على الرغم من أن البعض توقّع لفيلم “استهلال” النجاح الذي يحققه
حالياً في قوائم الأفلام حول العالم، فإن ذلك لا يمنع من التأكيد أنه كان
رهاناً صعباً في وقت صار فيه من النادر مشاهدة أفلام تتميّز بالخروج عن
المألوف والنضج في المعالجة والاهتمامات، ناهيك عن إنجازها أي نجاح حقيقي .
وفي حين أن ذلك النجاح لا يعكس موقفاً إيجابياً صلباً من قِبل
المشاهدين، ولا يمكن اعتباره دليلاً على أنه مستعد لمشاهدة أفلام ذات سياق
من الأحداث المبهمة والخطوط المتوازية بمجرّد تقديمها، لابد من ملاحظة أن
الجمهور العالمي كان وافق على أفلام تتعاطى والعوالم الموازية لعالمنا أو
للوضع الناتج عن دخول الأحلام، ثم صعوبة الاستيقاظ منها والمزج بين الواقع
والخيال المتشابهين إلى حد شبه كامل . هذه المفاتيح هي ذاتها التي يطالعها
المرء في فيلم كريستوفر نولان الجديد .
بعض ما هو خاص بمغامرة المخرج نولان الجديدة يكمن في أنه فيلم لا يسرد
قصّة سهلة التتابع ولا هو فيلم كوارثي، ولا حتى فيلم قائم على الخيال
العلمي المعتاد . كذلك ليس فيلماً يحاول أن يكون بداية سلسلة سينمائية، ولا
هو حلقة من حلقاتها وأجزائها الماضية . أكثر من هذا، هو طلقة وحيدة تحمل
إلى المشاهد شخصيات لا يمكن أن تخرج من الصالة بها أو تلتقطها كألعاب
للصغار .
في حسابات الخسارة والأرباح، فإن كلاً من هذه العناصر المفقودة هي في
العادة ضمانة تشجّع الشركات المموّلة على تنفيذ الفيلم، لكنه ليس سرّاً
القول إن السبب الرئيس الذي سمح للمخرج نولان بتمرير فيلمه من تحت أنوف
أصحاب القرار في شركة وورنر، حقيقة أن أفلامه الكبيرة (سلسلة “باتمان”
بالتحديد) جلبت أطناناً من الأرباح للشركة، ما نتج عنه إيمانها بأن نولان
يستطيع أن يحوّل ما قد يبدو قصّة صعبة بشخصيات تائهة بين الحقيقة والخيال،
إلى فيلم مثير وناجح بمجرد اللعب على هذه العناصر.
في المقابل، حين أمّ المخرج الجيّد الآخر ديفيد فينشر موضوعاً
غرائبياً آخر يتحدّث عن الزمن الخارق للقاعدة الطبيعية وذلك في فيلم الجيّد
“القضية المثيرة للفضول لبنجامين باتون”، رأينا فيه بطله (براد بت) يولد
بعمر كبير وبحجم صغير ثم يصغر عمراً ويكبر حجماً إلى أن أصبح طفلاً في جسد
رجل، لم يشعر معظم المشاهدين بحماسة لمشاهدة الفيلم . أحد أسباب ذلك أنهم
أدركوا أن الفيلم أقرب إلى سجال من الأفكار عوض أن يكون، كما الحال في
“استهلال”، مشاهد متوالية ومثيرة من المغامرات التي تنتقل من الواقع إلى
الحلم حيناً وتتوسع من الحلم صوب حلم داخل الحلم الأول حيناً آخر، أو قد
تعود إلى الواقع في مزج لا يترك حسباناً لخطوط فاصلة بين أي حالة وأخرى .
والواضح أن المخرج نولان يحب التمويه والغموض . كل واحد من أفلامه
السابقة حوى ذلك الوضع الدقيق الواقف على قدم واحدة فوق خط نحيف معلّق بين
عمودين على ارتفاع شاهق . فيلماه من سلسلة “باتمان” من أكثر أفلام
“الكوميكس” تنوّعاً في رسم شخصيتها البطولية، حيث لا يكتفي المخرج بتقديم
بطل ما، بل يحيطه بأجواء الغموض الناتج عن عمق الشخصية، وليس ظاهرها .
