يعود بنا السينمائي السوري صلاح دهني هنا إلى ليلة 12 تشرين الثاني من عام
1963 عندما وافق مجلس قيادة الثورة على مشروعه إحداث المؤسسة العامة
للسينما، سارداً ملابسات الفن السابع في بلاده، فالناقد والأديب المخضرم لا
يذيع أسراراً أرّقته طوال عقود مضت من حياته يطارد ضالته البصرية؛ بقدر ما
يصرخ عالياً بسنوات عمره التي قضى معظمها ناشراً لجمالية فن الصورة وضرورته
لجمهور ما بعد الاستقلال، سواء من وراء ميكرفون إذاعة دمشق أو بتوليه
الإشراف على دائرة السينما والتصوير في وزارة الثقافة عام 1958، ليقدم
حديثه الإذاعي الأسبوعي «صوت وصورة» بين عامي 1989 و2005 بعد تطويره عن
برنامجه الأقدم «السينما في أسبوع» والذي بدأه صاحب رواية «ملح الأرض 1972»
منذ خمسينيات القرن الفائت. ألف وستمئة حديث إذاعي في السينما العربية
والعالمية ومثلها تقريباً في التلفزيون لم تكن الرصيد الوحيد لرجل كان من
أول دارسي فن الإخراج السينمائي في سورية « حائز درجة الماجستير من المعهد
العالي للدراسات السينمائية بباريس عام 1950» فلدى الرجل أعمال روائية كان
أبرزها روايته «حين تموت المدن 1976 ـ إضافةً إلى عشرات الكتب النقدية كان
آخرها كتاب «السينما السورية - مكاشفات بلا أقنعة2011»..
السفير الثقافي التقت الناقد صلاح دهني وكان الحوار الآتي:
·
تكاد تكون كتاباتك النقدية
وبرامجك الإذاعية والتلفزيونية وثيقة فريدة عن السينما السورية منذ
انطلاقتها بعد نجاحك بإقناع مجلس ثورة 1963 بإصدار مرسوم المؤسسة العامة
للسينما..برأيك هل استطاعت السينما السورية أن تشكل وثيقة تاريخية وثقافية
هي الأخرى عن الوطن السوري؟ ما هي ملامح هذه الوثيقة البصرية وما هي صفاتها
الفنية والتنويرية والوطنية؟ أم أن السينما السورية هي في النهاية تجارب
مخرجين عملوا على سيرهم الذاتية ونفذ بعضهم أجندة الرقابة الصارمة..؟
}
بدايةً؛ لنضع الأمور ضمن إطارها العام: من المؤكد أنه لم يغب عن ذهن مجلس
قيادة ثورة آذار 1963 إذ وافق على إحداث مؤسسة عامة للسينما ضمن ملاك
الدولة؛ الدور الخطير الذي يلعبه فن الصورة المتحركة الناطقة في الحياة
الحديثة؛ إن في مجال قولبة الأفكار أو تكوين القناعات.. من هذا المنطلق
باتت الحاجة ماسة إلى سينما وطنية تحررية تستمد مقوماتها من حياتنا
وقضايانا وطموحاتنا وتراثنا وواقع مجتمعنا. بالطبع ليس من السهل ولا من
العدل أن نقول: إن سينمانا الناشئة آنذاك قامت بكل ما عُقد عليها من آمال.
صحيح أن السينما السورية بدت منذ نهاية عشرينيات القرن الفائت في مرحلة
أولى ما لبثت أن أُجهضت؛ ثم في مرحلة لاحقة تلت بعد ثلاثين سنة لاقت المصير
ذاته؛ على أن هاتين الولادتين لم تتمكنا من تحقيق أساسٍ تنهض عليه سينما
يعتد بها.
·
الولادة الثالثة التي عرفت دخول
الدولة في مجال إنتاج الافلام مع مد رعايتها للإنتاج الخاص ضمن توجه سليم
وبنّاء مضى بالسينما بعيداً فباتت معقد الآمال، على الأقل: نظرياً.
