حدّدت هانيا مروّة، مديرة جمعية «متروبوليس»، أسباباً عدّة أدّت إلى تنظيم
احتفال بنتاجات سينمائية لبنانية جديدة بعنوان «دفاتر يومية». قالت، في
مؤتمر صحافي عقدته ظهر أمس في صالة سينما «متروبوليس» (أمبير صوفيل،
الأشرفية)، إن «الدفاتر» منبثقة من صلب المشروع الثقافي للجمعية، المعنيّة
بالسينما المختلفة أو البديلة، وبسينما المؤلّف. رأت أن أفلاماً روائية
ووثائقية، طويلة وقصيرة، عرفت نجاحاً لافتاً للانتباه في مهرجانات دولية
متفرّقة، تستحقّ أن تعرض محلياً. في المؤتمر الصحافي نفسه، الذي حضره زملاء
ومهتمّون بالإضافة إلى عدد من مخرجي الأفلام المختارة، اعتبرت مروّة أن
الراهن اللبناني شهد تقدّماً مهمّاً في صناعة الفيلم اللبناني، شكلاً
ومضموناً: «قبل أعوام عدّة، لم تكن وتيرة الإنتاج المحلي سريعة، كما هو
حاصل اليوم. في كل عام، هناك فيلم طويل أو فيلمان. الآن، اختلف الوضع. هناك
نحو عشرة أفلام روائية طويلة أُنجزت في الآونة الأخيرة من دون أي دعم معنوي
أو مادي، وتميّزت بجودة استثنائية، تستحقّ بفضلها أن تُعرض محلياً». أضافت
أن «الدفاتر» تريد مساحة للتواصل بين هذه الأفلام ومشاهدين مهتمّين بها.
بدءاً من 3 أيار المقبل، تُقدّم «متروبوليس» ثمانية أفلام أُنتجت في
العامين الأخيرين: «لكل فيلم أسبوعا عرض. وإذا جذب الفيلم جمهوراً أكبر،
يستمرّ عرضه». ما قالته مروّة مفتوح على سؤال صناعة الفيلم اللبناني أيضاً:
التطوّر الحاصل في الأعوام الفائتة جعل هذه الصناعة أجمل سينمائياً، وأفضل
لغة ومعالجة درامية. ميزة الأفلام الثمانية المختارة كامنة في اختلافها عن
السائد، شكلاً ومضموناً: «المشترك بينها كامنٌ في انطلاقتها من تجربة
خاصّة، أو من حالة شخصية. هناك نوع من الحميمية أيضاً. قصص خاصّة جداً،
تحكي عن الذاكرة، في مواجهة طغيان نمط حياتي يُراد منه تغييب هذه الذاكرة،
سواء كانت شخصية أم خاصّة بالبلد كلّه».
الأفلام المختارة لـ«دفاتر يومية» هي: «القطاع صفر» لنديم مشلاوي، «الحوض
الخامس» لسيمون الهبر، «اختفاءات سعاد حسني الثلاثة» لرانيا اسطفان، «أبي
لا يزال شيوعياً، أسرار حميمة للجميع» لأحمد غصين، «كل هذا وأكثر...» لوسام
شرف، «مارسيدس» لهادي زكّاك، «يامو» لرامي نيحاوي و«طيّب، خلص، يلاّ»
لرانيا عطية ودانيال غارسيا. علماً أن التظاهرة تنتهي في 27 حزيران المقبل،
بعرض واحد لفيلم «بيروت عالموس» لزينة صفير.
