في أواخر العام الماضي شاهد المدعوون الى مهرجان
دبي السينمائي الدولي فيلماً مغربياً مبهراً حمل في كتاب المهرجان صورة
رائعة
التشكيل لرجلين يركضان على شاطئ البحر، واحداً تلو آخر. في
منتصف المسافة بينهما
تقريباً باب لا تعرف ما إذا كان موصداً أم مفتوحاً، كونه منتصباً في عراء
المكان
كما لو كان أول ما تم بناؤه من منزل لم يُقم. الفيلم حمل أيضاً عنواناً
لافتا:
"الرجل الذي باع العالم".
الفيلم نفسه لا يقل روعة وإيحاء. أخرجه شقيقان شابان
هما عماد وسهيل نوري، أدى البطولة فيه ممثلان شابّان أيضاً هما سعيد باي
وفهد
بنشامي. هي واحدة من المرّات القليلة تتعامل فيها السينما
العربية مع الأدب
العالمي. فالفيلم مأخوذ عن رواية "القلب الضعيف" لفيودور دوستويفسكي
المنشورة عام 1848
والمكتوبة بنص مسرحي الى حد بعيد، يفرضه أن الأحداث، في معظمها، تقع داخل
الحجرة، حيث يعيش البطلان وتتوالى الحوارات من دون فواصل
تُذكر. دوستويفسكي، في
محاولته المبكرة لدخول العمق النفسي لشخصياته، يخصص أيضاً أجزاء من الرواية
للوصف
الشامل للمكان وللحدث، واضعاً بطليه (أركادي وڤاسيا) في أجواء تُماثل
الموضوع دكنة.
إنها رواية تبدو صعبة، وقد قرأها هذا الناقد للمرّة الأولى بعد مشاهدته
الفيلم،
تمهيداً لما خطّه في ما بعد، حين وضع رواياته الأشهر، من مثل "المقامر"
و"الأبله"
و"الجريمة والعقاب".
ما الذي دفع ولدي المخرج المعروف نوري حكيم للذهاب الى هذه
الرواية التي لم تنقلها السينما من قبل؟ تمتع سهيل وعماد بالجرأة المطلوبة
لتشييد
فيلم مختلف تماماً عن كل عمل خرجت به السينما العربية منذ
عقود، يحمي الأصل ويبلور
تعريباً منفصلاً عنه في الوقت نفسه: صديقان يعيشان في شقّة واحدة، أحدهما
(يعرج)
يعيش قصّة حب مع فتاة تمثّل له العالم.
صديقه يريد مساعدته في تجاوز حالة إحباط
ناتجة من تعامل الأول أيضاً مع عمله المتعب. علاقتهما مثيرة
للتأمّل، لكنها ليست
مثلية. على ذلك تبدو، في زمننا، كما في الزمن المستقبلي غير المحدد الذي
تقع فيه
الأحداث، شاذّة من حيث التزام كل منهما سعادة الآخر وحبّه له في عالم مقتضب
ومتجهّم.
المدينة التي لا تحمل اسماً وتمزّقها حرب ما، تبدو كما لو كانت تقع
عند
أطراف الدنيا. الفترة الزمنية المستقبلية المجهولة أيضاً، خالية من
المستحدثات
العصرية. شيء في المستقبل يشبه الماضي (مطلع القرن العشرين او
ربما الفترة التي وضع
فيها دوستويفسكي روايته)، لعله تطابق دائري تام. الصديق العاشق (لا يحمل
اسماً، بل
يُرمَز اليه بـ"إكس") يحب فتاة فرنسية تعمل راقصة (الفرنسية أودري مارناي)
وقد نال
موافقة الوزارة التي يعمل موظّفاً في أحد أقسامها على الزواج منها (بذلك،
وتبعاً
لقراءة الفيلم للمستقبل، فإن الزواج منوط بموافقة المسؤولين).
لكن هذه السعادة
المعبّر عنها بنشاط وحيوية في مطلع الفيلم، سريعاً ما تنحدر صوب حالات يأس
متزايدة،
الى أن تتحوّل حياة إكس جحيماً من الأفكار السوداوية. المبعث في الرواية،
هو حالة
نفسية من عدم الثقة بأن صاحب الحالة يستحق أن يكون سعيداً في
وسط عالم بائد. هذا
يبقى واضحاً هنا مع ما يناسب الاقتباس من تغييرات. بطلنا لا يصدّق احتمالات
أن تكون
هناك سعادة حقيقية، وأنها، أي السعادة، من نصيبه. هذا ما يترك لصديقه
المهمّة
الصعبة لمحاولة يائسة لإنقاذه من حالة التردّي التي تصل الى
الجنون.
