بحيث
يحتار المرء كيف يستطيع أن يوجز حياته في تمهيد ما. هل يذكر تاريخه؟ حياته
العملية؟ خلفيّته المسرحية؟ الأفلام الأولى التي مثّلها أو اللاحقة التي
ربا عليها هذا الجيل؟
أكثر من ذلك، كيف يمكن أن يوجزها المرء والممثل في حديثه يتكفّل بفتح
بعض المناطق غير المعروفة من حياته تطوّعا وبكثير من التلقائية والرغبة.
في هذا اللقاء الذي تم يوم الأحد الماضي، يتحدّث عن أبيه وتأثيره
عليه، كما يتناول علاقته العملية ببعض المخرجين الذين عملوا معه خلال رحلته
التي أثمرت للآن 67 فيلما معظمها سينمائي (وبعضها تلفزيوني) ولا تزال سائرة
بنجاح. وهو لا يتحدّث بمرارة ولا بشكوى، بل يتحدّث راغبا في السرد أو،
بكلمات أخرى، في الحكي.
مناسبة اللقاء انطلاق فيلم جديد له هو «الرجل الذئب». لا يلعب دور
«الوولف مان» بل دور أبيه الذي كان رسم منطقة خالية من العواطف تحيط به ضد
كل الناس وفي مقدمتهم ابنه الذي عضّه ذئب ذات مرة فتحول إلى مخلوق متأزم
ومثير للشفقة تتمزق دواخله بين الانتماء إلى الإنسان والانتماء إلى
الحيوان.
وهو واحد من أفلام عدة منها ما انتهى السير هوبكنز من تمثيلها (مثل
«سوف تقابل غريبا طويل القامة» لوودي ألن) أو يصورها حاليا («ثور») أو
مرتبط بها (مشروع بعنوان «اقتل ساعي البريد»). فيلم واحد نسيت أن أسأله عنه
هو ذلك المشروع المؤجل عن حياة المخرج ألفرد هيتشكوك، ولو لم أنس لكان
أنطوني هوبكنز قلد هيتشكوك كما يقلد هنا رهطا من الذين تعامل معهم من
المنتج إسماعيل مرشنت إلى المخرج جيمس ايفوري وصولا إلى وودي ألن نفسه. بين
الضحكات الكثيرة التي تبادلناها، عكس بعض المواقف والخلفيات حول علاقته
بأبيه خصوصا. تشعر وأنت تستمع إليه بأنه يريدك أن تكتب قصة حياته وتضعها في
كتاب أو أنك تستطيع أن تسأله أسئلة كثيرة أخرى عن ماضيه وسوف يكون سعيدا
بالإجابة عنها لولا عامل الوقت.
* بين الأب وابنه
·
حدثنا عن كيف تستقبل دورا كهذا.
هل تأخذه على محمل الجد؟ أعني هل هناك فرق كبير بين لعب هذا الدور في فيلم
رعب وبين دور في فيلم جاد آخر؟
- هذا الدور كُتب بعبارات مسرحية كبيرة. كاتب السيناريو كتبه وعينه
على التأثير المسرحي.. شخص كبير الحجم مثل قنبلة وبريطاني (يضحك). فكرت حين
قرأت أنني لن أستطيع أن أكون كبير الحجم ولا أريد أن أمثل الدور على هذا
النحو. تكلمت مع المخرج جو جونستون وقلت له: أريد أن ألعب الدور بالطريقة
التي أستطيع تأدية الدور بها وهو كان كريما ومدركا الفرق بين المكتوب على
الورق وبين الواقع الذي عليه أن يتعامل معه (يضحك). بالنسبة للاختلافات
ليست ذات بال. حالما قلت نعم فإن ذلك يعني أني وجدت طريقة جادة لتشخيص
الدور. بالنسبة إلى تمثيلي دور هاملت ودور أب الرجل - الذئب سيان عندي
باستثناء أنني لن أكرر ما حفظته من عبارات شكسبيرية.
·
ما الذي جذبك إلى هذا الفيلم
إذن؟
- عبارة واحدة وردت في السيناريو في المشهد الذي يعود فيه ابني
(بينيسيو دل تورو) إلى البيت وقد مضت على فراقنا عشرون سنة لم نتقابل فيها
مطلقا. السيناريو ينص على أنني لا أظهر أي انفعال على الإطلاق. والعبارة
الوحيدة التي أقولها له هي: «جثة أخيك وُجدت في حفرة في الشارع. هل لديك
شيء ترتديه للجنازة؟» يرد: «ماذا؟ كيف يمكن لك أن تكون قاسيا وباردا لهذا
الحد؟». المشهد بارد فعلا وبلا قلب وهذا ما جذبني إلى الفيلم: العلاقة بين
الأب وابنه. البرودة من الأب.