طبعاً هناك مخرجون نشأوا وقدموا عطاءاتهم، وأفلام روائية ووثائقية
تحققت..المسار السليم تحقق أيضاً. ما الذي يجب أن نتوقع منه؟ بالطبع الكثير
مما تمنينا. يجب أن لا ننكر أن نتنكر لما تضمنته من صور-أو لنستخدم تعبير:
وثائق- لتاريخنا ووقائع حياتنا الاجتماعية الاقتصادية والثقافية.. صوّرت
هذه الأفلام بيئاتنا وملامح من حياة أفرادنا وأسرنا في تناغم علاقاتها أو
في حالات من تضادها. صورت أحولا مدننا وأريافنا في حراكها وفي واقعها..صورٌ
كلها أصيلة أو أُريد لها أن تكون أصيلة؛ تعكس نبض شعبٍ وريث حضارة؛ بل
حضارات، مؤتمن على معتقدات وأفكار وعادات تأخذ بها فئات؛ وتدعو إلى تطويرها
أخرى تأسيساً عى مُثل وضرورات عصور جديدة خلفت عصوراً انقضت.
·
هنا لابد من وقفة محاسبة. فإذا
كان العديد من مخرجي مرحلة التأسيس غنوا في أفلامهم الأولى مواويلهم
الذاتية، فلا يعني ذلك أنهم خرجوا عن السياق المطلوب لصنع سينما أصيلة؛
نابعة من طبيعة إنسان هذه البلاد. لكن السؤال هو: هل أدت هذه الافلام الدور
التربوي والتوعوي الذي صُنعت من أجله؟ هل بقيت مقاطع مجزوءة من بحر الحياة
بلا أفقٍ أو أثر؟
أسجل هنا نقطتي تحفظ: الأولى تتعلق بالمخرج المبدع نفسه. فأما وأن المؤسسة
العامة للسينما المنتجة والممولة لم تكن ترنو إلى أكثر من إنتاج فيلم جديد؛
فلا تفرض على المخرج الأخذ بالاعتبار ضرورات التسويق، التي هي الضامن
لاستمرارية الإنتاج في ظروف محدودية ميزانية المؤسسة.. فقد كانت النتيجة أن
رأينا المخرجين الأكثر عطاءً والأفضل مستوى ينسون جمهور بلادهم ويتطلعون ـ
في الغالب الأعم ـ إلى هو أبعد من حدود الوطن.. إلى مهرجانات السينما
العربية والأجنبية بأمل لفت الأنظار إلى شخص المخرج: المؤلف، المنفذ،
المبدع، مستحق الجوائز، المتطلع للمعالي.
من هنا نصل إلى النقطة الثانية، فهذه الأمور كلها حقيقية ومبررة ترضي شخص
الفنان وتستجيب لطموحاته. المأخذ الأساسي أو لنقل المطب المؤسي؛ هو أن
مخرجنا على مقدار وعيه وحقيقة موهبته كان ينقصه دوماً التفكير بالجمهور
الذي يتوجه إليه فيلمه؛ وحاجات هذا الجمهور، ومدى إمكان استجابته لعمله
الإبداعي، إن في ظروف طغيان أفلام التشويق الأميركية والمصرية الأكثر
هبوطاً في النوعية التي رُبي عليها على مدى السنين، أو ـ أحياناً ـ بسبب
مغلولية أيدي المخرج المبدع في مواجهة تابوهات أجهزة الرقابة، بما تفرضه من
مقبولات ومن ممنوعات، بما قد يكون أسهم في جعل المخرج ينكفئ إلى ذاتيته بدل
الانفتاح على قضايا وشؤون مجتمعه ليعالجها بما أوتي من موهبة ومن تجربة
حياتية.
·
÷
كيف السبيل اليوم للوصول إلى سينما سورية ذات هوية إبداعية خاصة بعد أن
انقضى تقريباً جيل سينما الرواد؟ كيف لسينمانا أن تستطيع عكس عصرها
واسترداد جمهورها الغائب والمغيب في آنٍ معاً.. أسوق سؤالي هنا بناء على ما
نشاهده اليوم من اضمحلال المعنى الثقافي للسينما ورواج سينما شباك التذاكر
والأكشن كما في الأفلام المصرية الجديدة.. وما فعله المال الخليجي بالفيلم
العربي من أخذه كما في الدراما والميديا عموماً إلى مستويات تجارية من فرجة
رخيصة وسطحية وليست ذات صلة بالمجتمعات العربية؟
}
تخلى جمهورنا في سورية عن دور السينما. بات يكتفي بما تقدمه له أقنية
التلفزيون. اندثر ذلك العهد الذي كان التردد على دور السينما فيه طقساً
عائلياً أسبوعياً بالأغلب. تلك كانت أياماً طيبة اغتالتها سلسلة مآسٍ
سياسية واجتماعية واقتصادية، وفي مراحل معينة: أمنية. فقد الناس - خصوصاً
من أهل الطبقة الوسطى التي كانت تشكل أكثرية رواد السينما - متعة التواجد
في دار السينما؛ بدل التقوقع حول شاشة تلفزيون مُلح ومكتسح تقدم فيه قنوات
خليجية معينة أحدث وأسوأ نتاجات هوليود مما يلهي ويدمر ويسيء ويعود على
الشبيبة العربية في كل مكان بما لا يتصوره العقل من أضرار نفسية بهمجية
منفلتة تفرض سلطانها وتسلخ مشاهديها عن شؤون وشجون مجتمعهم وتنمي الشعور
باللامسؤولية والإهمال والاتكال.
