قبل أيام من سقوط مبارك، وتحت وطأة الملل في ميدان التحرير، قرر أربعة
من شباب السينمائيين، الانعزال في إحدى غرف دار ميريت، لكتابة بيان باسم
«سينمائيون معتصمون في ميدان التحرير». يعلنون فيه أن هناك فنانين مشاركين
في الثورة المصرية، وأنهم لن يغادروا الميدان قبل إسقاط النظام. وبلهجة
«جذرية» أعلنوا عددا من المواقف الثورية. تصوروا وقتها أن القليل من
السينمائيين المصريين هم من سيوقعون على هذا البيان، إلا أنه خلال ما يقل
عن ٢٤ ساعة، بلغ عدد التوقيعات ما يقارب المئتين من التوقيعات.. سينمائيون
من مختلف التخصصات، ومن مختلف الأجيال.
يجتمعون بعد نشر البيان، ليحددوا مسارات نضالهم ضد النظام، ولتنظيم
التظاهرة السياسية، الثورية، الأولىفي تاريخهم، التي ستخرج إلى الشارع. وهو
ما كان عصيا عن التخيل عشرة أيام قبل هذا اليوم. في بداية الاجتماع، يقترح
أحد المنتجين، ممن لهم القبول والاحترام، أن يدير هو الجلسة بصفته الأكبر
سنا. فيرد عليه الممثل الشاب آسر يس، مازحا: (ده كان زمان يا دكتور، قبل ٢٥
يناير). فتدير الجلسة إحدى أصغر السينمائيات سنا.
بين ينايرين:
افتتح جيل جديد من السينمائيين المصريين عهد مبارك، وهو الجيل الذي
يسمي بعدة أسماء، من بينها جيل الثمانينيات، أو جيل السينما الجديدة، أو
جيل الواقعية الجديدة. أغلبهم من أبناء الحركة الطلابية، أواخر الستينيات
وأوائل السبعينيات. تأثروا بأحداث تاريخية، عاصروها قبل أن يقدموا أول
أفلامهم الروائية الطويلة، فتترك هذه الأحداث آثارها في إنتاجهم اللاحق.
كان من أهم هذه التحولات الانفتاح الاقتصادي، وأحداث مثل معاهدة كامب
ديفيد، وانتفاضة الخبز ١٨ و١٩ يناير. يتناولونها في أفلامهم، مشهرين رفضا
ما للنظام. الوضوح في الموقف السياسي والاجتماعي، يمنحهم القدرة علي إنتاج
رؤى سينمائية جديدة، تبلورت مع الوقت، خلال حقبة الثمانينيات.. الحقبة
الأولى للرئيس «الممل»، الذي لا يحدث شيء في عهده.
ربما تكون مفارقة «الينايرين»، ١٩٧٧ و٢٠١١، وكون يناير الأول قد ساهم
في خلق سينما جديدة، قد راودت أذهان الكثيرين من السينمائيين الشبان، الذين
قضوا لياليهم علي رصيف ميدان التحرير، في يناير الجديد.
لكن العهدين يختلفان - دون مصادرة على ما سيحدث في المستقبل - فأبناء
يناير ١٩٧٧ هم أبناء الصناعة، آتون من نهايات القطاع العام السينمائي، ومن
المراكز السينمائية التابعة للدولة، التي أنتجت لهم أفلامهم القصيرة،
الروائية أو الوثائقية الأولى. لكن، من أين يأتي أبناء يناير ٢٠١١؟ وهل يحق
الحديث عن «جيل جديد» في السينما المصرية؟
كنت أود ألا أصارح القارئ بماذا يعمل زملائي.. لكنني مضطر الآن
للاعتراف بأن أغلبهم لا يعمل في السينما. أغلبنا يعمل في بلاتوهات
التلفزيونات، الخليجية وغيرها، لإنتاج مسلسلات تفتقد القيمة.. أو في إعداد
وإخراج برامج «التوك شو» وغيرها.. آخرون في مهن تتعلق بالإعلانات..
والقليلون المحظوظون هم من يعملون في السينما الوثائقية أو الروائية.
نستطيع القول بأنهم آتون من دولة الوزير «الفنان»، الذي شهد عهده كل
أنواع الكوارث الثقافية، ومن بينها وفاة العشرات من المسرحيين المصريين،
داخل أحد مسارح الدولة ببني سويف، دون أي تحقيق أو محاسبة للمسؤولين.
بكلمات أخرى، ينتمون لدولة مبارك/ساويرس.. دولة تتزاوج فيها السلطة
الغاشمة، مع قبضة رأس المال الوفير، ودعاوى الليبرالية. ففي عام ١٩٩٦، تأتي
الدولة بـ«الفرج» لما يطلق عليه أزمة السينما، بأن تهدي رجال الأعمال
الكبار، ممن ليس لهم أي علاقة بصناعة السينما، ومن ضمنهم نجيب ساويرس،
مجموعة من القوانين، التي تمكنهم من السيطرة على كل رأس مال السينما
المصرية، سواء تعلق بالإنتاج أو التوزيع أو دور العرض.. وصولا لحقوق عرض
الأفلام المملوكة للدولة.
لم تحل الأزمة، ولم تنهض السينما، ولم تفتح أبوابها لسينمائيين جدد.
بل ببساطة انتهت تماما. وخلال التسعينيات، يتم إنتاج أفلام قليلة بغرض
الاستهلاك السريع. وبعض الأفلام النادرة، مما تنتمي للسينما الجادة، التي
تعبر عن هم فني أو مجتمعي. ينسحب السينمائيون القدامى، يكتفي بعضهم بتقديم
فيلم كلما تيسر، وينهي بعضهم الآخر علاقته بهذا الفن نهائيا. وخلال الحقبة
نفسها، ينجح، بالصدفة، القليل من السينمائيين الجدد، في تقديم فيلم، لا
أكثر، قبل الانسحاب بدورهم. على سبيل المثال: زكي فطين عبد الوهاب، بفيلمه
«رومانتيكا» ١٩٩٦، وعاطف حتاتة بفيلمه «الأبواب المغلقة» ١٩٩٩.
في سياق الانهيار هذا، يظهر ما يمكن أن نسميه مجازا بـ«الأجيال
الجديدة»، التي تدخل مجال الإبداع السينمائي بدايات الألفية الجديدة. فالذي
يستطيع إنتاج أفلامه داخل السوق، يتمسك بالفرصة. ومن يستطع العمل تحت عباءة
قناة الجزيرة، وفهمها الخاص للفيلم الوثائقي، فليعمل. والآخرون يحاولون
النجاة داخل مصطلح السينما المستقلة، لينتجوا فيلما أو اثنين بالكاد، فيما
يمكن تسميته بالسينما المهمشة، أكثر من كونها مستقلة.
