حدث ثقافي مهم فجره المركز الثقافي الهندي بالقاهرة.. احتفاء منه
بمولد شاعر الهند الأعظم «رابندرانات طاغور»، أول كاتب أسيوي يفوز بجائزة
نوبل للآداب وبفضله توجهت الأضواء العالمية، لاكتشاف الأدب الأسيوي كله
والذي ألقت عليه الحضارة الأوروبية المسيطرة غطاء كثيفًا .. منع الكثيرين
من تذوقه والتمتع بثماره الناضجة. هذا الحدث الثقافي الاستثنائي أعاد إلي
ذاكرتي الأيام الأولي من تكويني الثقافي والفني حيث اكتشفت مبهورا وأنا في
سن الثامنة عشرة أول كتاب ترجم لأشعار طاغور أدخلني بالتو في عالمه
الروحاني الرحب والواسع والمليء بالظلال والنور وكان طريقي بعد ذلك لاكتشاف
دور الأدب الأسيوي الياباني والصيني وبعض نماذج الأدب الإيراني والفارسي
المشتعل بالروح العربية والإسلامية الممتزجة برياح مجوسية معطرة وتأكد
هيامي بأدب طاغور وأشعاره حينما قرأت بعض قصصه المترجمة وتحول هذا الهيام
إلي عشق حقيقي عندما اكتشفت طاغور من خلال رؤية سينمائي عبقري أعاد للسينما
الهندية اعتبارها وكرامتها وموقعها المميز في خارطة السينما العالمية وأعني
به السينمائي الكبير سايا تجين راي، حيث شاهدت لأول مرة فيلما من اخراجه
لقصة شجرة لطاغور هي «شارالونا» في إحدي دورات مهرجان «برلين» السينمائي.
وكان قد سبق لي أن بهرت بسينما هذا الهندي «الشاب آنذاك» منذ فيلمه الأول
«باتر باتشالي» الذي شكل ثورة حقيقية في مفهومنا للسينما الآسيوية وجعلنا
نكتشف من خلال سينماه الذاتية «هندا» حقيقية لم نكن نعرفها واستطاع هذا
المخرج الكبير بفيلم واحد أن يدخلها إلي قلوبنا كسهم من نار.. لذلك كان
اجتماع كل من «راي» و«طاغور» في فيلم واحد حدثا استثنائيا خارقا. البيت
والعالم وتأكدت هذه المعجزة مرة أخري عندما عرض فيلم آخر لـ«راي» مأخوذ عن
قصة كبري لـ«طاغور» هي «البيت والعالم» في مهرجان «كان»، وتأكدت الرؤي
وباتت الخطوط الخفية خطوط الذهب العابقة المختفية في جوانب الخشب العتيق
الذي يعبق برائحة حضارة قديمة قدم الأزل، ومواهب تتناثر كالجواهر النادرة
في طيات جسد مخملي فائق الجمال. لذلك جاءت هذه المفاجأة المدهشة التي قدمها
لنا المركز الثقافي الهندي في القاهرة بعرض عدد من الأفلام التي اخرجها
مخرجون من عقود مختلفة عن قصص كاتبهم الأعظم «طاغور» ومن بين هذه الأفلام
بالطبع فيلم «البيت والعالم» الذي أخرجه «راي» وفيلم «البنات الثلاثة» وهو
عبارة عن ثلاثة أفلام متوسطة الطول ترسم نماذج ثلاث نساء اختارتهن ريشة
«طاغور» برقة وحساسية ورهافة مدهشة إلي جانب فيلم وثائقي عن «طاغور» اخرجه
وقدمه صديق عمره «سابا تجين راي»، بالإضافة إلي عدة أفلام أخري أخرجها
آخرون وصبت كلها في خضم هذا البحر الواسع الممتد بحر «طاغور» وإلهامه.
ولنبدأ بالفيلم الوثائقي المهم الذي ألقي نظرة تاريخية وموضوعية علي نسب
طاغور وأصوله الأسرية والاجتماعية وطريق كفاحه ومواقفه البطولية السياسية
منها والأدبية. فيلم كتبه وأخرجه صديق العمر ولكنه مع الأسف خلا من النظرة
الخاصة التي تميز سينما «راي» والتزم بموضوعية وحيادية لم نكن نتوقعها أو
نرجوها من سينمائي بهذا الطراز وكم كنا نفضل أن نري خلجات راي تتواجه مع
خلجات طاغور تلتقي وتختلف وتشكل لونا زاهيا مختلفا عن الألوان المعتادة
التي تعودناها. ولكن هذا العيب الصغير اختفي تماما في الرؤية السينمائية
التي قدمها «راي» في فيلميه الأخيرين «البنات الثلاثة» و«البيت والعالم».
في «البنات الثلاثة» رسم «راي» كما قلنا نماذج شعرية مختلفة شديدة الحساسية
وعابقة بالشعر والنغم. الأولي هي طفلة صغيرة تعمل شبه خادمة لدي شاب قادم
من المدينة ليعمل في القرية موظفا في البريد، انه يواجه العزلة والغربة
والقرية ويحاول قدر جهده التلاؤم مع واقعه الجديد لذلك فإنه يضع كل همه في
هذه العلاقة الغريبة التي تربطه مع هذه الخادمة الصغيرة ابنة العاشرة التي
اوكلوا إليها مهمة خدمته والعناية به. علاقة مدهشة «طاغور» رسم حدود هذه
العلاقة المدهشة في غموض شعري اعطاها جمالها وسريتها، علاقة مستحيلة لم
تكتمل إذ يقطعها رحيل الموظف وبقاء الطفلة أسيرة ذكرياتها وأسيرة حلم لمع
كالبرق ثم اختفي نهائيا من حياتها. لقد ركز «طاغور» بشكل تلقائي في قصته
علي خطوط «فرويديه» أعاد راي تشكيلها بحساسية لا حدود لها وبرقة غنائية
مذهلة. أما النموذج النسائي الثاني في قصة «المجوهرات الضائعة» فهو نموذج
شديد السلبية عن امرأة تعشق الجواهر جشعها يقودها إلي الجريمة وإلي تجاوز
النفس وإلي خيانة كل من حولها. صورة قاسية جدا عن المرأة زينها راي برسمه
صورة لمجتمع بورجوازي براق كل شيء فيه ثمين وخادع.. ووراء كل بريق يختفي
وجه الموت العفن. استطاع راي من خلال ديكوراته واكسسواراته أن يعطي بعدا
خاصًا للشخصية كما رسمها «طاغور» مضيفا إليها آخر الأمر بعدا ميتافيزيقيا
يتمثل في تجسد الموت. أما الصورة الثالثة للمرأة كما يقدمها طاغور فهي صورة
نابعة من أصول شاعرية إذ أنه يقدم لنا صورة فتاة متمردة تماما من مجتمعها
وتقاليدها منطلقة كالهواء بريئة كالورود شفافة كالفراشة يتهمها الجميع
بالجنون وترتبط بعلاقة خاصة مع شاب مثقف، «راي» يرسم هذه العلاقة التي عبر
عنها «طاغور» بمشاهد تفيض رقة وشجنا ويجعلنا نحس ونحن نري تصرفات الفتاة
ونزقها وعفويتها ومرحها وحزنها الداخلي وكأننا أمام شخصية من شخصيات أديب
أمريكا اللاتينية «جارسيا ماركيز» القصة تضعنا وجها لوجه أمام حذلقة
الثقافة وجمال وعفوية العواطف الحارة المنبثقة من قلب قادر علي العشق
والهوي. صفحة نابضة من العواطف زركشها أديب كبير وسينمائي مرهف أما في
«البيت والعالم» وهي واحدة من أشهر قصص «طاغور» تتمركز فيها آراء حول
المرأة والسياسة والمجتمع دون العواطف في توجيه حياتنا.. ودور الثقافة
الزائفة. جوهر النزاع «طاغور» يدخل في قصة هذا إلي جوهر النزاع بين
المسلمين والهندوس ويقف إلي صف المسلمين مدافعا عن حقوقهم ويرسم صورة لرجل
مثقف أراد أن يخرج امرأته من عزلتها النسوية لتشارك في الحياة العامة فيوكل
إلي صديق عمره أن يكون مرشدها السياسي والاجتماعي ولكنها تقع في حبه..