لا أعتقد أن من السهولة بمكان إصلاح ما أفسدته السنون والأحقاب. ثمة أجيال
من المشاهدين المحتملين لأفلام دور السينما؛ انقضت وذهب ريحها، كان يمكن أن
يظهر منها مؤلفون ومخرجون مبدعون يؤسسون لأجيال.
صحيح أن الإبداع طفرة قد تنبجس وتفرض نفسها حتى في أسوأ الظروف الاجتماعية
والسياسية وأحوال عدم الاستقرار. لكن الطفرة لا تولد حركة ولا تبني مساراً
ولا تورّث. يتوجب تهيئة الأسباب المادية والحياتية الضرورية للأجيال
الجديدة من الفنانين لخلق تيار متواصل ومتناسل من المبدعين الحقيقيين؛ في
مقدمة تلك الأسباب ظروف الحرية الغائبة بسبب الرقابة القمعية وأجواء
الانطلاق الذهني الذي لا تحده ممنوعات ومحظورات تفرضها سلطات جائرة سياسية
أو روحية أو مذهبية تبعاً لأهوائها ومصالحها وإملاءاتها؛ بما يضيق على
الفنان آفاق الإبداع ويحد من القدرة على العطاء؛ أفضل ما يكون العطاء.
·
÷
كيف يمكن لمؤسسة السينما في سوريا النهوض اليوم بالفيلم السوري وتنفيذ
الكثير من المشاريع المعطّلة لديها..والتي تكلمت عنها في كتابك «مكاشفات
بلا أقنعة»؟ لا سيما أنك كنت السباق للمطالبة بتنفيذ هذه المشاريع
كالسينماتك «مكتبة الأفلام السورية» والمدينة السينمائية..
}
المؤسسة العامة للسينما كجزء من جهاز الدولة يفترض أن يخضع للرقابة
والمسؤولية..وحين تغيب الرقابة والمساءلة فلا تكون مندوحة عن التقصير
والإهمال والالتجاء إلى المعوضات الخلبية والاستعراضات لملء الفراغ
والتمظهر؛ الإيمان بالسينما ودورها هو ما كانت-في أغلب الأحيان- تفتقده
الإدارات المتعاقبة للمؤسسة. وحتى الإيمان وحده لا يجدي إذا هو لم يقترن
برغبة الإنجاز والتفاني في الخدمة بعيداً عن كل مصلحة ذاتية، وكذلك إذا لم
يجد دعامة أساسية في توفر آفاقٍ للتطوير نابعة من طبيعة العمل ذاته، ومن
ضرورات التطوير لاستكمال بنيان متكامل؛ فالسينما الوطنية ليست مجرد أفلام
تُنتج أو لا تُنتج، وتُعرض أو لا تعرض، إنها جزءٌ من منظومة شاملة من
الأجهزة المكمّلة تسهم الدولة في بناءها.
·
÷
أفهم من كلامك أنك مازلت تعلق آمالاً على قيام الدولة بالدور الرئيس لدعم
السينما، أم أنك لا ترى في الخلاص من أزمة الفيلم السوري إلا دعم وتوسيع
الآفاق والصلاحيات أمام القطاع الخاص لخوض التجربة من جديد..هل يمكننا
الاطمئنان إلى المال الخاص بعيداً عن رعاية الدولة لتجارب سينمائية وطنية
تعزز الفن السينمائي كثقافة جماهيرية وشعبية؟
}
في ظروف بلد كبلدنا بلا تاريخ عريق في مجال الإنتاج السينمائي؛ لا يمكن
قيام قائمة للسينما دون تدخل الدولة. نهوض السينما والتوسع في الإنتاج
وإعادة الألق إلى دور العرض واستعادة الجمهور وغيرها؛ كلها أمورٌ تحتاج إلى
دعم الدولة..إلى سياسة حكومية مؤمنة بدور السينما، وعلى ذلك فإنها تدعمها
كما تدعم التعليم والزراعة والصناعة، لئن كان الإنتاج حكومياً أو كان
خاصاً. مثال إيران هنا بليغ. قامت الثورة فيها عام 1979؛ وقبلها كانت هناك
صناعة سينمائية نشطة في القطاع الخاص في عهد الشاه. تراجع الإنتاج عدة
سنوات..ومن بعد ذلك أعادت الثورة النظر في موضوع السينما، وآمنت بدورها.
