|
هناك 232 فيلماً، قصيراً وطويلاً، سينمائياً وتلفزيونياً، وثائقياً
وروائياً أنجزت حول حرب العراق او تضمّنت اشارات محددة اليها . ومن الطبيعي
أن لا تكون كل هذه الأعمال متساوية وان لا تكون أيضاً متقاربة في المواقف .
في واقعها هي 232 موقفاً مختلفاً كل منها يعبّر عن السياق الذي اختاره كتاب
ومخرجو ومنتجو هذه الأفلام . وهذه المواقف تتدرّج من محاولة عدم اتخاذ موقف
ما من الحرب، الى اتخاذ موقف معها او ضدّها .
كل موقف ينقسم على نفسه، فهناك أفلام تبدو كما لو أنها لم تتخذ موقفاً،
وهناك أفلام تتناول الحرب تناولاً عاطفياً ما يجعلها قاصرة سياسياً سواء
أكانت مع تلك الحرب او ضدّها، كما أنه من بين الأفلام المعادية للحرب تلك
التي تعادي التورّط الأمريكي فيها، من دون أن تعادي السياسة التي أدّت الى
ذلك التورّط او من دون معاداة فكرة الحرب ذاتها .
فيلم بول غرينغراس “منطقة خضراء” نموذج لفيلم له مخلبان . بالأول يحفر
موقفاً ضد السياسيين الذين تسببوا بدخول الحرب بناء على معلومات مغلوطة كان
البيت الأبيض، تحت ادارة جورج و . بوش، يعلم أنها مغلوطة لكنه مضى بها لأن
الغاية لم تكن منع اعتداء عراقي على الولايات المتحدة، بل منع قوّة عربية
في البقاء مستقلّة الشأن تشكّل خطراً على الكيان الصهيوني والوضع السياسي
والاقتصادي للمنطقة . بالمخلب الثاني، عكس حبّ المخرج لسينما التشويق
متيحاً لبطله المناسبة تلو الأخرى للقتال والمطاردة والايقاع بالأعداء او
وقوعه بالأسر . الفيلم، في هذه الناحية، ساعتان من معركة واحدة متواصلة
تتخلّلها فترات استراحة بسيطة خالية من أي عواطف . انه نبض الواقع بلا ريب
مستخدم لرفع حرارة الأحداث بحيث تلبّي حاجة المشاهد للتشويق .
في الوقت الذي ينال فيه هذا الجانب من نصاعة الموقف المعادي للحرب، لابد من
الاعتراف بأن السقطات التجارية لمعظم الأفلام الأمريكية الروائية التي
تعاملت وحرب العراق، تجعل من الصعب جدّاً تقديم فيلم مواقف سياسية دون
سواها . حقيقة أن هذا الفيلم لحق بركب الأفلام التي فشلت تجارياً هو شأن
آخر يمكن بحثه في حينه، لكن القالب القصصي شكلاً ومعالجة، دائماً ما كان
الغطاء المطلوب لجذب المشاهد الأمريكي، والعالمي، الى القضايا والأبعاد
التي تحتويها تلك الأفلام . الحرب الباردة بين الروس والأمريكيين عولجت،
سينمائياً، عبر عشرات الأفلام الكوميدية وافلام الخيال العلمي، في حين أن
البحث في المذابح التي ارتكبها الانسان الأبيض ضد الأمريكيين الأصليين
(الهنود الحمر) كان لابد أن يتّخذ شكل افلام “الوسترن” المثيرة .
في الحين ذاته، يمكن لبعض المخرجين طرح فكرة الحرب وموقفه منها بغض النظر
عن المعالجة التشويقية التي عادة ما تترعرع طبيعياً في مشاهد المعارك . أحد
المخرجين الذين كانوا قادرين على ذلك هو ستانلي كوبريك في “سترة معدنية
كاملة” سنة 1987 حين قسّم ذلك الفيلم الفذ الى نصفين: الأول يدور في قاعدة
تدريب أمريكية يعرض فيه لمحاولات العسكر خلع الانسانية من الجندي تحت
التدريب واطلاقه شخصاً لا قيم لديه، والثاني في أرض المعركة الفيتنامية حيث
ليس في وسع الجنود الا تعريض حياتهم الى العنف السائد والسقوط في جحيمها .
