منذ "أحد دموي"، كل فيلم جديد لبول غرينغراس اصبح مغامرة
منتظرة وحدثاً. سبب ذلك ان المخرج البريطاني المحبوب يبقى قريباً جداً مما
يدور في
عالمنا الحالي وله على الدوام رؤية سينمائية غير مطابقة لما
يُبَث في نشرات الأخبار
وتقارير الصحف. لكن الهمّ الأكبر عنده يبقى همّ الواقعية وهو الشيء الذي
بني عليه
مجده في السنوات الأخيرة. حتى عندما يصوّر مطاردة بين جايسون بورن (مات
دايمون) وخصم له في فيلمه المغامراتي الشائق "انذار بورن"، تدور على سطوح
بنايات في طنجة
المغربية، فهو يفعلها على طريقة "الشبكة الفرنسية" لوليم فريدكين، وليس على
طريقة
ج. ج. أبرامز. فكيف اذا تعلقت المسألة بتصوير رحلة الطائرة الرابعة التي
تحطمت في
بنسلفانيا، يوم 11 أيلول 2001، بعدما انتفض الركاب فيها
وتمردوا على خاطفيهم. من
أجل انجاز هذا الفيلم الذي عُرف آنذاك بـ"يونايتد 93"، جنّد كل ما يملكه من
قدرات
سينمائية لجعل المشاهد يشعر كأنما كان في الطائرة، علماً انه استند الى
وثائق
وابحاث وشهادات عائلات الضحايا الذين قضوا في الحادثة، متبنياً
فكرة القنبلة
الموقوتة التي نعلم انها ستنفجر لكن نترقب لحظة انفجارها والاضرار التي
ستلحقها.
جديد غرينغراس ليس على هذا القدر من البراعة والذكاء. لكن البصمة
موجودة. كيف لا ونحن امام سينمائي يمكن اعتباره مؤلفاً وهو دائماً من يبادر
الى
مشاريعه؟ وعندما نقول بصمة، نعني بها الرغبة الدائمة في
التعامل مع قضية (اسلحة
الدمار الشامل التي شكلت ذريعة للادارة الأميركية لشن حربها على العراق)،
نعرف
خواتيمها، تماماً مثلما كنا نعلم أين ستستقر طائرة يونايتد 93. النص الذي
يعالجه
غرينغراس لا يمكن ان ينتمي الا الى ذلك النوع من الفن الساذج
الذي اشتهر به بعض
التشكيليين في نقلهم لواقع يعاني تفاوتاً كاملاً مع الزمن الذين يعيشون فيه
وتجاهلاً لأفكار ذلك العصر وتغيراته. لعل التفاوت الموجود هنا بين "منطقة
خضراء"
وسياقه الزمني يتأتى من حقيقة أن هذا الفيلم يتجاهل مجموعة من الوقائع حدثت
بعد
الاحتلال الأميركي للعراق وفي مقدمها ان الجميع بات يعلم أن
أسلحة الدمار الشامل لم
تكن الا ذريعة في يد جورج بوش لغزو بلد نفطي ذي أهمية. وحده براين هلغيلاند
(كاتب
السيناريو) لا يبدو على علم بذلك، الا اذا كان يتوجه بخطابه الى الداخل
الأميركي.
لكن في الحالة الاولى كما في الثانية، فالمصيبة وقعت.
من هذا الصراع الذي أغرق
الولايات المتحدة والعالم في مستنقع جديد، استلهم هلغيلاند
وغرينغراس فيلماً
مغامراتياً أهميته الوحيدة انه يثبت مرة أخرى كم ان مخرجه قادر على جعل
المشاهد في
قلب الحدث من خلال اسلوب ريبورتاجي يعلو شأنه في ادارته ليصبح محض سينمائي.
