يحاول الفيلم السوريّ «نصف ملغ نيكوتين» للمخرج محمّد عبد العزيز،
مقاربة بعض الموضوعات التي تُعدّ
خطوطاً حمراء، تتقاطع في خطوط دراميّة لتعرض جوانب من سيَر
الشخصيّات المقدَّمة.
يستهلّ الفيلم بمشهد فتاة صغيرة تبيع البالونات، وصبيّ صغير يسألها عن سعر
البالونة، يعمل بدوره في تلميع الأحذية بالقرب من جدار المتحف الوطنيّ في
دمشق. ثمّ
تتصاعد وتيرة العمل، الذي يقدّم قصّة حبّ تنشأ بين كمال (حسن
سليمان)، وهو شابّ
مسيحيّ، وأروى (رهام عزيز)، وهي فتاة مسلمة، ابنة إمام الجامع الكفيف (عبد
الفتّاح
مزيّن)، تكون منقّبة طيلة مدّة الفيلم، يعشقها الشاب بعد أن تصطنع أعذاراً
لتلفت
انتباهه، ولا تكشف له عن وجهها، إلاّ بشروطها الخاصّة. تخبر
والدها بقصّتها مع
الشابّ، يترك لها والدها حرّيّة الرأي والقرار والاختيار، وفي الوقت نفسه
يتقرّب
الشابّ من الشيخ، يذهب ويجيء معه إلى الجامع، يمسك بيده، يقوده، يستفيد من
عبَره
وحكمته، يتناقش معه في بعض الأمور، يستقي من خبرته، يتفاجأ حين
يخبره الشيخ بمعرفته
بقصّة الحبّ التي نشأت بينه وبين ابنته، يصارحه الشابّ أيضاً، يفتح له
قلبه، ثمّ
يسأله عدّة أسئلة عن ماضيه، حيث سمع بأنّه كان فنّاناً بارعاً، وأنّه هو
مَن أعمى
نفسه. يحكي الشيخ قصّته بالدقّة والتفصيل للشابّ، يبوح له
بفلسفته في الحياة، يسرد
له حكايته الغريبة التي أعمى بسببها نفسه، يخبره بأنّه يفضّل البصيرة على
البصر،
وأنّه يستحيل الاستدلال إلى الله إلاّ من خلال القلب والعقل معاً.
قصص
بموازاة قصّة الشيخ وابنته مع الشابّ المسيحيّ، تحضر قصص أخرى، منها قصّة
السائق (خالد تاجا)، الذي يحاول الانتحار طيلة عقدٍ كامل،
لكنّه يجبن عن تنفيذه، لا
يعدم في كلّ مرّة اختلاق عذر لتأجيله، يروي أثناء ذلك أسباب إقدامه على
الانتحار،
حيث كان يعمل سائقاً على خطّ بيروت ـ الشام، وكانت له ابنة وحيدة، ولأسباب
مرضيّة
استعان بالأطبّاء، أجرى عدّة اختبارات، اكتشف فيها أنّه غير
قادر على الإنجاب
أبداً، اكتشف أنّ ابنته ليست من صلبه، فتجتاحه الوساوس، يسعى إلى الانتقام
من زوجته
وابنته المزعومة، يحاول قتل الطفلة لينتقم من أمّها، ويحرق قلبها أسفاً
وحسرة
عليها، لكنّه يفشل في ذلك، يخرج من سجن قاسٍ إلى سجن أكثر
قسوة، تسير طليقته (أدّت
الدور مي سكاف بجرأة وحِرَفيّة قلّ نظيرهما في السينما السوريّة الفقيرة