وكادت أن تسقط في الخيانة. الفيلم هذه المرة ينحو منحي التراجيديا لأنه
يرسم الصراع بين القيم الكبري سواء من خلال الحروب الدينية أو من خلال
الصراع الاجتماعي أو من خلال التركيز علي دور المرأة وحدودها في الهند
الجديدة التي تبحث عن نفسها. انه الصراع الأزلي بين الصداقة والحب بين
الثورة والعقل بين حقوق المرأة وموقعها الاجتماعي التقليدي. «طاغور» يطرح
سؤالا كان حادثا في زمنه هل تعليم المرأة واعطاؤها حريتها يعني تمردها
وانطلاقها اللااخلاقي .. هل تقود هذه الحرية المرأة رغما عنها إلي الخيانة.
«طاغور» يطرح اسئلة يعيد سايا جين راي طرحها بشكل سينمائي قوي مركزا هجومه
علي الثورات الدموية مدافعا عن حقوق المسلمين مهاجما وصولية الهندوس
وأنانيتهم. الفيلم يقول أشياء كثيرة لا حصر لها.. يدخلنا في متاهات عديدة
ويجعلنا نواجه أنفسنا بأكثر من سؤال وأكثر من تحدي. انه دور السينما التي
تحمل مشعل الأدب عاليا من خلال عملاقين أعطيا الهند تاجها الذهبي. شاعر
مرهف وصلت اشعاره إلي أعلي السحاب وسينمائي عرف كيف يجعل من هذه الأشعار
ثوبا مزركشا لامعا نراه مبهورين، ونغرق في ألوانه وخيوطه إلي مالانهاية.
حدث ثقافي حقيقي أضاء سماء مصر خلال أيام قليلة وأعاد إلي ذاكرتنا ما كدنا
أن ننساه قليلا . وهو أن الشرق كان ومازال مهدًا حقيقيا لحضارات العالم
وروحانياتها واشعاعها الثقافي. وأنه قد آن الأوان لنزيل عنه الستارة
الشفافة التي حاول الغرب أن يلقيها عليه لتخفي ضوء جواهره الثمينة واشعاعه.
جريدة القاهرة في
08/05/2012
«زوجة
خائنة».. وراء اختفاء أدريان لاين
بقلم : يوسف هشام
بدأ «أدريان لاين» مشواره الفني كمخرج اعلانات، قبل أن يخرج أول
أعماله للسينماfoxes
عام 1980، وقامت ببطولته الممثلة الشابة آنذاك «جودي فوستر». ويحكي الفيلم
عن حياة أربع مراهقات يحاولن الحياة بمفردهن بعيدا عن اولياء الأمور،
ويتعرضن لمغامرات عديدة مابين الجنس والمخدرات والموت. الفيلم كان قليل
التكلفة ولم يحقق نجاحا يذكر عند عرضه. ولم يحتوي الفيلم علي عقدة واضحة
أوخط رئيسي، بل هو من نوعية الافلام التي تتابع فيها مسارات الشخصيات
وتخبطاتهم. وفي الحقيقة هو تجربة ممتعة تستحق المشاهدة ويحتوي علي واحد من
أفضل أدوار «جودي فوستر» علي الاطلاق. ربما نجاح «أدريان لاين» في عالم
الاعلانات كان هو السبب وراء استعانة ستوديو«باراماونت» به لاخراج فيلم
Flashdance،
وهو فيلم راقص يحكي عن فتاة تعمل في اللحام صباحا وراقصة اثارة في المساء
وتحاول تحقيق حلمها في أن تصبح راقصة باليه محترفة. الفيلم لم يحتو علي أية
قصة مختلفة تذكر أوحتي بناء متميز للشخصيات، ولكنه من نوعية الأفلام التي
تحاول تقديم قصة تناسب كم الرقصات والأغاني الموجودة بالفيلم. وربما لو
شاهد متقرج اليوم هذا الفيلم لاندهش من النجاح الساحق الذي حققه وقتها في
دور العرض، والذي ربما يبرر بسبب شهرة الأغاني التي احتواها الفيلم، منها
علي سبيل المثالWhat
a feeling التي نجحت في أن تقتني جائزة الأوسكار كأفضل أغنية أعدت لفيلم
سينمائي، والتي ربما تتجاوز شهرتها الآن شهرة الفيلم نفسه. لكن لم يسلم
الفيلم من أقلام النقاد الذين انتقدوا ضعف السيناريو والأداء التمثيلي
لبطلة الفيلم «جينيفر بيلز»، وربما هذا يبرر لماذا لم تتحول «بيلز» لنجمة
مشهورة، خصوصا بعد نجاح الفيلم. وفي عام 1985 قدم «لاين» احد أشهر أفلامه
«تسعة أسابيع ونصف، والذي قامت ببطولته «كيم باسينجر» مع «ميكي رورك».
