شهد مهرجان "كان" المنقضي مؤخراً، عدداً ملحوظاً من
الأفلام التي تدور على نحو مباشر أو غير مباشر، حول العالم
العربي فذهب بعضها إلى
التاريخ، كما الحال في "روبِن هود" ولو في إطار عبارة حوار واحدة ليحدد
موقفه
المعارض للحرب الصليبية وكما الحال في فيلم جان- لوك غودار "اشتراكية فيلم"
مستعرضاً بطريقته الخاصّة القضيّة العادلة للحق الفلسطيني المسلوب، وبعضها
بقي في
إطار الحاضر كما فيلم كن لوتش الجديد " طريق أيرلندية" وفيلم
دوغ ليمان "لعبة
عادلة".
من ناحيته، فإن "لعبة
عادلة"
للأميركي دوغ ليمان يبدو، للغرابة، أفضل شأناً من فيلم الفنان البريطاني كن
لوتش
لسبب وجيه: أراد أن يكون تشويقياً سياسياً ونجح في ذلك. المخرج
ليمان ليس له باع
طويل في السياسة، لكنه يبرهن هنا على أنه يستطيع أن يهضمها ويعرف كيف
يتولّى مزجها
في ثنايا موضوعه. هذا الموضوع ليس تحليلاً سياسياً، لكن السياسة في صلب ما
يدور
وصلب موقف الفيلم حيال ما يعرضه.
الفيلم مأخوذ عن وقائع حقيقية حدثت مباشرة بعد
الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 حينما قررت الإدارة الأميركية المضي
قُدُماً في
خططها غزو العراق وبدأت تبحث عن المبررات الكفيلة بمنحها "كارت بلانش"
اخلاقي
وسياسي لكي تفعل ذلك. وهي وجدت بضعة مبررات بعضها الغالب افتراءات لم يكن
لها نصيب
من الصحة من بينها قضية عميلة السي آي أيه فاليري بلام ولسون
(ناوومي ووتس) وزوجها
السفير السابق جو ولسون.
وهي كانت بصدد استخدام فتاة أميركية من أصل عراقي
(ليزاز
شارهي) لإقناع أخيها حامد (خالد النبوي) بالكشف عما يمكن كشفه من أسرار
العراق النووية مقابل تأمين هروبه من العراق وذلك سنة 2003 أي قبيل قصفها
واحتلالها
من قِبل الجيش الأميركي0
في الوقت نفسه كان زوجها جو ولسون (شون بن) في النيجر
يقابل مسؤولين ويكتشف أن أحداً لم يبع النظام العراقي آنذاك
اسطوانات نووية (سمّيت
حينها بالكعكة الصفراء) كما زعمت الإدارة الأميركية حينها بالتالي فإن هذه
التهمة
ليست صحيحة. جو عاد إلى الولايات المتحدة وأصر على كشف الحقيقة متّهما
الإدارة
بالتلاعب وإعداد العدّة لضرب العراق بصرف النظر عن عدم وجود ما
تدّعي وجوده من قوى
نووية. صوته يصل إلى واشنطن التي تنتقم منه بكشف الغطاء عن عمل زوجته معرضة
حياتها
وحياة المتّصلين بها إلى الخطر بمن في ذلك حمد الذي كان وافق على التعاون
مقابل
نقله إلى خارج الوطن والآن بات عليه تعريض حياته وعائلته إلى
الخطر ببقائه في جوار
النظام السابق الذي قد يكتشف ما فعل في أي لحظة.
بعد ذلك، ينتقل الفيلم إلى العلاقة الأسرية التي
اضطربت إلى حد التوتّر بين الرجل وزوجته. هو مصرّ على كشف الحقيقة وهي
تدعوه لأن
يكف عن إثارة المشاكل. مع إصراره ترك البيت مع ولديهما وتعيش لحين وجيز في
بيت
والديها حيث تدرك أن ما يقوم به زوجها هو الصواب بعينه.
هذا
عمل يحتاج إلى
التأييد من قِبل الجمهور بعد فشل الأفلام الأميركية التي تناولت الحرب
العراقية.
ففيلم ليمان لا يحتاج أن يتوقّف مليّاً أمام التحليل السياسي، فالقصّة حبلى
بالمواقف التي لا ضرورة معها لأي تحليل. عالمه مستوحى من تلك
الأفلام المشابهة التي
خرجت مباشرة بعد فضيحة ووترغيت وبإيحاء منها.
هو أيضاً فيلم نموذجي لشون بن الذي
لا يختلف موقفه من سياسة واشنطن
عن سياسته الشخصية التي يؤديها هنا.
من ناحية
أخرى، هذا هو أفضل فيلم موّلته المؤسسة الإماراتية إيماجنايشن (مركزها أبو
ظبي)
بالكامل تقريباً (اقتربت الميزانية من مئة مليون دولار) من بعد ثلاثة أفلام
رديئة
الشكل والمضمون وفاشلة تجارياً موّلتها الشركة في العام الماضي وهي تباعاً"
"قصيرة"
الولادي، و"المخبولون" المنتمي إلى سينما الرعب و"انتقام فروي" المفترض به
أن يكون
كوميدياً.