جيل الديجيتال وبداية الحراك
تمنح التطورات السياسية والاجتماعية، وأيضا التكنولوجية، هؤلاء
السينمائيين الفرصة لتطوير أعمالهم، والإصرار على البحث عن طرق جديدة..
الانتفاضة الفلسطينية الثانية.. انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان.. غزو العراق
واحتلاله، مع أولى التظاهرات التي تصل إلى ميدان التحرير، منذ عقود.. بداية
مشروع التوريث وبروز حركة كفاية.. إضرابات ٦ أبريل ٢٠٠٨.. إلى آخره. ويبادر
بعض السينمائيين الشبان في التفاعل مع ما يحدث، يرونه بداية للتغيير،
فيمسكون بكاميراتهم الديجيتال الخفيفة، وهو ما لم يكن متاحا من قبل، فتظهر
العشرات من الأفلام القصيرة، منخفضة التكاليف، التي لم ينل صناعها الشهرة،
ولم يرها الجمهور الواسع، إلا أنها تجعلنا نردد أسماء جديدة مثل: تامر عزت،
هالة لطفي، هالة جلال، تامر السعيد، عماد أرنست، أحمد رشوان، أحمد خالد،
شريف البنداري، وغيرهم.
هي أسماء قليلة، لا تجمعهم سمات كافية لنسميهم «الجيل».. إلا أن
تجاربهم تطرح بوضوح محاولة لكسر الاحتكار الكامل للشركات الكبيرة على
المنتج السينمائي المقدم، ومنافذ توزيعه. هي أيضا محاولات لكسر سلطة
الرقابة على المنتج الفني في كل مراحل صنعه. وعبر الأفلام الاجتماعية أو
الشخصية، يهرب الشباب من سطوة الرقابة، مقتربين من التابوهات المصرية
الثلاثة الشهيرة. وقبل الثورة بسنوات قليلة، وربما بشهور، تصل هذه التجارب
إلى مجال الفيلم الروائي الطويل.
فالمخرج محمد دياب، في فيلمه الأول، «٦٧٨»، يقترب من قضية التحرش
الجنسي، التي لا يتم الحديث عنها كثيرا. ولنتأمل هذه التفصيلة: ثلاث نساء،
ينتمين لشرائح اجتماعية مختلفة، يتعرضن لأنواع من التحرش الجنسي، فتواجهه
ابنة الأغنياء بالانسحاب، وتواجهه ابنة الطبقة الوسطى بالقانون، إلا أن
ابنة الطبقة الفقيرة تنتقم بالعنف. والأهم هنا هو أن صناع الفيلم لا يجرمون
هذا الاستخدام للعنف.
هذا الفيلم الذي يعرض جماهيريا قبل شهور من الثورة، يحتمي بمعنى ما
بالنجمة «بشرى»، ووجودها كممثلة ومنتجة. وهو ما لم يقم به زميله إبراهيم
البطوط، الذي يصر على إنتاج أفلامه بنفسه، وعلى تجنب النجوم، ليمزج ما بين
الروح الوثائقية والروائية، مقتربا من السياسة، وداعيا للتمرد، عبر فيلميه
«إثاكي» و«عين شمس».
أما أحمد عبد الله، فربما يكون، بالصدفة، صاحب أكثر التجارب اقترابا
من روح الثورة، التي لم تكن قد حلت بعد. يحتفظ بهذه الروح الوثائقية في
أفلامه الروائية، كإبراهيم البطوط، لكنه يحتمي أيضا بالنجم/الممثل/المنتج..
في هذه الحالة، المعارض خالد أبو النجا. في فيلمة ميكروفون، الذي كان من
المفترض افتتاحه تجاريا يوم بداية الثورة المصرية، يقترب من الشباب الذين
صنعوا هذه الثورة، يشير إلى جارهم المقتول.. الأيقونة خالد سعيد، ويقترب
مما ينتجونه من فن للتعبير عن أنفسهم ولرفض السلطة.
الغرافيتي والسينما
هل أنتجت الثورة سينماها؟ أم أنها اكتفت، مؤقتا، بإنتاج أشكال فنية
أخرى؟ ربما علينا التوقف عند صورة شهيرة، تم التقاطها من شرفة مطلة على
ميدان التحرير.. مشهد عام للميدان، ممتلئا على آخره، في لحظة تنتمي لأحد
الأيام الأولى للثورة، أنه وقت الغروب، لا ترى التفاصيل، فقط تستطيع تمييز
عدد لا يحصى من النقاط الزرقاء الصغيرة.. شاشات الهواتف المحمولة، تقوم
بتوثيق ما يحدث. وكأننا جميعا سينمائيون، وكأننا جميعا شخصيات فيلمية.
رغم الكم الهائل من الفيديوهات التي توضع يوميا على شبكة الإنترنت،
يلفت النظر، أن الثورة المصرية لم تنتج سينماها أو مسرحها بعد. وهو ما يمكن
فهمه فقط بمنطق انها لم تكتمل بعد. السينما والمسرح المنتميان للثورة،
يحتاجان أن تستولي هذه الثورة على الدولة، أن تعيد بناءها، تحت سيطرة
فنانيها، وتحت رقابة جمهورها. رأس المال ما زال مع رجال الأعمال، والسلطة
مع المجلس العسكري والإخوان المسلمين، والأصوات الرقابية مع السلفيين،
راغبي تقطيع القبلات من الأفلام تمهيدا لمنعها. أما الكاميرات الصغيرة فهي
ما زالت في أيدي بعض السينمائيين المتفرقين، المنشغلين بتوثيق المعارك
اليومية التي تفرض عليهم، أو المشاركة فيها.
كانوا يرددون لنا في المعهد العالي للسينما العبارة التقليدية نفسها:
(السينما صناعة وتجارة وفن) وكان بعض الأساتذة يردد بنبرة مهددة: (فاهمين
ولا لأ؟ صناعة وتجارة قبل ما تكون فن) ولأننا لم نتعلم بعد أنها عمل جماعي
وسياسي، فلم تؤثر الثورة بعد في سينمانا. تم بالفعل إنتاج أشكال موسيقية
جديدة.. أشعار لها سمات ثورية.. مقالات سياسية يختلط فيها الأدب بالسياسة
وبالتحليل.. والأكثر وضوحا، ثورة حقيقية في فن الغرافيتي.. ثورة تجدها عند
كل ناصية، وتتطور يوميا. أي انها ثورة في التعبيرات الفنية التي تتسم
بالفردية، وتتطلب مبادرة المبدع الفرد. لكن، لم يقترب يناير ٢٠١١ بعد، من
الإبداع الذي يشترط الجماعية. وهو ما يجد ظله في الحالة الآنية من الفوضى
والانقسام الحاصل في التجمعات والائتلافات السياسية.