كذلك من الواضح انتماء الفيلم إلى ذلك التقليد البعيد من الروايات
التي تخلط بين الحقيقة والخيال وتحاول تجاوز الزمن المحدد بالأمس واليوم
والغد، والتمدد في رحاب أفقية خالقة أزمنة موازية . أقرب النجاحات السابقة
في هذا المجال “ماتريكس” الذي أنجزت ثلاثة أجزاء منه تمحورت حول كيف أن هذا
العالم الذي نعيشه ليس سوى خيال تم إدخالنا فيه، بينما الحقيقة تكمن خارجه
.
فيلم “الأنيميشن” الياباني “بابريكا” تعامل بدوره مع أوراق الزمن
المخلوطة الذي فيه خط قصصي قريب من خط “استهلال”، ففي فيلم نولان هناك
مجموعة من القادرين على تشييد أحلام ينقلون إليها من يريدون، لإيهامه بأنه
يعيش الحقيقة فيتصرّف على هذا النحو، مما يمكّنهم من استحواذ ما يريدونه
منهم . في “بابريكا” هناك جهاز يقوم بهذا الفعل متيحاً لدخول الشخصيات
أدمغة الآخرين المنوي التجسس على أحلامهم . أيضاً يمكن البحث عن مرادفات في
أفلام مثل “العودة إلى المستقبل” و”الخلية” و”نوم عميق” من بين أخرى، بل
نجد أن سلسلة أفلام الرعب “كابوس شارع إيلم” تتعامل والموضوع ذاته من زاوية
أخرى، كذلك فإن البداية ربما كمنت في رواية ه . ج . وَلز “عربة الزمن” التي
نقلها المخرج الراحل جورج بال سنة 1960 إلى السينما لأول مرّة، ولو أن
الرحلة الزمنية في ذلك الفيلم لها وجهتان فقط: إلى الأمام، وإلى الخلف .
برغمن وأنطونيوني زمالة حتى
الموت
مع مطلع الأسبوع المقبل، تكون أربع سنوات مضت على رحيل اثنين من أهم
مخرجي السينما الأوروبيين: السويدي إنغمار برغمَن والإيطالي مايكل أنجلو
أنطونيوني . تزاملا من مطلع الأربعينات من القرن العشرين إلى حين وفاتهما
في الثلاثين من يوليو/ تموز سنة 2007 . أنجز برغمان 64 عملاً، بما فيها
أفلامه التلفزيونية والقصيرة، بينما حقق أنطونيوني ،48 بما فيها سيناريوهات
كتبها سواه وحفنة من الأفلام القصيرة .
كانت وفاتهما، بفاصل ساعات قليلة بينهما، أعادتهما إلى العناوين
الأولى على الإنترنت وفي الصحف والنشرات الإخبارية، ما أثار رغبة كثير من
المهتمّين بالسينما لمعرفة من هما هذان المخرجان ولماذا يستحوذان على كل
هذه التغطية عبر وسائل الإعلام . السبب هنا هو أن الجيل الذي ترعرع في
الثمانينات أو التسعينات لم تتح له معايشة الأجواء الثقافية والسينمائية
التي بلورت اهتمامات الجيل السابق، ما جعله أكثر تعاملاً بسينما كل من
برغمَن وأنطونيوني ومعرفة بأهميّتهما الاستثنائية .
وإذ جاءت الوفاة فرصة لإعادة تسليط الضوء عليهما، يجب الأخذ في
الحسبان أن شهرة برغمَن ربما كانت أعلى بقليل من شهرة أنطونيوني .فحجم
الاهتمام بوفاة الأستاذ الإيطالي كان أقل منه بالفنان السويدي، خصوصاً بين
كتّاب العربية .
