حتى نهاية العام الماضي، لعب المنشّط اللبناني إيلي خليفة دوراً مهمّاً في
الربط بين السينما الفرنسية وأكثر من مهرجان سينمائي حول العالم . كان هو
من أمدّ مهرجان دبي السينمائي بالعديد من الأفلام وكان حلقة الوصل بينه
والسينما الفرنسية، وكان هو المنظّم للعديد من العروض التي شاركت فيها
السينما الفرنسية في مهرجان تورنتو على سبيل المثال، وكان حلقة وصل أخرى
بينها وبين مهرجان القاهرة . وذلك كلّه لأن خليفي، المجهول خارج نطاق العمل
السينمائي في هذا الحقل، كان ذا منصب مسؤول في شركة “يونيفرانس” الفرنسية،
وهي مؤسسة لترويج الفيلم الفرنسي حول العالم.
خليفي أعفي من مسؤولياته في مطلع هذا العام مع تغييرات أخرى حدثت على قمّة
هذه المؤسسة المدعومة حكومياً . وفي حين أن الأسماء تأتي وتذهب وتتبدّل على
طول الخط، الا أن الغاية المناطة “يونيفرانس” لا زالت واحدة: نشر الفيلم
الفرنسي ودعم هذه الصناعة عبر تشجيع الإقبال عليها ولا شيء يمكن أن يحقق
هذه الغاية أفضل من إقامة مهرجان سينمائي خاص بها، او، على الأقل، الاشتراك
في مهرجانات دولية كتلك التي قامت بها حتى الآن.
نيويورك تشهد هذه الأيام الدورة الخامسة من مهرجان اسمه “موعد مع السينما
الفرنسية” حيث يعرض ثمانية عشر فيلماً منها سبعة مشتراة من قِبل موزّعين
للتسويق أمريكياً . أمر كان حريّاً لو أن السينما العربية سينما حقيقية أن
تقوم به شأنها في ذلك شأن سينمات عديدة حول العالم، فما تقوم به السينما
الفرنسية لحماية صناعتها والترويج لفنانيها ليس حكراً عليها بل تقوم به
السينمات البريطانية والاسكندنافية واليونانية (الأقرب الينا والأقل
تمتّعاً بالتضاريس الثقافية المختلفة العربية) والهندية والإيطالية
والإسبانية.
ما لا تدركه السينما العربية (والعبارة تشمل المخرجين والمنتجين والمسؤولين
عن قطاعاتها المختلفة) أنها في حقيقة أمرها ليست موجودة بالقدر الذي يجعلها
قادرة على النمو باضطراد، ولا حتى على الحفاظ على القليل الذي بلغته بعد
نحو مائة سنة على أول عرض سينمائي وقع على أرض إحدى دولها.
عدد سكان العالم العربي وصل الى 360 مليون نسمة من بينهم 80 مليون نسمة في
مصر صاحبة الصناعة العريقة والتي تهدر حالياً بسبب فوضى إنتاجية وهجمة على
جديد لا يترك أثراً بعد عرضه. الجزائر والمغرب وتونس وليبيا تحوي نحو 87
مليون نسمة. لبنان وسوريا والأردن وفلسطين العربية معاً قرابة 37 مليون
نسمة. أما دول الخليج فعدد سكانها يزيد عن 49 مليون نسمة. في المقابل ما
عدد صالات السينما في العالم العربي؟ ألفاً؟ ربما والغالب أن العدد هو أقل
من ذلك ما يعني أن الاهتمام الممارس بالسينما (الجاد منه والقائم على تصريف
البزنس وحده) لا يأخذ بعين الاعتبار الحقائق اللوجستيكية مطلقاً متغاضياً
عن أهمية الرافد الوطني الكبير في عملية النمو.
في المقابل، فإن العمليات السينمائية للأفلام الموصومة بالجادّة ما عادت
تتم في العالم العربي الا في حالات محدودة . فيلم داود عبد السيد الأخير
“رسائل البحر” مثال على وجود بقايا القدرة على إنتاج أفلام جيّدة وسط
غالبية من الأفلام التجارية. هذا يعود أيضاً الى أنه إذا لم يعتمد المخرج
عبد السيد، ومن قبله كاملة أبو ذكرى صاحبة فيلم “واحد صفر” الجيّد، على
التمويل المحلّي فإن لا أحد هناك مستعد للتمويل من الخارج، الا إذا ما كان
مرتبطاً مع الشركة العالمية للسينما التي يرأسها حالياً غابي خوري، التي
لها خبرة وعلاقة بشركات إنتاج فرنسية.
حالة السينما المصرية تبقى خاصّة حتى ولو شابهتها حالات تونسية وجزائرية
ومغربية تقل عدداً عاماً بعد عام. السنوات التي كانت فيها تلك السينمات
تستطيع الاعتماد على معين فرنسي لا ينضب ولّت، والسبب يكمن في أن الجمهور
الأوروبي لم يعد يطلبها او يراها مهمّة.