والمقيّدة
بقيود كثيرة، مُراضية للمتزمّتين، ومحابية لتوجّهاتهم المتحجّرة التي لا
ترتبط
بالفنّ السابع الذي يستلزم انعدام الخطوط الحمر) في طريق
الانحراف، تبدو متحسّرة
متأسّفة دوماً على «المصلحة» في الأيّام السالفة، تظهر بهيئة الساعية إلى
إرواء
شبقها، تحيط نفسها بالتفّاح، لا سيّما الأحمر منه، تملأ بَحرة بيتها به،
تقضم
التفّاح بطريقة مُغوية، كأنّها تقضم فريستها. الصبيّ الذي
تستعين به، كأنّها تغويه
وتغوي نفسها معه، هو ذاك الصغير الذي يعمل في تلميع الأحذية، يجول الشوارع
مع فرح،
التي يعمل والدها فنّيّاً في دار للسينما، تناديه المرأة إلى بيتها، تراوده
عن
نفسه، تعطيه بعض النقود ليجلب لها بعض الأغراض، ثمّ ليشتري
لنفسه ثياباً جديدة،
ويزورها مساء، تعده بأنّ تعرّفه إلى عوالم لم يتسنَّ له اكتشافها. وفي خطوة
جريئة،
بالنسبة إلى السينما السوريّة، تبدو معه في السرير، وهما ينفخان السجائر،
التي كان
الولد الصغير يحرص على تدخينها، كي تكتمل رجولته. ويكون الولد نفسه من
المهاجرين من
المحافظات الشماليّة إلى العاصمة، يبدو نموذجاً لكثير من
الأطفال الذين يتركون
الدراسة، يقعون فرائس في أيدي الآخرين الذين يتمادون في ابتزازهم بشتّى
السبل،
وتكون نهايتهم مأسويّة، لأنّ طموحاتهم الكبيرة لا تجد متنفّساً لتتحقّق في
الواقع،
الذي يضيق بهم، فيلفظهم إلى لجّة الموت الذي يتخطّفهم بطريقة
أو بأخرى.
يبدو
الفيلم صريحاً في اتّكائه على عدد من الأفلام السينمائيّة العالميّة، ولا
يخفي ذلك،
بل يقتبس مقاطع من بعض الأفلام، كفيلم «مالينا» (تمثيل مونيكا بيلوتشي)،
التي تجسّد
فيها دور امرأة متزوّجة من شابّ تحبّه، لكنّها تفجع بسوقه إلى
الخدمة الإلزاميّة
أثناء الحرب العالميّة الثانية، فتلوك الألسن سيرتها، ويتمادى الناس
المحيطون بها
بإيذائها واستغلالها. هناك فتى مراهق يعشقها بصمت، يراقبها، يتخيّل أنّه
معها،
يحاول تلبية بعض طلباتها، ثمّ تُدبَّر مكائد وتحاك مؤامرات
لإيذائها، وتحميلها
أوزاراً كبيرة، تمهيداً للانتقام منها. يتناصّ «نصف ملغ نيكوتين» مع
«مالينا» من
جهة العلاقة الناشئة بين الصبيّ والمرأة، لكن مع اختلاف في المعالجة، حيث
تترصّد
المرأة الصبيّ الذي تبادر إلى اقتناصه (في الفيلم السوري)، في
حين كان الصبيّ
يترصّد المرأة ويتخيّل نفسه معها (في الفيلم الإيطالي).
