حين يقترح ف.ل فوستر (ستيف كارَل) على زوجته كلير (تينا فاي) الذهاب الى
واحد من أغلى مطاعم مدينة مانهاتن، تقابل زوجته ذلك الاقتراح بترحاب، ولو
ببعض التردد، ذلك لأنها مثله تدرك أن الحياة الزوجية جعلتهما مثل عقربي
الساعة: يدوران طوال الوقت من دون جديد.
هو محام وهي تشتغل في العقارات. تزوّجا منذ خمس او ست سنوات، ولديهما
ولدان، وليس هناك من شيء آخر يشغلهما. يحبّان بعضهما البعض، لكن هذا الحب
ما عاد عاطفة مشتعلة، والسرير بات مأوى للنوم فقط. نعم يذهبان الى المطاعم
القريبة، ويمضيان الوقت في مراقبة الزبائن الآخرين، لكن هذا هو منتهى
الإثارة التي بقيت لهما.
حين تسمع كلير حكايات زوجات أخريات حول مرور علاقاتهن الزوجية في نفق
الضجر، تدرك أن هذا ما يبدو حاصلاً وأن الطلاق ربما بات على الباب. الشيء
نفسه بالنسبة إليه: ها هو يستمع الى صديقه (مارك روفالو في دور قصير) وهو
يبدي سعادته بأنه اتفق وزوجته على الطلاق. معاً يدرك ف.ل وكلير أن السبيل
الوحيد لإبقاء شمعة العلاقة مشتعلة هو «تغيير الجو». ها هو ف.ل يقترح على
زوجته المطعم الغالي بعدما قامت، بدورها، باستقباله حال عودته الى العمل
بفستان جديد «لكن المطعم لا يستقبل زبائن من دون حجز»، تقول له فيجيب أنه
واثق من أنهما سيدخلانه هذه الليلة.
انتحال شخصيتين
المربية في البيت، السيارة على الطريق، المدينة تبدو جميلة بلقطة ليلية
طائرة، ثم ها هما يقفان عند المدخل يستقبلهما موظّف مخنّث وفظ، يخبرهما أن
زبائن المطعم يحجزون قبل أشهر وأنه لا أمل لهما في مكان.. لكن هناك سيناريو
يجب أن يطبق ويقضي بأن يدخلا المطعم. على أي حال سيدعوهما الى «البار»
للانتظار إذا كان هناك أي تعديل.
بعد لحظات تمر نادلة لا تقل عن الأول فظاظة. تنادي على زوجين من آل
تريبلهورن. حين لا يُجيبان لأنهما لم ينتظرا على ما يبدو، تخطر لف.ل فكرة
ويرفع يده ويقول «نحن تريبلهورن»، بذلك يحقق الزوجان حلم الموعد الليلي
الذي سينقذ زواجهما من نهاية مبكرة.
ها هما يتناولان الطعام والسعادة تملأهما، الى أن يتقدّم منهما رجلان (أبيض
وأسود) ويطلبان منهما تسليم برنامج مسجّل على مفتاح كمبيوتر معتقدين أنهما
تريبلهورن. المقصود هنا هو أن لجوءهما الى تقمّص شخصيّتين غريبتين كان
مفتاحا لأحداث جسيمة.
مطاردات ونهاية سعيدة
حين يحاولان تأكيد أنهما ليسا تريبلهورن ويسردان كيف سمحا لنفسيهما تقمّص
الشخصية، فإن رد الشريرين هو التهديد بالقتل الا إذا سلّما ما يعتقدان بأن
الزوجين يملكانه. تحت الحاجة لابتكار شيء ما، يخبرهما الزوج أنه خبّا
المفتاح في السنترال بارك، لكنه يفلت وزوجته من الشريرين بعد مطاردة أولى،
تليها مطاردات عدّة. طوال الفيلم يظهر فيها الزوجان تعاضداً وتضامناً
كفيلين بإنقاذ زواجهما إذا ما بقيا حيين وانتهت أزمتهما على خير. وأنت تعرف
انهما سيبقيان حيين، فالتركيبة لا يمكن الا أن تكون كذلك.