مايكل أنجلو أنطونيوني كان نسخة أصلية خالية من التقليد وواحدة من أهم
مزاياه (واختلافاته الجوهرية عن سينما برغمَن) كمن في الصورة ذاتها: عند
أنطونيوني كانت تشمل محيطاً شاسعاً . حبّه للقطات الطويلة والبطيئة التي
تتناول الشخص في عمق الصورة ووسط الفضاء (فضاء غرفة أو فضاء مكان طبيعي)،
بينما تخصص برغمَن في معظم أفلامه في الستينات بالمكان المحدد وحركة الممثل
المحصورة بين جدران، كما أن الأماكن الطبيعية ليست متوافرة لتضاريسها، بل
لضروراتها .
مارس أنطونيوني النقد السينمائي لفترة قصيرة في مجلة “سينما” التي
كانت تصرف عليها الحكومة الإيطالية قبيل الحرب، ثم انطلق ينجز أفلامه
الوثائقية من عام 1950 أي بعد عامين على بداية حركة السينما الواقعية في
إيطاليا .
ومع أن أنطونيوني لم يكن طرفاً فيها، ولم يشترك في تنفيذ تلك الأفلام
التي تحوّلت إلى هوية للسينما الإيطالية بعد العصر الفاشيستي، فإنه كان
مدركاً أهمية الواقع في الفيلم ولأهمية النقد الاجتماعي الذي تستطيع
السينما توفيره وذلك منذ قيامه بتحقيق تلك الأفلام الوثائقية الأولى (من
1950 إلى 1953) .
على عكس خلانه، لم يكترث للنزول إلى الشوارع ولملمة الاهتمامات
المباشرة بل بحث عنها في عملية تأليف سينمائي أبطالها شخصيات يعايشون أزمات
عاطفية تعبّر عن مشاغل اجتماعية وثقافية قائمة ولا تقل أهمية .
هذا المنهج أتاح له الانتماء بجدارة إلى ما عُرف ب”السينما الأوروبية
الجديدة” في الستينات، وهو التيار الذي شمل برغمَن في السويد وتوني
رتشردسون ولندساي أندرسن في بريطانيا وفرنسوا تروفو وجان-لوك غودار في
فرنسا وآخرين في ألمانيا والمجر وبولندا والاتحاد السوفييتي سابقاً . في
إيطاليا صاحبت سينماه بروز فرانشيسكو روزي وألبرتو لاتوادا وفديريكو
فيلليني وبييترو جيرمي وكارلو ليزاني ولوكينو فيسكونتي وسواهم .
ثلاثية أنطونيوني التي بدأها سنة 1960 والتي شملت “المغامرة” و”الليل”
و”خسوف” كانت بداية محاولته كسر القواعد السردية المعتادة ما خلف الكثير من
ردّات الفعل التي أدانت ما وصفته برغبة تحييد شخصيات الفيلم ومنعها
والمشاهدين من اللقاء عبر الثوابت السردية المعتادة .
هذا لم يمنعه من تجاوز النطاق المحلّي إلى الأوروبي حيث أنجز فيلمه
البريطاني “تكبير” ثم إلى الأمريكي “نقطة زابريسكي” من دون تنازلات على
الإطلاق .
علامات
صلاح أبوسيف
انتمى المخرج صلاح أبوسيف، الذي توفي قبل أربع عشرة سنة، إلى حقبة من
عمر السينما العربية مختلفة عن سواها من الحقبات والعصور وُصفت أحياناً
بأنها أفضل الحقب، والآن يتبدّى أن هذا الوصف صحيح أكثر مما تصوّر مرددوه
آنذاك .
إنها فترة الخمسينات من القرن الماضي قبيل ثورة الزعيم جمال
عبدالناصر، وصولاً إلى منتصف السبعينات، الفترة التي أخذ فيها المدّ النوعي
للحياة الثقافية في مصر وباقي دول العالم العربي بالانحسار لمصلحة
المتغيّرات الإنتاجية والسعي لدخول عصور متلاحقة من الإجراءات الاقتصادية
التي ستبعد مصر عن الاشتراكية وتفتّ في عضد التلاحم الجماهيري بينها وبين
باقي الدول العربية .