سينما وسينمات
في زمن عربي آخر غير
هذا الحالي، كان يمكن هذا الفيلم أن يكون واحداً من أفلام عدة تطلقها
سينما
نسمّيها عربية، عن اقتناع او عن حب في الإيجاز، عوض أن يبدو مثل العمل
اليتيم الذي
لا يظهر الا كبريق عابر، كما لو كانت تمطر في مكان آخر غير مكاننا. السينما
تمطر
فعلاً في مكان آخر غير مكاننا. إبحث عن وجود فاعل في الوجدانين
الثقافي والاجتماعي
للسينما العربية، تجد نفسك تتابع شاشة رمادية كالشاشة التي انتهى إليها
فيلم ايليا
سليمان "سجل إختفاء" قبل أربع عشر سنة حين صوّر والديه وقد ناما أمام جهاز
للتلفزيون أقفلت قناته.
ليس أنه لا توجد أفلام من مخرجين آخرين ينشدون المختلف
والذاتي والبديل والمتفنن، بل لا يوجد هناك ما هو أهم: البيئة التي تحمي
هذه
الأفلام من عوامل التفتت غير الطبيعي والتشرذم ثم الانطواء
والموت، كلٌّ في مكانه.
صحيح أن الفيلم الذي يخرجه ايليا سليمان او رضا الباهي مرشّح لأن يبقى فترة
أطول في
الذاكرة ويتمتع بقدر أوسع من الانتشار على وسائط الإعلام حالياً، الا أن
الجفاف لا
بد أن يحيق به بعد حين ليس ببعيد، والفترات التي تمر بها مهنة المخرج
المختلف او
الجيّد، سواء أكان مختلفاً أم لم يكن، متباعدة. ها هم مجموعة
شباب الثمانينات في
السينما المصرية (بشير الديك، محمد خان، داوود عبد السيد، خيري بشارة) لا
يعملون
الا مرّة، كل عدد من السنوات، وأفراد الجيل الأسبق لهم في مصر (سعيد مرزوق،
علي عبد
الخالق، صبحي شفيق) إما لا يعملون مطلقاً وإما متقاعدون رسمياً.
في لبنان، كل
نجاح فردي يحققه سينمائي حالي ما (نادين لبكي، فيليب عرقتنجي، جوسلين صعب)
يبدو
مقتطعاً من بين أنياب وحش الإهمال واللامبالاة، الذي يوحّد مصير السينما في
أكثر من
بلد عربي، كما يبدو متباعداً بدوره ومحكوماً عليه بأن يبقى رهينة الظروف
وسبل
التمويل المحدودة والحذرة.
في رقعة أرض شاسعة ذات تضاريس اجتماعية وثقافية
وتراثية غنية جداً تضم فوقها نحو 300 مليون نسمة تتحدّث لغة
واحدة، ولو بلهجات
مختلفة، لا وجود لسينما فاعلة واحدة، وأحياناً لا سينمات في المطلق. هي مثل
مشهد
سوريالي من فيلم للوي بونويل، حيث كلاب تنهش في ثياب تحتية، او صراصير تخرج
من
صندوق ميّت، او مثل مشهد الختام في رائعته، "السحر الخفي
للبورجوازية"، حيث أبطاله
يسيرون في طريق لا تؤدي الي شيء، تعيش السينما العربية وضعاً بالغ الصعوبة
والتعقيد. تحفّ به أزمات مختلفة باتت تتعايش معاً وتقف للسينما في المرصاد
منذ
مرحلة التفكير قبل الكتابة حتى مرحلة ما بعد العرض.