أما عن الإنتاج السينمائي الذي تناول الثورة بعد حدوثها، فلم يبتعد
كثيرا عن اعتبار يناير مجرد موضوع أو سلعة تسويقية. بما فيه الفيلم الجماعي
«١٨ يوم»، الذي جمع سينمائيين من أجيال مختلفة، ليحكي كل منهم حكايته عن
الثورة التي عاشها. فخرج منفصلا في أغلب أجزائه عنها، وحاملا بصمات من لم
ينتموا لهذه الثورة، بل قاموا بعمل دعاية الرئيس وحزبه قبلها، مثل مروان
حامد وشريف عرفة، ومهمشا قصص من شاركوا فيها بالفعل. وتكتمل هنا المفارقة،
في أن يتمثل الاستثناء في القليل من الأعمال الوثائقية، للشباب الجدد،
الذين أنهوا بالكاد دراساتهم السينمائية، أو لم ينهوها بعد، مثل نيفين
شلبي، في فيلمها «أنا والأجندة».
ناصية السينمائيين
(لنلتق عند ناصية السينمائيين).. هي العبارة التي كنا نرددها عدة مرات
كل يوم، خلال الأيام الأولى للثورة. عند أحد مداخل الميدان، بأسفل هذه
اللافتة الكبيرة الحمراء، التي تقول كلمة واحدة: «إرحل»، كان السينمائيون
هناك، من كل الأجيال، حاملين لكل الخيبات والهزائم. لكنك تراهم ضاحكين
أيضا، يرددون الهتافات، يبكون، يلقون بالحجارة، أو مشاركين في مهمات خيمتي
«الميديا سنتر»، اللتين نصبهما بعض الشباب، من المصورين والسينمائيين، منذ
اليوم الأول لتحرير الميدان من السلطة، لتوثيق ما يقوم به أعداؤهم وتوزيعه
على القنوات الفضائية.
رحل مبارك، ورحلنا. ذهب البعض تحت قيادة عدد من السينمائيين الشيوخ،
من أمثال علي بدرخان، ومن الشباب من أمثال المونتيرة ولاء سعدة، للاعتصام
في النقابة، لتحريرها، كي تبني من جديد بما يلائم هذه الثورة. ينتهي
الإضراب ويخسر السينمائيون معركتهم في مواجهة موظفي التلفزيون، وينتصر
النقيب نفسه الذي ينتمي لزمن مبارك.
يغادر الشباب النقابة، ليعودوا مرات عدة إلى الميدان.. في أعداد أقل..
عاد البعض إلى مكاتبه المنزلية للكتابة، أو لتحضير مشاريع، لا يعلم إن كانت
ستخرج للنور أم لا. البعض الآخر ما زال في الشارع.. أنهم من تركوا
مسلسلاتهم وإعلاناتهم.. محاولين أن يعيدوا إنتاج ثورتهم، فيلميا، أو
استكمالها. أما الناصية.. فما زالت تنتظر الجديد، من هتافات، أو صور، أو
أفلام.
(سينمائي وكاتب مصري)
السفير اللبنانية في
30/03/2012
لبنان:
الوثائقي أجمل سينمائياً والروائي يميل إلى تبسيط الحكايات
الإنسانية
نديم جرجورة
يُمكن تحديد واقع الإنتاج السينمائي اللبناني الشبابي بما يلي:
استسهال المعالجة الدرامية في الأفلام الروائية الطويلة، الخاصّة بتفاصيل
حياتية أو عامّة، في مقابل اهتمام مثير للانتباه في آلية الاشتغال
السينمائي في صناعة الأفلام الوثائقية، شكلاً ومضموناً. بمعنى آخر: هناك
تبسيط طاغ في معاينة وقائع الحياة اليومية اللبنانية، على مستوى الفيلم
الروائي الطويل، في مقابل تعمّق الفيلم الوثائقي، درامياً وإنسانياً
وجمالياً في أحوال البلد وأفراده. بالإضافة إلى هذا، يُلاحظ غياب الدور
الإبداعي للتعليم الأكاديمي في المجال السمعي البصري، على حساب الإنتاج
السينمائي. غير أن غياب الدور المذكور لا يرتبط بكثرة الجامعات والمعاهد
والمدارس الخاصّة بالتعليم السمعيّ البصريّ فقط، بل بتحويل «التعليم» إلى
تجارة بحتة، بدليل التراجع الخطر للمستوى النوعيّ للطلاّب المتخرّجين، خلال
الأعوام العشرة الأخيرة على الأقلّ. واقع الحال الطالبي خلال الفترة
المذكورة أعلاه كشف تراجعاً في النوعية المتعلّقة بالموهبة والثقافة
السينمائية والرغبة العميقة في الاشتغال السينمائي، في مقابل ميل متنام إلى
أنماط بصرية أخرى، كالإعلان والـ«فيديو كليب» والمسلسلات التلفزيونية
والأعمال التسجيلية التقليدية.
صورة عامّة
هذا اختزال نقدي لواقع الحال السينمائي اللبناني، الذي يصنعه
سينمائيون لبنانيون شباب. اختزال يطال الفترة التي بدأت مع مطلع القرن
الجديد. اختزال لا يُعمِّم ولا يتّهم، بل يسعى لرسم صورة عامّة وأولى لواقع
الحال الإنتاجي اللبناني، بمقارنته مع أنماط الاشتغالات السينمائية الأخرى،
التي تمتلك شيئاً من إبداع حقيقي في الإخراج والمعالجة والكتابة والأداء،
وإن بنسبة أقلّ من الاستسهال والتبسيط. لذا، يجب التشديد على مسألة أخرى:
البراعة الإبداعية في صناعة الفيلم الوثائقي مُصابة ببهتان الصورة
والمعالجة، أحياناً. مُصابة باستخدامها أدوات تعبير تلفزيوني، وبجعل الصورة
«الوثائقية» تسجيلية بحتة، تليق بريبورتاج تلفزيوني فقط. الإسراف في
التبسيط والادّعاء و«البهورة» في صناعة الفيلم الروائي لا تعني غياباً
مُطلقاً لـ«إبداع» الصورة السينمائية على مستوى التخيّل والخلق. لكن المأزق
واضح تماماً: منذ بداية هذه الألفية الثالثة، على الأقلّ، بدا واضحاً أن
صناعة الفيلم الوثائقي تشهد، عاماً تلو آخر، تطوّراً حقيقياً في اختيار
المادة، وفي المعالجة الإنسانية، وفي الاشتغال السينمائي. بدا واضحاً أن
الفيلم الوثائقي ينحو، بخطى بطيئة وواثقة وثابتة في آن واحد، إلى تفعيل
حضوره الفني، بالتزامه مفردات الخلق الإبداعي، بصرياً ودرامياً، بنسبة أكبر
من نوعية الأفلام الروائية. في المقابل، وبدءاً من مطلع الألفية الثالثة
نفسها، تنامت ظاهرة تلفزيونية «بغيضة» في صناعة الصورة السينمائية: أفلام
معتمدة على نجوم تلفزيونيين، من دون ركيزة درامية متماسكة، أو اشتغال
سينمائي متكامل. أفلام مستلّة من مسلسلات تلفزيونية، أو ناتجة من نجاح
جماهيري لهذا المسلسل أو لذاك النجم أو الممثل التلفزيونيين.
