على الرغم من تسيّد سينما “الفانتازيا” المجبولة بالمطاردات والمعارك
الخيالية والشخصيات الخرافية فوق الأرض وخارج مجالها إيرادات السينما في
الأعوام الثلاثة الأخيرة، وتراجع مكانة سينما الرعب في الفترة ذاتها إلى
الصف الثاني مع أنواع قليلة اخرى من الأفلام مثل أفلام التشويق البوليسي
والكوميديا، إلا أن سينما الرعب ما زالت نشطة وتشكّل نسبة كبيرة من مجموع
الأفلام التي يتم تمويلها في “هوليوود” أساساً، وفي غيرها ولو بنسبة أقل .
العام الماضي، على سبيل المثال، شهد نحو خمسين فيلماً من النوع، عدد كبير
منها توجّه مباشرة إلى سوق ال”دي في دي” لكن العديد منها شوهد على الشاشات
العريضة تمارس لعبتها المفضّلة وهي تخويف المشاهد وتحويله إلى شاهد لعنف
يمارسه بشر أو وحش على آدميين أبرياء . من أبرز ما شوهد من أفلام في هذا
النطاق “باكجوي” للكوري تشان ووك بارك، و”نشاط غرائبي” للأمريكي أورن بَلي،
و”الميتم” للإسباني خوام كوليت سيرا، كما “زومبيلاند” للأمريكي روبن
فلايشر الذي يمزج قدراً من الكوميديا في قصّة آكلي لحوم بشر، و”بقاء
الموتى” لسيد هذا الفصيل من أفلام الرعب (فصيل الأحياء الموتى الذين
يتعاطون أكل البشر في المستقبل القريب) جورج أ . روميرو .
وإحدى النظريات السائدة التي يتعامل معها بعض الذين يقدّرون قيمة الربط بين
سينما الرعب العنيفة وبين التاريخ الاجتماعي للبلد المنشأ هو الشعور بالذنب
من قِبل صانعي هذه السينما، كتّاباً ومخرجين، على ما فعلوه في مجتمعات
سبقتهم . البعض يقول إن الشعور الدفين بالذنب حيال ما فعله الإنسان الأبيض
بحق الهنود الحمر، مواطني القارة الأمريكية الأصليين، هو المحرّك الدفين
لهذا النوع . البعض يرجعه إلى دور الرجل الأبيض في كل حرب خاضها ضد الشعوب
الأخرى، وسمعت من ربطها بالحرب الصليبية على بلاد الشرق العربي وما ارتكبه
فيها من فظائع .
ذلك ليس دلالة مؤكّدة بل استنتاج ينتمي إلى موقف سياسي أحياناً وتخمينات
ترجّح هذا الطرح قبل أن تنتقل إلى غيره في أحيان أخرى . على ذلك، إذا ما
كان على المرء البحث عن عنصر غائب وخفي في انتشار سينما الرعب والنبش في
العقل الباطني لما يقف وراء الرغبة في التخويف قد يجد أنه هناك، في العمق
البعيد، مصادر قد تتضمّن موقف الإنسان من الإنسان الآخر ومجابهته له على
أساس من الرغبة في الاستحواذ عليه و”احتلاله” لمجرد أنه غريب عن المجموعة
التي ينتمي إليها هذا الإنسان المستحوذ . هذه الممارسة في واقعها لم تكن
تريد تخويف المستمع أو القارئ أو المشاهد (حسب وسيط البث المستخدم) بالدرجة
الأولى، والغالب أن هذا التخويف لم يكن مطروحاً كما هو اليوم كوسيلة
استهلاكية، بل كانت وصفاً لعالم هو بذاته مخيف وعنيف . بكلمات أخرى، قبل أن
تنتقل السينما من تقديم عالم من المخلوقات والوحوش الآدمية أو غير الآدمية
بهدف الإثارة، كانت تعاملت مع مفهوم أنها تنقل للمشاهد عالماً هو القائم
على العنف . طبعاً لم يكن مقبولاً تقديمه في أشكال غير مخيفة، لكن هذه
الأشكال كان عليها أن تحافظ على المصدر في الوقت ذاته بحيث إن ما تنقله هو
مصدر الرعب وليس ما تصنعه في ذلك المصدر من محاولات تخويف مباشرة .