الفيلم تدور أحداثه حول المطلقة الحسناء «إليزابيث» التي تدخل في علاقة مع
رجل غامض ووسيم، «جون». الجديد هنا هو شكل العلاقة نفسها فجون يحاول أن
يجعل العلاقة كلها قائمة علي الألعاب الجنسية والاثارة دون ان يتكلما في أي
مواضيع تخص حياتهم أو تخص العالم، بل ويرفض أن يقابل أصدقاءها، لأنه يريد
هذا الشكل من العلاقة المجردة من أي اجتماعيات. تعجب إليزابيث في البداية
بهذه العلاقة المدهشة قبل أن تجد نفسها تتحول تدريجيا إلي شخصية مهووسة
مضطربة. فيلم ايروتيكي بامتياز ويذكرنا بعض الشيء بتحفة برناردوبيرتولوتشي
«التانجوالأخير في باريس» خصوصا فيما يتعلق بغموض العلاقة، وان كان لا يحمل
شاعريته. مايميز هذا الفيلم ويجعله مدهشا هوشكل العلاقة نفسها، فالفيلم
قائم علي افتراضية علاقة يحاول البطل فيها تجريدها من أي بعد انساني لتكون
جنسية فقط. أضف الي ذلك أداء كاريزما «ميكي رورك» و«كيم باسينجر» المتمكن
خصوصا فيما يتعلق بتطور الشخصية. الفيلم لم يحقق نجاحا كبيرا عند عرضه سواء
في شباك التذاكر أوعند النقاد، ولكنه تحول فيما بعد الي مايسمي بالـ
cult film
خصوصا مع مبيعات الفيديو، حتي وان جاءت بعده أفلام ايروتيكية أكثر جرأة مثل
«غريزة أساسية
Basic instinct
و
Body of evidence أنجح أفلامه ولكن النجاح الكبير كان حليف «أدريان
لاين» عندما قدم أشهر وأنجح أفلامه علي الاطلاق «جاذبية قاتلة
Fatal attraction
والذي قام ببطولته «مايكل دوجلاس» و«جلين كلوز». الفيلم يحكي عن «دان»
المتزوج والأب الذي يدخل في علاقة عابرة مع زميلته في العمل «أليكس»، ولكن
سرعان ماتتحول هذه العلاقة العابرة الي هوس من قبل «أليكس» تجاه «دان»
فتبدأ في مطاردته وتدمير حياته. الفيلم انصرف عن تنفيذه العديد من المخرجين
لأنهم وجدوا تشابها كبيرا بين قصة هذا الفيلم وبين قصة فيلم كلينت ايستوود
الشهير
Play misty for me، وهذا التشابه موجود بالفعل. لكن مايميز تجربة «لاين» هوالبعد
الاجتماعي الموجود في الفيلم، فهذه العلاقات العابرة كثيرا مايدخلها الرجال
المتزوجون، ولكن هذا الفيلم يضع افتراضية التوابع المرعبة والمدمرة التي قد
تحدث بعد هذه العلاقات فيتحول الفيلم الي ناقوس خطر يدق في إذن الأزواج.
والطريف أن الفيلم كانت قد صورت له نهاية تنتحر فيها «أليكس» لكن تترك
بصمات «دان» علي السكين التي قتلت نفسها به ليتهم بقتلها، لكن عندما عرض
الفيلم علي جمهور اختبار رفض هذه النهاية ورغب في أن يري نهاية أكثر
تطهيرية تتفاعل فيها الزوجة وتتحول لشخص ايجابي. وبالفعل عاد «لاين» مع
ممثليه وفريق الفيلم وأعادوا تصوير النهاية، برغم اعتراض «جلين كلوز» علي
الفكرة، فينتهي الفيلم بأن تقتحم «أليكس» بيتهم ثم تقتلها الزوجة. وبالفعل
حقق الفيلم نجاحا ساحقا في شباك التذاكر وتحول الي ظاهرة يتكلم عنها
الجميع، كما أشاد به النقاد أيضا وبأداء «جلين كلوز» الأسطوري الذي بقي في
الذاكرة حتي يومنا هذا، مما جعلها ترشح للأوسكار أفضل ممثلة عن دورها،
بجانب خمس جوائز أخري رشح لها الفيلم وكان منها جائزة الاخراج، لتكون المرة
الأولي والأخيرة التي يرشح فيها «لاين» لهذه الجائزة. ربما أتت افلام
تتناول الخيانة الزوجية قبل وبعد «جاذبية قاتلة»، لكن يظل هذا الفيلم
الأيقوني هو أهم الأفلام التي اقتحمت هذه المنطقة. نجاح نقدي كان أدريان
لاين علي ميعاد مع نجاح نقدي آخر في عام 1990 عندما قدم تجربته المتميزة
«سلم جاكوب
Jacob's ladder والذي قام ببطولته «تيم روبينز». الفيلم ينتمي الي أفلام الرعب
النفسي، فبطل القصة «جاكوب» يعمل في البريد وكان محاربا قديما لكن تأتيه
هلاوس يومية عن وجود شياطين في مدينته وتأتي هذه الهلاوس لزملائه في الحرب
أيضا، ويظل المتفرج عاجز عن التمييز بين الواقع والخيال في الفيلم. الفيلم
يحمل العديد من الابعاد الدينية والانجيلية خصوصا فيما يتعلق بالجحيم
والفردوس. يختلف هذا الفيلم في موضوعه اختلافا عن كل ماسبقه وكل ماأتي بعده
من أفلام «أدريان لاين»، بل وربما يذكرنا بعض الشيء بأفلام «دافيد لينش»،
ولكنه بلا شك من أفضل أفلام «لاين» وأكثرها نضجا. وفي عام 1993 قدم لاين
واحدا من أشهر أفلام التسعينات «عرض غير لائق
Indecent Proposa،
والذي قامت ببطولته «ديمي مور» مع «وودي هاريلسون» والمخضرم «روبرت
ريدفورد». الفيلم مستوحي من رواية لـ «جيك انجلهارد»، ويحتوي أيضا علي
خيانة زوجية لكن متفق عليها هذه المرة! فيحكي عن قصة زوجين يمران بضائقة
مادية كبيرة قبل أن يقابلا ملياردير يعرض عليهم مليون دولار مقابل ليلة
واحدة مع الزوجة. وكعادة أفلام لاين، يطرح الفيلم سؤالا افتراضيا مهما وهو:
الي أي درجة يستطيع الانسان أن يتنازل مقابل المال؟ وكان من ذكاء الفيلم
اختيار مدينة القمار والكسب والخسارة السريعة «لاس فيجاس» لتكون المكان
الذي يتعرف فيه الزوجان علي الملياردير، بعد أن اتيا أملا في تحقيق بعض
المكاسب. برغم تكامل عناصر الفيلم من سيناريو ذكي البناء وتمثيل ناضج
واخراج حساس ومتعة مشاهدة حقيقية، الا أنه لم يسلم من أقلام النقاد وقتها
الذين هاجموا الفيلم بشراسة، ولكن هذا لم يمنع الفيلم من أن يحقق النجاح
الكبير الذي حققه في شباك التذاكر. روايات معاصرة وفي عام 1997 استعان