فما كان منها إلا أن جعلت من بعث الإنتاج السينمائي سياسة دولة. ومن هذا
المنطلق جعلت تقدم للمنتجين ودور العرض؛ مجموعاتٍ من التسهيلات والإعفاءات
والمشجعات، بحيث انقلب الانكفاء عن الإنتاج إلى إقبالٍ عليه، وتراجع تردد
الجمهور على السينما إلى ازدياد. كانت النتيجة أن أفلام إيران ـ رغم تحفظات
الغرب على النظام وأهله ومُثله ـ مرغوبة ومطلوبة في جميع مهرجانات السينما
الكبرى والصغرى في أوروبا وفي أمريكا بالذات؛ وتحظى بجوائزها وبتكريمها
وتكريم مخرجيها وفنانيها؛ هذا من ناحية، من ناحية أخرى؛ لنلق نظرة مشتركة
على صناعات السينما في أوروبا ذاتها. كثيرون من بيننا لا يعرفون أن دول
أوروبا وقد استشعرت مخاطر الهجمة السينمائية العولمية الهوليودية المكتسحة
على شخصيتها وعلى صناعتها وعلى لغاتها وثقافاتها في سبيلها إلى تدمير
الصناعات السينمائية المحلية؛ أوجدت هيئات ومراكز ومؤسسات حكومية لإنقاذها
والأخذ بيدها ودعمها مادياً وعملياً وقانونياً. حتى إن العديد من الأفلام
التي تنتجها شركات كبيرة وصغيرة في القطاع الخاص في بلاد عريقة كفرنسا
وإيطاليا وألمانيا وغيرها لم تعد تتحقق إلا عن طريق مدِّها بالأموال ودعمها
بقروض من جانب الدول، وحتى من جانب الولايات والمقاطعات كلٍ على حدة؛ تعود
الجهات المنتجة فتسددها إذا نجحت الأفلام مادياً، أو لا تسددها للدولة أو
للجهة الحكومية إطلاقاً إذا لم تنجح وتحقق الأرباح.
·
÷
كيف تقيّم اليوم المغزى الحقيقي من إقامة مهرجان دمشق السينمائي في ظل غياب
الفيلم السوري؟ ولماذا برأيك لم تحقق الأفلام التي أنتجتها المؤسسة العامة
للسينما هذا الرواج في صالات العرض السورية؟ هل تعزو ذلك بسبب هيمنة بعض
المخرجين على فرص الإنتاج؟ أم أن الحكاية لها علاقة بسيطرة صيغة الفيلم
الأمريكي على ذائقة الجمهور الجديد الذي يفضل عروض السينما المنزلية على
الذهاب إلى السينما؟
}
مهرجانات السينما في معظم دول العالم لا تنظَّم انطلاقاً فقط من مجرد أن
تلك الدول تنتج عدداً كبيراً أو محدوداً من الأفلام. في كثير من الأحيان
تقترن فكرة إقامة مهرجان ما في بلدٍ ما بغرض سياحي، فنرى أن مهرجان «كان»
السينمائي في فرنسا على سبيل المثال؛ يجتذب من أنحاء العالم ومن أوروبا
خصوصاً رقماً فلكياً من السائحين محبي السينما يساوي ضعف عدد سكان مدينة
«كان» ذاتها. منهم شباب من الممثلين، وفتيات فاتنات من الممثلات ممن
يتطلعون إلى الشهرة واقتناص الأدوار، وكذلك منهم مجموعات من أعتى نشالي
ولصوص أوروبا ممن يغتنمون فرصة المهرجان وأجوائه واحتفالاته وحفلاته
لممارسة «نشاطاتهم» بكفاءة عالية!.