كلا النصفين يشكّلان موقف المخرج المضاد لا للحرب الفيتنامية وحدها، بل
للحرب كاملة . وهو موقف كان أنجزه كوميديا حين أخرج “دكتور سترنجلوف” في
1964 مديناً الشرق والغرب معاً في لعبة التسابق النووي .
فيلم “منطقة خضراء” قورن لدى البعض بفيلم كاثرين بيغيلو “خزنة الألم” الذي
نال أوسكار أفضل فيلم بينما نالت مخرجته أوسكار أفضل اخراج (لجانب أربع
أوسكارات أخرى) من حيث أن كليهما يتناولان وضع الجندي الأمريكي في تلك
الحرب وأن أحدهما -”خزنة الألم”- لا يكترث لما فيه الكفاية، او لا يكترث
مطلقاً، للمعاناة العراقية .
أما في المضمون فكلاهما متّفق على معاداة الحرب . فيلم “خزنة الألم”
يعاديها لما تسببه من أرواح أمريكية والثاني يعاديها لما تسببه من خسائر
للجميع . هذا لا يجعل “خزنة الألم” أقل عدائية للحرب . كل ما في الأمر أنه
معني بالخسارة الأمريكية وله الحق في ذلك . لينجز العرب أفلامهم المعنية
بخسارة العراقيين اذا أرادوا .
أكثر الأفلام عداء للحرب هو عمل ثالث لم يُعرض تجارياً الا في نطاق محدود
جدّاً ولم تتح لمعظم المعنيين مشاهدته . انه فيلم برايان دي بالما “تنقيح”
الذي سبق الاثنين في موعد انجازه . في ذلك الفيلم نتابع، وبنفس الوسيلة
التقريرية ذات الكاميرا الراصدة تسجيلياً، جنوداً أمريكيين يعتدون على فتاة
عراقية ويقتلونها وعائلتها . في أفلام أخرى كثيرة سابقة، كان وقع الفعل
المُنتقد يتعرّض في النهاية الى نوع من التحليل الكيميائي فيختتم الفيلم
مشاهده بمحاكمة تقضي بحبس المعتدين او بمشهد يسقط فيه الأشرار قتلى او يسبق
كل ذلك ظهور شخصية أمريكية قويمة تواجه الفعل الشرير وتقف الى جانب الضحية
. ضروريات هذا التوجّه التجارية معروفة، لكن النتيجة هي القول بأن العدالة
تأخذ مجراها وأن لكل جريمة عقاباً من حجمها . لكن فيلم دي بالما لا يؤخذ
بهذا المفهوم ويرفض أن يتنازل فيقدّم الفعل ويقتنص منه في الوقت الأصلي
للفيلم من دون تعديلات . وعبر ذلك يصل الى لا نقد المعتدين بل نقد السياسة
التي وضعتهم هناك، ولا نقد الجنديين بل نقد العسكر بكامله .
“صراع
العمالقة” الأول هزم
التقنيات
ليس صعباً على الإطلاق تجاوز مستوى فيلم “صراع العمالقة” كما أخرجه سنة
1981 البريطاني دزموند ديفيز، فالسيناريو في ذلك الفيلم حواري في كل مشهد
ولم يكن يحتوي على خدعة سينمائية، والمعالجة تترنّح بسبب تمثيل لا جهد فيه،
والتطور الحدثي مسطّح بحيث أن ما يشد المرء الى الفيلم هو براعة مصمم
ومنفّذ الدمى المتحركة راي هاريهاوزن . الفيلم من دون تلك الدمى المستخدمة
بطريقة “ستوب-موشن أنيماشن” لا يساوي شيئاً .
كل ما تحتاجه “هوليوود” لتحقيق فيلم أفضل منه هو سيناريو متكامل وتنفيذ
إخراجي جيّد يؤمّن الدراما الناتجة عن المواقف الشخصية ويمزج مكنوناتها
بالحكاية الفانتازية التي تتخذ من أساطير اليونان الأولى منطلقاً لها . هذا
ليس كثيراً، لكنه غير موجود في إعادة الصنع التي أقدم عليها المخرج لويس
لتريير، ذاك الذي قدّم فيلماً متوسط النجاح والقيمة بعنوان “العملاق
العجيب” قبل ثلاث سنوات .