رموز
تبدو بعض
الرموز التي جيّرها الفيلم شائعة ومستهلكة، كالتفّاح الذي يرمز إلى
الغواية، والذي
كان سبباً في إخراج آدم بدفع وتحريض من حوّاء من الجنّة، وهنا يكون طعماً
للصبيّ
لاستجراره إلى جنّة النساء، وتعريفه إلى عوالمهنّ. أي يكون آدم
الصغير عالقاً في
شراكِ حوّاء ناضجة شبقة لعوب. يملأ التفّاح باحة بيت المرأة التي تتوه في
بحر من
الجوع والحسرة. كما أنّ الفيلم يبدو ساعياً إلى إرساء المصالحة أكثر من
تقديم
الواقع، أو هو استعراض لواقع مُشتهَى مُتخيَّل من جهة،
وتحديداً في علاقة الحبّ بين
ابنة الشيخ والشابّ المسيحيّ الذي يلوذ بالترهّب وسيلة للاحتفاظ بها في
قلبه،
يتنسّك باحثاً عنها أيقونة مقدّسة من بين أيقوناته؛ ومن جهة أخرى، سعي إلى
الإيلام
كما في بقيّة العلاقات المنسوجة. كما أنّ شخصيّة الشيخ تكاد تبدو شاذّة
بالنسبة إلى
هذه النوعيّة من الناس، فقد قدّم الفيلم شخصيّة منفتحة جدّاً،
لا يكاد المرء يعثر
على أشباه لها في الواقع. شخصيّة مفترضة، مبالغ في إضفاء العقلانيّة
والتصوّف
عليها، يترك لابنته الحرّيّة المطلقة، ولا يتدخّل في توجيه رأيها، لا
يحاسبها على
أيّ فعل من أفعالها، هي التي تخلع نقابها في الكنيسة، ليرسمها حبيبها الذي
وعدها
بأن يتركها بعد أن يرسم وجهها، تلبّي له طلبه، تقف في حضرته
نازعة نقابها. في هذا
المشهد، يلحظ المتابع أنّ الكاميرا تسعى إلى تقريب اللقطة في ذهن المشاهد
من تلك
اللقطة التي كان العاشق ليوناردو دي كابريو يرسم حبيبته كيت وينسليت في
فيلم
«تايتانيك»
لجيمس كاميرون. هناك لقطات مستعادة أكثر من مرّة للتركيز عليها، أو لفت
الانتباه إليها، كاللقطة التي صوّرت بالقرب من المتحف الوطنيّ في دمشق، أو
تلك التي
صوّرت البحرة والتفّاحات. أي إنّ التركيز على اللقطات تلك جاء
على حساب الحدث. غاب
الحدث، وحضرت اللقطة التي استعيض عنها لسدّ الثغرات الموجودة، لكنّها لم
تتمكّن من
تجاوز دورها السينمائيّ المفترض.
أمّا بالنسبة إلى النهايات، فإنّها تبدو
مبتورة، تشوبها اللامنطقيّة أحياناً. يختار الفيلم مصائر متباينة. لا يلتفت
إلى
الإقناع فيها، كأنّما يودّ أن تبقى السمة البارزة عدم الإقناع الناجمة عن
عدم
الواقعيّة. منها ما يكون طريفاً، كموت السائق بالتيّار
الكهربائيّ بعد أن فشل في
تنفيذ انتحاره المزعوم. ومنها ما يكون مؤلماً، ينتهي المطاف بالعاشق
متزهّداً في
محرابٍ، تشيخ المرأة المنحرفة، تبقى محتفظة بعاداتها في المكياج الفاقع
الذي
يشوّهها أكثر ممّا يفترض به أن يجمّلها، وتبقى تفّاحاتها
بيدها، وسيلة للإغواء
الفاشل، والإغراء المصطنع، لأنّ قطار الزمن تجاوزها. ثمّ تكون النهاية
المأسويّة
الأليمة، بمقتل الصبيّ زين إثر دعسه بسيّارة مسرعة، وذلك في منتصف شارعٍ
عامّ، بعد
أن ينهي رسم سمكته التي يصفها بأنّها ستكون أكبر سمكة في
العالم، ليهديها إلى
صديقته الصغيرة فرح، التي تكدّ لتؤمّن لوالدها المخمور قوته.
ألغام
تتبدّى
بجلاء محاولة «نصف ملغ نيكوتين» السير في حقول الألغام، من دون أن يزيل
الموقّت عن
أيٍّ منها. كما أنّه يحرص على التوافقيّة في بعض المسائل
المستعصية، ويترك العنان
للأسى، كي يتعاظم بالنسبة إلى الشخصيّات التي يختار لها ميتاتٍ متنوّعة،
لينهي أيّ
امتداد محتمَل في الواقع. ربّما يكون النيكوتين الذي يخلّف الإدمان ويتسبّب
به، هو
صلة الوصل والفصل نفسها بين أبطال العمل، وبين الشخصيّات والمشاهدين أيضاً.
