يري البعض أن هناك فارقا كبيرا بين 25 يناير 2011 وذكراه الأولي في
2012 . ولكن مشاهدتك الآن لفيلم (أنا والأجندة) من إنتاج إبريل 2011 إخراج
نيفين شلبي ستؤكد لك أن الفارق ليس كبيرا تماما كما يتأكد لك ذلك عندما تري
نفس الوجوه التي حرضت ضد الثورة واتهمت صناعها بحمل الأجندات هم الأكثر
ظهورا علي ساحة الإعلام المرئي، أو الأكثر كتابة في إعلام الصحافة، وهم
يواصلون نشر رسالتهم المسمومة بعد فاصل من المدح والنفاق الكاذب لثورة
يناير. فتقريبا نفس خطاب الأجندات الذي كان يوجهه الإعلام الرسمي وحكومة ما
قبل الثورة هو نفس خطاب اليوم، ونفس الاتهامات التي كان يكيلها مبارك
وتابعه صفوت الشريف لرموز الثورة وللحركات التي دعت إليها مازالت توجه
اليوم، ، كل هذا مع أن الجميع يسبح بحمد الثورة ويزعم أنها كانت جميلة
ورائعة في طلعتها الأولي قبل أن يندس فيها المندسون، وكأن كل الملائكة
المخلصين الذين كانوا بها اختفوا ولم يبق سوي المندسين. تضع المخرجة الشابة
نيفين شلبي عنوانا واضحا وصريحا ليتصدر فيلمها وليرشدها ويهديها وهي تشيد
عملها المتميز: (أنا والأجندة) وكأنها في حالة تحد مع هذه الأجندة أو من
يدعون بوجودها، وقد يري البعض أن تحقيق فيلم يعضد اتهام صناع الثورة بتنفيذ
هذه الأجندات هو أمر في غاية السهولة، خاصة لو قدر لصانعته أن تكون في قلب
أحداث الثورة منذ لحظاتها الأولي، وهو ما تكشف عنه لقطات الفيلم بوضوح، بل
وصوت المخرجة وهو يأتي من وراء الكادر من موقع الأحداث خلف الكاميرا
أحيانا. من قلب الثورة ولكن هذا التصور ليس صحيحا علي الإطلاق، فما أسهل أن
ترد علي هذه الاتهامات بشحنة من الانفعال الزائد أوالأصوات العشوائية
المنفلتة اوحتي الوجوه المنمقة الملفقة الزائفة فلا يتحقق أي تأثير، ولكن
نيفين في رأيي تختار بفطرتها وخبرتها الفنية السليمة الطريق الصحيح للوصول
للهدف، وفي سبيلها لهذا تحقق فيلما صعبا، قد يسهل تصنيفه كتسجيلي أو وثائقي
طبقا لما هو شائع. لكن قد يراه البعض، وأنا منهم، أحد نتاجات الفيلم القصير
الحديث الذي يتعذر تصنيفه، فهوشأنه شأن فنون ما بعد الحداثة يستفيد من
العديد من الأشكال والأنواع الفنية لتحقيق رؤية ذاتية ووجهة نظر محددة
اعتمادا علي مادة حقيقية ومنهج موضوعي في البحث والاختيار، فنيفين تمزج في
بنائها الفيلمي بين المادة التسجيلية والمادة الأرشيفية والريبورتاج
المباشر والأغنية المعبرة والرسوم واللوحات كنتاج طبيعي لثورة كانت ساحة
لمختلف أنواع الفنون وأساليب الإبداع. ولكن الأهم من كل هذا أنك تعيش مع
نيفين شلبي لحظات شديدة الأهمية والدلالة من عمر الوطن، وتنصت إلي شهادات
هؤلاء المواطنين البسطاء الذي يحلو للبعض تصنيفهم بغير المسيسين علي أساس
أن المسيسين من اتباع الشيطان، وأن السياسة لا يجب أن يمارسها إلا خدم
النظام الفاسد في سبيل حمايته وتحقيق أغراضه الدنيئة. وهكذا تخاطب نيفين
هذه العقول الرجعية المريضة، ومن يتبع خطابهم، بأصوات لا يمكن أن يعترضوا
عليها لأنها لمواطنين عاديين جدا من الطبقة المتوسطة وما تحتها، هم
بالتأكيد ليسوا المواطنين الذين تصفهم البيانات ونشرات الأخبار بالشرفاء
ممن يخرجون للعباسية وغيرها من الميادين مذعورين من كل من ينادي بالحرية
والكرامة، وكأن الحرية والكرامة أمران لا يعرفهما من يوصفون بالشرفاء الذين
سئمنا من مناظرهم ومن هياجهم الجنوني، ومن أبوهم الحرامي وكنبتهم العفنة من
طول رقادهم عليها ومن صمتهم الذي أطبق علي أنفاس الوطن وأخرسه سنوات
وسنوات. لحظة عبقرية تمتزج شهادات ثوار نيفين بلقطات حية للمظاهرات
والمواجهات بين المتظاهرين والأمن، وتأتي هذه المشاهد لتعكس جرأة حقيقية
لمخرجة خرجت بكاميرتها لتصور في أصعب الأيام وأشدها حساسية، وهي تخترق
بآلتها الذكية حدود الخوف لتنقض علي الصورة الحية المعبرة ولتلتقط الأصوات
والكلمات الصادقة الحقيقية، في تلك اللحظة العبقرية من إحدي المواجهات
الفارقة بين الثوار في البدايات الأولي وقد تجمعوا من كل صوب أمام فندق
الشيراتون ليعبروا كوبري الجلاء وقد وقف في مواجهتم جنود الأمن المركزي
المذعورين من هذا التدافع الرهيب ليهدئهم هؤلاء المتظاهرون السلميون
الواعون " ما تخافوش" . من مادتها القوية الثرية تصيغ إيقاعها بإتقان