في أفلام اليوم مثلاً، لنقل مثل فيلم “جرّني إلى الجحيم” لسام ريمي، الذي
خرج في أحد الأشهر الأخيرة من العام الفائت، يريد المخرج استخدام الصورة
والحركة التي فيها وتصميمها لإحداث مفاجأة مخيفة، لكن إذا ما فحصنا فيلم
“نوسفيراتو” المصنوع سنة 1922 بعيني المخرج الألماني ف . مورناو، فإن كل
لقطة في كل الفيلم، هي التي تبث هذا الشعور بالخوف على نحو تلقائي في صياغة
واحدة متجانسة . المشهد الذي تتوقّف فيه العربة على منتصف طريق جبلي لتلفظ
بطل الفيلم لأن سائق العربة لا يجرؤ على مواصلة الرحلة خوفاً من النتائج،
هو مخيف لاحتمالاته ولأجوائه، بقدر ما مشهد انبعاث دراكولا (أو نوسفيراتو
كما سمّاه الفيلم) من قبره داخل السفينة وصيده قبطانها وملاّحيها .
الرعب في واقعه لا يعود إلى السينما الصامتة ولا حتى للتجارب الأولى التي
صاحبتها في ثمانينات القرن التاسع عشر، بل يمكن سبر غورها بعيداً لما قبل
الميلاد . إلى “ملحمة جيلجامش” قبل نحو ألفي سنة قبل الميلاد حيث ينبري
الإنسان لمقارعة وحوش من عوالم بعيدة، وهي تطل برأسها في أعمال هومر ودانتي
ولاحقاً أعمال الأديب والشاعر البريطاني كريستوفر مارلو . والخيط الواحد
المتواصل من تلك الحقب البعيدة الأولى والى اليوم، هو فقدان ثقة الإنسان
بنفسه وعالمه وحتى روحانيّاته ما يتيح الفرصة لنشوب الصراع بينه وبين كل ما
عداه، وهو صراع قد ينطلق من مفهوم أن الإنسان الواحد يحتوي في ذاته على
الخير والشر معاً . وهذا العامل يبرز إلى العلن في الكلاسيكيات الأربعة
الأشهر: “فرانكنشتاين” و”دراكولا” و”الرجل الذئب” و”دكتور جايكل ومستر
هايد”، وهذان الأخيران يتعاملان مع صراع الإنسان مع ذاته كونه مسرحاً
لمعركة الخير والشر في الذات الواحدة .
أفضل أفلام الرعب في التاريخ، “نوسفيراتو” لمورناو و”سايكو” لألفرد هيتشكوك
و”كينج كونج” لمريان كوبر وإرنست شودساك و”عروس فرنكنستاين” لجيمس وال
و”امباير” لكارل تيودور دراير و”البريق” لستانلي كوبريك تتعامل، وهذه
الصراعات حتى ولو وجدت صورة فيزيائية لما هو ميتافيزيائي . صورة تجسّد
العدو في صورة وحش أو روح أو ظاهرة أو حتى في صورة إنسان آخر .
سيناريوهات نهاية السينما
العربية
على الرغم من الزخم والنشاط والمهرجانات، فإن نظرة ممعنة في واقع السينما
العربية تشير إلى أن احتمالات استمرارها أقل من احتمالات توقّفها في وقت
ليس ببعيد .
السيناريو الأول: السينما المصرية ستواصل محاولاتها لتقليد الأفلام
الأمريكية من دون أن تحقق أهدافها.
العديد من أفلام اليوم المنتجة في إطار السينما المصرية، من كوميديات
وبوليسيات وأفلام أكشن ورعب، تحاول الانتماء إلى نظام سينما النوع
الهوليوودية على أساس أن نجاحها في العالم العربي مبرر كاف لصنع أفلام
عربية تشبهها . وبعض هذه الأفلام (“مجنون أميرة” أو “شبه منحرف” أو “طبّاخ
الريس”) له مراجعه في الأفلام الأمريكية، إن لم يكن نقل المسطرة فبالإيحاء
تأكيداً . المشكلة هي أن الجمهور دائماً ما يفضّل الأصل على النسخة
“الكربون” والإقبال على “صراع الجبابرة” أو “أفاتار” أو “المومياء” سيبقى
أقوى وأكثر إقناعاً، ليس في مصر فقط، بل في الأسواق العربية التي ما عاد
الإقبال على الفيلم المصري فيها يشكل نسبة مرتفعة . وإذا أضفنا إلى ذلك
نجاح سينما الأبعاد الثلاثة التي ليست لدى أي سينما عربية القدرة على
تطبيقها، فإن البعد التجاري للسينما المصرية يبدو محدوداً أكثر مما هو عليه
الآن .