النهاية سعيدة بصرف النظر عن الأزمات والمخاطر والمطاردات. المخرج وكاتبه
وهوليوود كلها تعرف أنك تعرف أنهما سيبقيان حيين في نهاية الفيلم. لذلك يضع
الجميع الثقل على ما يحدث في تلك الليلة العصيبة. ما ليس في الحسبان أن
المخاطر تبدو مخاطر لأن الفيلم يصفها بذلك، أما الحس المتنامي لدى المشاهد،
فهو أن ما يدور مثير للمتابعة من دون أن يملك أي جديد على سيل من الأفلام
ذات المشاهد المماثلة.
الشريران المذكوران هما من رجال البوليس، وهما فاسدان يعملان لحساب شخصيات
فاسدة (أحاول أن أبقي التفاصيل طي الكتمان حتى لا أفسد متعة المشاهدة)
والضابطة المسؤولة ليست فاسدة، لكن لا شخصية لها. أعطاها المخرج بضع أسطر
هنا وهناك تنتهي دائماً بالنظر الى شريكها في التحقيق، كما لو أنها تسأله
ما إذا كان هذا كل شيء يستطيعان القيام به.
ثقوب كثيرة
وهناك شخصيات أخرى إما سيئة او سيئة جدّاً او لا شخصية حقيقية لها مثل
الشخصية التي يؤديها مارك وولبرغ. ذلك الرجل الذي يملك مفاتيح من شأنها
مساعدة الزوجين على النجاة والذي يصر على أن يظهر أمامهما من دون قميص.
يُحسن الفيلم هنا استغلال مسألة القميص، وبعض المؤشرات الأخرى، لإثارة غيرة
الزوج على زوجته التي تبدو كما لو أنها سقطت تحت سحر تلك العضلات والنظرات
التي تعلوها. لكن هذا ليس سوى مناسبة شبه يتيمة، او واحدة من مناسبات قليلة
ومتباعدة ينجح الفيلم عبرها في التقاط ثنايا العلاقة بين الزوجين منطقياً
وهزلياً في الوقت نفسه.
لكن الفيلم من مطلعه الى نهايته مليء بالثقوب التي تنال من المنطق حتى في
حدوده الضيّقة. الأحداث تجري على النسق المختار لها، سواء أكانت هناك
احتمالات أخرى لكل واقعة أم لا. مثلاً، لماذا لا يتمكّن المجرمان مطلقاً من
إعادة القبض عليهما؟ ولماذا لا يكتشف البوليس أن شرطييهما الفاسدين
متورّطان فيما يدور؟ ثم ما هي هذه العقدة التي من أجلها سيتم تعريض حياة
عديدين للخطر بحثاً عن معلومات ليست بتلك الخطورة (رغم الادّعاء بأنها
كذلك)؟
ضد المدينة
هذه الاسئلة مجازة، لكن إذا قررت أن تمر عليها من دون توقّف فإن الفيلم قد
يُثير ضحكك هنا وحماسك هناك، لكنه سيبقى عملاً عابراً ترميه وراء ظهرك حال
انتهائه. ما هو أكثر أهمية من تلك الاسئلة يكمن في المعاني التي يكتنزها
الفيلم.. معان غير بريئة تمر ضمن خطوط سبق لأفلام أخرى أن شاركت في عرضها.
منذ البداية، هناك تعليق حول انهيار الحياة الزوجية في كذا عائلة. لكن
النموذج القيادي هنا (عائلة فوستر) هي عائلة ذات قيم ولن ترضى أن تنهار.
هذا جيّد وإيجابي، لكن المواقف اللاحقة تكشف عن مجموعات من الأحداث تؤمّها
مجموعة من الشخصيات التي لا علاقة لها بالوضع الزوجي المشار إليه. إنه كما
لو أن الكاتب جوش كلاوزنر لديه حساب يريد تصفيته مع الآخرين فينصرف إليه.
النادلان في ذلك المطعم ليسا سوى البداية، وحين يصفهما الفيلم بالفظاظة
وقلّة الاحترام تعتقد أنه انتقام الكاتب (والمخرج ربما) من سوء معاملة
تلقّاها في مطاعم مماثلة، لكن بعد قليل تكتشف أن العداء يشمل كل الشخصيات
الأخرى.