الفيلم الروائي الطويل، الذي يصنعه مخرجون لبنانيون شباب في الآونة
الأخيرة، مقيم في تناقض واضح: قليلة هي الأفلام القادرة على امتلاك
حساسيتها الإبداعية، المبتعدة (للأسف) عن أي نجاح جماهيري. وهذا في مقابل
أفلام كثيرة مرتكزة على استسهال مخرجيها اختيار المواضيع ومعالجتها، وعلى
تبسيط المعاينة الدرامية لمواضيع إنسانية متفرّقة، وعلى لامبالاة خانقة في
إدارة الممثلين، أو في «تنفيذ» النصّ السينمائي. أفلام روائية اختارت
شخصيات دينية أو مُقاوِمَة مادة درامية لها، مغلِّفة إياها بغطاء سينمائي
باهت ونضاليّ وخطابيّ ومُسطَّح. الفيلم الوثائقي مختلف. الأسباب متنوّعة،
وإن أمكن اختصارها بما يلي: ميلٌ واضح لمخرجين شباب إلى جعل الصورة
الوثائقية سينمائية. اهتمام بالتنقيب عن جذور عميقة للمعاناة الإنسانية
اللبنانية العامّة، وتحويل مقاربتها إلى صُوَر تمزج الوثائقي بالمتخيّل
الإبداعي، وتضع الصورة السينمائية في خدمة التوثيق. أفلام روائية طويلة
اختارت مواضيع إنسانية عامّة: مأزق الحياة اليومية في بلد مخلّع. علاقات
مبتورة وصدامات تبدأ بالعشق والانفعال، وتكاد لا تنتهي في البيئة
الاجتماعية وتأثيراتها القاتلة على الفرد وجماعته.
المأزق، هنا، واضح: في مقابل أهمية المواضيع المختارة، مال مخرجون
شباب عديدون إلى آلية اشتغال مبسّطة وساذجة، أحياناً عدّة، أو إلى آلية
اشتغال مسطّحة و«قادرة» على تفريغ المضمون من عناوينه، أحياناً أخرى.
الأمثلة عديدة: الحياة الجامعية لشباب لبنانيين في لحظة خطرة ومهمّة من
التبدّل السياسي والأمني والاجتماعي اللبناني، الناتجة من اغتيال رفيق
الحريري في الرابع عشر من شباط 2005. هذا موضوع مهمّ جداً. هذا جزء من
وقائع العيش اللبناني على حافة الهاوية. هذا انقلابٌ في المسار التاريخي
اللبناني. هذا انعكاس لواقع الحال الشبابي أيضاً. بل لواقع الحال النضاليّ
الشبابيّ الجامعيّ. لكن النتيجة السينمائية عادية جداً. أكاد أقول إنها لم
تبلغ المرتبة الراقية للموضوع المختار. وهذا كي لا أصفها بالفاشلة. مثلٌ
على ذلك: «شارع هوفلن» لمنير معاصري (كتابة وإنتاج مارون نصّار). الضياع
الشبابي، سواء حدث منذ النهاية المزعومة للحرب الأهلية، أم بُعيد اغتيال
الحريري أيضاً، موضوع مهم أيضاً. لكن المأزق كامنٌ في غياب الإبداع
السينمائي المتعلّق بالترجمة البصرية الخاصّة به: «تاكسي البلد» لدانيال
جوزف مثلاً. الغياب المذكور متمثّل باستسهال المعالجة وتبسيط العناوين.
المأزق الروائي الطويل الآخر كامنٌ في أسلوب
المعالجة السينمائية: طغيان الـ«فيديو كليب» أو التنفيذ الإعلاني على ما
يُسمّى بـ«فيلم روائي طويل». هذا ماثلٌ في «تنّورة ماكسي» ليوسف جو بوعيد
مثلاً، على الرغم من أهمية المادة الخام (!)، المتمثّلة باستعادة أحد
الفصول البشعة للحرب الأهلية اللبنانية، من خلال قصّة حب بين شاب وصبيّة،
في ظلّ التقوقع الطائفي البغيض. ركّز الفيلم على بيئة مسيحية صرفة. سلّط
ضوءاً على الحياة اليومية لأفراد منتمين إليها، بعضهم مقاتل في ميليشياتها
المسيحية، وبعضهم الآخر منتم إلى فكر يساري تمّ التعامل معه (كما مع
الميليشيا المسيحية) بكثير من التبسيط. انطلق «تنّورة ماكسي» من «قصّة
حقيقية»، متمثّلة بواقع العلاقة القائمة بين والديّ المخرج.
تناقضات
هذا كلّه حسنٌ. الاعتراف السينمائي بالانتماء «الطائفي/ الديني»
لشخصيات الفيلم خطوة مهمّة للغاية. استعادة واقع البيئة الواضحة الانتماء،
طائفياً ودينياً، مهمّة أيضاً. لكن المعالجة، المرتكزة على تبسيط مملّ
وساذج، وعلى اشتغال بصريّ لا علاقة له بالسينما، جعلت الفيلم نموذجاً
للاستسهال القاتل، وللادّعاء الساذج باشتغال «إبداعي»، مال إلى لغة
الـ«فيديو كليب»، شكلاً وأسلوباً وألواناً ولقطات.