أدريان لاين بأحد أشهر الروايات المعاصرة «لوليتا» للكاتب «فلادمير نابكوف»
ليقدم بها أفضل أفلامه علي الاطلاق والذي سمي بنفس اسم الرواية. الرواية
والفيلم يحكيان قصة «هامبرت» المهووس بالفتيات الصغيرات بسبب تجربة بائسة
مر بها وهو مراهق، ويقابل الفتاة الجميلة «دولوريس» ذات الرابعة عشر ربيعا
ويعجب بها بشدة بل ويتزوج أمها التي يمقتها ليظل بالقرب منها، وبعد وفاة
الام تتطور العلاقة بينهما. وأثارت هذه الرواية جدلا واسعا عندما نشرت
مثلها كمثل الفيلمين اللذين اقتبسا منها. وكان المخرج الأسطوري «ستانلي
كوبريك» قد قدم فيلما عام 1962 عن هذه الرواية ولكنه لم ينظر له قط كأحد
أفضل أفلامه برغم الضجة التي أثارها الفيلم. وبرغم أن نسخة «كوبريك» كتب
لها السيناريو«نابكوف» نفسه، إلا أن نسخة «لاين» كانت أقرب كثيرا الي روح
الرواية. فالفيلم كان تركيزه علي نفسية «هامبرت» بل ويجعل المتفرج يتعاطف
معه أوعلي الأقل، لا يكرهه للغاية، وهذا جعل الكثير من الموزعين يخشون
توزيع الفيلم الذي احتوي علي مشاهد اجرء بكثير من فيلم كوبريك، فكانت
النتيجة خسارة مادية كبيرة. وفي هذا الفيلم الشاعري قدم «جيرمي أيرونز» في
دور «هامبرت» أفضل ادواره علي الاطلاق، بالاضافة للأداء المتميز لبقية
الممثلين «ميلاني جريفيث، دموينيك سوان وفرانك لانجيلا» كما أضفت موسيقي
«انيوموريكون» شاعرية اضافية لفيلم شاعري وحساس ومدهش، لكن للأسف أصبح
مندثرا وأصبح من الصعب الحصول علي نسخة أصلية منه. وبعد اختفاء خمس سنوات،
عاد «أدريان لاين» عام 2002 من جديد ليقدم «زوجة خائنة
Unfaithful، وهواقتباس معلن من الفيلم الرائع
Une femme infidel الذي أخرجه المخرج الفرنسي الشهير «كلود شابرول»
عام 1969 . وتحكي نسخة «لاين» عن «كوني» و«ديان لين» المتزوجة من «اد»
«ريتشارد جير»، وبرغم سعادتها في حياتها الزوجية واستقرارها إلا أنها تدخل
في علاقة مع الفرنسي «بول» «أوليفيير مارتينيز»، وعندما يبدأ زوجها في
الارتياب يطلب من مخبر سري أن يتبعها وتتوالي الاحداث لتنتهي بمأساة. فيلم
شابرول يبدأ من بداية شكوك الزوج، الذي هوالشخصية الرئيسية التي نتابعها في
الفيلم، وقالبه بوليسي أكثر وبه نقد شابرول الدائم للطبقة البرجوزاية. أما
فيلم لاين فهوفيلم نفسي عن زوجة تقرر الخوض في مغامرة والفيلم يتابعها في
حياتها اليومية ويدخل في تفاصيل مشاعرها. ربما لم يصل الفيلم الي مستوي
فيلم شابرول، لكن أسلوب «أدريان لاين» السلس والممتع بصريا، مع ادارته
الجيدة للممثلين التي برزت في أداء «ديان لاين» المبهر الذي رشحها للأوسكار
عن هذا الفيلم مع اداء ناضج لـ«ريتشاررد جير»، مع امتياز مونتاج «آن كوتس»،
تجعل من هذا الفيلم تجربة ممتعة تستحق المشاهدة. برغم جرأة أفلام «أدريان
لاين» علي مستوي المشاهد واختيار المواضيع، إلا أن معظمها يحمل نزعة
أخلاقية واضحة، فنري جميع علاقات الخيانة الزوجية تنتهي بكوارث في أفلامه،
ولكن هذا لا يجعل منها أفلاما توجيهية ولكنها تصورات وتساؤلات في المجتمع
والعلاقات، وهذا هو أكثر ما ميز أفلامه، فمن الصعب جدا أن تنسي فيلما
لـ«لاين» كما من الصعب أيضا ألا تثير أفلامه الجدل. ولكن عشر سنوات غياب_
وربما تزيد_ هي أطول مدة غاب فيها «أدريان لاين» بدون سبب واضح، خصوصا مع
أخبار لمشاريع كان يحضر لها بين الحين والآخر لكن تتوقف لأسباب انتاجية،
وكان آخر هذه الأخبار تحضيره لفيلم جديد بعنوان
Back roads
وأتمني ألا يجهض المشروع هذه المرة.
جريدة القاهرة في
08/05/2012
خادم صلاح أبو سيف يرثي لحاله ويحاول
الإنفاق عليه بعد أن باع سيارته ومصاغ زوجته
بقلم : د.محمد فتحي
بعد انتهاء صلاح أبو سيف من فيلم "المنتقم" سافر منتجوه، لتسويقه في
الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك سُئلوا عن جنسية الفيلم!! وحين أجابوا
أنه مصري تعجب الجميع سائلين "بأمارة إيه؟ ماذا به يدل علي ذلك؟" وصدمت
الواقعة صلاح وشكلت نقطة تحول في تفكيره، عززت ما كان يلح عليه كمال سليم
من ضرورة أن يحمل الفيلم السمات التي تكشف عن هويته، وبات يؤرق صلاح قول
الشاعر: "في سماء الخيال ضم جناحيك- تقع بيننا- فتصبح منا/ دع جمال الخيال
وادخل كهوفا للملايين وارو للكون عنا/ إنما الفن دمعة ولهيب- ليس هذا
الخيال والتيه فنا".. وكان من تأثير ذلك، مع استعادة أيام "حارة العزيمة"،
العمل علي خلق سينما واقعية مصرية، واجتذاب الحوارجي نجيب محفوظ للعمل في
السينما. نشأ صلاح أبو سيف في بيئة شعبية فقيرة. كان والده عمدة قرية
الحومة مركز الواسطي في صعيد مصر، لكن أمه السيدة تفيدة فهمي كانت قاهرية
من أوائل المتعلمات المصريات، تعودت علي حياة مختلفة تماما في طبيعتها عن
حياة القرية، مما أكسبها شخصية قوية، رفضت معها العيش مع زوجها وسط زوجاته
السابقات، فأقامت في بيت العائلة مع شقيقها في القاهرة، رافضة سطوة الزوج
وتسلطه (تزوج شرعا 20 مرة وفق كلام صلاح) مما دفعه لقطع المصروف عنها وعن
ابنها، بالذات بعد رفض إرساله للعيش مع بقية اخوته، وإصرارها علي إلحاقه
بالمدرسة، حيث كان الأب ممن يرون أن التعليم- والوظيفة من بعده- حاجة
للفقراء دون غيرهم، ومع ذلك لم تلن قناة الأم أو تتراجع عن موقفها. وقد
أثرت طباع الأم في صلاح - وأورثته بين ما أورثته - صفة الحزم منذ الصغر.