طبعاً،
يبقى الفيلم بعيد جداً من رائعة براين دو بالما "منقح"، حتى لو
تشاركت الفيلمين
حفنة من الجنود الاميركيين في العراق وأيضاً همّ اعادة الاحياء
بطريقة مطابقة
للحقيقة المعيشة. شيء ما يمنع غرينغراس هنا من النظر خلف الواجهة الصورية،
لا بل
يستحيل عليه أن يطرح الاسئلة وأن يستنتج ويفسر ما الأسباب التي دعت فعلاً
الادارة
الأميركية الى شن مثل تلك الحرب. تنقصه الرغبة أولاً والفضول
ثانياً. أعظم اكتشاف
يبينه الفيلم هو ان الأميركيين لا يهمّهم مستقبل العراق ما داموا يفرضون
مهرجاً
يصبح لتوه رئيساً للبلاد غير آبهين بإرادة الشعب. كل الكلام الاخلاقي
للضابط صاحب
الضمير الحيّ روي ميلر (دايمون) الذي يصطدم بأكاذيب السلطة
والتضليل الاعلامي
والاوامر العسكرية، لا يصب الا في المغزى الأخلاقي الآتي: ما يُبنى على
باطل لا
يمكن الاّ أن يكون باطلاً. بدلاً من مشروع سينمائي يبحث عن التعرية، يمضي
الفيلم
وقته في اللهو مع معالم الفيلم الحربي الذي سرعان ما يتحول مخابراتياً
ليستقر في
حضن الشريط المؤامراتي الذي لا يملك شيئاً ليقوله سوى الاثبات
أن الكاريكاتور أكثر
التصاقاً بالعراقيين (انظر مشهد الاجتماع بين مسؤوليين بعثيين) منه الى
الأميركيين.
خلافاً لـ"يونايتد 93" لا تسعف الفيلم هنا،
المؤثرات الصوتية والتوتر الممسوك
والكاميرا التي تثار حولها فوضى رهيبة، ذلك أن الرؤية معدومة
ودرجة جرأة مخرجه
يحددها مدى سماح الجهة المنتجة بها، التي اعتقدت ان الانتقائية في تصوير
قضية
العراق ستدر أموالاً، فغاب عن بالها أن الجمهور الأميركي لا يريد أن يسمع
عن هذا
الموضوع، سواء أكان الطرح سلباً أم ايجاباً. هذه بعض من
تراجيديا فيلم يبقى ثلثاه
على ارض المعركة، أما الثلث الباقي فبالكاد يكفي لإعادة تصنيف غرينغراس
المخرج
الأهم اليوم في صناعة التوتر العالي سينمائياً، حتى لو كان آخر من يعلم
بالنسبة الى
المستجدات في قضية العراق.
(•) Green zone -
يُعرض في "غراند - أ ب ث، كونكورد، لاس ساليناس".
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
العراق
No man’s land
بالنسبة الى الجمهور!
محمد رضا
قد يكون "منطقة
خضراء" آخر فيلم هوليوودي عن الحرب ضد العراق لسنوات كثيرة مقبلة. لقد
حاولت
استوديواتها التطرّق الى تلك الحرب أكثر من مرّة وفي كل مرّة كانت تتلقّى
ضربة
موجعة من جمهور غير متحمّس لطرح الموضوع او لأخذ أيّ جانب فيه
او موقف حياله. آخر
هذه الضربات ما يحدث منذ الويك إند الأخير حين حطّت ثمرة التعاون الجديد
بين بول
غرينغراس ومات دايمون على الشاشات الأميركية، فسجّل فيلمهما نحواً من خمسة
عشر
مليون دولار من الإيرادات في بلاد المنشأ، وحقق أقل من ذلك في
الصالات العالمية.
هذا، مقابل فاتورة انتاج بلغت نحو مئة مليون دولار عدا تكاليف التسويق.
في
الدعايات المسبقة، حاولت "يونيفرسال" التي تولت توزيع "منطقة خضراء"، ترويج
الفيلم
على قاعدتين: الاولى على اساس انه فيلم أكشن بصرف النظر عن موقعه، والثانية
أرادت
أن تقول من خلالها انه فيلم جديد للثنائي الذي حقق نجاحاً
كبيراً حين تعاون على "سيادة
بورن" و"إنذار بورن". كل تلك الحيوية والطاقة والمونتاج الحاد والإيقاع
السريع، تمتزج هنا بالموضوع السياسي - العسكري، لكن الجمهور محصّن ضد أفلام
كوّن عن
مواضيعها آراءه الخاصّة التي ساهم فيها التلفزيون عبر سنين من التعامل مع
العراق.