·
لماذا هذه العبارة بالتحديد؟
- لأنها واردة من معاملة والدي. مسحوبة من قسوة الآباء. لقد تعلمت من
والدي ذلك. هذا ما جعلني أنجح في تمثيل أدوار الشيخ الجاف والخشن، لكن ليس
الدور القاسي بعنف. أيضا جزء من الشخصية بنيتها على شخص كان يأتي لزيارة
أبي في مخبزه. رجل لا يتكلم مع أحد ولا يتعاطى مع أحد. هادئ لدرجة تثير
الريبة. يمشي ورأسه في الأرض. متواضع ومنطو. والدي كان لديه مخبز، وهذا
الرجل، اسمه مستر وليامز، كان لديه شعر أبيض طويل وكان يعتمر قبعة عتيقة،
ولديه لحية وكان مزارعا. كان يأتي والدي طلبا لبقايا الخبز والخبز القديم
الذي لا يُباع، وكان والدي يعطيه الكثير منها لكني لم أسمعه مرة واحدة يقول
شكرا. ولم يتحدث مع أحد.
·
ما قلته يوعز لي بالسؤال التالي:
كيف تفسر شخصية والدك وتأثيرها عليك إذن؟
- والدي شعر بالإحباط تجاهي منذ أن سألني وأنا ولد صغير إذا ما كنت
أريد أن أصبح خبازا مثله، وقلت لا. قال: «شكرا لله على ذلك، لأنك سوف لن
تستطيع أن تقوم بهذه المهمة». والده كان أكثر قسوة. كان جدي يصفني بالناعم
قياسا. كان يصرخ فيّ ويمد يده إلى الأمام (يمثّل هوبكنز الدور) ويقول لي:
«هل ترى هذه اليد. إنها لا ترتجف. انظر.. يد رجل حقيقي». لكن والدي لاحقا
أصبح فخورا بي حين بدأت أحقق نجاحا في المهنة التي اخترتها لكن ليس من دون
قدر من الامتعاض وأعتقد أن ذلك أمر طبيعي. سأخبرك قصة أخرى: قدمته ذات مرة
إلى (الممثل والمخرج المسرحي الراحل) لورنس أوليفييه أو اللورد أوليفييه.
أمي في اللقاء ذهب اللون عنها من شدة الوهلة. لورنس كان جنتلمانا. لكن
والدي، بسبب توتره، قال له: كم عمرك؟ ورد عليه لورنس قائلا: ولدت سنة 1907.
ووالدي قال: هذه ذات السنة التي ولدت فيها. نحن الاثنان ننزلق إلى الهاوية
الآن.. أليس كذلك؟ (ضحك طويل). أتذكر أنني كنت ألعب البيانو حين كنت صغيرا.
ذات مرة قال لي: «خذ هذه سلة المعجنات هذه لأمك». كان يوجهني كثيرا: أخرج
يديك من جيبيك. قف مستقيما. افعل شيئا مفيدا.. وهكذا. لكني نسيت السلة
وأخذت ألعب مقطوعة لبيتهوفن فجاء ووقف عند الباب طويلا بشعره وملابسه
الملطخة بالطحين وقال: «اعتقدت أني قلت لك أن توصل هذه السلة إلى أمك».
قلت: «لقد نسيت». قال: «لا أدري ما الذي سيحدث لك. ما الذي كنت تلعبه؟»
سألني. قلت: «سوناتا باثيتيك لبيتهوفن» وأضفت: «هل تعلم أنه خسر سمعه؟».
فرد عليّ: «لا عجب أنك معجب به. لقد خسرت سمعك أنت أيضا» (ضحك طويل).
·
هل اللحية البيضاء التي ربّيتها
لها علاقة بفيلمك المقبل «همنغواي»؟
- أوه.. نعم. لحية همنغواي شهيرة ولا يمكن تمثيل شخصيته من دونها.