يزيد الوضع ضباباً، حقيقة أن
البعض يحب أن يطيح كل المآزق التي تمر او تحيط بها، ليبحث عما
إذا كان هناك شيء
اسمه سينما عربية، او هل هي سينمات عربية ام لا. في الصميم، وبغية تجاوز
هذه العقدة
المستحدثة، التسمية تجوز حتى ولو كانت مجازية من باب الاختصار، فما بالك
إذا كانت
تنطوي على ما يكفي من حقائق. المجاز فيها أنها موجودة بحكم
انتماء، لا علاقة له
بالسياسة وفشل المشروع الوحدوي او الثقافي او القومي العام. وكما نوجز
حديثنا عن
السينمات في تشيلي والبرازيل وغواتيمالا والأرجنتين بالقول "سينما أميركا
اللاتينية"، ونفعل الشيء عينه حين نريد أن نكتفي بوصف السينمات
المُنتجة في عموم
أوروبا، يجوز تماماً استخدام المصطلح من هذه الناحية على الأقل. في هذا
الصدد فإن "السينما
العربية" هي مجمل الإنتاجات التي تطلقها السينمات العربية من المغرب وحتى
الإمارات او عُمان.
في المعالجة الأعمق، فإن ما يجمع بين المغربي والقطري (وسواهما عبر القارتين الأفريقية
والآسيوية) من روابط نتجت من دين مشترك وأخلاقيات
مكتسبة، وفي الأساس لغة واحدة، هو أقوى من عناصر التفرقة
وأسباب التباعد. كذلك فإن
المفهوم العام الوحيد للأفلام الناطقة باللهجات المحلية التي تنتجها دول
عديدة مثل
مصر ولبنان وسوريا والمملكة العربية السعودية والإمارات والجزائر وتونس
والمغرب
وسواها، وهو المفهوم الراسخ في يقين الإنسان العربي (بصرف
النظر عن بعض مثقّفيه)
أنها جميعاً سينما عربية، ما يجعل المتذمّرين من هذه التسمية ممارسي وجهات
نظر
سياسية وليست سينمائية، تخلط الطحين باللبن لتخرج بتسمية جديدة غير راسخة.
الطموح المشروع
مشكلات السينما
العربية في العقد الأول من هذا القرن، برهنت على أنها تتجاوز كل ما مرّت به
من
أزمات سابقة. في مطلع عهدها في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي،
كانت
تتمتّع بالطموح، الى جانب ركاكة التنفيذ وضحالة المعرفة
والخبرة عموماً. بل بقدر
كبير منه. الطموح الذي حرّك السينما المصرية لتدلف عهد الصناعة السينمائية
وتبقى
سيّدة فيه عبر عهدي الملكية والجمهورية، قبل ثورة 23 يوليو وبعدها. وهو
الطموح الذي
قاد كل الروّاد، من لبنان الى تونس غرباً ومنطقة الخليج شرقاً، الى إنجاز
أفلامهم
الأولى، حتى وإن وردت في حقب مختلفة (من العشرينات، كما الحال في فيلم
"خمسة سادة
ملعونون"، وهو فيلم تونسي متوسّط الطول تم إخراجه سنة 1924، الى الستينات
والسبعينات كما في الخليج العربي).
الطموح كان مشروعاً لأن الوله بالسينما كان
كذلك. مفرداتها كانت لا تزال قيد التكوين. عالمها لا يزال
رحباً وينتظر من يسبر
غوره، والجمهور كان غفيراً. في الواقع كان غفيراً الى الحد الذي جعل من
معظم
المحاولات الأولى منصّات انطلاق، وما خبا حينها بُعث بعد حين ليستمر.
في فلسطين
قبل سقوطها سنة 1948 بعام واحد، كانت هناك، بحسب مصدر بريطاني، خمس شركات
إنتاج
فلسطينية هبّت لكي تحقق أفلاماً، أسوة بأقرب المواقع السينمائية النشطة،
وهو مصر.
في المقابل كانت هناك إثنتا عشرة شركة يهودية الملكية تأسست في السنوات
القليلة
السابقة. كلا الجانبين، الفلسطيني واليهودي، كان يهدف الى صنع الأفلام، لكن
في حين
أن الشركات اليهودية لم يكن لديها خيار سوى أن تعمل وتنتج
أفلاماً وثائقية حول
الدعوة للهجرة الى فلسطين والنكبة النازية وما يجاور هذه المواضيع، وجدت
الشركات
الفلسطينية نفسها غير قادرة على تمويل نفقات مشاريعها. هذا العجز في إتمام
المهمّة،
صاحبه قرار ضمني بأن الأفلام المصرية الوافدة الى عموم فلسطين، التي تحظى
بقبول
المشاهدين آنذاك، تكفي وتفي المطلوب. تستطيع هذه الشركات توزيع
هذه الأفلام في
صالاتها، او صالات سواها، فلِمَ المخاطرة بإنتاج الأفلام؟
إنه وضع نموذجي ساد
كنه التعامل مع السينما المصرية، التي سرعان ما أدّى قبولها الى تعزيزها
وهي التي
تمتّعت بنسبة سكانية أكثر عدداً من أي نسبة أخرى، وبكيانات مدنية مستقلّة
ومؤسسات
مصرفية تنظر الى العمل السينمائي كوحدة اقتصادية (او كما نصفه
اليوم بـ"البزنس")
وعملت بجد في هذا السبيل.