لكن شركة مترو غولدوين ماير، صاحبة حقوق النسخة السابقة، قررت أنها
بامكانيات اليوم التقنية تستطيع إنجاز فيلم أفضل . وكان من الممكن لها أن
تفعل لولا أن السيناريو المكتوب هو أكثر تعقيداً مما يستطيع المشروع أن
يستوعبه من حيث عدم اكتفائه بالعودة الى الأساطير اليونانية وصراع الإلهات
فيها، بل محاولة الانتقال بالخدع والمعالجة الى مفاهيم العصر الحاضر وبذلك
القضاء على القيمة الميثالوجية والتاريخية الماثلة في الأصل .
إنها قصّة بيرسيوس (سام وورثنغتون، بطل “أفاتار” هنا في تشخيص ذي نبرة
واحدة طيلة الوقت) الشاب الذي يعيش في كنف صيّاد طيّب (بيت بوستلوايت)
وزوجته الأكثر طيبة (إليزابث مكغوفرن) غير مدرك أن والده الحقيقي، زيوس
(ليام نيسون) لا يزال على قيد الحياة . حين تقوم الإلهة بقتل الصيّاد، يقرر
بيرسيوس الانتقام مصطفّاً الى جانب الآدميين في حرب تبدو غير متوازنة بين
الآلهات ووحوشها ومخلوقاتها الخرافية، وبين الناس العاديين علماً بأن
بيرسيوس، في الأساس، هو نصف آلهة ونصف بشر . خلال حملته لإنقاذ مدينة أرغو
من الدمار على ايدي أعدائها يتولّى إنقاذ الفتاة الجميلة التي تحمل اسماً
يشبه أسماء الشركات التجارية: أندروميديا (وتقوم بدورها الجديدة أليكسا
دافالوس) .
الميثالوجيا الإغريقية ثرية وغنية بالمواقف الأخلاقية والفكرة العميقة هنا
تحتوي على العديد منها: هنا مثلاً نجد أن والد بيرسيوس الحقيقي اعتدى على
امرأة أنجبته، وأن الصياد وزوجته وجداه طفلاً صغيراً طافياً على سطح الماء
فتبنّياه . ثم أن البشر فجأة ما قرروا عدم تنفيذ أوامر الإلهات مما أثار
غضبها فقررت إطلاق وحوشها على مدن الإنسان لتدميرها وتعليم البشر درساً لن
ينسوه . طريقة تنفيذ الفيلم، تلك الغارقة في محاولات تبسيط كل شيء محكي
وتعقيد كل شيء بصري، تجعل الفيلم يبدو كما لو كان مجتزأ من أفلام وشخصيات
أخرى: البطل ذو النصفين المتصارعين يبدو قادماً من الشخصية التي لعبها وسلي
سنايبس في سلسلة “بلايد”، لكنه كان هناك نصف بشر ونصف مصاص دماء . مفارقة
الصياد والزوجة اللذين وجدا الطفل في سلّة مأخوذة من قصّة سيدنا يوسف،
والنصف الثاني منها مأخوذ من مطلع فيلم سوبرمان حين يجد المزارعين الطيّبين
(غلن فورد وفيليس تاكستر) الطفل الخارق الخ . . أما ما له علاقة بالفيلم
الأصلي فهو الخط الأصلي من الحكاية الذي إذا لم تكن شاهدته من قبل في نسخة
1981 فإنه لن يعني الكثير ولن يكون -من فرط هزله- حافزاً لمشاهدة الأصل ولو
من باب المقارنة.
الفيلم بحاجة الى رحلة، والرحلة قوامها بطل الفيلم ومجموعة من المحاربين
الشجعان الذين سيقفون معه ضد الوحوش المختلفة . المشكلة هنا ذات رؤوس
متعددة (تماماً كأحد الوحوش التي نراها) وأحد تلك الرؤوس أن جميع المحاربين
متشابهون تحت قناع من الشعر الطويل وأنهم لا يفعلون سوى الحديث هنا والقتال
هناك وبالطبع ليس هناك من هو أفضل متحدّثاً ومقاتلاً من بطل الفيلم .
وحوش الفيلم السابق تنتمي الى عصر ما قبل “الديجيتال” حين كان المصمم يصنع
دمية من طين ثم يحرّكها بمقدار سنتمتر او أقل ليلتقط صورة ثم يحرّكها
مجدداً ليلتقط صورة أخرى وبعد أشهر يصبح لديه فيلم متحرك لها . إذا ما
شاهدت ذلك الفيلم ستكتشف أنه بمقارنة الأدوات والأساليب، فإن وحوش راي
هاريهاوزن أفضل من وحوش عصر الديجيتال .