منظومة خفية
ليست هناك من شخصية سليمة او تماثل شخصية ف.ل وكلير نقاوة: تلك التي يؤديها
مارك روفالو على خطأ، وتلك التي يؤديها مارك وولبرغ غير أخلاقية، سائق
التاكسي الأسود شخصية غبية، الشرطيان فاسدان، الضابطة التي تتسلم التحقيق
لا شخصية لها ولا أثر، المربّية كاذبة همّها استغلال ما يحدث لكي ترفع من
أجرها. الثنائي تريبلهورن الحقيقي صعلوكان اجتماعيان. الشريران الأساسيان
(ديفيد فيتشنر وراي ليوتا) بالغا الفساد بحيث لا يصلحان الا للنهاية التي
يحصدانها.
المدينة بأسرها محكوم عليها هنا بالسلب. لا يوجد مكان واحد يلجأ إليه
الزوجان الا يبدو كما لو كان تابعاً لمنظومة شريرة تعمل في الخفاء. أقسام
بوليس عاجزة، طرق مزدحمة غير آمنة. ملاهٍ ليلية قذرة الخ...
عملية {نق}
في العام 1970 قام المخرج آرثر هيلر بتنفيذ فيلم عنوانه
The Out of Towners او ما يمكن ترجمته بـ «غريبان عن المدينة» من بطولة جاك ليمون وساندي
دنيس عن سيناريو لبول ناتان مقتبس من مسرحية لنيل سايمون. الوضع ذاته نجده
هناك، حيث هذان الزوجان الطيّبان القادمان من الريف يكتشفان أن المدينة
ليست سوى كتل من الفساد تعلو بعضها بعضاً.
ذلك الفيلم سيئ كوميدياً كعادة الاقتباسات التي تمّت عن مسرحيات نيل سايمون،
ولأسباب كثيرة، وأهمّها أنه أشبه بعملية «نق» مدّتها ساعتين وملؤها شخصيات
غير سعيدة لديها شكوى حيال كل شيء. هذا الفيلم أفضل منها على هذا الصعيد،
لأنه بلا «نق»، لكنه لا يزال يجد سلبيات في كل من هو خارج نطاق هذين
الزوجين.
الفيلم الجديد يستخدم أسماء أعضاء بشرية على نحو فظ بدوره كما لو كانت
«اكتشافات» جديدة لم يسبقه إليها أي فيلم سابق، يرددها بطلاقة مراهق يريد
إثبات مداركه. بعض المشاهد تؤدي الى نوايا ضحك، الا أنها نوايا بلا وقود
كاف لاستكمالها، فتتحوّل الضحكة الى نصف قهقهة او تنزلق على الأوتار
الصوتية بلا أثر.
شون ليي كان أخرج «ليلة في المتحف» و«ليلة في المتحف 2»: فيلمان رديئان
لكنهما ناجحان تجارياً. هذا الفيلم أفضل بقليل على مستوى التنفيذ، لكنه في
النهاية يتعثر بحباله وتفر من ثقوبه المسببات والمبررات وفي مقدّمتها
مصداقية الفيلم بأسره.
بطاقة الفيلم
• الفيلم: موعد ليلي
Date Night
• إخراج: شون ليي
• أدوار أولى: تينا فاي، ستيف كارَل
• النوع: كوميدي أكشن
الولايات المتحدة - 2010
أوراق ناقد
حالات التعميم
بعض الأسباب الكامنة في أن هناك جهلاً متفشيّاً بين العديد من العاملين في
السينما، يكمن في أنه، وتبعاً لتقاليد او ظروف اجتماعية او سياسية، اعتاد
البعض الوصول الى درجات اليقين قبل أن يستكمل ضروريات العلم بالشيء. وهو
يرتاح لهذا اليقين او تلك القناعة لأنها تعفيه عن المتابعة وعن التوسّع في
الموضوع الذي بنى فيه قناعته تلك.