في الإطار الروائي الطويل أيضاً، هناك «كاش فلو»
(Cash Flow)
لسامي كوجان و«سورّي مام»
(Sorry Mom)
لعماد الرفاعي. الأول محاولة مملّة وساذجة لتبيان واقع الحال الشبابي،
من خلال قصص، ظنّ صانعو الفيلم أنها قابلة لأن تكون معالجتها سينمائية،
فإذا بهذه المعالجة باهتة ومملّة، ما جعلها تنخرط في إطار اشتغال سينمائي
مبتذل. لا يقلّ الثاني سذاجة وتسطيحاً وتتفيهاً لمسائل شبابية، موزّعة على
عناوين الحبّ والعلاقات والانفعالات وغيرها، عن «كاش فلو». الفيلمان
منقوصان، سينمائياً وفكرياً وجمالياً. يُمكن القول إنهما ناتجان من واقع
الاستسهال نفسه الذي وجد في التطوّر التقني الهائل ركيزة لادّعاء سينمائي.
أميل إلى الاعتقاد أن هذا كلّه ناتجٌ من التراجع التربوي والثقافي
الخطر الذي يُعانيه مجتمعٌ لم يتعاف من تأثيرات الحرب الأهلية اللبنانية.
تراجع واضح، يُقابله انعدام الوعي الإبداعي، وطغيان الادّعاء، ورواج
الاستسهال القاتل في التعاطي مع الشؤون الإبداعية الجمالية، وغياب المساءلة
النقدية الفاعلة. هذا كلّه في مقابل مخرجين شباب آخرين، أكّدوا مراراً
امتلاكهم وعياً ثقافياً عامّاً، ونُضجاً سينمائياً بديعاً، وجرأة أخلاقية
وإنسانية تدفعهم إلى تفكيك الذاكرة اللبنانية المنغلقة على خرابها
وتقوقعها. بعض هؤلاء الأخيرين عثر في الفيلم الوثائقي على ضالته: الذهاب
إلى الماضي، سواء عبر أحد أفراد عائلته (أب، أم، عم، جدّة، إلخ) أم عبر
الروايات الشفهية والتحليل العلمي، مفتاح لولوج ذاكرة يُراد لها الموت،
وأداة لتحصين حكاياتها الفردية البحتة، أو الفردية المنفتحة على الجماعة.
هذا ما فعله سيمون الهبر («سمعان بالضيعة» و«الحوض الخامس») ورامي نيحاوي
(يامو) وزينة صفير (بيروت عالموس) وداليا فتح الله (كاوبوي بيروت) وإليان
الراهب (هيدا لبنان) وأحمد غصين (أبي ما زال شيوعياً، أسرار حميمة للجميع).
«الاحتماء» بأحد أفراد العائلة لا يعني تغييباً للغة إبداعية ما في معالجة
مواضيع عامّة في أفلام وثائقية: «القطاع صفر» لنديم مشلاوي مثلٌ حديث جداً.
أفلام متنوّعة لهادي زكّاك مثلٌ على ذلك أيضاً. أي أن الاشتغال الوثائقي
على مواضيع عامّة، سواء انبثقت من علاقة حميمة بين المخرج السينمائي الشاب
بأحد أفراد عائلته أم لا، أنتج أفلاماً أثارت متعة المُشاهدة، ودفعت
مُشاهديها إلى مناقشة طروحاتها الدرامية والجمالية والبصرية. أفلام حوّلت
الشخصية الرئيسة (أحد أفراد عائلة المخرج) إلى محور، بل إلى عين ثاقبة
ومتلصّصة وراوية، تستعيد ذاكرتها الذاتية، كي تروي فصولاً من سيرة الجماعة.
في حين أن الميزة النقدية لأفلام وثائقية «متحرّرة» من سطوة أحد أفراد
العائلة شكّلت، بدورها، أداة تنقيب في الذاكرة الجماعية، والراهن المنبثق
عنها، بقراءتها العلاقات الغامضة والمتصادمة والمتكاملة معاً بين الآنيّ
والماضيّ. أما الاشتغال التقني والجمالي، فمتنوّع الاتجاهات والمهارات:
الجماليات السينمائية واضحة في أفلام عدّة («سمعان بالضيعة» و«القطاع صفر»
و«يامو» تحديداً)، والحفر في أعماق المجتمع اللبناني بلغة سينمائية أتقنت
تحقيق مفرداتها الإبداعية وإن بشكل مبسّط (معظم الأفلام الأخرى).
السفير اللبنانية في
30/03/2012
سوريا:
نعمة اليوتيوب والحاجة إلى الحرية
راشد عيسى
(دمشق)
الأفلام التي أنتجتنها «المؤسسة العامة للسينما»، الجهة الإنتاجية
السينمائية الوحيدة في البلاد، في العقد الأخير، تكاد، في معظمها، تكون
مخجلة، ليس قياساً إلى عيون السينما في العالم شرقه وغربه، بل بالنظر إلى
تاريخ السينما السورية نفسها. فرغم المكابدات التي عانتها هذه السينما، من
ضغوط رقابية، إلى شحّ في المال المخصص لهذه الصناعة، إلى بنية تقنية مهملة،
إلى صالات عرض قليلة وغير لائقة، وصولاً إلى انفضاض الجمهور أصلاً عن
السينما، رغم كل ذلك فقد استطاعت سينما ما قبل العقد الأخير، أن تكرس
أفلاماً، لا تنسى، ومخرجين لا شك أنهم سيظلون ملهمين لأجيال من السينمائيين
الشباب. وأياً كانت الاعتراضات على تلك الأفلام، من قبيل أنها أفلام
مهرجانات أو أنها ذاتية تخص مخرجيها، فإنها في النهاية أفلام تستحق التحية.
لقد عمل هؤلاء السينمائيون في بيئة ضاغطة وظالمة لأي مبدع، ومع ذلك لم
يكفّوا عن محاربة المؤسسة لانتزاع ما أمكن من أفلام، من فرصة لعمل أفلام،
وما أمكن من حرية في القول. النتيجة يمكن تلخيصها بعبارة لكاتب هذه السطور
حول فيلم «مرة أخرى» (2009) لجود سعيد، وهو واحد من ألمع السينمائيين
الشباب اليوم، عبارة تقول «إذا كانت أفلام السينمائيين السوريين البارزين
عانت صراعاً مريراً مع الرقابة،.. فإن هذا الفيلم (فيلم «مرة أخرى») يبدو
كأن الرقابة بالذات هي من أنتجه، خصوصاً حين يوظف نفسه للدعاية السياسية».
كان الفيلم يتناول تجربة دخول السوريين إلى لبنان، و«المساعدة» التي قدمت
انذاك في العام 1982 للبنانيين، لتعاد الكرة، بخصوص المساعدة، مرة أخرى
(ومن هنا عنوان الفيلم) في العام 2006 إثر حرب تموز.