"طريق
أيرلندية".. على أرض عراقة
سيناريو بول لافرتي "طريق
أيرلندية"
وهو سبق له وأن كتب عدّة أعمال للمخرج
كن
لوتش،
يتحدّث عن مؤسسة أمن بريطانية تورد رجالها إلى حيث تكمن الحروب
وما الذي يحدث عندما تعود جثّة صديق لبطل الفيلم فرغيس (مارك ووماك)
فيصدمه ذلك إذ
أن الفقيد كان من أعز أصدقائه ومن أجله يقتحم الكنيسة ليلاً ويكسر التابوت
لينظر
إلى وجه صديقه للمرّة الأخيرة. لا نرى ذلك الوجه لكننا نفهم أن
الجثّة مزّقت
بالرصاص وهو أمر يزيد بطل الفيلم إصراراً على التحقيق الفردي حول حقيقة ما
حدث.
العنوان يرمز إلى طريق تمتد في بغداد لا يقول لنا
الفيلم ماذا كان أسمها قبل الاحتلال، لكن القوّات الغربية تسمّيها ببساطة
"طريق
أيرلندية" وتصفها بأنها أخطر طريق في العالم، وهي الطريق الذي -حسب رواية
المؤسسة
التي يعمل بطل الفيلم فيرغيس لحسابها- نصب المقاومون العراقيون كميناً
وقتلوا
صديقه وذلك انتقاماً لقيام صديقه بقتل شخصيات بريئة.
لكن فرغس غير راض عن هذه
الرواية ولن يأخذ بها خصوصاً بعدما استحوذ على هاتف نقّال صوّر الحادثة
التي قتلت
فيها القوات الأمنية، التابعة لتلك المؤسسة الخاصّة، مواطنين
أبرياء في سيارة تاكسي
وكيف احتج صديقه على ذلك ما استوجب تصفيته قبل كشف الحقيقة. يبدأ فيرغس
بحثاً عن
الحقائق من تلك النقطة وحتى نهاية الفيلم. وكلّما مضى أبعد قليلاً في
تحقيقاته
تبيّن أن المسألة لها علاقة بمحاولة التستّر على المذبحة حتى
لا تضطر المؤسسة
للدفاع عن سمعتها وتخسر ملايين الدولارات على شكل مهام أمنية مستقبلية.
الموضوع يمشي بوحي من المؤسسة الأمنية الأميركية
التي طالتها فضيحة مماثلة قبل بضعة أعوام والتي لا تزال رغم ذلك تعمل داخل
العراق
متمتّعة، حسب وصف الفيلم، بحرية عمل تفوق تلك التي للجنود البريطانيين أو
الأميركيين أنفسهم. الفيلم بذلك يصبح مناسبة للنيل منها كما من
الحرب على العراق
بكاملها وهذا ليس عجيباً أو غريباً من المخرج اليساري المعارض لوتش.
المشكلة هي
أن الفيلم يصلح لأن يكون مادّة فيلم جماهيري وقع بين يدي مخرج غير جماهيري
(ولو أن
له أتباع متخصصون) فصنع منه فيلماً ينتمي إليه كأسلوب ما سيحد
من ترويجه. فهذا
الفيلم ينتمي كاملاً إلى لوتش الذي عهدناه في أفلامه السابقة حين يأتي
الأمر إلى
المعالجة وأسلوب العمل بأسره، لكنه بعيدٌ عنه بفراسخ بحرية كثيرة حين يأتي
الأمر
إلى الموضوع، كما لو أن لوتش قرر ذات مرّة الذهاب إلى مدينة
الملاهي مرتدياً ثياب
السهرة.
الفيلم
في هذا الشأن يبلغ نقاطاً منخفضة تجعله يبدو كما لو أنه قصّة
بوليسية لشخصيات معهودة في هذا الإطار تحاول أن تجد الحقيقة بين طيّات
الأكاذيب
لكن على الرغم من أن المادة تسير على سكتي حديد سارت عليهما أفلام
التحقيقات
البوليسية السابقة (مع اختلاف المضامين بالطبع) فإن المخرج واع لأن يكسر
الإثارة
ويحد منها حتى لا ينجرف الفيلم في دروبها على نحو هوليوودي
كامل. هنا تبرز مشكلة
أخرى لها علاقة بالسيناريو وتغاضي المخرج عن حلّها: المشاهِدُ يبقى
متقدّماً على
الأحداث طوال الوقت إلى حد أنه حين تتساءل زوجة الرجل المفقود حول احتمال
أن تكون
المؤسسة ذاتها هي التي "صفّت" رجلها، يكون المشاهد قد كوّن هذه
الفكرة قبل نحو ساعة
كاملة. هذا يكشف عن أن السيناريو كان بحاجة إلى أحداث موازية تتيح قدراً
أكبر من
الافتراضات. ولا يساعد الفيلم واقع أنه يعتمد على عدد محدود من الأماكن
بحيث يصبح
التنقّل بينها أقرب إلى مط ما هو معروف من البداية بانتظار
المرحلة المتطوّرة
اللاحقة من هذه الأحداث.
الجزيرة الوثائقية في
30/05/2010 |