وكان حي بولاق، أحد معاقل ثورة 1919، يموج بالاضطرابات والعنف والمقاومة
الشعبية لجنود الاستعمار البريطاني، وكان خال صلاح بين من تطاردهم السلطات
البريطانية وتعتقلهم، وكان طبيعيا أن يكون لكل ذلك تأثير كبير ومباشر في
نشأة صلاح، فتشرب روح الوطنية والكفاح ضد الاستعمار، مما كان له أبلغ الأثر
علي بناء شخصيته وتكوين فكره السياسي. وقد لعبت حادثة شخصية عابرة دورا
مهما في لفت صلاح منذ وقت مبكر إلي فكرة العدالة الاجتماعية. فعند زيارته
لأسرة أحد الأقارب وجد لدي طفلهم كمية كبيرة من اللعب، فأخذ إحداها. وفوجئ
صلاح باتهامه بالسرقة، وأدهشه الاتهام فقد كان يري أن اللعبة التي أخذها لا
قيمة لها قياسا بما يملكه قريبه. ورغم عقابه علي ما اقترف، سمع أولاد خاله
يناقشون المسألة من وجهة نظر سياسية، فارتبطت بذهنه كلمات العدالة
الاجتماعية والمساواة علي صغر سنه. وكانت أم صلاح تواظب علي قراءة الصحف،
مما لفته مبكرا إلي القراءة وحببه فيها. وعزز هذا الحب اهتمامه بمتابعة
المجلات والكتب التي كان أولاد خاله الكبار يشترونها. نداهة السينما في
العاشرة بدأت علاقة صلاح بالسينما. كان في الرابعة الابتدائية حين قرر
إسماعيل صدقي وزير المعارف (عام 1925)، إضافة سنة خامسة يدرسها التلميذ،
قبل الحصول علي الشهادة الابتدائية، وأنشأت المدرسة فصول تقوية مسائية
لتلاميذ السنة الرابعة، لتوفر عليهم مؤونة الدراسة سنة أخري. ملّ صلاح من
الدراسة صباحا مساءً، فقرر يوما عدم الذهاب إلي فصل التقوية. خرج من المنزل
وهام علي وجهه في الشوارع. إلي أن وجد نفسه أمام مبني يزدحم الناس حوله،
وعلي بابه صورة كبيرة لوجوه نساء ورجال، وأمامه شباب يتحلقون حول عربات
كشري وبسبوسة وبوغاشة وبليلة و... . سأل عن سبب الزحام، فقالوا ساخرين: هذه
سينما، والأبواب ما زالت مغلقة، وستفتح بعد دقائق. لمح جارا يعرفه، بادره
بأن السينما تعرض اليوم روايات بديعة، وبالأسعار العادية، ثمن تذكرة الدخول
قرش صاغ واحد! لم يكن مع صلاح سوي قرش واحد فتردد لحظات، حيث كان ينوي شراء
بسبوسة بالقشطة، لكنه سرعان ما تغلب علي تردده مع سيل الداخلين وقطع تذكرة.
كان قد زار المسرح مع بعض أهله أكثر من مرة، وشاهد يوسف بك وهبي ونجيب
الريحاني. لهذا خف وأخذ مكانه في أول صف، مستغربا من اتجاه الجميع إلي
المقاعد الخلفية، ظانا أنه دفع، دونا عنهم، ثمن تذكرة بريمو (ممتازة).
انتظر أن يأتي معرفته الذي قال له إن التذكرة بقرش ليجلس إلي جواره، لكنه
لم يأت. راح يتلفت حوله قلقا، إلي أن ناداه معرفته يسأله عن سبب جلوسه في
الصف الأول، دون أن يفهم صلاح شيئا. جاء معرفته وسحبه من يده: الجلوس هنا
سيصيبك بالصداع من "الدوشة"، ومن المقاعد الخلفية تري أفضل. يومها غرق مع
"طرزان" و"شارلي شابلن" و"السفينة الغامضة". خرج مذهولا مما شاهده، فأي
فارق بين هذه العوالم العجيبة وما يداوم علي لعبه كل يوم.. السيجة والجري
وراء عربات رش الشوارع بالمياه و... . ما إن وصل المنزل حتي انهمك يحكي
لأهله، وكان نصيبه علقة ساخنة علي التزويغ من المدرسة، وفرمانا يحظر عليه
الذهاب إلي السينما مرة أخري. لكن نداهة السينما كانت قد خطفته، حتي أن
الفرمان تعدل، وصار قاصرا علي الابتعاد عن أوقات الدرس وتجنب الترسو
وجمهوره. وهكذا استمر لا في الذهاب إلي سينما "إيديال" في شارع إبراهيم
باشا وحدها، بل عرف كل سينمات وسط البلد. ما إن يدق جرس انتهاء الدراسة يوم
الخميس حتي يصطحب من يستطيع من زملائه معه، ويسعد مرة وهو يدعوهم إلي
الصفوف الخلفية حين يندفعون إلي الصفوف الأمامية، وأخري وهو يكرر لهم بعض
ما سمعه من مفهماتي الفيلم قبل ذلك. وإمعانا في إغراء الصغار المتحفظين كان
يصحبهم إلي "سينما الشيكولاتة"، التي تربط بين توزيع الشيكولاتة وتذكرة
الدخول. وهكذا سرعان ما اشتهر في المدرسة علي أنه "بتاع السيما". من
التمثيل إلي الإخراج بات يحمل مسدسا (لعبة) في جيبه طوال الوقت، مثل البطل
الأمريكي الشهير توم ميكس، كما يحاكي الممثلين في سلوكهم، ويقلد رعاة البقر
في مشيتهم. واندمج مرة في فيلم "كاوبويز"، فوجد نفسه بعده منفوش العضلات.