وتتحكم في تأثير الصوت والصورة، وبعد أن يصل الناس إلي قمة الغليان والغضب
وتتحول شكواهم إلي صياح وصراخ تصحبه موسيقي حماسية مؤثرة يأتي صوت مبارك
البارد المستفز بإيقاعه القاتل وإحساسه الغليظ في خطاباته المتأخرة
المتخلفة، ومن هنا يأتي الغليان من جديد كرد فعل طبيعي وتلقائي للحظة خانقة
وقاتلة من رجل جاثم علي السلطة لا يدرك خطورة موقفه ولا يفكر إلا في الحفاظ
علي سلطته وسلطانه. وبينما يردد مبارك في خطابه المكرر "إن مسئوليتي الأولي
الآن هي استعادة أمن واستقرار الوطن"، يأتي صوت أحدهم معلقا في نفاد صبر:
"لخص" .وعندما يقول " إنني لم اكن أنتوي الترشح لفترة أخري" تأتي صيحات
الاستنكار لعباراته الجوفاء التي لم تعد تنطلي علي شعب أدرك هدفه وصمم علي
اسقاط النظام الفاشل من رأسه، وهكذا فأنت تتابع من قلب التحرير خطاب رجل لا
ينشغل إلا بذاته ولا يشعر بحال الناس الذين هم ليسوا في أي حاجة لأجندات
تحركهم أكثر من هذا البرود القاتل والغباء الفاحش والاستهتار البالغ
بمشاعرهم ومطالبهم. إملاءات أجنبية ولكنه يواصل في تبجح "ولكن الحرج كل
الحرج أن أستمع لإملاءات أجنبية" لكن تتعالي صيحات الرفض والاحتجاج قبل أن
يكمل جملته وبمجرد أن يشير إلي أنه سوف يعمل خلال الأشهر المتبقية.. لا أحد
يريد أن يعرف ماذا سيعمل ولا ينشغل أحد بخطابه المستفز المكرر الساذج عن
الأجندات، ولكن الكل رافض لفكرة بقائه من الأساس ومصمم علي إجباره علي
التنحي . ومن صيحات وهتافات الاحتجاج والتنديد والإصرار علي رحيله تعود
نيفين إلي الصوت الهادئ، ولكنه هذه المرة صوت شهودها المختارين بضميرهم
الحي وحسهم اليقظ قبل أن ننتقل إلي موقعة الجمل بصخبها وغوغائيتها ويختفي
وجه مبارك البغيض ليأتي وجه عمر سليمان الأكثر بغضا وصوته الأكثر برودة
ولزوجة لتأتي الردود سريعا لتعيد للإيقاع حيويته ولتعيد للصورة الباهتة
قوتها وسخونتها في تصاعد درامي ينتقل من ذروة إلي أخري.. من وجوه حزينة إلي
رافضة إلي ساخطة إلي منفعلة كأقصي ما يكون الانفعال لتصل إلي التشنج ولطم
الخدود..ربما تضعف نيفين قليلا أمام المبالغات الصارخة وقد تطول اللقطات
أحيانا لأكثر مما ينبغي أويصل الصراخ إلي حد لا يطاق بطريقة كان يمكن
السيطرة عليها مونتاجيا أو صوتيا. ولكن انفعال المخرجة باللحظة واللقطة
كشريكة في الثورة يفرض عليها حالة من الاندماج التي تخل نوعا ما بالانضباط
الفني والتأثيري، ولكنها سرعان ما تعود للسيطرة من جديد وهي تتنقل من
الريبورتاجات الخاصة إلي الهتافات العامة، وعندما تتعالي الهتافات الغاضبة
تعود المخرجة المتمكنة لتبدأ من الصوت الهادئ من جديد وهي تبني وحدة جديدة
في مؤلفها السينمائي البليغ، فنستمع إلي صوت الشاب الواعي وهو يحدثنا عمن
يوصفون بأنهم أصحاب الأجندات في إسرائيل وأمريكا ليؤكد بهدوء أن هؤلاء آخر
ناس لهم مصلحة في رحيل مبارك لأنه حامي استثماراتهم ومصالحهم في مصر عكس ما
يزعم خدم النظام. وتتوالي مشاهد التقرير الأرشيفي الوثائقي التي تفضح
بالصورة مزاعم مبارك وأنصاره في أن الأمريكان هم الذين يجندون المواطنين
لخلعه، فالصورة تكشفه لمن لا يعرفون كأقرب الأقرباء والحليف المخلص لمن
يصفهم الآن بأعدائه وأعداء الوطن، وهي تصل به إلي لحظته الفاصلة لتفضح
أجندته المزعومة في آخر حلقات فيلمها الذي تحدده بلافتة " الخميس 10 فبراير
في انتظار خطاب الرئيس الثالث"؟ الحذاء يتكلم من هذا الخطاب تتخير الأجزاء
التي يعيد ويزيد فيها حول موضوع الأجندات الكاذب.، وقبل أن تصدر لنا لقطات
الأحذية في مواجهته تسبقها بلافتة "لكنه لم يتنح"، وتعقبها بكلمة بسيطة
لرجل بسيط وهو يشير إلي حذائه " يارب تفهم بس من ديه"..وتتوالي لقطاتها
العامة المتنوعة المتصاعدة للمظاهرات الغاضبة من أماكن وزوايا مختلفة بصورة
مكثفة غير مسبوقة، حتي يأتي بيان عمر سليمان بتخلي المخلوع عن السلطة،
لتتوالي اللقطات الأعم والأوسع مجالا كاشفة عن فرحة الجماهير الطاغية بخلع
الطاغية، ولتنهي نيفين فيلمها بأغنية "احلم معانا ببكرة جاي" مع توالي
اللوحات الساخرة من أكذوبة الأجندات، وتعقبها العناوين المتلاحقة عن القبض
علي رموز النظام أصحاب الأكذوبة ومن بعدهم مفجرة رأس النظام نفسه، تتركنا
نيفين مع هذه الأغنية المتفائلة والحالمة ومع هذه الأخبار المبهجة السارة.