البديل الذي يلوح في الأفق هو أفلام يحققها عرب في فرنسا من دون أي علاقة
لها بالعالم العربي، كما الحال مع فيلم منى عشّاش “القنفذ” (من عروض مهرجان
دبي الأخير) او أفلام عبد اللطيف قشيش ورشيد بوشارب. صحيح أن التيار بدأ
منذ سنوات قليلة، لكنه يتحوّل الى حقيقة دامغة أكثر.
كل هذه الأسباب وسواها (إذ أن المشكلة تمتد كخيوط العنكبوت) تؤكد أن
السينما العربية الجديدة عرفت حياة قصيرة وما تبقّى منها هي أعمال منفردة
يقوم بها مخرجون على قدر من الشطارة والكثير من محاولات بيع شيء للعالم
الغربي لأجل الاستمرار. وهذه ليست سينما، في الحالات الصحية لصناعة كاملة
لن تكون أكثر من ذيول او تبعات.
الوضع خطير بحيث بات يحتاج الى تأسيس جديد تتعامل فيه مختلف الجهات بجدّية.
كما يحتاج الى تنظيم أسابيع ومهرجانات في أوروبا والولايات المتحدة من دون
النظر الى الفوائد المادّية. ولن يتحقق ذلك قبل خمس او سبع سنوات إذا ما
اشتد ساعد السينمائيين العرب وبدأوا يدركون الوضع الذي انحدروا اليه.
الأفلام تخسر “حرب العراق”
بعد أيام قليلة ينطلق فيلم بعنوان “المنطقة الخضراء” الى العروض التجارية
في الولايات المتحدة وحول العالم وآخر ما يود أن يُعرف به هو أنه يدور حول
الحرب العراقية . الدعايات المصوّرة للفيلم لابد أن تذكر شيئاً عن موقع
الأحداث، لكن التركيز على أن بطل هذا الفيلم، واسمه ميلر ويؤديه مات دامون،
هو عميل لل “سي آي ايه” يكتشف وجود ثغرات في الوضع الأمني وخطّة للتستّر
على تجاوزات المؤسسة المعروفة في العراق التي نتج عنها تعقيد التواجد
الأمريكي فيه وتعريض الجنود للأذى من دون تحقيق الغاية المنشودة .
السبب الذي تريد شركة “يونيفرسال” المنتجة تعويم الفيلم على أساس أنه
“أكشن” حول نزاع أقطاب في ال “سي آي إيه” وليس عن الحرب العراقية تحديداً
يعود الى حقيقة أن الأفلام التي تناولت الحرب العراقية في السنوات الثلاث
الأخيرة لم تنجز الإيرادات المنتظرة منها .
فيلم برايان دي بالما “إعادة صياغة” الذي دار عن قيام جنديين أمريكيين
باغتصاب فتاة عراقية وقتلها وأفراد عائلتها (عن حدث حقيقي) تكلّف خمسة
ملايين دولار وجمع 65 ألف دولار، فيلم إروين وينكلر الذي تحاشى أخذ موقف ضد
او مع الحرب دفع فاتورة باهظة قيمتها 12 مليون دولار في حين أن الفيلم أنجز
أقل من 41 ألف دولار بقليل . فيلم روبرت ردفورد ذو النقد السياسي المعادي
للحرب فحصد نحو سبعة ملايين دولار داخل الولايات المتحدة علماً بأن تكاليفه
وصلت الى 35 مليون دولار . وأحد أفضل الأفلام التي تناولت تلك الحرب
وعنوانه
Stop-Loss
أنجز أحد عشر مليون دولار فقط في حين أن كلفته
وصلت الى 25 مليونا .
وفي حين أنجز فيلم “خزنة الألم” لكاثرين بيجيلو ست أوسكار ثمينة، لم ينجز
هذا الفيلم الذي تحدّث بدوره عن حرب العراق (ولو أن التصوير تم بكامله
تقريباً في الأردن) سوى ستة عشر مليون دولار علماً بأن ميزانيّته وصلت الى
أحد عشر مليون دولار، أي أن الفارق لا يتعدّى خمسة ملايين لكنها لا تعتبر
أرباحاً بل إيرادات تغطي تكاليف أخرى .
وأحد الأفلام الأخرى التي كان لها جولة مع الأوسكار هذا العام هو “المرسال”
الذي رشيح وودي هارلسون عنه لجائزة أفضل ممثل مساند . هذا الفيلم الذي يجعل
من حرب العراق خلفية أحداثه تكلّف بدوره 44 مليون دولار، لكنه لم يقو على
جلب أكثر من مليون دولار من العائدات .
لا عجب أن منتجي الفيلم حاولو بيعه الى الأمريكيين على أنه فيلم عن الجندي
في الحرب وليس عنها، وأنه بذلك يتناول المتاعب والآلام التي يتعرّض إليها
الجنود لأنهم منّا (كأمريكيين) . لكن هذه الرسالة الوطنية بدورها لم تؤد
الى نتيجة فعلية .