فكما
أنّ السيجارة تحرق نفسها لتنعش مدخّنها، بحسب رأي الصبيّ زين،
فإنّها تُحرق
مدمنيها، وتوهمهم بالسعادة اللحظيّة، يكون النيكوتين السمّ المدسوس في
الدسم. ثمّ
إنّ نصف ملغ من النيكوتين قد لا يشكّل شيئاً بمفرده، لكن بالجمع والتراكم،
يشكّل
أطناناً من النيكوتين، تكفي لإحراق بلد وتدميره بأكمله.
لا يخفى أنّ الفيلم
يتّسم بالانتقائيّة، حين يقارب الخوض في مواضيع محظورة، كعلاقات الحبّ بين
المسلمة
والمسيحيّ، أو جوانب من الفساد الاجتماعيّ، عبر تقديم نموذج
الخيانة الزوجيّة، التي
تكون نتيجتها طفلة مشوّهة، كما يطرح عمالة الأطفال في الوقت الذي ينبغي فيه
الاهتمام بتأمين مستقبل لائق لهم. يطرح نتائج الهجرة الداخليّة غير
المدروسة، ويجول
في عالم العشوائيّات، ويلامس رؤوس أحلام المسحوقين وأوهامهم.
يسرّب عبر الروحانيّات
المبالغ فيها، المُضفاة على الكثير من السلوكيّات والممارسات الحياتيّة،
أفكاراً عن
مدى ارتباط المرء وتعلّقه بما فطم عليه، كما أنّه يطرح رسائل عدّة، يلامس
المسكوت
عنه، ويزيح جانباً من الستار المسدل بإحكام، يقدّم الحبّ الممنوع على مسرح
الواقع
الأليم القامع، يُمرئي تأثيرات الزمن على الإنسان، من خلال
إظهار الشخصيّات بعد
عقدٍ من الزمن، من دون أن يأبه للإقناع أو التبرير، يرمّز عبر مداليل
تتشظّى وتنفتح
على التأويل المتجدّد، ينقل ويثبت حقيقة راسخة في الأذهان، وهي أنّ الأسباب
تتعدّد
والموت واحد. ومَن لم يمت بالنيكوتين مات بغيره من السموم
المادّيّة أو المعنويّة.
السفير اللبنانية في
01/07/2010
الفـنـــان
شـــابـاً
نديم جرجورة
شكّل «أسبوع النقد»،
إحدى التظاهرات الأساسية المُقامة سنوياً إلى جانب المسابقة الرسمية
الخاصّة
بمهرجان «كان»، نافذة سينمائية جادّة لمخرجين عديدين، وجدوا فيها مساحة
تعبير، أو
محطّة لا بُدّ منها لإعلان حضور ما، أو خطوة أولى أو ثانية على
طريق الاحتراف
المهني، أو كحيّز مهمّ لتقديم أنفسهم ونتاجاتهم. إنه المنبر الضروري لولادة
سينمائية، أو بالأحرى للمساهمة الجدّية في ولادة كهذه. في الدورة الفائتة
(أيار
2010)
لمهرجان «كان»، بلغ «أسبوع النقد» عامه التاسع والأربعين. مرحلة خصبة
بالتحوّلات الثقافية والفنية، وبالمنعطفات التاريخية والسياسية
والاجتماعية. منذ
مطلع الستينيات، عرف العالم كلّه انقلابات متنوّعة. عاش الناس
فترات ثرية
بالتحدّيات والأسئلة الأخلاقية والإنسانية والثقافية والاجتماعية. عاشوا
آثار
التطوّرات المختلفة، في التقني والإبداعي والحياتي. «أسبوع النقد»،
باختياره
أفلاماً أولى أو ثانية لمخرجيها على مدى تسعة وأربعين عاماً،
كان مرآة لانفعالات
المخرجين المبتدئين إزاء هذا كلّه. لمشاعرهم الخاصّة. لأفكارهم وأساليب
عيشهم
وتفاصيل سلوكهم.
في العام 1962، بدأ «أسبوع النقد» رحلته السينمائية داخل
مهرجان «كان»، ومعه. أرادته «النقابة الفرنسية للنقد
السينمائي» إطلالة فنية
للمخرجين، بأفلامهم الأولى أو الثانية: برناردو برتولوتشي. جان أوستاش.