وبقدر جرعة الأمل والتفاؤل التي ينتهي بها الفيلم بقدر ما يثير فينا الشجن
والمرارة ونحن نشاهده اليوم، بعد ان توقفت الانجازات عند هذه الحدود،
وتوالت الاتهامات والطعنات من جديد لرموز الثورة ورجالها ونسائها، ونيفين
بالطبع لم يكن في حسبانها أوحسبان أحد أن يعود حديث الأجندات من جديد كما
نعيشه الآن، وثقت نيفين بأمانة للحظات أمل وتفاءل عشناها جميعا ونقلت
ببلاغة فنية معركة التحرير ضد مدعي الأجندات الكاذبين، كنا نعتقد أننا
أخرسناهم ولكن حديثهم الكاذب لن ينتهي ما دامت الثورة لم تنتصر نهائيا
ومادام الفلول وبقاياهم يهيمنون علي كل القطاعات والهيئات، وفي انتظار فيلم
نيفين الجديد في أمل بغد جديد ونصر جديد علي رافعي رايات الأجندات الكاذبة
حتي إشعار آخر.
جريدة القاهرة في
21/02/2012
جوائز «كليرمو فيران».. تذهب
لأفلام الطرافة والتقليدية
بقلم : غادة عبد المنعم
يعتبر مهرجان كليرمو فيران بمسابقاته الثلاث واحدا من أهم مهرجانات
السينما بالعالم، خاصة في مجال الأفلام القصيرة، ويعرض المهرجان حوالي 5000
فيلم سنويا (في هذا العام عرض 4500 فيلم) في عشرين برنامج عرض منها برامج
المسابقات الثلاث الدولية والمحلية والديجيتال، ذلك حيث شارك بالمسابقة
الدولية هذا العام 77 فيلما من جميع أنحاء العالم منها الفيلم المصري الجيد
"الحساب" إخراج عمر خالد، وعرض المهرجان أفلامه في 15 دار عرض تتسع لعدد من
المشاهدين يصل لحوالي خمسة آلاف مشاهد وبعدد خمسة عروض لكل منها يوميا، أي
حوالي خمسة وعشرين ألف مشاهد يوميا، وتقريبا مائتي ألف مشاهد يطول أيام
المهرجان، وتقدر مجموع جوائز المهرجان بمائة ألف يورو سنويا تقسم علي
العديد من الجوائز التي ترعاها وتمنحها وزارة الثقافة متمثلة في بيوت
الثقافة الفرنسية، وفي بلدية مدينة كليرموفيران، بالإضافة لعدد من الشركات
الكبري المتخصصة في الإنتاج السينمائي وفي صناعة السينما والصناعات
المتعلقة بها وبالإنتاج الثقافي كشركات فوجي وكوداك وقنال بلس وآدمي وفناك
وغيرها. ابتكار وتقنيات في هذا العالم شاهد متابعو المهرجان عددا من أفضل
الأفلام القصيرة علي مستوييي الابتكار والتقنيات وكذلك أفضلها من حيث
الموضوعات الانسانية والاجتماعية الملحة التي تعالجها وقد تصدرت قضايا
الهجرة غير الشرعية واختراق الخصوصية والظلم الواقع علي العمال والفقراء
القضايا التي تناولتها الأفلام وتلك التي حصلت علي جوائز المهرجان. وقد حصل
فيلم الاتوبيس الاخير من سولفانيا علي جائزة أفضل فيلم لمخرج شاب والفيلم
من اخراج المخرجين مارتين سنوبيك وايفانا لوسكيفيل، الفيلم طريف في قصته
المبتكرة حيث يدور حول ذئب مطارد من الصيادين ومصاب ينتظر الأتوبيس الأخير
الذي يمر بالغابة ليقل الحيوانات حتي يهرب من الصيادين البشر، يستطيع الذئب
اللحاق بأتوبيس الحيوانات الأخير وبعد ركوبه يبتعد عن باقي الحيوانات
ويختبئ وراء الحقائب حتي لا يعثر عليه الصيادون اذا مروا لتفتيش الاتوبيس،
يتوقف السائق لإقلال ذئبة مصابة يحميها صديقها الذئب لكن عند أول تفتيش
للصيادين يضحي الذئب بصديقته من اجل سلامته وبعد موتها علي يد الصيادين،
ووسط رعب الحيوانات التي في الأتوبيس يكتشفون صبيحة اليوم التالي أن الذئب
قد قتل نفسه. الفيلم طريف بسبب أسلوب إخراجه حيث استبدل المخرجان الرسوم
المتحركة بممثلين يرتدون فراء وأقنعة لوجوه حيوانات وقاما بالتصوير في
الغابة وداخل اتوبيس مع استخدامهما لأصوات اقرب لدمدمات الحيوانات والفيلم
يظهر هذا إذا رغبنا في قراءته بشكل رمزي كيف يمكن للبشر التحول لكائنات
أقسي كثيرا من الحيوانات المفترسة وكيف يمكن أن يتحول المكسب المبني علي
التضحية بالرفاق لأسباب لنهاية حياة أي منا، فحتي أقسي الحيوانات قد تقتل
نفسها نتيجة شعورها بالذنب لما اقترفته في حق رفاقها، و بعيدا عما يمكن
تأويل الفيلم عليه يبقي أن أهم مكوناته كفيلم درامي تجريبي قصير هو الطرافة
والمغايرة ففضلا علي التحكم الكامل بتقنيات السينما هناك موهبة المخرجين
والسيناريست في التعبير السينمائي عبر طرق مغايرة واستخدام الممثلين بدلا