دعم بوجهتين
ليس سراً إذاً أن انتشار
السينما المصرية أدّى الى انحسار سواها في المنطقة، او هو
انحسار لما لم يشكّل في
الأساس وجوداً فعلياً. لكن، من دون استقراء كامل التاريخ. الجمهور لم يكن
يشكو.
المثقفون فقط، هم الذين كانوا، عن صواب،
يقودون الرغبة في مشاهدة سينمات محلية تحمل
هويّاتها المنفصلة، والذين كانوا، في مرحلة الخمسينات وما بعد،
يعتبرون معظم ما
تنجزه السينما المصرية لهواً مضراً. لكن قيام سينمات عربية اتصل دائماً
بالاستعداد
المحلي لتبنّيه. لدى السينمائي العربي، في مصر او سواها، ثلاثة سبل للبحث
عن تمويل:
الأول هو دعم الدولة، الثاني هو دعم
المؤسسة التجارية المستقلة عن الدولة، والثالث
هو الخط المستقل الذي قد تقوم به مؤسسة تجارية تُنشأ لهذا
الغرض.
في السنوات
الثلاثين الأخيرة على الأخص، وبعد تجارب سبّاقة، أضيف سبيل رابع: الشركات
الأجنبية (صغيرة عادة وأحياناً كبيرة) التي يمكن
الاتفاق معها على التمويل.
لا تغيب
الدولة عن أي من هذه السبل. مصلحتها المستقاة من شيفرات راسخة ومعادية
للانفتاح
والخلق بعيداً من تلك الشيفرات، يجب أن تُراعى، وهي مستعدة لبذل كل ما
تستطيع فعله،
بما في ذلك المنع قبل التصوير او بعده، لكي تحدّ من حرية التعبير، وإذا ما
تم انتاج
الفيلم من تمويل خارجي ابتعدت عن تأييده بصرف النظر عن قيمته.
دعم الدولة
المباشر كان دائماً مرتبطا بسياستها (لا عجب في ذلك)، لكن هذا الدعم لم يكن
مطلقاً
ذا جانب سلبي منفرد. اليوم، وفي ظل غياب الدعم في معظم الدول المنتجة
حالياً، فإن
تلك الفترة، التي شهدت إنطلاقة مؤسسات سينمائية داعمة ومموّلة
في مصر ثم في الجزائر
وسوريا والعراق، تبدو ذهبية حقاً. هذا مردّه ليس فقط الى أن الدولة شمّرت
عن
ساعديها وأمّمت نظام الإنتاج (من دون أن تمنع النظام المستقل او الخاص)
فوفّرت
موازنات كبيرة واستقلالية عن شروط السوق ورغبات الجمهور فقط،
بل أيضاً لأن العديد
مما أنتج كان يهدف الى سينما ذات مستوى أرقى من مستوى الإنتاج التجاري
الخاص (والمسيطر عادة على السوق)، ما جعله مقبولاً
من أكثر المخرجين رغبة في السيطرة
الفنية والتعبيرية على أفلامهم. تحديداً من صلاح أبوسيف ويوسف
شاهين وتوفيق صالح
وأشرف فهمي وعمار العسكري (الجزائر) ومحمد شاهين (سوريا) ومحمد شكري جميل
وصاحب
حدّاد (العراق) وسواهم. ليس كل هؤلاء في سوية فنية واحدة بالطبع، لكنهم
جميعاً
تعاملوا مع الوضع في سعي حثيث لإتمام صفقة الزواج بين الخلاّق والدولة، ما
نتج منه
عهد نشط في الكم ومرتفع في النوع.