حتى حين كانت الحرب على أشدّها، أخفقت أفلام دارت (افتراضياً) داخل العراق
او في
الولايات المتحدة، متعاملة مع ذيول الحرب، في تسجيل نجاح جماهيري جيّد.
رأي
لماذا صُرف تود مكارثي من "ڤرايتي"؟
فاجأ رئيس مجلة "فرايتي" (وليس رئيس تحريرها)
الوسط الإعلامي بإعلانه صرف تود مكارثي،
كبير نقّادها السينمائيين في إجراء فوري.
بالنسبة اليَّ، مكارثي واحد من أفضل نقّاد السينما في العالم. عندما تقرأ
له، يجعلك
بمعلوماته الوفيرة تحيط بكل الجوانب التي يتألّف منها الفيلم. يميل الى
التاريخ،
يغرف من تقنيات الحاضر، ولديه دائماً ما يقوله عن كتابة
السيناريو والإخراج بلغة
العارف وليس فقط كصاحب رأي. أعتقد أن معظم من يقرأ "فرايتي" اليوم كان
يقرأها
للصفحات التي تنشر النقد السينمائي له ولسواه. صرفه من الخدمة، وهو أشهر
أترابه،
وبالتأكيد أفضل من عدد كبير منهم، جرى بسبب الوضع الإقتصادي
الذي أثقل على المطبوعة
السينمائية الشهيرة.
لنعد الى الوراء قليلاً. قبل هذا القرار، للمجلة تاريخ
طويل. "فرايتي" خرجت الى النور في العقد الأول من القرن العشرين وكانت
دائماً ناطقة
بإسم الصناعة السينمائية، ولم أصل اليها الا في مطلع السبعينات. لم تكن
تُباع في
بيروت لكن بعض شركات التوزيع كان مشتركاً فيها. كانت من أكثر من مئة صفحة
كبيرة.
مطبوعة بالحبر الأسود وعلى ورق لا تستطيع أن تستخدمه لاحقاً في أي شيء
لأنه كان
أخشن وأرخص من أن يصلح لغير القراءة ثم غسل اليدين من الحبر الذي انطبع
عليهما.
واذا وضعتها على رف مكتبتك، وجدتها تملأ
ذلك الحيّز الخاص بها سريعاً نظراً الى
سمكها. أوه، الآن تذكرت انها كانت بلا كبس معدني. لكن صفحاتها
كانت مرتّبة من دون
ما يُسمّى "الرزّة" التي تجمع كل الصفحات معاً.
كانت "فرايتي" حافلة بشتّى أنواع
الكتابات السينمائية وخصوصاً في مجالات التسويق والتوزيع،
وكانت تتضمن كذلك زوايا
في المسرح والأدب والموسيقى. أما زاوية الموتى فكانت مميّزة. كنت تقرأ رثاء
عن كل
من عمل في السينما او باقي الفنون البصرية والسمعية حتى لو كان لا أحد
يعرفه.
حين انتقلت للعيش في الغرب داومت على شرائها وكان قد تحسّن انتاجها.
صار
ورقها أفضل واكتشفت قيمة الكبس وطرأ تغيير كبير على تصميمها فأصبحت أكثر
جاذبية
وكانت مليئة بالإعلانات. تطوّرت شكلاً أكثر فأكثر في
الثمانينات، ثم أكثر كثيراً في
التسعينات، ودائماً كان معينها الإعلانات. كل استديو، كبيراً أكان ام شركة
صغيرة،
كان يختارها لنشر الدعايات وبكثرة. وكان سعرها رخيصاً ويبلغ نحو دولارين،
لكن تأخذ
زادك منها وأكثر للأسبوع بكامله.
تود مكارثي بدأ العمل فيها منذ 31 عاماً. وكنت
أراه في تورونتو وكانّ والبندقية، يمارس، شأننا شأنه، عمله
القائم على مشاهدة
الأفلام والكتابة عنها. طبعاً كان يتقاضى ما يتقاضاه عشرة منا على الأقل.