من الرسوم أو العرائس. * جائزة قناة بلس منحت لفيلم طريف هو الآخر، لكن
طرافته لا تنبع من تقنيات الإخراج لكن من القصة الخيالية، الفيلم القصير
للمخرج هيو اوليا من السويد مبني علي قصة لمسلسل أمريكي شهير يقوم فيه
الموتي المفترسون بمهاجمة البشر والجديد في قصة الفيلم هو ما يطرحه المخرج
من سؤال أخلاقي هو تري لو عثر احد العاملين في تحويل هؤلاء المفترسين لخدم
للموسرين والدته المفترسة بينهم، ورغب في حمايتها فهاجمته وحولته لوحش تري
هل يستحق بعد ذلك فرصة في الحياة؟ خاصة لو أنه فعل كل ما يستطيع ليحصل علي
علاج مناسب ليستعيد إنسانيته؟ هل من حقه عند ذلك البقاء حيا؟ أم يجب التخلص
منه حرصا علي حياة الآخرين وخوفا من أن يهاجم المزيد؟ وقد جاء تميز الفيلم
من تمكن طاقمه الكامل من أدواته وما وجدته لجنة تحكيم قناة بلس من تساؤل
إنساني وكذلك ما عبر عنه من تخوف من تحكم الأغنياء في المجتمع حيث يصرون
علي الإبقاء علي أي نوعية من الاستعباد قد تؤذي المجتمع وبأي شكل وفقط من
أجل مصالحهم الاقتصادية وهو ما يشير لأننا في عصرنا هذا مازلنا متخلفين
حضاريا ونعاني استعبادا بشريا عاما يعود لأسباب يخلقها جشع الأثرياء.
الجائزة الكبري أما الفيلم الذي حصل علي الجائزة الكبري للمهرجان فكان فيلم
"المدعوة" وهو فيلم من كوريا الجنوبية درامي إنساني، للمخرج جاه ايان يون
ويدور حول فتاة مشاكسة مراهقة يملؤها العنف والضيق تذهب لبيت زوجة والدها
وهناك تقابل لأول مرة أبناءه منها حيث تجد الطفلين وحدهما فتبدأ في
إزعاجهما بالسباب والتعدي علي البيت ومضايقة أكبرهما الذي يعتني بأخته التي
لم تكمل أربع سنوات، ثم تتغير توجهاتها السلبية تجاهها بمجرد اختبائها
والتلصص علي زيارة والدها القصيرة للطفلين واكتشافها أنهما لا ينالان أي
مودة ولا عناية منه. يتميز الفيلم بالأداء التمثيلي الجيد للممثلين خاصة
الأطفال وبتحكم المخرج التام من أدواته وإن كان لا يتميز بأي جديد في
معالجة الموضوع. الفيلم الأمريكي"الولايات المتحدة"
curfew من اخراج المخرج شون كريستان، هو الآخر تقاسمت بطولته طفلة وحيث ان
اسناد البطولة لأطفال غالبا ما يشبه التميمة التي تؤدي لحصول اي فيلم علي
جائزة الجمهور فقد حصل الفيلم الدرامي الانساني علي جائزة الجمهور. الفيلم
يدور حول شاب مثقل بمهام عمله وحياته تطلب منه مهمة مزعجة جدا بينما يرجو
لو ينال قليلا من الراحة حيث تتصل به جارة لا يعرفها وتطلب منه الذهاب
لشقتها لرعاية أختها الطفلة ذات التسع سنوات والتي ستقضي الليل وحيدة
لاضطرار الأخت الكبري للمبيت خارج البيت لظروف طارئة. الشاب يضطر للذهاب
لشقة الجارة حيث يقضي ليلة متعبة دون نوم مع الطفلة الشقية ليلة تغير حياته
كلها حيث يقرر في الصباح ترك عمله المزعج بكل متطلباته الثقيلة لعمل يمكنه
معه الحصول علي بعض الراحة. وفضلا علي تعاطف الجماهير مع القصة والبطل
الطفل "الطفلة" كان وراء منح جائزة الجمهور للفيلم اكتمال عناصره وجودته
بشكل جاء به أقرب لفيلم طويل متقن. خاصة فيما يتعلق بعنصر التمثيل، وذلك
فضلا علي الجانب الإنساني اللطيف المتمثل في العلاقة المتبادلة بين الطفلة
والشاب المجهد بأعصابه التي لا تحتمل المزيد. فيلم "ذاكرة لفائف الخيط"
للمخرج اولو ايكاف من النمسا حصل علي جائزة الانميشن "التحريك" والفيلم
فيلم تحريك قائم علي تحريك لفائف من الخيط والقصة اللطيفة جدا والمبهرة
للفيلم بما فيها من حس طفولي تدور حول مجموعة من لفائف الخيط محبوسة في
صندوق غزل تحاول الانفلات من الخروج من الصندوق لتتحول لنسيج. وحصل فيلم
المخرج السويسري رينالدو كولا "اعتراض ضد" علي جائزة لجنة التحكيم الخاصة
والفيلم يدور في إطار أشبه بالإطار التسجيلي ليوميات مهاجر من نيجيريا بعد
هجرته لسويسرا حيث لا يملك مالا ولا يملك تأشيرة إقامة ويبحث عن وسيلة
للبقاء في بلد مهجره سويسرا عبر العمل أو عبر أي علاقة مع مواطنين من هذا
البلد أو عبر مهاجرين شرعيين فيه ويحاول التكسب والحياة في سويسرا بأي شكل
ولو عبر البقاء في ملجأ، لكنه سرعان ما يقبض عليه ويسجن في سجن حيث يضرب عن