السفير اللبنانية في
25/04/2012
تسعة أفلام تعيدنا إلى القرن الماضي في «متروبوليس»
الكوميديا الإيطالية وعالم الستينيات في سينما ماستروياني
وغاسمان
نديم جرجورة
شكّلت الاستعادة الحادية عشرة، التي تُطلقها «جمعية متروبوليس» مساء
غد الجمعة في صالة سينما «متروبوليس» في «أمبير صوفيل» (الأشرفية)، محاولة
جديدة لإضفاء مسحة إبداعية على المشهد السينمائي المحلي. فعلى الرغم من
كثرة النشاطات الثقافية والفنية المُقامة حالياً في بيروت، لم تتردّد
الجمعية، المعنية مباشرة بتقديم سينما مختلفة، متمثّلة بـ«سينما المؤلّف»
غالباً، في إشاعة مناخ سينمائي صنع حكاية الصورة المبدعة في صناعة تاريخ من
الصُور المتحرّكة. ومع أن الجمعية نفسها منهمكة في تحضير نشاطات أخرى،
كـ«أسبوع النقد» (الذي يُقام عادة بعد أسابيع قليلة جداً على انتهاء مهرجان
«كانّ» في شهر أيّار من كل عام) و«أجمل أيام حياتي» (استعادة أفلام لبنانية
مُنجزة في ستينيات القرن الفائت)، إلاّ أن «برنامج الاستعادات» مستمرّ في
رفد المدينة بشيء مغاير، مستلّ من حقبات سينمائية قديمة. وعشية إطلاق دورة
أولى من «دفاتر يومية»، التظاهرة الخاصّة بأفلام لبنانية حديثة الإنتاج،
نظّمت الجمعية «استعادة إيطالية»، متعاونة لمرّة جديدة مع «المعهد
الإيطالي» في بيروت: عرض تسعة أفلام مختارة من اللائحتين الطويلتين للأفلام
التي مثّل فيها مارتشيلّو ماستروياني (1924 ـ 1996) وفيتّوريو غاسمان (1922
ـ 2000).
الثامنة مساء غد الجمعة، تبدأ هذه الاستعادة الإيطالية بعرض «طلاق على
الطريقة الإيطالية» (1961) لبياترو جيرمي، الذي بات أول فيلم يحصل على
تسمية «كوميديا إيطالية»، وهو تعبير وسم جزءاً كبيراً من الصناعة
السينمائية الإيطالية في ستينيات القرن الفائت وسبعينياته. ولعلّ استناده
إلى النمط الكوميدي في مقاربة حالة اجتماعية وانفعالية وذاتية، جعله يفتتح
أياماً سينمائية مديدة بجمالياتها وحكاياتها وتفاصيل ناسها وأساليب عيشهم
وأسئلتهم. لا يعني هذا أن الكوميديا أنقص قيمة من غيرها. فالكوميديا هنا
مشغولة بسلاسة درامية وبصرية قادرة على إثارة العاطفة، والتحريض على إعمال
العقل في طرح أسئلة الحبّ والشيخوخة والعلاقات والمشاعر. والحكاية موزّعة
على أشكال مختلفة من التعبير الإنساني. علماً بأن الفيلم المعروض في اليوم
الثاني (الثامنة مساء بعد غد السبت) من التظاهرة الاستعادية، «التفوّق على
الذات» (1962) لدينو ريزي، متوغّل أكثر في قراءة الواقع الإيطالي مطلع
الستينيات المنصرمة، في لحظة «الأعجوبة الاقتصادية» في تلك الفترة. الترجمة
المعتمدة لعنوان الفيلم الثاني هذا مرادفة للأصل الإيطالي، إذ إن الترجمة
الإنكليزية ارتأت وضع «الحياة السهلة» في مقابل العنوان الأصلي. لكن، سواء
تُرجم هذا الأخير إلى «التفوّق على الذات» أم إلى «الحياة السهلة»، فإن
براعة النصّ السينمائي كامنةٌ في قدرته على التوغّل في أعماق البيئة
الاجتماعية الإيطالية، وتشريح بناها ومقوّماتها.
يُمكن القول إن «طلاق على الطريقة الإيطالية» و«التفوّق على الذات»
هما فيلما افتتاح هذه «التظاهرة الاستعادية»: فالأول خاصّ بماستروياني،
والثاني معقود على غاسمان. صحيح أن الأفلام لم تكن متساوية العدد بين
الممثلين، إذ اختيرت ستة أفلام لغاسمان وثلاثة لماستروياني. لكن الأصحّ أن
«الاستعادة الإيطالية»، بأفلامها التسعة، نافذة جميلة للإطلالة على نسق
إبداعي يُقدّم للمُشاهد الـ«سينيفيلي»، مجدّداً، نماذج متفرّقة عن معنى
الأداء التمثيلي المازج في اشتغاله حرفية المهنة بإبداع البوح الجسماني.