كذلك هي مطلوبة لدوري في
Thor
الذي يخرجه كينيث براناه. يعجبني براناه. إنه ممثل ومخرج جيد. عملت مؤخرا
مع وودي ألن وجو جونستون في «الرجل الذئب» وهو كان أيضا رائعا. إنه فعلا
مخرج جيد. هل أجريت معه مقابلة؟
·
لا. لم يُتح لي
- إنه مخرج جيد. هذه اللحية بدأت تنمو قبل تصوير «الرجل الذئب». ربما
لا يجب أن أقول ذلك لكن شركة «يونيفرسال» لا تسمح للممثلين بالتمثيل بشعر
وجه طبيعي. لا أدري لماذا. لا تستطيع أن تربّي لحية. قلت لجو لكن الأحداث
تدور في العصر الفيكتوري وأنا مصرّ على أن أربي لحية في هذا الفيلم. أخبر
الشركة بذلك. لم أسمع معارضة بعد ذلك.
·
على ذكر وودي ألن. كيف كان العمل
معه؟
- كان ذلك متعة. لم أصدق أنني في النهاية أمثل في فيلم له. إنه غريب
الأطوار بعض الشيء. في اليوم الأول كانت لدي ملاحظة على المشهد الذي سأصوره
فقال (يقلد طريقة وودي في الكلام): «حسنا... سنصور المشهد كما تريد.. هذا
جيد.. تستطيع أن تحسن في المشهد كما تريد». في مشهد آخر أدخل المنزل فأجد
صديقتي مع هذا الرجل. أغضب وأوجه له لكمة قوية.. تمثيل طبعا.. يقول لي وودي
(مقلدا من جديد) «أنت قوي.. يا إلهي.. أنت مخيف.. لا تضربني بقبضتك تلك»
(ضحك).
·
هل أعدت تمثيل المشهد؟
- لا. لقد أعجب المخرج. اكتفى بالمرة الأولى. كان يقول لي (يقلد من
جديد): «لا تتوقف عن الكلام في هذا المشهد.. إذا فعلت غلب علي النوم»
(ضحك).
·
أعلم أن فيلم «سوف تقابلين غريبا
طويل القامة» حافل بالممثلين الجيدين.. هناك أنت وناوومي واتس وجوش برولين
وأنطونيو بانديراس.. عما يتحدث الفيلم؟
- نعم، كالعادة هناك عدة ممثلين جيدين في فيلم ألن. ألعب شخصية رجل
يعاني من أزمة منتصف العمر ولديه صديقة. علاقتهما في مطلع الأمر جيدة لكنه
سريعا ما يكتشف أنها بدأت بالتحول عنه من دون أن تخبره. إنه رجل غبي يصرف
ثروته ويخرب حياته.
·
عملت أكثر من مرة مع المخرج جيمس
آيفوري أيام الثنائي آيفوري والمنتج إسماعيل مرشنت.. هل من قصص؟
- جيمس ليس من النوع الذي يدير الممثلين. إذا كنت تمثل في فيلم من
إخراجه تجد نفسك حرا في أن تفعل ما تريد (ضحك). سيقول شيئا مثل (يقلده):
«سوف تخرج من تلك الغرفة وتدخل هذه الغرفة و... و.. تجلس». تريد أن تتأكد
فتسأله: «تريد مني أن أجلس على هذا الكرسي؟» فيرد: «إذا أردت» (ضحك). من
أين آتي؟ من هناك. هل تريد أن تأخذ لقطة أخرى من هذا المشهد؟ «نعم.. أسرع
الخطا قليلا»..
إسماعيل مرشنت أخرج فيلما وسألته: ماذا تريدني أن أفعل؟ قال: «لا
أدري. أنت الممثل وأنا المخرج» (ضحك شديد).
·
بالمناسبة.. ماذا حدث لمهنتك
كمخرج؟ قبل ثلاث سنوات شاهدت لك هذا الفيلم الذي أعجبني جدا.. هل لديك نية
في الوقوف وراء الكاميرا من جديد؟
- هل تقصد «Slipstream»؟
·
نعم.
- نعم كان فيلما مختلفا لم يفهمه أحد للأسف. وجدت نفسي مسؤولا عن
أشياء كثيرة. حين تخرج فيلما أنت أول من يأتي إلى موقع التصوير وآخر من
يخرج منه. وهو عمل شاق في الأساس ومسؤولية كبيرة. لا أعتقد أني أريد تكرار
التجربة.