الطعام حتي الموت، الفيلم معالج بأسلوب احلال الكاميرا محل البطل حيث نشاهد
كل ما يشاهده البطل دون ان نشاهد البطل نفسه لكننا نسمع صوته، نري الكاميرا
هذا الأسلوب الذي يعطي إحساس الفيلم التسجيلي حيث يفترض أن نشاهد ما يحدث
كأننا عين بطل الفيلم يمنح توترا للأحداث. يتميز الفيلم بإيقاعه التسجيلي
وأسلوب تصويره الوثائقي الذي يسعي المخرج من خلاله للتأكيد علي الموضوع
مفضلا اياه علي الأثر الدرامي ساعيا بذلك لتدعيم الأثر النفسي الناتج من
صدمة المشاهد أثناء مشاهدته لوقائع تحدث في الحقيقة وقد كان لأسلوب المخرج
التسجيلي هذا تأثير قوي كأداة نقية لتوصيل موضوع الفيلم الذي يدين ما يتعرض
له مهاجر لم يؤذ أي شخص من إلقاء في السجن ومن معاملة مؤذية غير إنسانية
لإجباره علي تناول الطعام علي غير إرادته والإصرار علي ترحيله مقيد
بالسلاسل لبلاده مما يؤدي لموته في النهاية. وقد حصل الفيلم النرويجي "علي
الجهة المقابلة من المحيط" علي جائزة الميدياتيك والفيلم يتميز بما يعالجه
من جانب إنساني علاوة علي اكتمال عناصره من تصوير وإخراج وسيناريو وتمثيل
ويدور حول رجل يشارف علي السبعين يكتشف إصابته بالسرطان ويفكر في توثيق
علاقته بأخيه الذي يعيش في الولايات المتحدة لذا يعتزم زيارته لكنه يواجه
صعوبات مالية لتحقيق ذلك كما يواجه بظروف أخيه التي لا تناسب هذه الزيارة
مما يدفعه لنسيان الفكرة ومحاولة عيش أيامه الأخيرة والاستمتاع بها. الحساب
بالمصري لقد شاركت مصر في برنامج المسابقة الدولية بالفيلم الجيد "الحساب"
من إخراج المخرج المتميز عمر خالد الفيلم درامي جيد التمثيل ومكتمل العناصر
يدور في إطار اجتماعي حول الفساد والاضطهاد والفقر والانحدار والإذلال، حيث
كل فرد يظلم ويضرب ويضطهد الآخر علي شرط أن يكونوا أفقر منه وأكثر ضعفا
منه، فالمدرس يضرب الطلبة والسائق مضطهد من الشرطي والذكور الفقراء يعتدون
علي الجارة الأفقر والطفل يتلصص علي الكبار وحيث لا يفوز إلا الغني والقوي
ومن في السلطة. يستعرض الفيلم يوما في القاهرة وسط المهمشين والفقراء حيث
يبدأ المدرس يومه بقيادة التاكسي الذي يسوقه كأكل عيش وفيه تتعرض فتاة
فقيرة للمعاكسة وبدلا من أن يقوم الضابط بضبط المعتدين عليها وعقابهم يعطي
مخالفة للسائق ويترك المعتدين ويعتدي علي الفتاة، يعود المدرس بعد ذلك
للمدرسة فيمد الأطفال علي أرجلهم وتعود الفتاة للبيت لتتعرض لتلصص أطفال
الجيران وتهجم ذكورهم عليها. الجميع من الفقراء في فيلم "الحساب" اذن يحاول
عقاب الآخرين رغم فقرهم ويحاول التعويض علي قهره بقهرهم وذلهم. الفيلم
مكتمل الأدوات وجيد التمثيل ويتعرض لقضية مهمة هي العدالة، ويتساءل كيف؟
ومتي؟ وأين يجد المصريون العدالة؟ ومتي لا تعتبر السلطة نصف الشعب الذي
يعيش تحت خط الفقر ومتي لا تعتبر عرضهم مباحا؟ ومتي يكف أفراد الطبقة
الفقيرة عن ظلم بعضهم بعضا والانتقام من بعضهم بعضا لما يفعله فيهم أصحاب
السلطة والأغنياء ومن يستغلونهم؟
جريدة القاهرة في
21/02/2012
مايكل هانيكي:
أوروبا والبرجوازية
والعنف وعقدة الذنب.. لا أحد يمتلك الحقيقة
بقلم : يوسف هشام
هذه عينة من مشاهد أفلام المخرج (مايكل هانيكي) لتشعر بما أنت مقبل
عليه اذا كنت ستشاهد فيلما من إخراجه. تمتاز أفلام المخرج مايكل هانيكي
بارتباطها بتيمات واطارات محددة حتي وان تغير الشكل من فيلم لآخر، فستجد
العنف وعقدة الذنب والنقد أو السلخ الاجتماعي بشكل متكرر، وليس معني هذا أن
الأفلام مكررة ففي كل أفلامه أصالة سيناريو يجعله مميزا. وفي عشرين عاما
انتزع هانيكي، النمساوي الأم/الألماني الأب مكانة متميزة ورفيعة المستوي
بين مخرجي العالم، وهذه المكانة تزداد كلما صنع فيلما جديدا، لأن روعة
أفلام هانيكي تتضح أكثر كلما شاهدت أفلاما له، فكلما شاهدت فيلما تشعر انك
وجدت قطعة بازلت جديدة في بورتريه هانيكي. ربما يكون سبب تأخر هانيكي في
اخراج أول أفلامه الطويلة هو عمله في التليفزيون سواء كمحرر أو كمخرج
لأفلام تليفزيونية، فأخرج أول اعماله «القارة السابعة»
Der SiebenteKontinent) عام 1989 وهو في عامه السابع والأربعين.