مع بدايات
الألفين، بدأت المجلة تتعرّض لضغوط شديدة من جراء انحسار موجة الإعلانات.
شركات
الأفلام والاستديوات لم تعد تنشر الكثير منها. ثم جاء موسم الـ"أوسكار"،
الذي يشكّل
عصب الحياة في هذه الفترة لمجلات مثل "فرايتي" و"ذا هوليوود ريبورتر"
و"سكرين
إنترناشونال"، فإذا بها تشح لأقل منسوب لها في التاريخ. تنتهي حفلة الـ"أوسكار"
الأخيرة من هنا و"يا تود دعنا نودّعك".
الإعلانات مهمّة لكنها ليست السبب الوحيد
الذي أدّى انحساره الى هذا القرار، بل تحوّل القراء من المادة
المطبوعة الى المادّة
المرئية. كل ما تقوم عليه مطبوعة يومية او اسبوعية او حتى فصلية، هو وجود
القراء.
فإن ذهبوا... ذهبت، كما يقول الشاعر. قرّاء
المجلات والصحف في إنحسار. العصر الذهبي
يكمن في سنوات ما قبل هذه النقلة التكنولوجية الحالية. وكنت قد
كتبت سابقاً كيف أن
عدداً من الصحف السياسية استغنت ايضاً عن نقّادها السينمائيين، وكيف انحسرت
الكتابة
السينمائية في مجلتي "نيوزويك" و"تايم" الى حدود متدنية. "نيويورك تايمس"
استغنت
حديثاً عن ديفيد كار الذي كان يزوّدها مقالاته النقدية عن الأفلام
المتوافرة حديثاً
على اسطوانات "دي في دي". جو مورغنسترن كانت مقالاته تُنشر على الصفحة
الأولى في "فايننشال
تايمس". الآن هي في الصفحة الخامسة، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه
فإلى "لا صفحة" على الإطلاق.
السبب، كما أسلفت، هو الجمهور الذي يفضل القراءة
التي يوفرها الإنترنت على الوجبة الكاملة للصحيفة. كما في الغرب كذلك في
جهات الأرض
الأخرى: الصحف تختار (بافتراض مثالي) خبراء في مجالاتهم بينما الشبكة
العنكبوتية
مساحة واسعة لكل من لديه كلمة يقولها. في النقد السينمائي، لكل
من لديه رأي، وكلّنا
لدينا آراء، وها هي الإنترنت مليئة بملايين الإختيارات في كل اللغات. بعد
هذا، من
يكترث للثقافة المطبوعة؟
ترى ما البديل أمام ناقد (يستحق الصفة) إذا ما استغنت
عنه المؤسسة التي يعمل لها؟ لا شيء. فالناقد السينمائي ليس صحافياً بحيث
يستطيع
الإنتقال من تغطية الأخبار والتحقيقات السياسية الى الإقتصادية
او الرياضية او أن
يرتقي فيصبح رئيساً للتحرير. بل هو ن. ا. ق. د. س. ي. ن. ما. هذا كل ما هو
عليه.
بالنسبة اليَّ، كنت ذكرت لكم ولم تصدّقوني، أنني انزلقت من فيلم في
الخمسينات كان معروضاً في صالة قديمة واحترق الفيلم حين ظهرت في دوري
الصغير ممسكاً
بمسدس ومعتمراً قبّعة الأشرار وقائلاً:
Well, it's your time now, Pal.
لكن قبل أن
تنطلق الرصاصة احترق الفيلم ووجدت نفسي أفترش أرض الصالة.
مذذاك، أنا موجود ولست
موجوداً وما زلت في العمر ذاته، وباللباس ذاته، لأني لست حقيقياً. لا آكل
ولا أشرب
ولا أنام لأني شخصية خيالية. أما في أوقات الفراغ فتجدونني أبحث عن ذلك
الفيلم لكي
اتسلل إليه وأترك هذه الدنيا. وإذا ما وجدت نفسي بلا عمل، فسوف أزيد من
جهودي في
البحث عن ذلك الفيلم لكي أعود اليه. التقيت أخيراً بالممثل
الذي من المفترض أني
قتلته وأخبرني أن الفيلم مفقود. يا للمصيبة. كيف أرجع إذاً؟
محمد رضا
لمحة
"الهضبة
المشتعلة" بنار تشارليز!