أوتار
إيوسيلياني. كن لوتش. وونغ كار واي. جاك أوديار. آرنو ديبلاشن وغيرهم
كثيرون،
أطلقوا بداياتهم السينمائية على شاشاته. إنه «صدى الخليط
الإبداعي بين التطلّب
والفضول، الذي ميّز النقد السينمائي»، و«اكتشاف الخلق السينمائي الشاب
وإظهاره»،
كما جاء في التقديم الرسمي للتظاهرة هذه. إنه المنقّب الدائم عن المواهب
الشابّة،
ما أتاح لإدارته، في الأعوام القليلة الفائتة، فرصة تقديم الأفلام الأولى/
الثانية
لآليخاندرو غونزاليس إيناريتو (آموريس بيرّوس) وإيمانويل كرياليزي (ريسبيرو)
وجولي
برتوتشيلّي (منذ رحيل أوتار) وكيرين يدايا (كنزي) وميرندا جولي (أنا وأنت
وكل من
نعرفه) ونسيم عمّوش (وداعاً غاري): «في إطار بحثه عن المؤلّفين
الجدد، أبدى «أسبوع
النقد» اهتماماً ملحوظاً بالأفلام القصيرة والمتوسّطة (التي مثّلت) المراحل
الأولى
في المسار المهني لسينمائي ما. بتقديمه أفلامهم القصيرة، سلّط الأسبوع
الضوء على
فرانسوا أوزون وغاسبار نوي وأندريا آرنولد، مثلاً». في كل دورة، أتاحت
إدارة
التظاهرة فرصة اكتشاف عشرين مخرجاً، علماً بأن مسابقتها
الرسمية تضمّ سبعة أفلام
طويلة وسبعة أفلام قصيرة. هناك ثلاثة أفلام طويلة وثلاثة أفلام متوسّطة
الطول،
تُقدّم كلّها في إطار «حفلات خاصّة».
لا بأس باستعادة تاريخية مختصرة. بدأ «أسبوع
النقد» رحلته السينمائية في ربيع العام 1962، أثناء انعقاد الدورة الرابعة
عشرة لـ«المهرجان الدولي للفيلم في كانّ». منذ تلك اللحظة،
حظيت الأفلام القصيرة
بمسابقتها الرسمية. أغنت «الحفلات الخاصّة» الاختيارات الرسمية للأسبوع،
الذي عرض
دائماً عدداً مختصراً من الأفلام، بهدف منحها فرصة أن تُشَاهد بشكل حسن.
هناك هاجسٌ
أساسي بدا واضحاً أنه ظلّ مسيطراً على منظّمي التظاهرة: إتاحة
الفرصة أمام النقّاد
الفرنسيين للدفاع عن إبداع سينمائي شاب. لاكتشافه أساساً. للإضاءة على
اختبارات
أولى لسينمائيين منتشرين في أنحاء شتّى من العالم. في مقالتها المنشورة في
الصحيفة
اللبنانية اليومية «المستقبل»، في الخامس والعشرين من حزيران
الفائت، كتبت الزميلة
ريما المسمار ما يلي: «تتسلّح تظاهرة «أسبوع النقد» بدورها التاريخي في
اكتشاف
مواهب سينمائية، استطاع بعضها أن يسير على طريق النجاح».
قبل ستة أعوام، انتقلت
التظاهرة إلى بيروت. «جمعية متروبوليس» مهتمّة بما يجري في المشهد
السينمائي
الدولي. إلى جانب مساهمتها الفعّالة في تنظيم «أيام بيروت
السينمائية»، التي تُشرف
عليها «جمعية بيروت دي سي»، نظّمت «جمعية متروبوليس» تظاهرات استعاديّة
مهمّة
للغاية: الأفلام الكاملة لمايكلأنجلو أنتونيوني وفيديريكو فيلّيني وجاك
تاتي
وغيرهم. النسخ سينمائية. أفلام تحريك حديثة الإنتاج. «نصف شهر
المخرجين»، التظاهرة
الثانية الأهمّ، بعد «أسبوع النقد» أو إلى جانبه، في مهرجان «كان». هذه
نماذج
تُقدّم نظرة عامّة على ما تفعله الجمعية. «أسبوع النقد» مثيرٌ للاهتمام.