وهناك بالطبع غير السياحة، غرض تجاري، فسوق الفيلم سوق ضخمة ورائجة تشترك
فيها شركات منتجة من بلد المهرجان ومن أنحاء العالم كافة بغرض بيع
إنتاجاتها الجديدة والسابقة، أو المبادلة عليها. بالطبع هناك أيضاً غرض
إعلامي ـ ثقافي في مستوى البلد المنظم للمهرجان، وفي المستوى العالمي، أو
في المستوى المناطقي كون المستضيف بلد صغير أو حتى كبير إذا كان يقع خارج
أوروبا أو أمريكا « التي يقام فيها أشهر مهرجانات الولايات المتحدة: مهرجان
مدينة سياتل». ضمن هذا الإطار العريض يمكننا أن نقوّم « مهرجان دمشق
السينمائي» الذي تتولى تنظيمه حتى الآن المؤسسة العامة للسينما ضمن نظرة
موضوعية بعيداً عن أية مبالغة، أنه مهرجان صغير يعقد في بلداً صغيراً ينتج
عدداً جد صغير من الأفلام سنوياً. يتطلع المهرجان ـ كواجهة ـ لاجتذاب نخبة
محدودة من الرواد والهواة المحليين، ونخبة من الضيوف لمشاهدة نخبة محدودة
من الأفلام محلية، عربية، أجنبية.
في ظروف بلدٍ كسورية يتميز بحيوية حقيقية، لم يأتِ مهرجان دمشق من فراغ،
وفي فترة تأسيسه كانت هناك طموحات حقيقية لأن يكون فاتحة لتشجيع السياحة
الداخلية والخارجية، وخصوصاً للترويج الثقافي - الإعلامي، بالعروض الفيلمية
من جهة، وبما يرافقها من حفلات واستقبالات، وخصوصاً الضجة الإعلامية التي
تثار في أدوات الإعلام المختلفة حول المهرجان وضيوفه، تحديداً المصريين، ثم
إن هذه الضجة بلغت مرحلة الضجيج « الذي أُريد له أن يضفي على البلد صفة
الحركة والنشاط والتمظهر» في مرحلة قررت فيها إدارة مؤسسة السينما جعل
المهرجان سنوياً بعد أن كان يقام في مرحلة التاسيس مرةً كل سنتين. مما جعل
المؤسسة تنصرف عن ضرورات العمل السينمائي المتدهور إنتاجاً ونشاطاً وبناءً،
جاعلةً التحضير للمهرجان التالي أكبر همومها إدارةً وموظفين.
أحد المثقفين المتميزين قدّر العدد الحقيقي لمن يرتادون أفلام المهرجان
ويترددون عليها بمتابعة يومية « وبذا يتكون مجموع كتلة الهواة» بما يتراوح
بين 6000-8000 مشاهد مواظب. فهل من العقل والمنطق أن ينفق بلد كسورية خمسين
ـ ستين مليون ليرة سوري سنوياً، هي كلفة كل دورة مهرجانية، من أجل هذا
العدد من المشاهدين؟ أما كان الأحرى توفير هذه المبالغ لعمليات الإنتاج، أو
لدعم بعض جهات القطاع الخاص المهتمة بالإنتاج بصفة شريك، أو لتمويل إنتاجات
شبابية، أو.. إن كلفة مهرجان واحد كانت تكفي لتأسيس مكتبة أفلام سينمائية»
سينماتك» سبقتنا لتأسيسها تونس والجزائر والمغرب بما يزيد على ستين سنة.
أقول: ثمة خطيئة أساسية ارتكبت ويجب تلافيها تتمثل في ضرورة فصل إدارة
المؤسسة العامة للسينما عن إدارة مهرجان السينما، كما هي الحال في كل
مهرجانات السينما التي تحترم نفسها في العالم. فكل جهة تنصرف لإدارة شؤونها
وممارسة دورها واختصاصها، فلا تضارب ولا تداخل، ولا اعتداء إدارة على إدارة
تسلبها صلاحياتها وتنتفع على حسابها.
مهرجان السينما يجب أن تكون له شخصياته المستقلة ومكانته
المنفردة ضمن المنظومة الحكومية للدولة،
لينصرف لأداء الدور الثقافي والتربوي والوطني المناط به.