كاتب السيناريو البارع غييرمو أرياغا منح أخيراً الممثلة
تشارليز تيرون دوراً مهماً في "الهضبة المشتعلة". لكن الفيلم، على أهميته،
لم
يحالفه الحظّ في السوق التجارية. تتضمن نصوص أرياغا عزماً وايماناً بالوسيط
السينمائي، لذلك صفعنا عندما شاهدنا له هذا الفيلم في مهرجان
البندقية في دورته ما
قبل الأخيرة، لكن الصفعة جاءت طفيفة وغير موجعة، وإن كنا نرغب فيها بشدّة.
ماذا
نستطيع أن نقول عن أرياغا، أكثر من أنه كتب سيناريوات أفلام مواطنه
المكسيكي
اليخاندرو غونزاليث ايناريتو، هو الذي كان جاء بفكرة فيلم
"بابل"، وهو الذي وضع
سكريبت "ثلاث جنازات" لطومي لي جونز؟! لكن لأرياغا موهبة أكبر في الكتابة
منها في
التصوير. لذلك، يجدر ربما انتظار فيلمه الثاني والثالث للتقويم. أما السبب
الثاني
الذي يحول دون اطلاق الأحكام المتسرعة، فهو ان الفيلم يتضمن
قدراً لا بأس به من
الانشغالات الجمالية والفكرية، والتي ينبغي أخذها في الاعتبار. تكمن أهميته
أيضاً
في انه يمنح تيرون أحد أهم أدوارها.
اذاً، نحن قبالة شريط لا يختلف كثيراً عن
النصوص التي كتبها أرياغا لغيره: مصائر تتشابك، أسوةً بأزمنة
وأمكنة هي أيضاً تلتقي
في مسافة فيلمية. لكن العلة أن أرياغا، يعيد انتاج ما فعله سابقاً في
"بابل" من حيث
البنية وتركيبة السيناريو، وحتى من حيث التيمة الانسانية الشاملة. لكن
التحف
السينمائية لا تولد كلّ يوم، وأرياغا مدرك لهذا، علماً انه
شتان بين ما نعرفه وما
نفعله. يروي الفيلم قصصا نسائية لا تُختزل بكلمة أو بسطر أو بصورة، معايناً
السلوك
النسائي في أزمنة مختلفة.
ما يرويه الفيلم هو قصة نساء من أربعة أجيال مختلفة.
هناك أولاً تيرون، امرأة تدير مطعماً وتعيش
حياة حرّة مستقلة. تخرج مع من تريد
وتفعل ما تشاء. هناك أيضاً كيم بازينغر، ربة منزل خمسينية
تكتشف الحب بين زراعي رجل
مكسيكي. زوجها عاجز جنسياً، وسرطان الثدي الذي شفيت منه جعلها تخجل من
جسدها، بعدما
انتُزع منها رمز الانوثة. هناك بينهما مراهقة (جنيفر لورانس) تبحث عن نفسها
وتحاول
اصلاح ما تهدّم، لكن ذلك يؤدي الى المزيد من الخراب، بالاضافة الى الفتاة
الصغيرة
(تيسا
لا) التي تعاني انفصال والديها. مَن هنّ هؤلاء، وما الذي يربط بعضهن بالبعض
الآخر؟ هذا ما سنعرفه، علماً أن ارياغا سيظل محافظاً على غموض مدهش على
مدار نحو
ثلثي الفيلم، بحس تقطيعي عالٍ جداً وبمنع البكائية والشفقة من
التسلل الى عمله.
يبدي ارياغا قدرة كبيرة على ادارة الممثلين. اذا كانت جنيفر لورنس
الاكتشاف
الاكبر هنا، فلا شك ان تيرون تسحق القلب في شخصية امرأة تجد طريق الابتسامة
من
جديد، وهي كانت تستحق جائزة أفضل ممثلة لمهرجان البندقية. مرّة أخرى، بعد
"وحش"
لباتي جنكينز، تدرك تيرون أن الجمال قد يشكل عائقاً، لذا ينبغي تجاوزه مهما
يكن
الثمن. فنراها لا تكترث بسحرها الذي لا يقاوم، ولا تتوانى عن
تشويه مظهرها الخارجي
في دور مركّب، يذكّرنا كثيراً بـ"وحش" الذي نالت عنه "أوسكار" أفضل ممثلة.