بالعودة إلى فيلمي الافتتاح، فإن كوميديا «طلاق على الطريقة
الإيطالية» متمثّلة برجل نبيل يُدعى فرديناندو يرغب، ببساطة شديدة، في
الاقتران بامرأة أُغرم بها. غير أن المأزق أخطر من أن يُسهِّل مهمّته:
زواجه منعه من القيام بهذه الخطوة، فإذا بعقله يبتكر (أو يسعى لابتكار)
شتّى الطرق والوسائل لدفع امرأته إلى الهيام برجل آخر. أما «التفوّق على
الذات» فمرتكز على لقاء رجلين بعضهما مع البعض الآخر، وعلى قيامهما معاً
برحلة عرّتهما، جاعلة إياهما أمام مرايا الذات والبلد والتحوّلات التي دفعت
إيطاليا إلى التحرّر من سطوة التقليد (العائلة المسيطرة على الحياة) إلى
حرية الفرد.
السفير اللبنانية في
26/04/2012
الصمت يكشف قوة التوتر وحجم الغضب
«الجمعة
الأخيرة» فرصة للتعرف على عالم يحيى العبد الله
نديم جرجورة
أتاح «الجمعة الأخيرة» فرصة التعرّف الى جانب سينمائي جديد في ذات
يحيى العبد الله (34 عاماً). أفلامٌ قصيرة متفرّقة أنجزها منذ أعوام قليلة،
كشفت حساسية مرهفة في التقاط النبض العام، وفي معاينة أحوال البيئة والناس.
بعض هذه الأفلام محتاج إلى بلورة سينمائية، تمنح المناخ الدرامي حيوية أقوى
في تشريح الذات والبيئة، لكن بعضها الآخر، سواء أكانت وثائقية (ست دقائق)
أم قصيرة (آلو.. آلو..) أم تجريبية (رجل في فنجان قهوة)، جعل النصّ البصري
مرآة تعرية لبعض معالم البيئة، ولفضح بعض الناس، محيلة التجريبيّ مثلاً على
اختبار فني للعلاقة الوطيدة بين الصورة وارتباكاتها الضوئية واللونية من
جهة أولى، والقلق الإنساني في مواجهة العدم والالتباسات والتوهان من جهة
ثانية. في حين بدا الوثائقي تشريحاً للجهل والأميّة المعتملين في الذات
الفردية لأردنيين لا يفقهون شيئاً من الثقافة العامّة.
في «الجمعة الأخيرة» (2011)، الروائي الطويل الأول لعبد الله، الذي
عُرض في برنامج «الأردن في دائرة الضوء»، في الدورة الخامسة (10 ـ 16 نيسان
2012) لـ«مهرجان الخليج السينمائي» في دبي، وجدت العناوين التي اختزلت بعض
أفلامه القصيرة متنفَّساً أكبر لها، وحيّزاً للبوح الذاتي المتمثّل بغضب
عارم مزّق الذات ودواخلها، وظهر علناً بهدوء مناقض لحقيقة هذه الذات.
البراعة واضحة في كتابة النصّ، إذ استخدم العبد الله الصمت والإيقاع الهادئ
لقول الأشياء وتفسيرها وتحليلها. لم يكن النص مباشراً أو حادّاً في خطابه
الإنساني، بل اقترب من خصوصية المرء وقلقه وغضبه بأسلوب جمالي، وابتعد (في
الوقت نفسه) عن فوضى الصراخ والضوضاء، لقناعته بقوّة الصمت في كشف مكامن
التوتر والقلق والغضب داخل المرء. المدخل الدرامي للحبكة العامّة انطلق من
الصمت نفسه هذا: متتاليات بصرية لاحقت أناساً، وسردت تفاصيل صغيرة، وصنعت
مقدّمات قادت المُشَاهد داخل دهاليز نفسية واجتماعية وروحية لشخصيات ومعالم
وبيئة مجتمعية. الصمت إشارة إلى حجم الغضب الذاتي. والأداء (علي سليمان
تحديداً) مُساهم فعّال في جعل هذا الصمت مدخلاً إلى العالم المخفيّ في
طيّات الحبكة، وفي إدارة الغضب، كي لا ينفلش صراخاً وحدّة لا طائل
سينمائياً منهما.