أفلامه
بطاقة تعارف بين مشاهدين محليين معنيين بالهمّ السينمائي،
ونتاجات مقبلة إلى بيروت
من تجارب وهواجس وأفكار واشتغالات. في تقديمه الدورة اللبنانية السادسة،
كتب ريمي
بونوم، أحد منظّمي «أسبوع النقد»، أن البرمجة الحالية «انتقائية»، تشتمل
على ميول
ونزعات مختلفة لإبداع سينمائي شاب.
كلاكيت
أسمهان
وشيريهان
نديم جرجورة
العيش على حافة الدنيا.
على التخوم الواهية للموت. العيش مع الموت
أعواماً عدّة. مرافقته في اللحظات كلّها.
الانتصار للذات على الجماعة هدفٌ. السقوط في الجحيم الأرضي قدرٌ. كما
النهوض
مجدّداً من قعر البئر الجافّة للحياة. الاستمرار في مقارعة المظالم. انتظار
الخاتمة
بتحدّيها. هذه صُوَر مشتهاة، بالنسبة إليّ. تعكس سلوك أفراد مشوا في حقول
القتل، من
دون أن يخشوه. أدركوا، منذ البداية، معنى التفلّت من قيد أو قاعدة أو نظام
ابتكره
أرضيون، أو هبط من عل. أو أتاهم الإدراك لاحقاً. أي ان المرء
يمضي أعواماً عدّة في
ممارسة ما يراه ملائماً لذاته، من دون أن ينتبه أو يحلّل أو يُبرّر ما
تفعله ذاته،
المنقادة إلى انفعالاتها وأهوائها ورغباتها إزاء الآخر. أو إزاء الجماعة.
هذه صُوَر
تعكس، بالنسبة إليّ، أجمل تعابير الذات الفردية. أراها في
نماذج قليلة. أتماهى بها
في لحظات عيش ملتبس، أقضيها حالماً ببلوغ تلك المرتبة الأبهى للتمرّد، من
دون جدوى.
أليست أحلامي أوهامٌ وخيبات؟
النماذج قليلة. أكثرها التصاقاً بحساسيتي (أو هذا
ما أشعر به، على الأقلّ)، متمثّلٌ بامرأتين جميلتين وآسرتين: أسمهان
وشيريهان.
الفرق شاسعٌ بينهما، إنسانياً وفنياً.
التشابه واضحٌ بينهما، في عناوين أساسية
أرّخت منعطفات عيشهما على تلك الحافة، أو في قلب التخوم. عاشت
أسمهان في دائرة
الخطر اليومي. جمالها وجاذبيتها وبراعتها في اختراق الممنوع، المفروض
عليها، من أجل
ذاتها وحريتها وشغفها بحياة متفلّتة من أي قيد، أمورٌ جعلتها إيقونة تمرّد
على
الجماعة من داخلها. شيريهان مختلفة. الاستماع إلى بعض المرويّ
عن سيرتها، يحيل
المستمع إلى عالم من القهر والجنون والغضب والصدمات، فُرض عليها، فانكسرت
فيه، مع
أنها عرفت كيفية الخروج، مراراً، من انكساراتها، الجسدية والنفسية، إلى
اختبارات
جديدة. أو شُبِّه لها هذا. أم إنه الوهم، هنا أيضاً؟ شيريهان
إيقونة تمرّد من نوع
آخر. تمرّدها صامت. أو باطني. متجلّ هو في إصرارها على العيش، على الرغم من
الموت
اللاحق بها دائماً.