·
÷
هل يمكنني معرفة تصوراتك الشخصية عن مستقبل السينما السورية في ظل مجافاة
العديد من المخرجين السوريين للمؤسسة؟ لا سيما أن جلهم يقولون بأن ذهنية
الإدارة ساهمت في إضاعة الفرصة عليهم لتحقيق مشاريعهم السينمائية التي
لطالما حلموا بتحقيقها..؟ وخاصة بالنسبة لمشاريع كل من محمد ملص وأسامة
محمد والراحل عمر أميرالاي؟
}
أنا لا أفهم أن تكون لدى مؤسسة السينما مشاريع أفلام معطّلة..أنا أعرف
والكل يعرفون أن في أدراجها وفوق رفوفها سيناريوهات متكاملة مدفونة، أكل
عليها الدهر وشرب.. وأعرف، كما يعرف غيري، أن مشاريع إحداث سينماتك تضم
نخباً من الأفلام المحلية والعربية والأجنبية من الأقدم إلى الأحدث وإحداث
مدينة سينمائية، مهما كانت محدودة على قياس محدودية إنتاجنا، مع نظرة
مستقبلية طموح.. وكذلك ضرورات الإلحاح على وزارة التربية بإدراج مادة
السينما في مناهج الدراسة الإعدادية والثانوية..تلك ـ وغيرها ـ مشاريع
لطالما أُثيرت قبل عدة عقود.. ومن أسفٍ نقول إنها لو تمت متابعتها وأنجزت
منذ ذلك الحين لكانت أدت خدماتٍ جلى إما للأعمال الفنية للمؤسسة ذاتها، أو
ثقافياً وتربوياً لأجيالٍ برمتها من أبناء هذا الوطن.
أفكار ومشاريع وإنجازات مجهضة هي صور مؤسية لإهمال الإدارات المتعاقبة
للمؤسسة العامة للسينما، أو للعجز، أو للجهل لدى من كان يفترض بهم أن
يؤمنوا برسالة السينما وضرورتها الوطنية، أدت كلها في المحصلة إلى ما أدت
إليه من إفقار للحراك السينمائي في بلدنا ولتنكر الجمهور للسينما، وغياب
الإبداعات الحقيقية في معظم الأحيان.
السفير اللبنانية في
23/03/2012
موسيقى تصويرية بلا أسلوب ولا هوية ولا
ملاءمة للمشهد السينمائي
هالة نهرا
الموسيقى التصويرية، بحسب التعريف الشائع، هي تلك التي توضع خصيصاً
للأفلام، ويمكن المخرج أيضاً الاستعانة بموسيقى جاهزة أو مقمّشة. ومن
المعروف أنّها تتّسع للتعبير الغنائي (المحطّات الغنائية) والموسيقى
الآلتية (من آلة) والمصنَّعة والمؤثّرات السمعية التي غالباً ما تمثّل، إذا
أُطرت ووُصلت وفق ترتيبٍ تتابعيّ، نصّ الفيلم الموسيقي. بديهي القول إنّ ما
يفتقر إليه عددٌ لا يُستهان به من الأفلام العربية، سواء أكانت روائية أم
وثائقية، هو ذلك التتابع النظاميّ للموسيقى، أي الحلقات والجُمَل والتيمات
والفواصل التي ينبغي أن تشكّل في نهاية المطاف كلاًّ ووحدةً متراصّيْن، أو
أن تخدم سيناريو الفيلم على الأقلّ، وفي الحدّ الأدنى. ليس جديداً القول
إنّ ما أصاب الموسيقى العربية في الآونة الأخيرة يحلّ أيضاً بموسيقى
الأفلام العربية عموماً. الأمر ذاته ينسحب على المسلسلات التلفزيونية
والمسرحيّات التي تنمّ غالبيّتها عن فجوةٍ بين النصّ الدرامي والنصّ
الموسيقي، هذا إذا أمكن الحديث عن «نصّ موسيقي» في إطارٍ مشابه. لسنا بصدد
دراسة واقع موسيقى المسرح العربيّ أو المسلسلات أو حتّى السينما هنا، فخوْض
مسألة كهذه يستوجب بحثاً مسهباً، غير أنّ ما شاهدناه مؤخّراً كان مستفزّاً
نوعاً ما، وباعثاً على إثارة هذا الموضوع. بعض الأفلام ينال جائزة «أفضل
موسيقى» (أو يُرشَّح لنيلها) مع أنّ موسيقاه لا تعدو كونها «محاولة»
مقبولة، أو أقلّ من عادية في الكثير من الأحيان، علماً بأنّها قد تحمل
طابعاً تجاريّاً، ما يؤكّد عدم وجود معايير ثابتة للحكم على الموسيقى
التصويرية وتقييمها، أقلّه في العالم العربي (والخارج؟). لا يخفى على أحد
أنّ الجوائز الممنوحة لا لموسيقى الأفلام فحسب، بل أيضاً للأفلام نفسها-
تخضع أحياناً لمنطق السوق والتسويق و«العلاقات العامّة»، ما يطرح علامة