لاحقاً، ونعني هذه الأيام بالذات، سيصبح ذا مغزى، أن يحظى جود سعيد
بهذه الفرصة، وبفرصة أخرى هي فيلم قيد الإنجاز الآن، في الوقت الذي يجري
سحب فرصة فيلم لسينمائي لشاب من جيل سعيد هو نضال حسن، الذي اعتقل مرتين
لتضامنه مع ثورة شعبه.
هرمنا
مثل نضال حسن هناك كثر من السينمائيين الشباب ينتظرون دورهم في
المؤسسة، وقد يهرمون قبل أن تأتيهم الفرصة المؤاتية، كما حدث مع جيل سابق
مهمل من سينمائيي الأجيال السابقة. وبالتأكيد فإن السينما السورية خسرت
الكثير من مواهب أبنائها؛ بعضها أدرك مصيره مبكراً فذهب إلى الدراما
التلفزيونية، والبعض الآخر واظب على حياته كموظف ينتظر فرصة من سماء
المؤسسة، والبعض صنع أفلاماً، كنوع من الاسترزاق.
منذ عامين عرض فيلم تسجيلي صوّره في سبيعنيات القرن الماضي سينمائي
شاب بات أحد مخرجي التلفزيون المكرَّرين. وجدت في الفيلم ما يثير الإعجاب،
وما يضع الفيلم في مصاف أفلام عمر أميرالاي.فاجأني أن يكون المخرج
التلفزيوني غير اللامع الآن، أن يكون ذاك الشاب المليء بالحيوية والطموح
والبحث، سألت المخرج ذات مرة: كيف حدث ذلك التحول؟ ما انت عليه اليوم ليس
هو النتيجة المنطقية لتلك البداية؟. السؤال جارح بالطبع، والمخرج لم يخف
مراراته حين قال: «إنه البلد. البلد وليس أنا».
لا بد إذاً من أن عدداً من السينمائيين الشباب عرف أن المؤسسة ستأخذه
في أحسن الأحوال إلى مصير مشابه لمصير مخرج يجد نفسه في آخر العمر مع
فيلمين، ثم يجد نفسه يقدم شرحاً مع كل عرض لفيلم، يعتذر فيه عن مشاكل
الصوت، والألوان، لأن المعمل، والكاميرات، والميزانية، والرقابة، والمدير،
إلى ما هناك من أسباب، هي ما جعل الفيلم يبدو على هذا النحو.
يمكن القول إن مخرجين كثر ولدوا خارج المؤسسة، معتمدين على جهود
ذاتية، أو على مؤسسات خاصة، وداعمين دوليين ومراكز ثقافية. هناك بالطبع من
أخرج في المؤسسة وخارجها، مثل نضال الدبس الذي أخرج في المؤسسة «تحت السقف»
(2005)، ولقناة تلفزيونية فيلم «روداج» (2010)، وهناك من اختار أن ينأى
بأفلامه كلياً عن المؤسسة مثل عمار البيك الذي أنجز «حصاد الضوء» (١٩٩٧)،
إلى جانب عدد من الأفلام القصيرة. كما أخرج مع هالة العبد الله «أنا التي
تحمل الزهور إلى قبرها» (٢٠٠٦). كما أخرج أخيراً «حاضنة الشمس» الذي يتطرق
إلى الثورات العربية.
أبو نضارة
من الواضح أن االأجيال الجديدة تتجه اليوم إلى الفيلم التسجيلي، ربما
بسبب ظروف أقل كلفة وأقل تعقيداً، عدا عن الرغبة باقتحام منطقة بكر. وهذا
لم يتوقف على متخرجي ودارسي السينما، فالكاميرا باتت بين أيدي الجميع، ومن
السهل أن يتحول أي فيديو منزلي إلى فيلم تسجيلي. ولقد شجع المخرج الراحل
عمر أميرالاي هذا النوع بأفلامه، ومن ثم عبر «افتتاح المعهد العربي للفيلم»
في عمان الذي درس فيه بعض السينمائيين السوريين ليقدموا تالياً أفلامهم
الخاصة. ليأتي بعد ذلك مهرجان «أيام سينما الواقع دوس بوكس» الذي كان له
فضل كبير في التأسيس لجمهور للفيلم الوثائقي، الأمر الذي من شأنه تشجيع
الإنتاج السينمائي التسجيلي أيضاً.
لكن هناك تجربة مذهلة لا بد من الإشارة إليها، فهناك مجموعة سينمائية
تحمل اسم «أبو نضارة» وتنشر أعمالها على موقع على شبكة الانترنت، وسبق لبعض
أفلامها أن شارك في مهرجانات سينمائية مرموقة. حققت المجموعة عدداً من
الأفلام التسجيلية القصيرة التي ترصد حياة السوريين في الظل، حياة
المهمشين. ومن الواضح لدى مشاهدة أفلام المجموعة أن إنتاجها ممكن من دون
الاضطرار إلى موافقات إنتاجية أو رقابية، إذ غالباً ما تكون الكاميرا في
أماكن محصورة. ومن عناوين أفلام «أبو نضارة» فيلم يحمل عنوان «نجمة
الكواليس»، و«معماري من تحت لتحت»، و«مؤمنون بلا منابر». وفي ظل الثورة
السورية حققت المجموعة عن الثورة فيلمين، الأول بعنوان «النهاية» الذي
يتحدث عن الشباب السوري الذي يخاطر بحياته ويضع تضحياته أساساً
للديموقراطية القادمة. والثاني «طلائع» الذي يتحدث عن «منظمة طلائع البعث»
التي تأسست في المدارس الابتدائية السورية على طريقة كوريا الشمالية.
لثام الخوف
اليوم وجد السوريون أنفسهم إزاء تجربة سينمائية مغايرة كلياً،
واستطاعت الكاميرا أن تلعب دوراً تاريخياً في الكشف والتوثيق والتحفيز، لا
نتحدث هنا عن الأخبار والصور المرسلة عبر كاميرا الجوال وحسب، بل عن أفلام
جرى تحقيقها على الأرض، وشارك بعضها في مهرجان افتراضي تحت شعار «السينما
في ساحة الحرية»، أطلق عبر صفحة له على الفيسبوك ما أسماه «مهرجان سوريا
الحرة السينمائي الأول»، معتبراً إياه بديلاً عن «مهرجان دمشق السينمائي»
الذي جرى تعليقه بسبب الظروف التي تمر بها سوريا. ومن بين الأفلام التي
عرضت وجرى التصويت عليها فيلم «جحيم الأرض» (8 د) و«الجنس البشري» (7د
العام 2009) للمخرج محمد خير دياب. و«انبعاث الأمل» (8 د، 2011) لزينة
ارحيم، وفيلم «أطفال الحرية» (8د، 2011) للمخرج روش عبد الفتاح، وفيلم «
قصة سورية قصيرة» للمخرجين محمد عمران وداني أبو لوح. واللافت أن من بين
هذه الأفلام أعمالا درامية قصيرة يؤديها ممثلون مغمورون، بعضها جريء وغير
معتاد في السينما السورية على مستوى حرية التعاطي مع الجسد، وهو أمر غير
مألوف في سوريا سوى في عهود ما قبل الاستبداد.