علامات
بول غرينغراس
تعلم مخرج “منطقة خضراء”، أحدث الأفلام المتعاملة مع الحرب العراقية، شغل
السينما من العمل لست سنوات في التلفزيون . هذا المخرج المولود في إنجلترا
قبل 54 سنة عمل في السبعينات من القرن الماضي باحثاً لأفلام وثائقية، ثم
منتجاً لبعضها في الثمانينات قبل أن يصبح منتجاً لحلقات تلفزيونية تسجيلية
باسم “World in Action”
(العالم في الحدث) او كما يُقصد بعنوانه الأصلي .
والتأثير الريبورتاجي والتسجيلي الذي نلاحظه في كل أفلامه السينمائية انطلق
من تلك الحلقات، بالاضافة الى أفلام تسجيلية مستقلّة عن ذلك البرنامج تم
بثّها بنجاح ورواج كبيرين خصوصاً أن واحداً منها تعرّض لمحاولة الحكومة
منعه من البث . هذا كان فيلماً بعنوان “القابض على الجاسوس” الذي عاين آلية
العمل في جهاز المخابرات البريطاني، ما أثار حفيظة البعض وطالب بمنعه . لكن
الفيلم عُرض بالفعل وجلب المزيد من الشهرة له .
ومع أن غرينغراس انتقل الى العمل السينمائي وأنجز الى الآن سبعة أفلام، لا
يزال يكتب ويخرج لحساب التلفزيون ما يراه ملائماً لمواقفه السياسية . في
العام 1989م، أخرج فيلماً عن جندي بريطاني يتعرّض لمضايقات جهاز المخابرات
البريطاني تحت عنوان “منبعث” ثم غاب تسع سنوات قبل عودته في فيلم حاول أن
يدعمه بوجهة فنيّة اسمه “نظرية الطيران” لكن الفن هنا كان هو النظري في
الحقيقة، على الرغم من حسنات موزّعة في أركان مختلفة .
غرينغراس قرّر أن يكون “نظرية الطيران” الفيلم الاستثنائي وانطلق من فيلمه
الثالث “يوم أحد دام”، سنة 2002 في غمار النوع الذي لا يزال ينجزه الى
الآن: الفيلم ذو الموقف السياسي الموغل في العملية التشويقية ذات القدرة
على النجاح الجماهيري الواسع . “يوم أحد دام” دار حول أحداث في تاريخ
الصراع الأيرلندي . فيلمه اللاحق “سيادة بورن” ترك الحدث الواقعي من دون أن
يترك الأسلوب التسجيلي أو النوايا النقدية . ذلك الفيلم كان حكاية عميل ال
“سي آي أيه” الأمريكي (مات دامون في الدور) الذي كان فقد ذاكرته ولا يدري
لماذا تترصّده الوكالة التي يعمل بها لتصفيته . النجاح كان لافتاً والمخرج
عاد في جزء آخر من السلسلة حين أخرج، سنة ،2007 “انذار بورن” . بين
الفيلمين أنجز الفيلم المعروف ب “يونايتد 93” حول الطائرة الرابعة التي
استخدمت في عملية الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، تلك التي سقطت في حقول
ولاية بنسلفانيا . وحالياً نرى له فيلمه الجديد “منطقة خضراء” حول الجندي
الأمريكي (دامون أيضاً) الذي يسعى لمعرفة كيف كذب السياسيون الأمريكيون على
الشعب وزجوّا الجيش في حرب بناء على معلومات غير صحيحة .
في حين أن المعالجة العامّة ما زالت تتشرّب من خبرة المخرج السردية، الا أن
التنفيذ له باع آخر: انه قائم على التصوير بالكاميرا المحمولة وبحرفية
عالية جاعلاً المشاهد يركض وراء الكاميرا رغبة في معايشته تفاصيل ما
يقدّمه في المشهد والفيلم . بذلك، يؤسس غرينغراس أفلاماً تقوم على أحداث
منضبطة في سياق مكاني وزمني واحد أقرب الى لهاث متواصل من دون أن يغفل عن
طرح العناوين والمسائل السياسية على نحو مثير للذهن أيضاً .
م .ر
merci4404@earthlink.net
http://shadowsandphantoms.blogspot.com
الخليج الإماراتية في
04/04/2010 |