والقارة السابعة أخذت قصته من حادث حقيقي في النمسا عندما انتحرت أسرة
انتحارا جماعيا دون أسباب واضحة. وعلي عكس المتوقع فان هانيكي لم يحاول شرح
أو تحليل الحادث، كما حاولت الصحافة، قدر ما حاول تفكيكه. فيعرض روتين
الحياة اليومي لهذه الأسرة علي مدار ثلاثة أيام في ثلاثة أعوام قبل
الانتحار. وانتهز هانيكي هذه الفرصة لعرض أسلوب حياة الطبقة البرجوزاية في
النمسا أو الدول الغنية بشكل عام، وكيف يحول هذا الأسلوب البشر الي كائنات
ميكانيكية باردة ومعزولة، فينتهي الفيلم دون ان تعرف سبب اكتئاب هذه الأسرة
ولكنك حتما شعرت به. "بالنسبة لي السينما أقرب للموسيقي منها للأدب، فهي
تؤثر عن طريق الايقاع" هذه هي جملة هانيكي التي تحمل دلالات كثيرة لقراءة
أفلامه بدءا من فيلمه الاول، فاذا نظرت وتأملت طول اللقطات وأحجامها
القريبة الخانقة ستري تأثير هانيكي من خلال الايقاع والصورة ويتجلي هذا في
مشهد العشر الدقائق الشهير التي تحطم فيه الأسرة كل ممتلكاتها وتمزق النقود
وتحطم حوض السمك بينما تترك التليفزون سليما، وهو مشهد شديد القسوة
والتأثير. وكان مستوي الفيلم المرتفع كفيلا بمشاركة الفيلم في قسم نصف
أسبوع المخرجين بمهرجان كان السينمائي. فيديو بيني يأتي بعد ذلك فيلمه
الثاني عام 1993 باسم (فيديو بيني
Benny's video)
ويكون الجزء الثاني من ثلاثية أطلق عليها فيما بعد (ثلاثية تجلد الاحساس)
بعد الجزء الاول (القارة السابعة). وكعادة افلام هانيكي تكون اسرة هي محور
الأحداث، ان لم تكن أسرا متعددة فيما بعد، ولكن هذه المرة بطل القصة هو
(بيني) الابن الوحيد المدلل الذي يمتلك العديد من كاميرات الفيديو ومكن
التسجيل، لدرجة انه لا يفتح الشبابيك أبدا لأنه يري الشارع من خلال شاشاته
وكاميراته. ويبدأ الفيلم بلقطة فيديو من تصوير بيني لخنزير يتم اعدامه ثم
نري نفس اللقطة معادة بالتصوير البطيء، ليكون هذا هو المفتاح في تلقي
الفيلم. فالفيلم ينتقد بشكل واضح العنف في الاعلام والسينما من خلال بيني
المهووس بهذه الأفلام، الأمر الذي يجعله يرتكب جريمة قتل، بنفس آلة اعدام
الخنزير، دون أي دافع. فبيني قتل فتاة تعرف عليها في الشارع فقط ليجرب
الاحساس أمام الكاميرا بينما يشاهد المتفرج الجريمة من خلال شاشة ويبدو
جليا اختلاط الواقع بالشرائط المصورة عند بيني، فهو يمسح الدماء من علي
الأرض بنفس البطء والتأني الذي مسح به اللبن المسكوب في مشهد سابق. "نحن في
النمسا معتادون علي تخبئة القاذورات تحت السجادة بدلا من تنظيفها" هكذا
يعلق هانيكي علي فيلمه، فعندما يعلم أبو وام بيني بفعلة ابنهما، أول ما
ياتي في بالهما هو كيفية التخلص من المسئولية، فيسافر بيني مع أمه لمصر في
إجازة بينما يتخلص الاب من الجثة وقبل أن يعود بيني ويبلغ الشرطة عن نفسه
وعن أهله في مشهد نهاية مدهش لفيلم مدهش بذاته. وفي الجزء الثالث من
الثلاثية (71 شظية من تسلسل للصدفة
fragments of a chronology of a chance)
يخرج هانيكي من اطار الأسرة الواحدة ليصنع فيلما عبارة عن مقاطع متفرقة
لشخصيات تلتقي في النهاية في حادث إطلاق نار عشوائي يودي بحياة معظمهم، وهو
حدث حقيقي أيضا حدث في النمسا. ومثلما فعل في فيلمه الأول لا يحاول هانيكي
شرح الأسباب أو المعطيات وراء الحدث، بينما يركز علي الشخصيات القادمة من
أبعاد مختلفة وتفاعلهم اليومي وفقدانهم القدرة علي التواصل، بينما ينتقد
صورة الغرب المزيفة من خلال الطفل المهاجر غير الشرعي الذي يسرق مجلة
(دونالد داك) ليجد فيها ما لم يجده في هذه البلد، ويركز أيضا علي شخصية
الشاب الغاضب المكئتب الذي يرتكب المذبحة قبل أن ينتحر. ويعتبر البعض (71
شظية) أنه ربما يكون الاصعب في التلقي من أفلام هانيكي. ألعاب مسلية في عام