تبشر التجارب السينمائية الكثيرة للأجيال الجديدة بسينما جديدة أيضاً،
فهذا الغليان السينمائي يفسر حاجة السينما أولاً، وقبل كل شيء، للتحرر من
لثام الخوف، ومن الرقابة والوصاية والمصادرة. لا ننسى بالطبع نعمة
اليوتيوب، الموقع الذي يتيح تحميل الأفلام، ويجعلها في متناول الملايين.
سوريا بلد بكر، ليس فقط على مستوى الأفلام التسجيلية، بل كذلك بالنسبة
لموضوعات درامية لم يكن التطرق إليها ممكناً من قبل. إن قليلاً من التدقيق
يؤكد أن كل معضلات السينما في سوريا لم تكن لتحتاج سوى إلى الحرية، ما من
حل آخر لمشكلة لطالما حلل السينمائيون وناقشوا وكرروا منذ عقود من دون
جدوى: الحرية.
السفير اللبنانية في
30/03/2012
قليل من عبد الحليم حافظ لثورة يناير مع
إغفال الحلم الناصري
سحر مندور
عبد الحليم حافظ هو صورة مكرّسة، في الحب كما في الوطنيات المباشرة،
لابن ثورةٍ صنعها «الضباط الأحرار» في مصر (1952). وها هي مصر اليوم، تنهض
بثورةٍ جديدة صنعها الشعب.. فاستعادت أغنياته، لكن بلا احتفاء بأسماء
أبطالٍ ماتوا ووحداتٍ لا أرض لها. استعادت ثورة 25 يناير بعضاً من عبد
الحليم، والكثير من الشيخ إمام: الأول أحب البلد فأخذها «بالأحضان»، راقصها
في الأفراح، وهمس في أذنيها الأحزان.. بينما الثاني أحبها فنقدها، أصرّ على
حمايتها فظهّر لها المخاطر.
في ثورة يناير، عاش الناس الأمل، وخشوا اغتياله. فحلّقوا مع عبد
الحليم، لكن أمّنوا ثبات أقدامهم على الأرض عبر نقديات الشيخ إمام. كأن عبد
الحليم هو الحلم، بينما الشيخ هو اليقظة.
عاش عبد الحليم حافظ لمدةٍ تقلّ عن خمسين عاماً، إذ توفي في 30 آذار
1977 عن 47 عاماً. ومع ذلك، مرّت صورته بمتغيّرات كثيرة، من شبابٍ تتراقص
غمزات الصورة حوله («توبة»)، فشباب مكتمل الشخصية («أول مرة تحب يا قلبي»)،
فرجولة رقيقة المقاربة («أبي فوق الشجرة»)، وصولاً إلى كهولة فرضها المرض
على وجهٍ انصهرت فيه المعاني («قارئة الفنجان»).
على اختلاف الوجوه والقصص، قدّم عبد الحليم حافظ نموذجاً أصرّ عليه،
في الأغنية كما في السينما، وفي الحب كما في الوطنيات، وهو مثال ينتصر
للفقير العصاميّ، الرقيق الحنون، الذي يرفض الظلم ولا يمارسه، يتمرّد على
الظلم ويعد بالانتصار. هي صورة تكرّرت، حتى باتت موضوعاً يُناقش.
في الحب، لم يُناقش عبد الحليم كثيراً في صورته القائمة على الحساسية
المرهفة، علماً أنها صورة ترافقت مع ثورة عسكرية حلّت على المجتمع، أو نشأت
منه، لا يهم. لم يختر المثال الأشد «رجولة» ليكون «العسكري» الحاكم في لحظة
حب. وإنما أنزل العسكري عن دبابته، ومن طائرته، ووضعه في جسم المطرب الشاب
الفقير الذي تتعاون الحارة كلها على صناعة بدلة له يقابل بها ربّ عملٍ
محتملاً («شارع الحب»). صنع مثالاً للشاب العربي الثائر، ينطلق من الفقر لا
من الغضب، ويسعى إلى النجاح لا الانتقام.
عبد الحليم روّج لرجل بديل من «سي السيد»، لا بل مناقض له، حفظ من «سي
السيد» ما يشتهيه فيه محبّو الخضوع للسلطة، أي لحظات ظهور الطيبة والأخلاق
النبيلة وكلمة الحق، ثم جرّده من كل القسوة والظلم، لينتج نموذجاً يكاد
يكون فريداً من نوعه، هو عبد الحليم حافظ، الذي انتحرت الفتيات يوم رحيله.
انتحرن، لا لأنهن مهووسات غبيات، بل لأن ما يختصره عبد الحليم اقتُلع
من دواخلهن، كأن يداً قاسية لا تُردّ اخترقت الصدر، وانتزعت منه القلب.
الموت البيولوجي يضحي ترجمة لموت رمزي اجتاحهن، هنا.
الهيام
وعلى الرغم من عدم جواز المقارنة، فمن اللافت أن تأتي أغنيات الحب
القليلة التي قدّمها الشيخ إمام، على تجانس مع «حب عبد الحليم»، إذ أنه،
بدوره، قدّم الهيام في الحب، بكلمات وألحان وأصوات أخرى، لكن باحترام
للشريكة، واستعداد تام، لا بل رغبة بالتضحية لأجلها، و«إن كان أمل العشّاق
الحب، أنا أملي في حبك هو الحب». ويأتي ذلك في تناقض مع الحدّة التي أبداها
الشيخ على المستوى الوطني، وهي حدّة تتخذ أشكال الوجع، كما السخرية
والتهكّم، وصولاً إلى النقد المباشر، وبالأسماء.. علماً أنه قد طال عبد
الحليم بنقده، قائلاً عنه: «لماليمو الشخلوعة الدلوعة الكتكوت / الليلة
هيتنهد ويغني ويموت / يشيلوه قال على لندن علشان جدّه هناك / من بعد ما
يتلايم على دخل الشباك / ويهرّب أموالك ويقول لك أهواك / يا شعب يا متلوع
منتاش لاقي القوت».