جائزة
غيّرت حياتها، اذ تقول عنها: "في الأيام التي تلت نيلي الـ"أوسكار"، كنت
اشعر كما
لو كنت في السماء، فمن الصعب استعادة حس الواقعية بعد ان يتم تكريمك على
هذا النحو.
لكن فجأة نقع على الارض، ونلاحظ ان الحياة
يجب ان تستمر، وان هناك واجبات تتعلق
بالتصوير لا يجوز التقليل من اهميتها، وان الرتابة تضرب حياتنا
من جديد. اذاً بعد
ايام قليلة من الجائزة استعادت حياتي ايقاعها الطبيعي. بعدها انهالت عليَّ
العروض
من كل حدب وصوب، وشعرت ان هذا سيسمح لي بالتعامل مع كبار اسماء الفن
السابع، من
مخرجين وممثلين".
(•) The burning plain -
يُعرض في "غراند - أ ب ث، كونكورد، لاس
ساليناس".
خارج الكادر
سكورسيزي والجنون
ليس شيئاً سهلاً أن
نتناول سكورسيزي نقداً. أعني أن نتطرق الى مفاصل عمله وندقق سميولوجياً في
أصغر
تفاصيله، وذلك ضمن ثلاثة أو اربعة أعمدة في جريدة. فالتكثيف ليس ما تدعو
اليه عادةً
افلام المعلّم الحافلة بالتناقضات السردية والأجواء الانطباعية
والتقليعات التقنية
المليئة بألف لون وموتيف، تلتقطها كاميرا مصابة دائماً بحمّى الدوران
والذهول. وما
دامت الحقائق تكمن في التفاصيل، فلا يسعنا الا النظر عن كثب في جوانب عدة
من
اسلوبية رشيقة وضعها مخرج "سائق التاكسي" قيد التنفيذ منذ
أوائل افلامه في سبعينات
القرن الماضي، ومنذ ذلك الحين، لا تزال خياراته الاستيتيكية
والتصويرية تلازمه، بل
وخضعت لتطويرات جادة جعلت من المتعذر تصنيف سينماه في أي من التيارات
المعلنة
والسائدة. مقاربة مشهدية ونظرة مشبعة بالسواد واللؤم والانحراف، هيمنت على
فيلموغرافيا هذا الخلاّق الذي خطف الاضواء (على أطول مدة
زمنية) من جيل كامل من
السينمائيين الأميركيين، فتحوّل مع رفيقه براين دو بالما، ايقونة عززت حضور
تراث
الرواد وهوية السينما الهوليوودية في عصرها الذهبي، واضعاً سينيفيليته في
خدمة حب
السينما وتمجيدها.
بعد مشوار يمتد على أكثر من أربعين عاماً من الأفلام التي
بدّلت وجه السينما العاملة في ظل هوليوود، المستقلة والخاضعة لمتطلبات
السوق
والرعاية، الحميمة وذات الانتشار الواسع في آن واحد، يحتل
سكورسيزي صدارة الشاشات
في العالم برمته، مع شريط "جزيرة مغلقة" (وهي الترجمة الأكثر قرباً للأصل،
"شاتر
ايلاند") الذي يعود بنا الى منتصف الخمسينات من القرن الماضي، في محاولة
مكللة
بالنجاح والإبهار، لتصوير "ثريللر" فيها احالات كثيرة على
سلسلة الأفلام الـ"نوار"
والرعب التي سبق أن صوّرتها السينما
الأميركية. ولئن كان كل فيلم لسكورسيزي
امتداداً لفيلم سابق، أقله من حيث ترابط التيمات في ما بينها، فلا يسعنا
الا أن نرى
في "جزيرة مغلقة" وفي شخصية تيدي دانيالز وايضاً في ليوناردو دي كابريو،
انعكاساً
لصورة هاورد هيوز، أحد أكثر الرجال جنوناً وعبقرية في القرن العشرين، الذي
سبق أن
صوّره سكورسيزي في "الطيار".