ضغط الجماعة، الهادف إلى تطويع الخارج عليها وجعله منصاعاً
لقواعدها، أفضى بأسمهان إلى الغرق في التخبّط والارتباك والقلق والألم، قبل
الغرق
في مجرى نهريّ. الجماعة المتسلّطة على شيريهان أصغر. لا يُلغي هذا ضغطاً
نفسياً
حادّاً، دفع المرأة الشابّة إلى الاغتسال بنار الجحيم الأرضيّ
يومياً. جماعة أسمهان
لم تستكن إلى خروج المرأة عليها. لديها أصول دينية واجتماعية وثقافية حريصة
على
احترامها. جماعة شيريهان متنوّعة الجوانب. بعضها مرتبط بالعائلة الضيّقة.
بعضها
الآخر انقضّ عليها من الخارج. عانت شيريهان آلاماً جسدية
حادّة. ضغط الجماعة أدّى
بها إلى تخبّط مريع في القهر والوجع والإحباط. لعلّ المرض الذي أصابها منذ
أعوام
عدّة، شكّل حماية لها من جور الحياة والأقارب والمعارف. مع أن المرض نتاج
جور
الحياة. جور هؤلاء جميعهم أيضاً. لعلّ الموت المادي لأسمهان
منحها خاتمة قاسية
لتخبّطها المريع.
تُرى، ما هــو شعور العائــش على حافة الموت؟ أو فيه؟
السفير اللبنانية في
01/07/2010
بحثـــاً عـــن
جمهـــور
محمد
رضا
مهما انتكس الوضع
الثقافي في لبنان، وهو في حالة انتكاسة على الرغم من إيجابيّات عدّة، فإنه
يبقى
أفضل من حاله في دول أخرى لا عربية فقط، بل ممتدّة بين شمال
القارات وجنوبها.
عودة «أسبوع النقد» إلى بيروت للمرّة السادسة أمرٌ يُحسب للمشتركين، داخل
البلد
وخارجه، في محاولة دفع المسيرتين الفنية والثقافية إلى الأمام،
وسط ظروف يعيشها
الوطن كما تعيشها المنطقة بأسرها. لا لتسييس كل شيء، لكن السياسة تتدخّل في
شؤون
كثيرة من حياتنا، فتقلب هناءها، وتلوي تطلّعاتها، وتمتصّ قدراتها، وتقسم
الناس بين
قلّة تسيطر وغالبية مُسيطر عليها. معظم أصحاب السيطرة وغالبية
الواقعين تحت سيطرتهم
لا يكترثون إذا استضافت مؤسّسة «متروبوليس» تظاهرة «أسبوع النقد» للمرّة
الأولى، أو
للمرّة العشرين. لا يهتمّون إطلاقاً بما إذا كان عدد الأفلام الواردة خمسة
أو
خمسين، أو من أين تأتي، وماذا تطرح، ولماذا هي مهمّة، ولو من
باب الافتراض أو لا.
ما سبق قوله دافع رئيس لهواة السينما للإقبال على هذه الفرصة في دورة العام
هذا، كما فعل كثيرون منهم في الأعوام السابقة. من حسن الحظ أنه
في كل عام هناك
إبداعات جديدة، بعضها لا يُشبه أي إبداعات سابقة، لا في الأسلوب ولا في
الطرح. لكن
المسألة في صميمها لا تكمن في ما الذي لا يشبه فنقدّره، وما يشبه فننبذه،
بل لها
علاقة بعملية أكثر تعقيداً، يجد فيها المتلقي نفسه، هاوياً
متيّماً أم مجرد منشغل
بهموم الثقافة والفن، وباحثاً عن فرص متنوّعة مثل الفرصة المتاحة اليوم، في
خضم
محاولة لربطه بعالم أوسع نطاقاً مما كان يعتقد.