1997 قدم هانيكي فيلمه الشهير «ألعاب مسلية»
Funny games
الذي أعاد تقديم نسخة أمريكية مطابقة منه عام 2007 . يبدأ الفيلم بوصول
أسرة سعيدة الي منزل الاجازات الخاص بهم قبل أن يقتحم عليهم منزلهم شابان
ليقولا لهم إنهم سيلعبون معهم ألعابا مسلية حتي التاسعة صباحا قبل ان
يقتلوهم! مهلا، هذا ليس بفيلم رعب تقليدي كما تظن، فهذا الفيلم تحديدا به
أسلوب وشكل مختلف عن باقي أفلام هانيكي، ففي هذا الفيلم نري شخصية القاتل
بول وهو ينظر للكاميرا ويغمز، ثم لاحقا يكلم المتفرج سائلا اياه "أنت في
صفهم اليس كذك؟"، ثم يتجلي كسر الايهام بعد أن تقتل الأم أحدهم فيمسك الآخر
بالريموت كنترول ويعيد المشهد ليمنعها من قتل زميله. اللعبة هنا ليست قصة
الفيلم بقدر ما هي تفاعل المتفرج مع الفيلم، فكسر الايهام المتعمد يذكرك
انك تشاهد فيلما وأنه يتم التلاعب بك، وهو انتقاد واضح لأفلام الرعب والعنف
التجارية التي تقدم العنف كسلعة وليس كفعل شنيع. فبرغم قلة مشاهد العنف
الحقيقي والدماء من الفيلم، إلا أن العنف النفسي يكبس أحباس المتفرج الي
درجة لا يحتملها البعض، فالفيلم بمثابة عقاب لمشاهده بمطنق: "أأردت مشاهدة
فيلم رعب؟ هاهو الرعب الحقيقي دون تزييف"، وان كان هذا لا ينفي عن الفيلم
أصالته وجودته. الجدير بالذكر ان من قام بدور القاتل بول هو الموهوب (أرنو
فريتش) ومن قام بدور بيني في (فيديو بيني) بينما من قام بدور الأب هنا هو
(يولريخ ميو) الذي أيضا قام بدور الأب في ذات الفيلم. شفرة مجهولة في عام
2000 قدم هانيكي أول أفلامه الفرنسية (شفرة مجهولةCode unknown
أوCode
inconnu) وشاركت في بطولته النجمة الشهيرة (جولييت بينوش)
وهو ربما يكون أقرب لفيلمه (71 شظية) وان كان أسهل في التلقي، فهناك شخصيات
متعددة وكل مشهد عبارة عن لقطة طويلة جدا (بعضها أخذ أياما لتخرج بشكل
مناسب). ويعرض الفيلم الفشل في التواصل في المجتمع الأوروبي الحديث، من
خلال ممثله، مصور حروب، شاب علي خلاف مع أبيه، شحاذة من البوسنة وأسرة سائق
مسلم أفريقي. ولا يلجأ الفيلم للمشاهد المباشرة الفجة، بل يلجأ لمشاهد
شديدة البساطة ومتعددة الدلالات، فمثلا تري الممثلة وهي تستمع الي ضجيج
الجيران والصريخ ومحاولاتها للانعزال عنه، وتراها تمرح وهي تدبلج مشهدا
قاسيا في فيلم مثلته. و(شفرة مجهولة) يعتبر من أفلام هانيكي الأقل وطأة
وتأثيرا، فلا توجد جرائم بشعة هنا، لكن يظل الفيلم عملا مميزا وسابقا
لوقته. وفي 2001 اقتبس مايكل هانيكي رواية (عازفة البيانو) لـ(الفريدا
جيلينيك) وصنع منها أحد أشهر أفلامه (La Painisteأو
The Piano
Teacher)
وقامت ببطتولته (ايزابيل هوبيرت) مع (بينوا مايجميل) وهو يحكي عن مدرسة
البيانو الأربعينية التي تعيش مع أمها، ويعرضها في البداية كشخصية قاسية
وصارمة مع طلابها، ولكن شيئا فشيئا تبدأ ملامح الشخصية المازوخية في
الظهور، خصوصا بعد أن يلاحقها أحد طلابها التي تنجذب هي له، ولكن عندما
يكتشف ميولها يبدأ في التعامل معها بقسوة. تعامل هانيكي مع الرواية بطريقته
المعتادة في كتابة السيناريو، فيقدم لك الأحداث دون ان يدفعك لكره أو حب
شخصية، ودون تفسير أو تقديم أبعاد للشخصية، فحذف كل ما جاء في الرواية من
فلاش باك وتاريخ للشخصية ليقدمها بطريقته، ولأول مرة يستعمل هانيكي
الموسيقي في أفلامه (اللهم في مشاهد قليلة في ألعاب مسلية وفيديو بيني)،
ولكن لا يستعمل هانيكي الموسيقي المصورة التقليدية، بل الموسيقي الكلاسيكية
التي يلعبها الأبطال من مؤلفات لباخ وشوبيرت. "أحب الموسيقي جدا ولهذا لا
أستعملها في أفلامي أبدا، فبالنسبة لي الموسيقي هي الماكياج التي يغطي
بهاالمخرجون عيوب أفلامهم" هكذا يبرر هانيكي. بالتأكيد الفيلم شديد القسوة