كما كان متوقعاً، لا يسلم جديد سكورسيزي من
المحاور الأثيرة لديه، على رغم أن عدسته، التي لا عدسة توازيها
في امكان التقاط
احساس المكان والزمان، تتعقب مسار شخصية ومصيرها. تيماته الحقيقية، مثل
الجنون الذي
يتخطى حدوده ليصبح مدمراً، والعلاقات البشرية التي ترتكز على المصالح
والمنافسة
الضمنية، والعنف البسيكولوجي والتمزق الداخلي والبحث عن الحب
والطموح الذي يقضي على
صاحبه، كلها حاضرة في أقل وحدة تصويرية. أما التشبث الذي يبلغ حد المرض
والهوس
والوسواس، فيتدفق بسرعة جنونية ووتيرة بسيكيديليكية في لقطات الـ"سكوب"
التي على
رغم وساعتها، لا تملك القدرة على استيعاب جنون هيوز/ دانيالز وهوسه. يستغل
سكورسيزي
وجود دي كابريو في "جزيرة مغلقة" كي يأخذنا في رحلة الى اقاصي الجحيم
الأميركية،
بعدما كان أخذنا برفقته (في الثلاثينات والأربعينات)، الى حلم أميركي كان
لا يزال
قادراً على تغيير العالم.
•••
تغيير العالم؟ النظر الى المستقبل؟ هذا
كله مجرد كلمات، لا قدرة آدمية على التحكم بها، لكنها ليست
كذلك عند سكورسيزي. ماذا
تعني عبارة "غد أفضل" إذا امتلك الإنسان القدرة على تبديل أساليب عيشه
المتواضعة (وفقاً لكل زمن) وتطوير التقنيات التي
ابتكرها والتي تسّهل صموده أمام الغزو
والعدوان بأشكالهما المتعددة؟ بيد أن الرجال الحقيقيين هم
الذين ساهموا في دفع
البشرية خطوة الى الأمام، كلٌّ في مجال اختصاصه. هيوز، على غرار سكورسيزي
الذي ساهم
في تبديل مفهوم السينما الأميركية التي تستند الى مفاهيم تجارية، هو في قلب
ثورة
تكنولوجية وفنية تستحق فعلاً أن تنتقل به من ظلمة كتب التاريخ
ومعاجم الفن السابع
الى ضوء الشاشة، إذ ان تجربة هذا الرجل المتألقة حيناً والصعبة حيناً آخر،
تستند
الى أمور تتخطى خصوصيات مكانها وزمانها وسماتهما، علماً أن اسطورة هيوز
مدعومة
بثوابت أميركية لا تزال القلب النابض في جسد الـ"شوبيز"
الهوليوودي وتتمثل في المال
والسلطة والشهرة وايضاً... الجنون، جنون العظمة، الذي يشكل
العمود الفقري لـ"جزيرة
مغلقة"، مع الفارق الكبير، وهو أن الجنون هناك يساعد في التحليق أما هنا
فللتدهور
والانحطاط، أكثر فأكثر.
حكايات من هذا الطراز تستحق أن تحكى. نادراً ما نجد
أجمل من رؤية كاوبوي خارج من عند جون فورد (او سام ريمي، على سبيل المزاح)،
حيناً
يصعد الى الفضاء وحيناً آخر يدخل المصحات، بعدما كان قد غزا
أراضي الغرب الأميركي
الشاسعة التي لم يجف ترابها بعد من دماء الهنود الحمر. أليس الفضاء المفتوح
سلاح
الأميركيين في وجه الايديولوجيات التي سقطت أمام غزو المجهول؟ أليس
الارتفاع عن
مغناطيس الأرض هو الوهم بعالم آخر؟ هذه كلها هموم تتشابك في
مخيلة السينيفيلي الذي
يحلق في عنفوان سكورسيزي بمزاجيته المائلة الى التراجيديا من خلال علامات
الاستفهام
والشكوك التي يزرعها في وعي المشاهد، ومصدرها دائماً رجل استثنائي في ظروف
استثنائية (خلافاً لما يشاع عن أن النص الأميركي يتبع منطق
"شخصية عادية في موقف
استثنائي") يحظى بقدر سيفاجئ الكل حتماً، إذ ان مخرجنا الكبير يحرص على نقل
هواجسه
وضعفه وآفاته المعنوية وركاكته امام عقده، وعدم قدرته على تخطي أمراضه
النفسية،
بقدر ما يهمه تصوير مرحلة من تاريخ الأمة الأميركية (هوليوود
بالنسبة الى "الطيار"
وما بعد الحرب العالمية الثانية بالنسبة الى "جزيرة مغلقة").