التقط ذات مرّة كتاباً عن الإخراج والتهم صفحاته، ثم قرأ سواه وأحب
السينما وعرف أن المخرج هو من يطبع الفيلم بشخصه واهتمامه وثقافته . التحق
باستديو مصر من منتصف الثلاثينات، ولعشر سنوات مارس المونتاج مؤسساً خلفية
بصرية وإيقاعية ستصاحب كل أعماله مخرجاً . عمل مساعداً أول لكمال سليم حين
قام بإخراج “العزيمة” سنة ،1939 ثم سافر إلى فرنسا لدراسة السينما لكن
الحرب العالمية الثانية ومخاطر البقاء في عاصمة ستقع تحت الاحتلال عجّلتا
بعودته . في عام 1946 أخرج أوّل أفلامه “دايماً في قلبي” وبعد عامين وعلى
ضوء ما كان يُحاك في فلسطين أخرج “مغامرات عنتر وعبلة” الذي ضمّنه رموزاً
سياسية آمن بها طيلة حياته وعاد إليها في كل فيلم تاريخي أنجزه .
بعد فيلم مغامرات آخر بعنوان “الصقر” (1950) بطولة سامية جمال، أقدم
على أهم خطوة مهنية له في ذلك الحين، وهي إخراجه فيلماً واقعياً داكناً
بعنوان “لك يوم يا ظالم” سنة 1951 . الواقعية هنا، كما يجب أن نستدرك، ليست
التصوير في الشوارع والحارات (وهي لم تكن كذلك حتى حين صوّر أبوسيف أعماله
اللاحقة) بل الابتعاد عن الميلودراما ومنح الشخصيات نَفَساً واقعياً
والأحداث معالجة معيشة قابلة للتصديق . من هذا المنحى، ذلك الفيلم مختلف عن
أي من أفلام السينما المصرية آنذاك . رزين ومدروس، كما لو أن المخرج خبر
السينما لما لا يقل عن عشر سنوات .
فيلمه المقبل “ريا وسكينة” انتقل إلى حكاية واقعية في حارة شعبية من
حارات الإسكندرية، ومع أن الفيلم يمر بمرحلة هزال تطال قرارات تصوير سريعة،
فإنه تعامل مع موضوع له خلفية حدثية وواقعية . أيضاً أمر لم يكن منتشراً
آنذاك . بدءاً من 1945 حين أخرج “الوحش” أمّ سلسلة من الأفلام التي تماثل
ما كان روسيلليني وفيتوريو ديسيكا وباقي أتراب الواقعية الإيطالية الجديدة
يقدمون عليه . تماثلها لكنها تبقى مصرية محضة، كما تلك ايطالية خالصة .
في أحاديث عدة معه، كان حريصاً على لفت النظر إلى أنه لم يخرج نمطاً
واحداً من الأفلام، ومن يراجع قائمة أعماله (التي حوت على 37 فيلماً)
يستطيع أن يدرك ذلك سريعاً . أبوسيف كان مخرج الدراميات العاطفية (“هذا هو
الحب”) والأعمال الأدبية (“لا تطفيء الشمس”) وله أكثر من فيلم كوميدي ذي
ناصية اجتماعية (“بين السماء والأرض”) وأكثر من فيلم تاريخي (“فجر
الإسلام”) وعالجها جميعاً من الزاوية التي تضمن وجود قضيّة اجتماعية يريد
لفت النظر إليها، بصرف النظر عن النوع الذي ينتمي إليه الفيلم .
مرّة أخرى، صلاح أبوسيف ابن الفترة السياسية والثقافية المتلألئة في
تاريخنا المعاصر . أثرته فأثراها، وهذا التبادل الوجداني هو الطريق الوحيد
لصنع سينما تعني شيئاً للمبدع وللمتلقي وللوطن أيضاً .
م.ر
merci4404@earthlink.net
http://shadowsandphantoms.blogspot.com
الخليج الإماراتية في
25/07/2010 |