مثلاً، هناك من يعتقد أنه لا أمل في كل سينمائيي الخليج. كيف عرف ذلك؟
آخر يؤكد أن كل أفلام التي تم إنتاجها عن العراق تدخل في نطاق الدعاية
السياسية لأميركا. كيف وصل الى هذا الاستنتاج؟
آخر يؤكد أن أفلام الوسترن لا تنطلق الا من المفهوم العنصري المعادي
للشعوب، وأن بطلها رمز للعنجهية الأميركية. لكن هناك عشرات الأفلام التي
تنتقد هذا المفهوم وتدافع عن الهنود الحمر فماذا عنها؟
وآخر يقول ان الجوائز الممنوحة في المناسبات الدولية مفبركة وتخدم مصالح.
هل لديه ما يثبت ذلك وماذا عن الأفلام العديدة التي فازت وكانت تستحق
الفوز؟
حالات التعميم لا تنتهي، وهي في أصغر الشؤون وأكبرها، وعادة ما تأتي مصحوبة
بمحاولة الإيحاء بأن المتحدّث يملك الحقيقة من دون أن يعتريه أي تردد فيما
يقوله. وأخيراً لفت نظري أحد الأصدقاء الى تصريح أدلى به صحافي سينمائي
لإحدى المواقع العربية قال فيه إنه لا يوجد نقاد سينمائيون عرب، وبالتالي
لا وجود للنقد السينمائي العربي.
الآن، هذا وضع مختلف قليلاً، فالقائل لا يعمّم فقط، بل ينفي وجود نقد
سينمائي عربي، بالتالي يطيح بمن مارس هذا النقد منذ عقود، وهم كُثر في مصر
ولبنان والكويت والإمارات والمغرب وتونس والجزائر والأردن، وفي كل بقعة
عربية. ينفي، من دون أن يسمّي، كمال رمزي ومحسن وافي وعماد النويري ونديم
جرجورة وهويك حبشيان والطاهر الشريعة وعدنان مدانات وزياد عبدالله وخميّس
الخياطي وكاتب هذه الكلمات وعدد كبير آخر. ربما هم ليسوا متساوون بالمعيار
الدقيق للأمور، والمؤكد أنهم ليسوا متشابهين في الاهتمامات والأساليب،
لكنهم، وغيرهم، نقاد سينما حقيقيون. هذا ليس رأياً بل واقعاً.
أولى المشاكل ذكرناها وهي أن البعض مستعد للتعميم استسهالاً، لكن المشكلة
الثانية لا تقل أهميّة: النفي من باب أنه العلم بالشيء وعلى وزن من قد
يقول: لا صحافة متقدّمة في العالم العربي، او لا وجود للسينما العربية. او
القول إنه لا وجود لمخرجين جيدين في هذه السينما او تلك.
قبل أسابيع حين كتبت ورقة من هذه الأوراق حول التلفزيونات العربية، وكيف أن
اسهاماتها في الثقافات محدود او معدوم، حرصت على أن أذكر أن هذا ينطبق على
العديد، واستخدمت كلمة «الغالبية» وغالبية مشاهدي ومتابعي المحطّات
التلفزيونية المختلفة أعتقد يستطيعون التأكيد على ذلك. لكن كيف تؤكد على
عدم وجود نقاد سينما عرب؟
وإذا كان ذلك صحيحاً فلماذا يسمّي القائل نفسه اليوم بالناقد السينمائي؟
وإذا كان هذا صحيحاً لمَ نشهد إقبالا واسع الأطراف من ق.بل القراء على
قراءة النقد والكتابات الثقافية في السينما؟
إننا لا نقبل من الأجنبي أن يقول ان كله عند العرب صابون، لكننا مستعدون،
ولسبب غريب له علاقة بالتنشئة على ما يبدو ثم بالظروف القاسية التي يعيشها
الواحد منا هذه الأيام، لأن نعمم بدورنا. نرفض أن يصفنا الغربي بتعميم
يسوقه مغمّضاً وتبعاً لمفاهيم عنصرية سائدة، لكننا نقبل أن نمارس هذا
التعميم عليه وعلينا.
القبس الكويتية في
21/04/2010 |