استفهام حول مصداقية بعض اللجان الفنّية وأهليّته، وجدوى الجوائز المذكورة
خارج الإطار الدعائي والحملات الترويجية. «التواطؤ» بين صاحب الفيلم
و«المنفّذ الموسيقي» ومانحي تلك الجوائز من جهة، وانعكاس واقع الموسيقى
العربية المأزوم في الموسيقى التصويرية، وعليها، من جهةٍ أخرى، يحضّان على
مزيد من الاستسهال والميوعة في التأليف والإنتاج الموسيقيين المقترنين
بالفضاء الدرامي (الفنّ السابع، المسرح، المسلسلات...). ولا بدّ من الإشارة
هنا إلى أنّ الموسيقى أدّت دوراً وظيفيّاً منذ فجر السينما، أي مذ كانت
الأفلام صامتة. اللجوء إلى البيانو والأوركسترا خلال عرض الأفلام كان،
وفقاً لما تبيّنه بعض الأبحاث، لدواعٍ متعدّدة: طمأنة المشاهدين في العتمة،
وتغليف صوت «المِسْلاط» (أداة لتسليط الصور على الشاشة)، وتدعيم التقطيع
والربط بين مشاهد متفرّقة، وتعزيز الإيقاع والانفعالات... الوظيفة
التعبيرية التي لطالما أُنيطت بها الموسيقى، إنْ على الصعيدين الدرامي
والليريكي، أو على المستوى الرمزيّ، أكسبتها بعداً مشهديّاً، وخوّلتها
تجاوُز الإطار الجمالي لتشكّل جزءاً لا يتجزّأ من العرض الفنّي. هكذا تواءم
السمعيّ والبصري، وأصبحت الموسيقى غير قابلة للانفصال عن الصورة. تنبغي
إذاً مقاربة الموسيقى التصويرية على اعتبارها «دالاً» signifiant
من دالات السينما، مع أنّها لا تشكّل، أساساً، جزءاً من نواة الفيلم. هذا
ما يُفترض أن يكون. أمّا عمليّاً، فنلاحظ سهو بعض «المؤلّفين الموسيقيين»
الشباب في لبنان والعالم العربي، وإغفاله تلك المسألة، وصوغه التيمات
الموسيقية والغنائية بشيءٍ من الاستهتار، ومقاربته الموسيقى التصويرية
بوصفها فضلاً لا يفيد معنىً. لعلّ معظمهم لا يقصد ذلك، لكن النتيجة تُظهر
البهرجة التي يتلطّى كُثُر خلفها، ومدى الخفّة والنصول في نتاجهم. أمّا
الذي رقيت ذات مرّة موسيقاه التصويرية صدفةً إلى مستوى دراميّ - بفضل جهود
معاونيه وبراعتهم في التوزيع والتوليف و«الرتق» على الأرجح- فينظر إلى تلك
الصدفة على اعتبارها صفة مكتسبة، قبل أن تكشف أعماله الأخرى ضعفه وافتقاره
إلى الخبرة، إنْ لم نقل الموهبة. وما يبعث على الاستغراب هو التعامل
إعلاميّاً مع هؤلاء كأنّهم عباقرة! إنّها لعبة إعلانية وإعلامية بامتياز
تعظّم فقاقيع وموسيقيين غير متمكّنين حازوا جوائز صُوَرية، وتسهم في تدنّي
المستوى الموسيقي، أكان في السينما أم خارجها. فلا يمكن لأحد أن يكون
مؤلّفاً موسيقيّاً (تصويريّاً) قبل أن يمتلك أدوات المعرفة والتأليف
الموسيقيين، أو في الأقلّ الحسّ والذوق، إنْ على المستوى الموسيقي أو
الدرامي. تقع المسؤولية أيضاً على عاتق بعض المنتجين والسينمائيين الذين
يرضون بالقليل وبما دون الوسط إمّا بسبب أزمة الإنتاج، لا سيّما أنّ
الموسيقى التصويرية المتقنة تُعدّ مكلفة نسبيّاً، أو بسبب المحاباة في
المشهد الفنّي العربي. لكن ما لا يُبرَّر في هذا الإطار هو توافر الإمكانات
المادّية والفنّية والبشرية اللازمة، وتبنّي خيارات بديلة خاطئة. جميعنا
يتذكّر أفلام المخرج الإشكاليّ المتمرّد يوسف شاهين التي نعيد مشاهدتها
اليوم بشغفٍ واهتمام نظراً لأهمّيتها وحيويّتها. قد يشعر البعض بأنّ ثمّة
تفاوتاً في مستوى الموسيقى التصويرية الموضوعة لأفلامه. ففي حين تبدو
موسيقى «المهاجر» (محمّد نوح) مصوغة، تنزلق أغاني «سكوت حَ نصوَّر» إلى
أكثر من مطبّ، ربّما بسبب أداء لطيفة التونسية الذي لم يخلُ من زعيقٍ
وتشنُّجٍ مردّهما إلى الطبقات الموسيقية العالية التي لم تلائم حنجرتها. ما
أردتُ قوله إنّ ألمع السينمائيين قد يقع، لسببٍ أو لآخر، في فخاخ مماثلة.