«الجمعة الأخيرة» حكاية فرد ومجتمع. لكن الفرد طاغ، والمجتمع مختبئ في
الزوايا المحيطة بالفرد وعالمه المنهار ببطء قاتل، كانهيار الفرد نفسه في
الخيبة والتمزّق والألم والضياع: أيام قليلة تفصل اللحظة الراهنة على
العملية الجراحية التي يُفترض بيوسف (علي سليمان) إجراؤها في إحدى خصيتيه.
أيام هي الأقسى والأكثر ألماً، لأنها كشفت مرارات كثيرة وخيبات حادّة.
كأنها مطهرٌ فُرض على يوسف الاغتسال به، من دون أدنى قدرة على رؤية المقبل
من الأيام، أو مغزى الاغتسال، أو نتيجته النهائية. كأن الاغتسال نوع من
تعذيب آخر، لأن الخلاص المنشود لا يأتي إلاّ بعد ألم، والخصي أقسى أنواع
الألم الذكوريّ. فشله في الحياة الزوجية أدّى إلى طلاقه من دلال (ياسمين
المصري)، وارتباكه مع ذاته والآخرين أفضى إلى علاقة غير متوازنة بابنه
الوحيد عماد (فادي عريضي)، وعجزه عن تأمين تكاليف العملية الجراحية دفعه
إلى السعي لاستعادة عمل قديم برع فيه (بيع سيارات)، وخيبته من العمل في
الخليج زادت من تحطّم روحه وانعدام أفق خلاصه، بالإضافة إلى انسداد الأفق
وانكسار كل شيء معه وأمامه. دلال منشغلة بأمور حياتها الجديدة مع زوج آخر.
وعماد رافض الانصياع إلى رغبة والده في الدراسة والفلاح فيها. والعمل
الجديد معلَّق. والحالات الإنسانية الموازية ليوميات يوسف لا تقلّ خراباً
وضياعاً وانكسارات.
لم يسقط النصّ والمعالجة السينمائيين في فخّ البكائيات، ولم ينشدا
قصيدة بؤس وشقاء. فالأسلوب سينمائي بحت، والاشتغال البصري متوافق ومعنى
الصورة السينمائية في مواكبة الحالات وتبدّلاتها، وفي رفد الحبكة بالهوامش
المكمِّلة لها.
كلاكيت
أميركا عارية
نديم جرجورة
هناك حيرة إزاء اعتماد تصنيف أدبي لنص «جاين مانسفيلد 1967» (الطبعة
الأولى، 2011) للكاتب والصحافي الفرنسي سيمون ليبيراتي. وضع الناشر
«غراسيه» على الغلاف الأول مفردة «رواية». لكن القراءة تُحيل على تصنيفات
أخرى، كحبكة روائية، أو تقرير صحافي تأريخي، مستند إلى لغة أدبية سلسة في
استعادة جوانب من سيرة حياة ممثلة هوليوودية، قُتلت في حادث سير مروّع ليلة
التاسع والعشرين من حزيران 1967، عن أربعة وثلاثين عاماً. فهذا الكتاب
الرابع لليبيراتي، المازج في بنيته الحكائية تفاصيل حادث السير بتفاصيل
حياتية ممتدة على الفن والعلاقات الصاخبة والتهوّر الفردي، جعل الحكاية
الأصلية مرتكزة على معنى العيش على حافة الهاوية، في زمن الانقلابات
المختلفة التي عرفتها الولايات المتحدّة الأميركية، داخل هوليوود تحديداً،
وخارجها أيضاً. انقلابات جعلت الصخب والتهوّر دافعاً للذهاب بالذات إلى
أقصى الخيبات والتمزّق والضياع، إما بسبب الأضواء، وإما بسبب الشهرة، لكن
دائماً بسبب العجز عن التأقلم مع الذات الصاخبة والمتهوّرة.