في زمن يتلقّى فيه المهتمّون بالشأنين السياسي والعسكري معلوماتهم أولاً
بأول على شاشات التلفزيون والانترنت، من الصعوبة إقناعهم بأن فيلماً ما
سيضيف أي شيء الى معلوماتهم او آرائهم حتى ولو كان الرأي في هذه الأفلام
(ومعظمها يساري التوجّه او-على الأقل- معاد للحرب) يتوافق مع رأي غالبية
الأمريكيين حالياً .
المشكلة الأخرى هي أن العدد الأغلب من الناس لا تريد أساساً مشاهدة أفلام
تطرح مشاكل وهذا ما جعل كفّة النجاحات من نصيب تلك التي ليس لديها ما تقوله
او تلك التي تقول شيئاً غير مفيد .
ضمن هذا الإطار الأوسع، يمكن أيضاً النظر الى الوضع من حيث إن طغيان
الأفلام التي تقدّم أبطالاً من مؤثرات خاصّة وخدع بصرية تسببت في سقوط معظم
الأفلام التي دارت حول شؤون ذات أهمية وليس فقط تلك التي دارت حول الحرب
العراقية .
فيلم “المنطقة الخضراء” يأتي في ظرف حرج وربما سيُتاح له تحقيق نجاح لم
تحققه أفلام أخرى في الخط العريض ذاته، فهو من إخراج بول جرينجراس وبطولة
مات دامون وكلاهما أنجز نجاحاً كبيراً حين عملا معاً على فيلمين من سلسلة
“سي آي ايه” أخرى هما “سيادة بورن” و”تحذير بورن” .
علامات
ميجويل ليتين
ربما كان على المخرج ميجويل ليتين أن يركض مع امرأتين على شاطئ البحر، او
أن يشعل النار في بيته، او أن يسرق مصرفاً قبل عرض فيلمه الأخير “جزيرة
دوسون 10” لكي يضمن قدراً من الرواج بين الإعلاميين والسينمائيين، لكن
الرجل محترم وملتزم . كل ما استطاع فعله هو تحقيق فيلم رائع آخر من تلك
التي تركت علامات في السينما سابقاً .
لم يسمع العالم الحالي (على الأقل به كثيراً) . وُلد في تشيلي في التاسع من
أغسطس/ آب سنة 1942 وبدأ حياته المهنية ممثلاً مسرحياً وتلفزيونياً ثم أخذ
يخرج الأفلام الوثائقية الطويلة أولاً ثم الروائية التي حملت أسلوباً
واقعياً اختصّت بنوعه (ونوعيّته) الأفلام اللاتينية في النصف الثاني من
الستينات وحتى نهاية السبعينات من القرن الماضي . أفلام تدافع عن الشعوب
والمبادئ وتوصم بأنها أقصى اليسار حتى حين يكون كل ما تريد قوله هو نقد
الدكتاتوريات وإظهار التعاون القائم بين العسكر المحليين والأنظمة
الرأسمالية العالمية . كل منهم يستدعي رعاية الآخر . الأول يرتكب المذابح
الفاشية والثانية تغمض عينها وتنظر بعيداً .
في الستينات كان هناك وعي اجتماعي وسياسي فريد في الغرب وميجويل ليتين،
وعدد آخر من المخرجين النضاليين في امريكا اللاتينية والولايات المتحدة
وأوروبا والعالم العربي برزوا معاً كما لو كانوا على موعد .
أعماله تميّزت، ليس فقط بجدارتها السياسية باحثة في حكاياتها عمّا يعكس
شرائح المجتمع في الماضي والحاضر، بل بسموّها على صعيد الإخراج . لم تكن
خطابية ولا حملت الكاميرا بيد والبندقية بيد أخرى ولا صرخت او تباكت (ولو
أن فيلمه “رسائل من ماروسيا” جعل العديد يبكي) بل انجزت الرسالة التي تريد
وبوضوح ويسر و-الأهم- بنحو فني مثالي: أسلوب واقعي وشعري يتخطّى المحليّة
من دون أن يخسر قضيته .
في العام الماضي أنجز فيلمه الرابع عشر “جزيرة دوسون 10” ويتحدّث عن
الانقلاب العسكري الذي أطاح بالحكم الديمقراطي للرئيس ألليندي وما تبع ذلك
من زج المثقّفين في السجون (مع قوائم في نهاية الفيلم بعدد الذين قضوا من
هذا التعسّف) . المخرج ينقل عن كتاب أحدهم حياة سجن في أحد هذه المعتقلات،
لكنه لا يعاملها منفردة بل ينظر الى الجميع كضحايا نظام فاشي أطاح بآخر
ديمقراطي واستولى على السُلطة وفي غضون ذلك قتل أكثر من عشرة آلاف شخص كان
يمكن لليتين أن يكون واحداً .
ليتين يخرج من دائرة الأبيض والأسود حين يتعامل مع بسطاء الأرض . بعض
الجنود والحرّاس كانوا بشراً عاديين يدركون أنهم مجبرون بحكم وظائفهم، أما
قلوبهم فكانت مع الحريّة .
م .ر
merci4404@earthlink.net
http://shadowsandphantoms.blogspot.com
الخليج الإماراتية في
14/03/2010 |