اعتبرتنا التكنولوجيا التي
نعيشها اليوم، كما لم تفعل في أي زمن سابق، أعضاءً في ناد يوفّر ما نطلبه
من صوغ
للحياة، ومتطلّباتها ومناخاتها. كل بحسب قدرته على رفع رسوم
ذلك، وتبعاً لاستعداده
الخاص. حتى في أضيق حدود ذلك الإستعداد، هناك وضع سُلطوي نجد أنفسنا ضحايا
له، من
دون تفريق بين مستعد للعب الدور كاملاً ليبرهن للآخرين (وربما لنفسه أيضاً)
بأنه
منتم إلى العصر الحديث، وبين مقاوم به. من نتائج هذا الوضع
السلطوي، أن الثقافة
التي جعلت بيروت عاصمة عربية أولى لعقود كثيرة خلت، والتي تحاول جعلها
اليوم تستعيد
دورها في هذا المجال، تقاتل من أجل أن تصمد وتستمر، ليس بعيداً في ذلك
تجربة مجلة
«الآداب»،
أو لعل هذه التجربة نموذجية لما يحدث اليوم. لذلك، حين تصلنا تظاهرة
كهذه، تضم أفلاماً مختلفة (روائية ووثائقية وقصيرة)، فإن الناتج هو دفعة
إلى الأمام
لأولئك الذين لا يريدون الانخراط في العصر من الباب التكنولوجي المزيّف، أو
من ذلك
الباب وحده. إنه شعور بالرابط بين المشاهد المحلّي الذي، إذا
كان واعياً، يُدرك أنه
بدوره جزءٌ من هذه المقاومة، وبين من لا يزال يقاوم، وربما بنتائج أكثر
تقدّماً، في
الخارج.
المسألة، كما برهنت الدورات السابقة، ليست مجرّد مجموعة من الأفلام
يتمّ جلبها من مهرجان «كان» حيث عُرضت في إطار هذه التظاهرة
المهمّة والمستمرة منذ
عقود، بل مجموعة من تجارب الإرتباط المعنوي والفني والثقافي مع إبداعات
الآخرين، في
زمن ينأى الموزّع اللبناني، كما العربي، بنفسه عن مهمّة لعب الدور الوطني
في صوغ
ابن الوطن المثقّف. قبل الحرب الأهلية، كان هناك وجود لهذا الموزّع المسؤول.
بيروت
كانت مثل «المكتبة السينمائية الفرنسية» أو «مؤسسة الفيلم
البريطاني» أو «متحف
السينما الألماني في برلين»: أفلام من كل حدب وصوب، ومن كل نوع ومستوى،
تجدها
معروضة في الصالات التجارية من دون أي إشكال. صحيح أن الموزّع يسعى إلى
الربح
دائماً، لكنه كان مقداماً في مجال التجربة. إلى ذلك، كانت هناك
نواد ومؤسسات ثقافية
وسفارات نظّمت نشاطات فنية وأدبية وثقافية مختلفة. وإذا كان الموزّع اليوم
غير شاعر
بمسؤوليّته في إحياء الوطن، عبر المشاركة في نشاطات كهذه، فهو ليس وحده.
الدولة
نفسها منشغلة دائماً بما هو أقل أهميّة من بناء الإنسان
الصحيح. ولو أن هذا يجب
ألاّ يكون عذراً للموزّع (أو لأي مموّل غازل، ذات مرّة، السينما، ثم
ابتعد)، يُبقيه
بمنأى عن لعب دوره ومسؤوليّته.
الكلام نفسه يجب أن يُقال للجمهور الذي بعضه
يتردّد، ومعظم من يتردّد يفوّت الفرص المتاحة: اذهب وشاهد الفيلم الوثائقي
الدانماركي «أرماديلّو» ليانوس ميدز. ابحث بنفسك عن لماذا اقتنص الجائزة
الكبرى في
هذه التظاهرة في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان». شاهد الفيلم
السويدي «صوت الضجّة»
لأولا سيمونسون ويهانس ستيارني نيلسون، والفيتنامي «بي، لا تخف» لفان دانغ
دي. لا
تعتبر أن الأفلام القصيرة لا قيمة لها. احرص عليها، وتمتّع بما يوفّره
الفيلم
القصير من نوافذ كبيرة. حارب الجهل الثقافي بالإقبال على
الثقافة، عوضا عن أن تكتفي
بنقد ذلك الجهل، مُعتبراً أن دورك انتهى عند هذا الحدّ.
السفير اللبنانية في
01/07/2010 |