لكن يُحسب لشاهين تعاونه، أوّلاً وأخيراً، مع مؤلّفين لديهم خبرة في هذا
المجال. أمّا الأفلام التي نشاهدها راهناً، فمحيِّرةٌ وهشّةٌ موسيقاها،
وتعوزها، في غالبية الأحيان، رؤية موسيقية مغايرة. كيف يمكن إقناع متلقٍّ
يتسلّح إلى حدٍّ ما بثقافةٍ موسيقية وحسٍّ نقديّ بقبول موسيقى تصويرية بلا
أسلوبٍ وهوية؟
تتعدّد الموسيقات التصويرية المقتبسة بقلّة فطنة، والمعجّلة، والمتضخّمة من
دون مسوّغات درامية، أو على العكس المبسّطة إلى أبعد حدّ، والمجرّدة من
وظيفتها ودورها، أو التي تلبّي بالتقطير، وبَيْنَ بين، مقتضيات المشهديّات.
ويزداد الجنوح إلى الدمج عشوائيّاً بحجّة مواكبة متطلّبات العصر. كأنّ ثمّة
استخفافاً بعقل المشاهد/ المستمع، وبقدرته على التمييز بين النوعيّ والركيك
والرديء. من المضحك والمؤسف أن نعثر اليوم على مشهدٍ كوميدي تشكّل خلفيّته
السمعية موسيقى مفرطة في الحنين. ويفاجئنا أيضاً الغلوّ في الدرامية في
فقرات موسيقية مكتوبة لمشاهد لا تحتمل هذا القدر من الغمّ والتفجّع.
المشكلة إذاً ليست تأليفية فحسب، بل تكمن أيضاً في عدم اكتناه بعض
الموسيقيين دلالات النصّ السينمائي، ومستلزماته السمعية. وهذا ما يدفعنا
إلى استنتاج أنّ المشكلة تتحدّد في قلّة النضج الموسيقي والثغَر المعرفية
معاً، وفي آنٍ واحد. ثمّة أمور تُعدّ من البديهيات في الموسيقى، وعلى أيّ
مؤلّف قرّر خوض معترك الموسيقى التصويرية أن يكون ملمّاً بها، أبرزها معرفة
كيفية توظيف «الألوان» الموسيقية التي لا تقتصر على الجُروس و«الصائتية»
والائتلافات النغمية التي يمكن أن تؤدّي دوراً تلوينيّاً دراميّاً (الألوان
الهارمونية)، بل تشمل أيضاً الألوان «التونالية» وmodales.
هذا بالإضافة إلى ضرورة معرفة كيفية استثمار
الإيقاع مشهديّاً. كلّ ذلك نجده غائباً أو عرضيّاً في أحسن الأحوال، علماً
أنّ تلك المهمّة ليست سهلة، وتحتاج إلى معرفة مقرونة بالتمرّس.
التعلّم (وهنا لا أقصد الإشارة بالضرورة إلى الدراسة الأكاديمية) لا يعيب
صاحبه، بل إنّ ما يحطّ من قدره هو الادّعاء. ثمّة نماذج موسيقية تصويرية
عالمية توفّر فائدةً ومنفعة إذا اطّلع المعنيون عليها، وقاربوها من منظورٍ
نقديّ. وثمّة كتب ومراجع. وثمّة حساسية ووعي فنّيان يمكّنان المؤلّف من
اجتراح فضاء موسيقي في فضاء المسرح، وعالم السينما، والدراما التلفزيونية.
لم يعد إذاً على المؤلّفين الجدد الذين صمّموا على مواصلة رحلتهم في ميدان
الموسيقى التصويرية سوى إيقاظ مخيّلاتهم، وتطوير أدواتهم وأساليبهم
الفنّية. ومن المفيد التذكير أخيراً أنّ الموسيقى، كما يقول أحد الفلاسفة،
ليست تعبيراً عن حالاتٍ نفسية بواسطة دلالات أقلّ أو أكثر إقناعاً، بل هي
إعادة إنتاج واقعية ومباشرة لتلك الحالات.
السفير اللبنانية في
23/03/2012 |