إنها قصّة ممثلة (جاين مانسفيلد) وبيئة (هوليوود) وعلاقات (حب، صداقة،
أمومة، تمثيل، رقص تعرّ) وصخب حياتي (مخدّرات، جواهر، مِلَل شيطانية، حياة
ليلية ضاجّة). هذا كلّه في سياق مبسّط وسلس، لا يخلو من إشارات طالت واقع
الحياة الهوليوودية على هامش صناعة السينما، أو في عمقها، مع أن نصّ سيمون
ليبيراتي التزم خطّاً درامياً واحداً: جاين مانسفيلد. أي المرأة أولاً
وأساساً. المرأة العاشقة والمحطَّمة. النجمة والمنعزلة في ذاتها. السائرة
على حافة الانهيار، أو المقيمة في الانهيارات المختلفة. الأم والعاشقة
والمعشوقة. وضع ليبيراتي هذا كلّه في نصّ واحد، مفتوح على دائرة العيش في
عالم الاستعراض والأضواء، وما يُنتجه هذا العالم من قسوة وتفكّك وتمزّقات.
جاين مانسفيلد، في نصّ ليبيراتي، صورة «عارية» عن أميركا القديمة، المشحونة
بارتباك التبدّلات، عشية اندلاع الحرب الماكارثية، ووصولاً إلى الاندغام
المطلق بين تناقضات العيش على طريق خلاص لا يأتي. حتى الموت قتلاً في حادث
سير، أو بسبب جرعات زائدة من المخدّرات المتنوّعة، أو الانتحار، لن يكون
خلاصاً أكيداً.
السلاسة الأدبية وتبسيط اللغة في الوصف والسرد جعلتا الحكاية أجمل،
على الرغم من مأساتها. هناك ما يدفع القارئ إلى ابتكار صُور تُفسّر النصّ
وفقاً لهواه الخاص. فالممثلة محرِّضة لشتّى أنماط الابتكارات
الـ«فانتاسمية». والمرحلة مثيرة لشهوة التمرّد والسقوط في أفخاخ الحرية
المصطنعة، وأوهام الخلاص المحجوب. والكتابة جزءٌ من لعبة إغواء تبدأ بقسوة
حادث السير، ولا تنتهي عند انفتاح أبواب الجحيم كلّها على الحياة الصاخبة
للممثلة والحالة والمدينة والزمن. كأن الكتابة شريط يبثّ صُوَره الكثيرة
والمكثّفة أمام عينيّ قارئ يلتهم جسد الممثلة (وإن تحطّم في حادث سير)،
ويبحث عن روح هائمة وسط خيبات العمر القصير.
هذا تمرينٌ على جعل الكلمة صورة، أو تمرين على تأريخ زمن ما بلغة
أدبية مبسّطة.
السفير اللبنانية في
26/04/2012
مسيح لكن بربطة عنق وبذلة موظف رأسمالي
«كما
يشاء الحظّ» لأليكس دي لا أغليسيا يفضح التزوير الإعلامي
زياد الخزاعي
(لندن)
من خلف التهكّم الباهر للإيطالي فريديريكو فيلّيني، أطلّ الإسباني
المشاكس أليكس دي لا أغليسيا شاتماً أوروبا الفاسدة بلسان سليط. مثقف وضع
العار التاريخي لسياسيّي قارته نصب عدائه وتحامله الإيديولوجي. إنهم، في
قناعته السينمائية، متواطئون على السرقة والقتل وصناعة الاستبداد ووأد
المقاومات اليومية. قيادات مرتهنة لرفاهياتها ومصالحها، تحرّكها أهواء
عنصرية تزّيف التواريخ والأنساب، ولا ترتضي عناوين حروب طبقات، بل تعتبر ما
يجري تحولات في وعي عام، على رعيته الانتساب إلى حكم نافذ لا يمكن مقارعة
سطوته، التي تقف خلفها كنيسة تحتمي بـ«جسد المسيح»، وأحزاب تتمترس خلف
أدوات التجنيد السياسي.