·
كيف تجد الوقت لكي تمثل وتعزف
الموسيقى وترسم؟ كيف تلتقي هذه الهوايات الثلاث عندك وكيف تتفاعل؟
- الفضل في ذلك يعود إلى زوجتي ستيلا. قبل سبع سنوات اطلعت على بعض
المحاولات الأولى في الرسم وقالت إن عليّ أن أواصل الرسم. كانت لوحات قديمة
حين بدأت أرسم ثم توقفت لكن بطلبها هي عدت، والآن أبيع اللوحات.. هناك معرض
لي في لندن وهناك معرض مع نهاية العام في نيويورك.
·
زوجتك كولومبية.. هل منحتك
ثقافتها الأدبية؟ هل تعلمت اللغة اللاتينية؟
- أنا سيئ جدا حين يأتي الأمر إلى تعلم لغة جديدة. لكنها أمّنت جانبا
كبيرا من الثقافة اللاتينية لم أكن أعرفه. دلتني على كتب شعرية وروايات
لكتاب لاتينيين. ولدينا أصدقاء كثيرون بعضهم من كولومبيا أيضا. حين تلاحظ
أني متوتر بعض الشيء ربما لتفكيري في موضوع فيلمي المقبل أو لأي سبب تقول
لي: اذهب وارسم وسترتاح.
·
هل تقلق على نتائج الأفلام التي
تمثلها؟ هل تفكر في العائدات؟
- حين تكبر في السن لا يعني لك ذلك الشيء الكثير. طبعا تفرح إذا ما
حقق الفيلم نجاحا لكن لا تعد تكترث كثيرا لذلك. على عكس الحالة التي تصاحبك
إذا ما كنت جديدا في السينما أو ممثلا شابا، ترقب النتائج بقلق، تريد لكل
خطوة تقوم بها أن تنجح ولا لوم في ذلك. هذا طبيعي.
لكني أريد العودة إلى «سليبستريم» وشكرا لأنك سألتني عنه. أنا فخور
بذلك الفيلم. لقد حمل وجهة نظري في الحياة ووجهة نظري في العالم. كان
مشروعا قريبا جدا من نفسي وبنيته على تجربة حين عانيت من فقدان الذاكرة حين
سقطت أرضا كنت أمثل فيلما مع أليك بولدوين في كندا.
·
تقصد «الحافة» سنة 1997؟
- نعم، لم يدم فقدان الذاكرة وقتا طويلا. بل بضع ساعات فقط. وأذكر
صورا من ذلك الوضع بشكل واضح. ذكرياتي عن ذلك الحادث كوابيس وهذا ما وضعته
في ذلك الفيلم الذي أخرجته. كتبت الموسيقى لذلك الفيلم أيضا. لكن عمل
المخرج متعب لذلك لن أعود إليه.
·
أخبرتني ذات مرة أنك لا تحب
استقبال الضيوف في البيت، لذلك تأخذهم إلى العشاء في المطاعم. هل ما زلت
تفعل ذلك؟
- نعم، المسألة لها علاقة بالمكان. تستقبل الضيوف في بيتك على العشاء.
يأتي العشاء. ينتهي وتجلس والضيوف ما زالوا في وجهك. لا تعرف كيف تتصرف.
ربما تريد أن تخرج لتمشي أو تصعد إلى غرفتك لتنام، لكنك مجبر على البقاء
احتراما للضيوف. في المطعم حين ينتهي العشاء تطلب الفاتورة ثم كل واحد يذهب
في طريقه.
·
العديد من الممثلين يقولون إن
حفلات العشاء مهمة للعلاقات العامة..
- أكرهها ولا أرى أن هناك قيمة لها. دائما في كل فيلم تجد المنتج
يأتيك ليخبرك بأنه أقام حفلة عشاء للممثلين في منزله. كنت سابقا ألبيها
أكثر مما أفعل الآن. منتج «الرجل الذئب» دعاني إلى العشاء لكن كان لدي عذر
حقيقي هذه المرة واعتذرت سلفا. في اليوم التالي قابلت إميلي بْلَنت (تشارك
في بطولة الفيلم) وسألتها عن الحفلة فقالت: «كانت مملة جدا». وأنا أصدقها
لأني لبيت عددا كبيرا منها في السابق. الفكرة السائدة أن الممثلين يتبادلون
أحاديث عمل مثمرة في مثل هذه المناسبات، لكن الحقيقة أن كل ما يقوله الواحد
للآخر: «دعنا نعمل معا قريبا» أو «لقد سرني العمل معا. أتطلع قدما لأفلام
أخرى». كلام لملء خانات العلاقات الاجتماعية ليس أكثر.
الشرق الأوسط في
12/02/2010 |