يقال إن جبابرة
السينمائيين يصوغون دائماً القصة ذاتها بملامح مختلفة قد تمنح الشعور
بالتجدد،
علماً أن الأساس والأرض التي تتعاقب عليها الأحداث يدفعاننا الى الاحساس
بالالفة.
أكثر من يخدم هذه النظرية هو سكورسيزي الذي تجد من فيلم الى آخر له،
الأفكار ذاتها
ورؤية شبه موحدة للعالم والانسان. مع ذلك، بتنا منذ بضعة أفلام نلمس عنده
اهتماماً
بتصوير الفشل بقدر الاهتمام بتجسيد اللحظات الشاعرية التي
تتفجر من نرجسية البطل.
الحدود بين الاثنين غير واضحة البتة.
شيء أخير: يجب ألاّ ننسى ابداً انه مسنود،
منذ أربعة أفلام، من ممثل كبير هو ليو دي كابريو، الذي يأتينا
بأساليب تمثيلية ونمط
في الأداء لم تكن مظنونة عنده عندما طار صيته اواخر الألفية الماضية. لا شك
انه أخذ
مكان روبرت دو نيرو في قلب سكورسيزي. دي كابريو الذي اعتاد تقمص الشخصيات
الحقيقية،
من لويس الرابع عشر الى رامبو، نجده بعيداً بسنوات ضوئية عن
الملامح التي عرفناه من
خلالها. اداؤه المتين يؤكد انه ممثل متعدد الوجه وصفحة بيضاء يرسم عليها
سكورسيزي
بريشته. الادارة الدراماتيكية التي حظي بها من المخرج، تطاول صغائر الأمور،
مثل
حركة الجسد والايماء وطبقة الصوت، وحتى التنفس الذي يلعب دوره في تكوين
شخصياته.
هـ. ح.
Cut
•
مهرجان فيلم المؤلف في الرباط أمام منعطف بعد تسلم محمد بكريم
(ناقد ومدير فني
لمهرجان طنجة للفيلم المتوسطي القصير) الادارة بدءاً من الدورة الـ16 التي
ستُعقد
في تموز المقبل.
•
ما ان فازت كاترين بيغلو بـ"أوسكار" عن "خزانة
الألم" حتى سارع رئيس مهرجان
البندقية ماركو موللر الى ابداء أسفه لعدم نيل الفيلم أي جائزة خلال عرضه
في الليدو
وسط تجاهل اعلامي كبير!
•
يُحكى عن اقالة فيليب رياك من ادارة مهرجان
القارات الثلاث (نانت)، بعد وقوع
المهرجان الذي أسسه الاخوان جالادو في عجز مالي غير مسبوق.
•
تنطلق في "متروبوليس" الثلثاء المقبل الدورة السادسة من مهرجان
"شاشات الواقع"
الذي ستعرض فيه أفلام وثائقية جديدة لغسان سلهب والآن كافالييه وفريد
وايزمان.
•
انذار خطي للرقابة اللبنانية يسبق فيلم "بوب جوان" (المعروض
حالياً في "غراند
أ ب ث") يوضح ان الحوادث المصورة لا تمت الى الحقيقة بصلة، ذلك أن الشريط
يبلور
فرضية ان احد البابوات كان... امرأة.
الخميس المقبل في "أدب فكر فن - سينما"
-
"شاشات
الواقع" في دورته السادسة
-
بوبوغريبسكي يتحدث الى "النهار" عن جديده.
النهار اللبنانية في
18/03/2010 |