تحرش بأول من قابله، وسرعان ما ظهر أنه وقع في يد أحد فتوات حي الترجمان،
وكان ما كان، مما جعله أقل اندماجا مع التمثيل. مرة وهو خارج من سينما
"أوليمبيا" بالعتبة لمح في إحدي مكتبات أول شارع محمد علي كتاب "كيف تكون
ممثلا سينمائيا؟" لم يكن معه قرشان ثمن الكتاب فسأل صاحب المكتبة الاحتفاظ
له به، وسرعان ما عاد بثمنه والتهم صفحاته. كان يعتقد أن الممثل هو كل شيء
في الفيلم. يتحرك علي الشاشة، من تلقاء نفسه، كما يريد. لكنه عرف أن هناك
شخصا آخر أهم من الممثل: "في الاستديو ستجد شخصا صامتا. لا تقترب منه ولا
تحاول أن تكلمه أو تشغله، لأن في رأسه الفيلم كله، وهو الذي يوجه الممثلين
ويقود المصور و...". كانت المرة الأولي التي يعرف شيئا عن دور "المخرج"،
وبات يحلم بأن يكون هذا الرجل. ومع أنه بدأ يبحث عما يعرف منه وظيفة
المخرج، إلا أن كلمات كتاب شفيق حنين جعلته بين أقرانه خبيرا سينمائيا،
يكرر كلما لاحت فرصة: "تكونش فاكر إن الممثل يتحرك علي كيفه. فيه مخرج...".
بات أبو عريف "السيما" الذي يسأله من حوله عما يغمض عليهم. كانت بعض أسئلة
زملائه تفاجئه ولا يعرف لها إجابة، لكنه سرعان ما وعي كيف يعلق المفهماتي
علي ما يجري فوق الشاشة. يندمج وينفعل، ويبتكر لتشويق وإثارة الجمهور،
وربما بما لا علاقة له بلوحات الحوار والعناوين، ولا حتي بسياق مشاهد
الفيلم الصامت. حذا حذو المفهماتي ودأب هو الآخر علي تأليف، لا ما يرد به
علي الأسئلة فقط، وإنما كل ما يكفل تشويق زملائه وإثارتهم وجرهم إلي عالم
"السيما". وهو في الثانية الثانوية (1928/1929) شاهد فيلم عزيزة أمير
"ليلي". انفعل فخرج من الفيلم عازما علي التأليف للسينما. انهمك، هو شبه
اليتيم، في كتابة رواية سماها "اليتيم" حتي أنهاها، وأرسلها إلي عزيزة أمير
طالبا منها إنتاجها. ردت عزيزة برسالة رقيقة مشجعة. قالت إن "الرواية
وصلتها وستنظر في أمرها". عرف طلاب المدرسة الـ 1500 موضوع الرسالة، وفي
غمضة عين بات يشار إليه بالبنان، ويعامل بصفته مؤلفا سينمائيا. ومن يومها
بات يحلم باليوم الذي ينهي فيه المدرسة ليعمل في "السيما". نيازي والمونتاج
تدهورت أحوال الأسرة فانتقل صلاح- لتقصير طريق الدراسة- من التعليم الثانوي
إلي التعليم التجاري، وكان متقدما بدرجة مكنت صلاح من القراءة بالإنجليزية
والفرنسية، فراح يقتني مرتجعات المجلات السينمائية الأجنبية، ويلجأ إلي
القواميس وأولاد خاله في التغلب علي ما يجابهه من صعوبات في قراءتها.
وسرعان ما بدأ يترجم دون مقابل بعض ما يقرأ للمجلات الفنية مثل "الصباح"
و"أبو الهول"، بل ويكتب بعض المقالات. وبعد حصوله علي الشهادة المتوسطة سعي
إلي العمل بالصحافة الفنية، معتمدا علي تجربته هذه، مع معرفته باللغتين
الإنجليزية والفرنسية، وبعض المعارف السينمائية، واتفق علي تزويد مجلة
"الراديو" و"البعكوكة" بمقالات مقابل 150 قرشا في الشهر، وكان سعيدا
بالحصول علي كارنيه يتيح له دخول السينما مجانا. كان دخله هزيلا لا يغني
ولا يسمن من جوع، بالذات وقد أصبح مسئولا عن أمه التي كانت تنفق عليه من
ممارسة الخياطة. ولاحت فرصة للعمل في شركة النسيج بمدينة المحلة الكبري
بأجر معقول، فقبلها مع عدم التخلي عن اهتماماته الفنية، بل واستغل موارده
المالية الجديدة في الإنفاق عليها، ومن الأمور الطريفة الدالة علي الولع
وقيمة الوظيفة، واقعة نسخ صلاح لكتاب فسيفولد بودوفكين عن فن السينما لعدم
قدرته علي شرائه قبل راتب الوظيفة، وإرساله يستجلب بعض الكتب من لندن
مباشرة بعد الالتحاق بالوظيفة. المهم أن صلاح في عزلته عن الوسط الفني
والسينمائي، ووسط معايشته للظروف البائسة التي يعانيها عمال المحلة، انكب
علي الاهتمام بالمعارف المتباينة المتعلقة بالسينما، مثل الموسيقي وعلم
النفس والمنطق و...، وعمل علي ممارسة هواياته الفنية، فترجم كتابا عن
المسرح، وألف وأخرج ووضع أزجال وألحان مسرحية قدمها فريق الشركة. ومن
الأمور الطريفة أنه اعتزم آنئذ السفر إلي أوروبا لدراسة السينما، ولما كانت
مدخراته وحده لا تكفي، فقد جمع له زملاء العمل والفن في المحلة الكبري 40
جنيها، مساهمة في نفقات السفر والدراسة! ذهب المخرج نيازي مصطفي إلي
المحلة، وهو يعد فيلما عن شركات بنك مصر (1936)، وهناك رحب به أبو سيف الذي
كان متابعا للمقالات التي يكتبها عن السينما والمونتاج في مجلة السينما.
فوجئ نيازي بذيوع صيته، ولما عرف عن اهتمام صلاح بالسينما، دعاه لملازمته
خلال إنجاز الفيلم. لم تكن المرة الأولي التي يتابع فيها صلاح الإخراج علي
الطبيعة، إذ أتاح له عمله السابق في الصحافة، حضور تصوير أجزاء من بعض
الأفلام، ومنها فيلم عزيزة أمير "كفري عن خطيئتك" (1932). وأمام مبادرة
صلاح و دأبه وجديته وتفانيه اقترح نيازي انتقاله للعمل مساعدا له بقسم
المونتاج في استديو مصر، وهكذا حدث ما تمناه صلاح طويلا. في بداية عمله
باستديو مصر وجد نفسه منهمكا في ممارسة الترجمة لتحسين دخله. كانت مديرة
مدرسة الخدمة الاجتماعية (إنجليزية الجنسية) في حاجة إلي من يترجم لها
الدراسات والأبحاث التي يقوم بها الطلاب، وشارك صلاح في ذلك، مما أفاده
كثيرا في تطوير لغته إلي جوار مفاهيمه الاجتماعية. يوسف وهبي وسيف الجلاد
لم يلبث صلاح أن أصبح رئيساً لقسم المونتاج بالاستديو. وفي هذه الأثناء جاء
يوسف وهبي لإخراج فيلم "سيف الجلاد"، وكان المفروض أن يقوم صلاح بمونتاج
الفيلم بصفته رئيسا للقسم، لكن يوسف كان يحب العمل مع فريق خاص به، ولما
رأي حماس من حوله لقيام صلاح بالمونتاج قال سأمتحنه أولا قبل الموافقة،
فاستفز ذلك صلاح وراح يركب المشهد ثم يهده ويعيده مرات، تجنبا لكل ماكان
سهلا ومعتادا وقتها، ومراهنة علي ألا يستطيع أحد آخر مضاهاة ناتج عمله،
وفوجئ الجميع بمن فيهم يوسف وهبي بما اجترحه، وحقق ذلك لصلاح سمعة مهنية
جيدة، بالذات بعد أن عرض الفيلم في مهرجان كان وجرت الإشادة بمونتاجه.