السيناريو الثاني: ظاهرة السينما الخليجية ستنحسر عن صعوبات استمرارها .
على نحو علمي وحسابي وبالتالي منطقي بعيد، كما في السيناريو الأول، عن أي
عاطفة في أي اتجاه، فإن الأفلام التي تنتجها دول الخليج العربي، بجهود
ذاتية وخاصّة ومستقلّة، ستجد نفسها بلا مَعين تجاري يمكن ضمان استمراريّتها
. الأفلام الكويتية والإماراتية والسعودية واليمنية والبحرينية التي عرضت
على شاشات المهرجانات وأحياناً في بعض الصالات السينمائية على نحو محدود،
لم تنجز نجاحات تجارية وذلك لغياب السوق الذي هو الدعم الرئيسي لأي سينما
في أي مكان . هذا ينطبق على عدد من الأفلام، بصرف النظر عن مستوى جودتها
مثل “الدونجوانة” للكويتي فيصل شمس و”الدائرة” للإماراتي نواف الجناحي،
والفيلم السعودي “القرية المنسية” لعبدالله أبو طالب، والبحريني “أربع
بنات” لحسين عباس الحليبي والعديد سواها .
أيضاً في هذا السيناريو يكمن مصير بضعة أفلام حاولت التغلب على محدودية
السوق المحلّي بتكوين مواضيع مصاغة بمعالجات غربية، كما الحال في “دار
الحي” للإماراتي على مصطفى، فهي لن تقوى على النجاح في الأسواق العالمية
كبديل، ولا هي تتمتّع بسوق محلّية تجعلها قادرة على الاستغناء عن تلك
الأسواق، خصوصاً حين ترتفع ميزانيّاتها .
السيناريو الثالث: السينمات العربية تواصل الزحف غرباً، لكن الغرب سيتوقّف
.
ستستمر محاولات المخرجين العرب الذين كوّنوا علاقة في السنوات العشر
الأخيرة للاستحواذ على تمويل من مؤسسات أوروبية، بلجيكية وفرنسية وهولندية
وألمانية وبريطانية في الأساس، وبعض هذه المحاولات ستنجح بلا ريب، خصوصاً
إذا ما كان لديها ما تقوله في الوضع الفلسطيني أو في وضع سياسي آخر، لكن
على نطاق واسع، فإن كل شيء كان رهينة بالنجاح الجماهيري الغربي وهذا انحسر
بالتدريج عن معظم الإنتاجات اللبنانية والمصرية والفلسطينية والتونسية
والمغربية والجزائرية التي سعت للارتباط بالممول الأجنبي ما يجعل احتمال
استمرار هذا الدعم على نحو غير محسوب أمراً غير متوقّع .
إنها ثلاثة سيناريوهات رئيسية بلا مجاملات، وهناك أخرى من نفس النوع وكلّها
ترسم صورة داكنة للمستقبل القريب وتشير في النهاية إلى وضع مفقود في الأساس
ما يجعل هذه السيناريوهات قابلة للتطبيق، وبل إن بعضها مطبّق بالفعل: هذا
الوضع المفقود هو: غياب كلّي لخطّة سينمائية عربية على صعيد قومي كما على
صعيد وطني منفصل . خطّة تأخذ في الاعتبار توفير شروط الاستمرار التي من
بينها: خلق السوق الواحدة، وحماية العمل السينمائي مهنياً وتحريره رقابياً
والعودة إلى زمن كانت السينما فيه السبيل الصحيح لتطوّر الفكر العربي
السليم .