تحت الشمس
في المقابل، فإن دعم
المؤسسات التجارية المستقلة عن الدولة تمتّع بالعلاقة المباشرة بين صاحب
رأسامال
والجمهور العريض. ففي حين أن دعم الدولة كان مستعداً لغض النظر عن
الإخفاقات
التجارية لمعظم مراحله، فإن الإنتاج الخاص كان لا يستطيع الا
أن يحسب عدد الدولارات
التي يتكلّفها الفيلم بعدد الرؤوس البشرية التي ستقبل على الفيلم. الجمهور
كان
مستعداً لما يسلّيه، ولا يزال، والتسلية كانت ولا تزال أيضاً تأتي في
ثوبين: واحد
مترهّل وبلا ذوق او عديم النفع، وآخر "متشيّك"، أنيق، ولديه ما
يعبّ منه، أجاد في
ذلك ام لم يجد. مفروغ منه القول إن المموّل يريد تحقيق الأقصى للغالبية من
الفئات
في أقل سعر ممكن، ونظراً الى هذه المعادلة فإن السينما العربية بقيت في
محلّها
تعاني بشدّة من اكتفاء التمويل بهذه السياسة.
هذا الوضع انتشر في كل بلد لديه
كمّ كبير من السكّان يكفي لمحاولة سد رمق كل فيلم إذا لم يحقق
أرباحاً كبيرة: مصر
تأتي الأولى والمغرب وتونس في المرتبتين الثانية والثالثة. أما باقي مراكز
العالم
العربي السكنية فكان في انتظارها، وانتظار السينما العربية ككل، مفاجآت غير
سارّة:
هي حروب داخلية هنا وإفلاس اقتصادي هناك وتسلّط الدولة وقوانينها على الخلق
في مكان
ثالث، او الإهمال الكامل، من المنتجين الخاصّين قبل سواهم.
ذلك كله تأسس وتكرّس
قبل العقد الأول من هذا القرن وما حمله من متغيّرات عالمية. القرية الواحدة
ساعدت
على هيمنة النوع الواحد من التجارة في الأكل واللبس والبرنامج التلفزيوني
والرواية
والأغنية والفيلم السينمائي، وصولاً الى هيمنة السياسة الواحدة
أيضاً. الكارثة
المتمثّلة في 11 أيلول في العام الأول من العقد، كانت تصعيداً لمقررات
سياسية (وأمنية) ساعدت على تفتيت قدرة سوق عربية
كان في إمكانها أن تجعل من السينما
العربية صناعة كاملة. للحقيقة، هذا الإمكان كان دائماً مطروحاً كمشروع
استثماري
مضمون وخصوصاً بعد انسحاب الرأسمال اللبناني من الصناعة المصرية والتفاف
محطات
الإنتاج التلفزيونية كمصدر أوّل لتمويل الأفلام المصرية مقابل
السوق الخارجية. لكن
النزاعات العربية من ناحية، وعدم المثابرة من ناحية أخرى، إن لم نقل عدم
الإيمان
مطلقاً بالفكرة، أدّيا الى بقاء هذه المساحة الشاسعة من السوق المحتملة
(التي تماثل
حجماً المساحة الأميركية) عارية تحت شمس حارقة.
هل كان من الممكن فعلاً تحقيق
مردود مالي ما من فيلم تونسي يُعرَض في لبنان، او فيلم سوري
يُعرَض في المغرب؟ نعم،
ضمن شروط المعادلة. لقد تطلّب الأمر عشرين سنة من المثابرة قبل أن تنتقل
السينما من
مجرد إنجازات مبهمة في صناديق فرجة، الى أشرطة قصيرة من دقيقة واحدة او
نحوها، ثم
نحو خمس عشرة سنة قبل أن تصبح قادرة على سرد قصّة واحدة طويلة
بزوايا تصوير مختلفة
وفهم متطوّر للمونتاج وبأساليب تتباين، قدر المستطاع، نسبةً الى المرجعيات
الفنية
التي وردت منها. في عالمنا العربي، تطلّب الأمر أكثر من عقود ثلاثة من
انتشار
السينما المستوردة قبل مباشرة تأسيس سينما عربية في هذا البلد
او ذاك. كل ما كان
مطلوباً هو الممارسة وتجذير التجارب مع ايمان مطلق بالغاية المنشودة. لكن
لا القطاع
الخاص كان جاهزاً لذلك ولا القطاع العام كان حرّاً مستقلاً وتجارياً
وخالياً من
النيات السياسية الخاصّة بما فيه الكفاية.
الوضع اليوم أسوأ مما كان عليه
سابقاً.