جامعة كمال سليم لكن أفق الإخراج كان يداعب صلاح- منذ كتاب شفيق حنين- فعمل
خلال تلك الفترة مساعد مخرج، بل وأخرج عدداً من الأفلام التسجيلية
والوثائقية القصيرة.. لكن الخطوة البذرية المهمة في حياة أبو سيف كمخرج
حدثت في بداية عام 1939، حين عمل مساعدا أولا للمخرج كمال سليم في فيلم
"العزيمة" الذي أرسي قوائم الواقعية في السينما المصرية. ويذكر صلاح أنه
تعلم الكثير عن فن السينما حينما تعرف علي كمال سليم وعمل معه، فقد كان
مخرجا مجتهدا يهتم بالثقافة السينمائية وتجارب أعلام المخرجين ونظريات
السينما، وكان يطمح إلي ترجمة بعض الأعمال التي تعد من معالم الطريق في هذه
المجالات. يقول صلاح: " لم يكن كمال سليم مجرد سينمائي. كان صاحب وجهة نظر
في السياسة والاقتصاد والفن والفلسفة. كان أديبا وموسيقيا وشاعرا. كنا نقرأ
الكتب سينمائية وغير سينمائية معا. وأذكر منها كتب سلامة موسي التي تناقشنا
فيها طويلا. كان يفهمها بعمق أكثر مني، فكانت مناقشتي معه حولها توسع
مداركي". خبرات فرنسية ولشغف أبو سيف الشديد بالسينما واجتهاده في عمله
رشحه استديو مصر لدراسة المونتاج في فرنسا. وفي استديو "كلير" بباريس حدثت
مفارقة طريفة، إذ كان كل العاملين في قسم المونتاج من النسوة، وكان حرج
صلاح بالغا لكونه الرجل الوحيد بينهن، وأدركت إحدي العاملات الأمر فاقترحت
عليه أن يعمل مع زوجها (لاكومب) في قسم الإخراج، حيث استطاع صلاح اعتمادا
علي خبراته المتنوعة أن يجد لغة مشتركة مع هذا الزوج في مجال الإخراج. لكن
استفادة صلاح الكبري من البعثة جاءت عن طريق آخر. كانت هناك دار عرض
تجريبية تقدم برنامجا مخدوما من أفلام مختارة بعناية، لمخرج أو ممثل أو
موضوع ما، وانتظم صلاح في الذهاب إليها بعد العمل، ولم يكن يغادرها إلا مع
منتصف الليل، وهناك أتيح له مشاهدة معظم الأفلام التي شكلت معالم الطريق
علي طول تاريخ السينما التي كثيرا ما سمع أو قرأ عنها دون وجود إمكانية
حقيقية لأن يراها. وقد فتحت المشاهدة الواعية، بالورقة والقلم، المجال
واسعا أمام صلاح للتعلم وتثقيف نفسه والتعرف علي مختلف تجارب السينما
العالمية، ولا سيما الفرنسية والروسية والألمانية والأمريكية. وفي باريس
التقي صديقه القديم علي كامل الذي كان، مثل أخيه محمود كامل المحامي، يكتب
القصص. كان يقيم في باريس منذ عام فتكفل بتعريف صلاح بها. يقول أبو سيف:
"كانت له آراء سياسية مستنيرة، وأعارني كثيرا من الكتب السياسية
والاجتماعية القيمة. كنا نسكن معا في مونبارناس، نذهب بين يوم وآخر إلي حي
بعيد لنشتري سندوتشات رخيصة للعشاء. كان الطريق يأخذ ساعتين ذهابا وإيابا،
نقضيهما في الحوار، وتوطدت العلاقة بيننا كثيرا عبر هذه المناقشات". لكنه
سرعان ما عاد صلاح أدراجه إلي القاهرة، بسبب قيام الحرب العالمية الثانية.
الظروف الاجتماعية والعالمية وقد شهدت تلك الفترة تبلور التيارات السياسية
والفكرية في مصر، وكانت الجمعيات الثقافية منتشرة في كل أنحاء القاهرة،
تنظم الندوات والمحاضرات. وقد اشترك صلاح في جمعية "الثقافة والفراغ"، وكان
يتردد عليها آنذاك الفنانون كامل التلمساني وسعد نديم وفؤاد كامل وحلمي
حليم.. كانوا يشاهدون الفيلم ثم يذهبون لمقر الجمعية يناقشون ما شاهدوا،
وربما عادوا لمشاهدة الفيلم مرة ثانية، ثم عاودوا مناقشته من جديد. واعتاد
صلاح تكرار مشاهدة الفيلم الذي يعجبه. يقول: "أذكر أنني شاهدت فيلم جون
فورد "عناقيد الغضب" أربع مرات في يوم واحد. كنت قد قرأت القصة
بالإنجليزية، وفي مثل هذه الحالات كنت أعود للقصة الأصلية، وأجري المقارنات
وأكتب ملاحظاتي". وفي غضون تلك الفترة اكتمل نصاب الفنيين المصريين
العاملين في كل مرافق الإنتاج السينمائي. وإن كانت الحرب العالمية الثانية
قد أوقفت الإنتاج في كثير من البلدان الأجنبية، والأوروبية منها بشكل خاص،
فإنها كانت فترة ازدهار تجاري وتقني للسينما المصرية، مما جعل كثيرا من
الفنيين يسعون للتحول إلي الإخراج. كانت رغبة صلاح ملحة في إخراج فيلم
روائي طويل، وكانت عقيلة راتب تعمل بعقد احتكار مع استديو مصر، وشاهدت فيلم
"جسر ووترلو"، وتمنت أن تقوم بدور بطلته في فيلم مصري، فاقترحت علي رئيس
مجلس الإدارة اقتباس الفيلم، وعرضت الفكرة علي أبي سيف. كتب السيناريو
وساعده سيد بدير في كتابة الحوار، وقرأ صلاح ما أنجزاه علي بركات وكمال
سليم، في محاولة للاسترشاد بخبرتيهما، وأسند دور البطل للوجه الجديد عماد
حمدي. وهكذا قام أبو سيف عام 1946 بتجربته الأولي في إخراج الفيلم الروائي
"دائماً في قلبي"، المقتبس عن "جسر ووترلو". دارت العجلة وفي عام 1947 قدم
فيلم "المنتقم" لأحمد سالم ونور الهدي ومحمود المليجي، وعام 1948 قدم
"مغامرات عنتر وعبلة" لسراج منير وكوكا وزكي طليمات، وعام 1949 قدم "شارع