أغنية الشيخ تلك، تنتقم من عبد الحليم، في سياق نقدها لدور الفنانين
في إرساء الديكتاتورية العسكرية في مصر. فاختار أن يواجه حليم برقّته
الأسيرة، كما بتجواله المستمر بين لندن والقاهرة، طلباً للعلاج، ظنّاً من
أبناء الجيل حينها أنه يدّعي المرض استدراراً للعاطفة، فكان موته دليلاً
على صدق ألمه. وفي ذلك ما يذكّر بالأبطال التراجيديين. وقد كُرّس مرضه
كثيراً في معرض النقد، كمدخلٍ لكسر الصورة، عبر افتراض زيفها. لكنها صورةٌ
استمرت بقوة رغبة الناس بها، وقدرة حليم على تأمين جودة فنية عالية
لتماسكها.
ضعف عبد الحليم هذا، جعل العلاقة مع المرأة، علاقةً مع إنسان/ة. لم
ينطلق من تنميط اجتماعي، بل من «أصل الفتى ما قد حصل»، بعدما أضاف إلى
الفتى فتاةً. هكذا حدّد معالم شاب الثورة، في الحب.. فكيف حدّدها في
الوطنيات المباشرة؟
انسحبت رقّة عبد الحليم في غناء الحب، رقّةً في مقاربة الوطن، تحتدّ
أحياناً فتتوعد «بالدم»، تغفو أحياناً فتحلم بالمُحال. «تماثيل رخام ع
الترعة وأوبرا، في كل قرية عربية»: تلك عبارة من واحدة من أغانيه الوطنية،
لا يزال صدى نقدها يتردد حتى الساعة، كونها ملأت الأعين بأوطان لم يكن أحد
يبنيها في الواقع. لم يكن جمال عبد الناصر يبني الأوبرا على الترعة، ولا
كان نظامه يجيز الفكر الحرّ، لكن خطابه كان يخبر دائماً عن المحاولة
والرغبة، وكان عبد الحليم يروّج لهما. لم يكن يروّج فحسب، لكنه، بوضوح
وباعترافه وعن وعي معلن، كان يعتبر نفسه الصوت الفني لثورة يوليو، الذراع
الموسيقية لعبد الناصر، لأنه، حسبما قال مراراً، ابن تلك الثورة، مستفيد
منها في ما أتاحته للفقراء العصاميين من فرص، منذ التعلّم وحتى النجاح.
ففي عيد الثورة في العام 1965، وقبل سنتين من «النكسة»، غنّى «يا
أهـــلاً بالمعارك»، مفنّداً خطة عمل رسميــة، يعتــبر تنســيقها في قصيدة
إعجازاً:
«للأفراح وللرفاهية ح نمدّ طريق ع النيل / اسمه في الإشتراكية التصنيع
التقيل / بس نضاعف إنتاجنا أضعاف أضعاف أضعاف / وندبّر مهما احتاجنا ونحارب
الإسراف / وبقرش الإدخار، نتحدى الاستعمار / ونقيم جدار جبار يحمي حياة
العاملين / وآدي نقطة بنقطة جميع الخطة، وبالله نستعين».
وتأتي «الخطة» في سياق الأغنية، على لسان عبد الناصر، يلقيها على
جمهور متيّم به، كبطلٍ معصوم، وبعسكريته، كمثال مشتهى: «في لحظة يطلّ،
ويهدى الكل، ونسمع فرحانين / عبد الناصر حبيبنا، قايم بيننا يخاطبنا /
نجاوبوه ويجاوبنا، قائد ومجندين / قول ما بدا لك / إحنا رجالك / ودراعك
اليمين، قول».
وقبل الحكم على سياق عبد الحليم الوطني، في تماهيه مع الحاكم، وتسخير
نفسه ناطقاً باسمه، تجدر الإشارة إلى أن هذه الأغنية مثلاً، ولدت على أيدي
ثلاثة من أشدّ الصادقين في مجالاتهم الإبداعية: كلمات صلاح جاهين، وألحان
كمال الطويل، وغناء حليم. وقد تسبّبت هذه الأحلام لجاهين، بصفته صاحب
القول، بإحباط أدّى إلى وفاةٍ قيل عنها إنها انتحار.
ليسوا «أبواقاً»، ولا هم حاشية البلاط. كانوا حالمين انتحاريين،
وكانوا يعكسون بذلك ملامح شعب، فيه استثناءات كثيرة، لكن الباقين منه
يخبرون عنه اليوم، وعن حلمٍ اجتاح الجسم كرعشة مستدامة.. فلم يحصّنوا
أنفسهم والمجتمع، من كوابيس ذاك الحلم، وهو ما فعله الشيخ إمام. كما أنهم
أيضاً لم يصونوا أحلام العدالة الاجتماعية، بنقد الحاكم وأجهزته.. فسقطت
معه.
فتح الاحضان
بعد النكسة، لم يأخذ عبد الحليم مسافة من الحلم، ليعيد النظر فيه،
آخذاً حجم المأساة على أرض الواقع بعين الاعتبار، وإنما استمر في الحلم،
والترويج له، حتى بعد رحيل ناصر.. كأنه فعلاً بطل تراجيدي، لا يريد أن يرى
إلا ما يريد أن يكون. فأجاب عن سؤال النكسة بأغنية «عدّى النهار»، قائلاً:
«أبداً.. بلدنا للنهار / بتحب موّال النهار / لما يعدّي في الدروب، ويغنّي
قدّام كل دار». وبينما كانت اللحظة هي الأكثر مناسبة للبدء في آلية اليقظة،
تعود «بلدنا» لـ«تحلم ببكره واللي ح يجيبه معاه / تنده عليه في الضلمة
وبتسمع نداه (...) طالعة له صحبة جنود، طالعة له رجال أطفال بنات / كل
الدروب، واخدة بلدنا للنهار».
إلا أن «الدروب» قادت بلدنا إلى عقود من الظلم، أدّى إلى ثورة على
الثورة الأولى، بعدما نحرت معانيها ووعودها ومبادئها في «الدروب» ذاتها.
لذلك، كان الشيخ إمام بأكمله حيّاً في ثورة يناير، بينما بقيت من عبد
الحليم قصة حب وطني غامر، ووعدٌ بحلمٍ دائم التجدّد.
ففي ثورة يناير، كان الميدان يخبر الشيخ إمام، بعد عقود من الغناء
والسجن، بأن حلمه قابل للتحقّق.. وكان الشعب يخبر نفسه بأن من يحبّها
ينقدها، ومن يصرّ على حمايتها، يظهّر لها المخاطر.
أما «الأحضان» فلم يفتحها قلبٌ كما فتحها حليم..
السفير اللبنانية في
30/03/2012 |