الفيلم الجيّد كثيراً ما عليه التوجّه الى الغرب القريب، وأحياناً
البعيد، للبحث عن التمويل. وهو حين يرى العرض في الداخل او في الخارج، يبدو
أحياناً
بلا هوية محددة. الفيلم الذي لا يتّجه الى الغرب قد يجد تلك الهوية (او
بالأحرى
يلتقطها تلقائياً) لكنه يبقى محكوماً بضيق السوق المتّسع
لأفلام أكبر حجماً وأكثر
ضجيجاً واستخداماً للمؤثرات الخاصّة عوض الهموم الإنسانية.
الكل حفنة
السينما العربية صارت عبارة
عن فرص منتهزة. في العام الذي تم إنجاز "الرجل الذي باع
العالم"، قدمت بضع محاولات
جديدة أخرى، بعضها أفضل من بعضها الآخر.
من لبنان قدّمت ديما الحر محاولة نصف
مدروسة (ضعفها الأول السيناريو) من تمويل فرنسي طمح الى ما لم
يتحقق تجارياً او
فنياً للأسف. من ناحية أخرى قدّم ديغول عيد فيلمه الأول: وثائقي مسحوب من
تاريخه
الشخصي بعنوان "شو صار؟" حمل اسم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي منتجاً.
المخرج
المصري ذو التجارب المثيرة للاهتمام مجدي أحمد علي أنجز اقتباساً أدبياً
من رواية
إبراهيم أصلان بعنوان "عصافير النيل" وجاء ملبيّاً لحاجة المخرج في تطويع
نص جيّد
لكن أقل مما كان يؤمل منه على صعيد صياغة سينمائية حقيقية.
وكانت وزارة الثقافة
في مصر أطلقت أول إنتاج لها، وأول إنتاج حكومي منذ إغلاق المؤسسة العامّة
للسينما
في مصر، في شكل فيلم "المسافر" الذي كلّف كثيراً وأسدى قليلاً. أفضل منه
بكثير،
فيلم كاملة أبو ذكرى، وفيه نظرة واعية لعيوب الوضع الإجتماعي كما تراه في
"واحد
صفر". وفي حين أنجز مرزاق علواش فيلماً يمتاز بتقنيّته الجيدة في حدود قصّة
تدور
نصف أحداثها في مركب يحمل مهاجرين غير شرعيين هاربين من الساحل
الأفريقي الى
أسبانيا في "حرّاقة"، اختار الفلسطيني ميشيل خليفي (المهاجر حاله في ذلك
حال
الجزائري علواش) قصّة عودة من الهجرة يقوم بها مخرج سينمائي مثله (محمد
بكري) الى
الناصرة ليجد نفسه غريباً في وطنه، او "زنديقا" كما العنوان.
وأنجزت السينما
الخليجية بضعة أفلام. لكن على عكس إنتاجات العام الأسبق لم يكن من بينها ما
هو لافت
وأحدها إماراتي بعنوان "دار الحي" حيث ثلاث قصص يحاول المخرج مصطفى علي
ربطها
دراميا ومونتاجياً لكنها تبقى متفرّقة وغير موحية.
من العراق كانت هناك المحاولة
الإخراجية الثانية لمحمد الدراجي متمثلة في فيلم عنوانه "إبن
بابل"، حيث رحلة ذات
طبيعة مؤثرة تتحوّل ركاماً من النحيب المتواصل من دون التحليل الإنساني
والسياسي
الذي كانت تستحقه.
لكن هذه هي الحفنة، وفي كل عام هناك حفنة، وكل حفنة، بل مجموع
هذه الحفنات، لم تعد تستطيع أن تكوّن حالة صحيّة صحيحة او واعدة. السينما
العربية
بعد أول فيلم على شريط سيليلويد تم تحقيقه في مدينة ليدز
الإنكليزية عام 1888، تعيش
حالياً أزمات أكبر من تلك التي عايشتها سابقاً. المعنى الوحيد لذلك أنها
تمشي الى
الوراء عوض أن تخطو الى الأمام. خلاصة كل المشكلات والأزمات، أنها فاقدة
الوجهة
والهدف، قائمة على محاولات فردية وغائبة عن الانضواء تحت
محاولة حل شامل عوض
التشرذم في معسكرات والعمل بحسب الفرصة المتاحة.
النهار اللبنانية في
30/07/2010 |