البهلوان" لكاميليا وكمال الشناوي وإسماعيل يس. تجربة صلاح الإيطالية ولم
يحالف النجاح أبا سيف منذ البداية فقد فشل في تجربتين لم يكن يتوقع هو
شخصيا نجاحهما، وهما "شارع البهلوان" و"الحب بهدلة" إلا أن ذلك لم يثنه عن
مواصلة العمل، جريا وراء تملك أدواته الفنية. وفي عام 1950 ذهب أبو سيف إلي
إيطاليا لإخراج النسخة العربية من فيلم "الصقر" بطولة عماد حمدي وسامية
جمال وفريد شوقي. وعززت تجربة صلاح الإيطالية من ثقته بنفسه وبأدواته مما
رسخ من خطاه، سواء من خلال إحساسه بالندية، خلال العلاقة اللصيقة مع
الأجنبي الذي كان يخرج النسخة الإيطالية، أو مع التفوق الذي كان يبديه فريد
شوقي (كثيرا ما صفق الموجودون في موقع التصوير لأدائه)، والأهم من خلال
تأكيد تيار الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية لما كان قد مارسه في
فيلم "العزيمة"، أيام عمله مساعدا أولَ لكمال سليم، مما جعله يفكر في
معاودة التجربة من خلال السينما المصرية، ملتحما بالحارة الشعبية، حيث
الواقعية والملامح الفلكلورية والتراثية. وقد لعب دورا في تعزيز هذه الوجهة
واقعة دالة، فبعد انتهاء صلاح من فيلم "المنتقم" سافر به منتجوه، وكانوا
مجموعة من موظفي شركة شل، إلي الولايات المتحدة الأمريكية، ولما عرضوا
الفيلم سئلوا عن جنسيته، وحين أجابوا أنه مصري تعجب الجميع سائلين "بأمارة
أيه؟ ماذا به يدل علي ذلك؟". وقد صدمت هذه الواقعة صلاح، لكنه اقتنع بالأمر
في النهاية، مما شكل نقطة تحول في تفكيره، عززت ما كان يلح عليه كمال سليم
من ضرورة أن يحمل الفيلم السمات التي تكشف عن هويته، ولا يكفي أن يكون جيدا
من ناحية الصنعة السينمائية وحدها. وكان من تأثير ذلك - مع استعادة أيام
"الحارة" من خلال الواقعية الإيطالية - التفكير في التطور الطبيعي والمنطقي
الواجب. لك يوم يا ظالم علي الرغم من حالة الغليان الوطني التي كانت مصر
تمر بها في منتصف الأربعينات، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتصاعد
حركة المقاومة ضد الاستعمار البريطاني مع التوجهات الاجتماعية. علي الرغم
من ذلك كانت السينما المصرية تلهو بعيدا في عالم خاص بها، تجارها يتنافسون
في صنع أكبر عدد من الأفلام التي لا علاقة لها بما يمر به المجتمع. كانت
السينما تشهد نوعا من الازدهار الكاذب، فتقافز عدد الأفلام التي تنتج سنويا
إلي ما فوق الخمسين، وتجاوز عدد الشركات السينمائية المائة، دون أن يكون
لبعضها أي اهتمام بالإنتاج السينمائي، إذ دخلت فئة جديدة من تجار الفيلم
الخام إلي سوق السينما أثناء الحرب، وتدافع العديد من المصورين والمونتيرين
والممثلين ومساعدي الإخراج في التحول إلي مخرجين لتلبية حاجة السوق. وعندما
عرض أبو سيف سيناريو "لك يوم يا ظالم" علي المنتجين، وسط هذا السعار، رفضوا
مغامرته (كما رفضت من قبل فكرة فيلم المخرج كمال سليم "العزيمة") لكن أحدهم
بادره: عليك أنت بإنتاج الفيلم وسأعطيك سلفة توزيع، مما اضطر أبو سيف إلي
إنتاج السيناريو بنفسه، معتزما أن تكون هذه نقطة فاصلة في ممارسته
السينمائية، فإما النجاح وإثبات صحة قناعاته والاستمرار وفقها، وإما... .
وقد حقق أبو سيف بأسلوبه الواقعي واقترابه من الجمهور، ما كان يصبو إليه من
نجاح، ولاقي الفيلم إقبالاً جماهيرياً ونقدياً كبيراً، وكان من بطولة فاتن
حمامة ومحسن سرحان ومحمد توفيق. يقول أبو سيف: "كان علي أن أدخل مرحلة
أخري، فقررت إنتاج فيلم مأخوذ عن رواية إميل زولا "تيريزرا كان". ولكن
استديو مصر رفض إنتاج الفيلم، وكذلك كل المنتجين الذين عرضت عليهم
السيناريو. مما دفعني للوقوف أمام نفسي، فهل أنا علي حق أم لا؟ وقررت
الإنتاج. فبعت سيارتي، ومصاغ زوجتي وأنتجت فيلم "لك يوم يا ظالم"، وقبل عرض
الفيلم بأسبوع، لم أكن أملك قوت يومي، حتي أن الخادم في المنزل كان يرثي
لحالي.". وكان "لك يوم يا ظالم" (1951) فاتحة التفكير في اجتذاب الحوارجي
نجيب محفوظ للعمل في السينما، وفاتحة أفلام أبي سيف الواقعية، التي شكلت
نقلة فنية مهمة، ليس في مشوار صلاح فحسب، وإنما في مسيرة السينما المصرية
بشكل عام: "الأسطي حسن" (1952)، "ريا وسكينة" (1953)، "الوحش" (1954)،
"شباب امرأة" (1956)، الفتوة" (1957) و... . التي قال الناقد والمؤرخ
الفرنسي العالمي جورج سادول عنها: "إنها خلقت في مصر تياراً لا تقل فعاليته
عن تيار الواقعية الجديدة الذي نشأ في إيطاليا". وكتبت الباحثة السينمائية
الألمانية أريكا ريشتر: " أبو سيف هو أستاذ الأفلام الواقعية في مصر... وقد
استطاع أن يواجه الأفلام اللاواقعية التي تنتجها "هوليوود الشرق" بأفلام
ذات مضمون شعبي وإنساني، وأصبح بذلك سندا أو محرضا وممهدا للسينما المصرية
التقدمية".
جريدة القاهرة في
08/05/2012 |