علامات
المُخرِج الخليجي
العالم الحالي يختلف عن العالم الذي عاشه صانعو السينما (ولا أقول صُنّاع
لأن المفهوم مختلف تماماً) في السنوات الغابرة حين كانت السينما محض فعل
تجريب قائم على التعبير بالصورة والبحث عن أساليب ولغات بعيداً عن
التأثيرات المباشرة وغير المباشرة للتنكولوجيا ووسائط البث والترفيه
المختلفة . معظم السينمائيين الكبار لم يدخلوا مدرسة تعليم سينما ولا ليوم
واحد . لم ينخرطوا في معهد أو يعملوا في ما يُسمّى اليوم “ورش سينمائية”،
ولا هم حملوا كاميرات رقمية، وأنجزوا أفلامهم بها وسارعوا لإطلاق كلمة
مخرج، وغضب إذا لم يعتبره الآخرون في مقام كبار المخرجين .
وإذ يأتي مهرجان الخليج السينمائي الجديد للفرز بين المتسابقين على جوائزه
وللاحتفال بهم وبالسينما الخليجية عموماً، يبدو المشهد دقيقاً من حيث إن
المرء لا يستطيع أن ينفي أهمية اعتماد الأدوات السهلة، نسبياً، التي
يعتمدها مخرجو اليوم كالتوليف على الكمبيوتر والتصوير بالكاميرا الرقمية .
في غياب صناعة حقيقية، لابد لهذه المواهب أن تترجم نواياها وحبّها للسينما
إلى أفعال والترجمة الوحيدة المتاحة هي عبر هذه الأدوات بلا ريب .
الخطر ليس تكنولوجياً بالدرجة الأولى . الخطر الذي سريعاً ما قد يستولي على
المخرج الجديد هو الجهل أولاً وبدرجة غالبة . ذلك لأنه إذا سعيت لاستفتاء
طرحت فيه أسئلة محددة حول تاريخ السينما ومخرجيها ومفاهيمها ونظرياتها
حرفتها الحقيقية وتعدد قواعدها وأساليبها لوجدت أن حفنة من بين هذه العشرات
تعرف شيئاً عن هذه الجوانب . الأكثر فداحة أن مفهوم الإخراج ونظرياته
وأساليبه غائبة تماماً عن معرفة العديد من هؤلاء الذين يسارعون بتسمية
أنفسهم مخرجين . ولعل الكثر من المثقّفين والمتابعين يتساءلون اليوم عن
ظاهرتين متوازيتين: كل من أمسك الكاميرا وصوّر فيلماً، أطلق على نفسه كلمة
مخرج، وكل من شاهد فيلماً وكتب عنه أطلق على نفسه صفة ناقد . والصفتان لهما
شروط صعبة جدّاً ما يجعل أي استسهال في التسمية باباً مفتوحاً أمام الفوضى
وقلّة تقدير الرأي العام بأصحابهما .
لا يمكن إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، لكن يمكن التعلّم من التاريخ وأحد
تلك العلوم هي مراجعة سينمات مضت ومشاهدة أفلام العمالقة الحقيقيين، وهذه
مُتاحة على الأسطوانات في أي وقت هذه الأيام ولم يعد هناك مجال للتحجج بأن
أفلاماً لأورسن وَلز وأكيرا كوروساوا وجان لوك غودار وصلاح أبوسيف وأندريه
تاركوسكي ولوي بونويل وعشرات سواهم لا يمكن مشاهدتها لأنها غير معروضة .
الوضع اليوم هو أن هناك حركة سينمائية من مهرجانات وندوات وإنتاجات، لكني
أخشى أنها ليست حركة لخلق سينما بل حركة تأتي على حسابها معتقدة أنها
تستطيع الانطلاق من القمّة وليس من القاعدة والتاريخ والمعرفة . هذا ما
يجعل استمرارية العديد من الأسماء العاملة في الأفلام ذات التمويل والصنع
الخليجي أمر مشكوك فيه أساساً . المتواجدون يحاولون اليوم النفاذ للبقاء في
الساحة، لكن النفاذ للبقاء للمستقبل هو ما يجب أن ينشغلوا به قبل سواه،
وهذا عليه أن يستمد الكثير من معطياته من المعرفة بالسينما وليس بالعلاقات
العامّة القائمة حالياً .
م .ر
merci4404@earthlink.net
http://shadowsandphantoms.blogspot.com
الخليج الإماراتية في
11/04/2010 |