وإن كان تجربة إنسانية تستوقفك طويلا، أضف إلي ذلك أداء (هوبيرت) الأسطوري
لهذه الشخصية المركبة التي منحتها جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان
"بالاجماع" بينما حصل هانيكي علي الجائزة الكبري وحصل (مايجميل) علي جائزة
التمثيل رجال. وقت الذئب يعود في عام 2002 هانيكي للعمل مع (ايزابيل
هوبيرت) مرة أخري من خلال (وقت الذئب)
Le temps du loup، وهذه المرة تحدث الكارثة في أول عشر دقائق،
فعندما تذهب الأسرة السعيدة لبيت الإجازة يجدون به متطفلين يقتلون الأب،
وتضطر الأم للهرب مع أبنائها ليصلوا لمحطة قطار بها جموع من الناس في
انتظار قطار يقلهم للمنزل. الفيلم يعد من أفلام ما بعد "نهاية العالم"، ولو
بشكل رمزي، ويمتليء بالعديد من المشاهد القوية، ولكن كلاسيكية السيناريو
والأسلوب لم تجعلا هذا الفيلم في أهمية أفلام هانيكي السابقة له. انتصار
آخر كان ينتظر المخرج الكبير في 2005 عندما اخرج تحفته (مختبئ
Cache، الذي قام ببطولته (دانيل أوتويل وجولييت بينوش). تدور أحداث (مختبئ)
حول زوجين يتلقان شرائط فيديو غامضة تصور منزلهم من الخارج، وتبدأ هذه
الشرائط والرسائل بتذكرة الزوج بذنب اقترفه وهو طفل عندما تسبب في طرد
الطفل الجزائري من منزل العائلة بعد ان قتل أبويه في مذبحة السين وتتسبب
هذه الاحداث في شرخ علاقته بزوجته. هنا تتجلي عند هانيكي تيمة عقدة الذنب
للمجتمع الأوروبي تجاه دول العالم الثالث من خلال ما اقترفوه في حق هذه
البلاد في العقود والقرون الأخيرة، ويستعمل قالب الغموض والتشويق ليطرح هذه
الأفكار. وفي مختبئ تجد الزوج والزوجة اسمهما (جورج وآن) مثلما كان اسمهما
في (القارة السابعة، ألعاب مسلية، شفرة مجهولة ووقت الذئب)، الأمر الذي
يعطي للمتفرج دلالة لارتباط هذه الأفلام ببعضها. و في 2009 يحصل هانيكي علي
جائزة السعفة الذهبية من مهرجان كان عن رائعته (الشريط الأبيض)Das Weisse band
أو
The White Ribbon
ويحصل أيضا علي الكرة الذهبية أفصل فيلم اجنبي ويرشح للأوسكار. و(الشريط
الأبيض) يختلف تماما عما سبقه من أفلام هانيكي، فأحداثه تدور قبيل الحرب
العالمية الأولي، ومصور بالأبيض والأسود ويعتمد علي الراوي في الحكي، وهو
لم يستعن بالراوي سوي في فيلمه التليفزيوني (القلعة) عن رواية (كافكا) غير
المكتملة. وتدور أحداث (الشريط الأبيض) حول قرية صغيرة تشهد علي مجموعة من
الحوادث الغريبة غير المترابطة ظاهريا، ويتعرض لعائلات مختلفة في القرية،
فنري قسا ومعاملته القاسية لأبنائه، وطبيبا أرملا يمارس الجنس مع جارته ثم
مع ابنته، وبارونا وزوجته وابنهما المدلل والفلاحين، والفيلم يركز بشكل
أساسي علي الأطفال، فهؤلاء هم نازيو المستقبل وهكذا تم إنشاؤهم كما يري
هانيكي. وكعادة هانيكي في كل أفلامه لا يقدم إجابات أو شرح ولا يفك اللغز،
فيقول "أكره المخرجين الذين يدعون أنهم يعرفون الحقيقة المطلقة ويفهمون كل
الأشياء فهناك دائما احتمالات وجوانب لكل قصة" فهو يهتم بالحدث أكثر من
أسبابه. ليس هذا فحسب فهانيكي لا يحاكم شخصياته أبدا ولا يدفع المتفرج لذلك
بل يتركه مع الفيلم، لأن التلقي بالنسبة لهانيكي هو الجزء الأهم، ويضع كل
ماتعلمه من علم نفس في صنع أفلامه حتي ينجح في أن يؤثر ويصدم المتفرج سواء
كان هذا من اختياراته المدققة للقطات أو شريط صوته الذي يضع فيه مجهودا
كبيرا كي يخرج بالتأثير الذي يبتاغه. ربما من الغريب أن فيلم مايكل هانيكي
القادم اسمه (حب)
Amour، والذي يعود به مع ايزابيل هوبيرت وجان لويس ترانتينيوت، فلا أعتقد
أن هانيكي سيقدم فيلما رومانسيا كما يقترح عنوانه، ولكني أستطيع أن أتوقع
فيلما مميزا آخر يمتعنا به هذا المخرج العبقري.
جريدة القاهرة في
21/02/2012 |