فيلمه السابق «السيرك الأخير» (2010) قدّم حالة خاصة، ربطت التاريخ
وأزلامه وإيديولوجيات العسكرة وجرائم الحرب واستعداء الثقافة وتعميم روح
الانتقام المدني، بالإثم الأوروبي، الذي لعبت المـصالح فيه دوراً لتبرير
التنكيل بأصحاب النيات الاشتراكية. في جديده «كما يشاء الحظّ»، رمى سهماً
مريراً إلى قلب الإعلام الأوروبي، وتكالبه على التزوير والتدليس، وإصراره
على تعميم ثقافة التسفيه والتشهير واصطـياد المشاهد المتبلّد، الذي يهفو
إلى الفضيحة والنميمة. في الأول، شكّل البطلان المُهرِّجان واجهتي العداوات
والتســابق على خطف بكارة الراقصة الحسناء (تورية عن إسبانيا)، قبل أن
يُقتلا عند الصليب المقدّس الهائل الحجم، بينما صيغ قدر بطل «كما يشاء
الحظ» كطُرفة سينمائية، قادته إلى وسط مسرح مصارعات رومانية خاضع لعملية
ترميم، وملحق بمتحف مدينة قرطاجنة. تعرّض روبرتو (خوزيه موتا) لـ«طعنة»
سوريالية تمثّلت باختراق قضيب حديدي جمجمته. وأبقى مخرج «يوم الوحش» (1995)
و«جرائم أُكسفورد» (2007) بطله راقداً على ظهره نحو مئة دقيقة، نراقب معه
حظّه العاثر كمنشط إعلاني شهير، اخترع ذات مرّة شعاراً لشركة «كوكا كولا»،
درّ عليها أرباحاً فاحشة (العنوان الإسباني «شرارة الحياة»). اليوم، عانى
البطالة والخسران الاجتماعي والمهانة الشخصية وصدود الأصدقاء والخلاّن. إنه
نموذج المواطن الأوروبي المعاصر، المنهارة قِيَمه الشخصية بسبب أزمة
اقتصادية لا ترحم، حوّلته إلى مُطارِد لفرص العمل، قبل أن ينقلب، في لحظة
نادرة، إلى طَريدة إعلامية، ليس بسبب مواهبه وحرفيته، بل بسبب قضيب نكرة.
من لحظة وقوع الحادث وانتشاره تلفزيونياً، استهدف النص لكاتبه
الأميركي راندي فيلدمان البطل الحقيقي للفيلم: الزوجة لويزا (سلمى حايك)،
التي ثار كيانها، مُزيحاً شخصية الأم وربّة المنزل المتواضعة الثقافة
والحيلة، ومُطلقاً منها أفعواناً نفعياً بأنياب حادّة للجشع، الذي قادها
إلى حرب ابتزاز لم تستثن نيرانها أحداً، وفي مقدمتهم «وسائل الإعلام»
المناورة من أجل تحقيق «خبطة» صحافية، بإجراء حوار متلفز مع «رجل القضيب
السيئ الطالع»، الذي صرخ أثناء رقاده في وجه العدسات: «سأنتقم منكم يا
أولاد العاهـ...». شتيمة مُضمرة لفيلم دي لا أغليسيا ضد الخضوع الذي تفاخر
به توماس هوبز، مُشيراً عبر نظريته إلى أن الأفراد، في سعيهم للفكاك من
الشقاء، يتنازلون عن حرياتهم، ويفوّضون شؤونهم إلى سلطة مطلقة.
أصاب سُعار المال وصفقاته رئيس الإقليم، الذي أعلن أن «أعداد الناخبين
فوق كل شيء». وقالت مديرة المتحف إن «التراث الوطني فوق كل اعتبار». أما
مدير التلفزيون، فصرخ بوجه الوسيط النذل: «إذا أردت الحصول على مليون يورو
(كثمن للحوار المتلفز)، فعليك أن تضمن موته»، فإذا به يردّ عليه بالقول إن
«حياة هذا المُغفّل المثير للشفقة تستحق أكثر بكثير». تناوش هؤلاء
المسعورون الأرقام في سباق مع الفريق الطبي، الساعي لسَتل القضيب من رأس
البطل المصلوب على القضبان، بادياً مسيحاً لكن بربطة عنق وبذلة موظّف
رأسمالي، قبل أن تفاجئهم لويزا بقرارها الذي ينتزعها من شقائها ورعبها: لا
حوار. فالعائلة وتطامنها لن يرتكنا إلى ابتزاز.
السفير اللبنانية في
26/04/2012 |