خليل مزين مخرج فلسطيني خريج المدرسة السينمائية الروسية.. كان مروره
عبر مهرجان الجزيرة للأفلام التسجيلية مميزا حيث تم افتتاح المهرجان بفيلمه
القصير "منولوجات من غزة" وتحصل بهذا الفيلم على جائزة الجزيرة للحريات
وحقوق الإنسان.. خليل له جنونه السينمائي الجميل الذي يخط به طريقه ويريد
الذهاب بعيدا في الإبداع... نحاول أن نتعرف عليه في الحوار التالي..
§
مونولوجات من غزة في النهاية هي
مونولوغ خليل المزين أليس كذلك ؟ باعتبارك أنت أيضا جزء من الواقع في غزة
وباعتبارك فنانا أيضا ؟؟
لا اعتقد انه مونولوجي الشخصي فحسب بل هو مونولوج كل الناس الذين
عاشوا سنوات الاحتلال الطويل في فلسطين وغزة تحديد حيث أقطن، فوحشية الحرب
الأخيرة خلقت لدي تجربة غير عادية على صعيد الصوت والصورة حيث المشاهد التي
علقت بذاكرتي هي اكثرها سريالية تتحرك بفعل أصوات الانفجرات العشوائية التي
تشظت في المساحات المكتظة الضيقة والمنعزلة والمحملة بالأصوات وآلام الناس
المشروخة، وكان أكثرها خوفاً عندما يتلاشى الضوء ونغوص في العتمة نبحث عن
وجوهنا وأولادنا في مسافات ضوء صناعي، ونخاف ونتألم ولا نبكي، ننام ونتمنى
ان لا نفيق، وهكذا تتزاحم المشاهد مليئة بالدهشة والمفاجأة والمفارقة وكل
ما هو مشوق ومميت وتراجيدي كأي فيلم لكننا كنا ننتظر ساعة الخلاص أن تنتهي،
ولأننا لم نمت في الليلة السابقة علينا الاستعداد لليلة أخري ربما سيمنحنا
الله فيها وقتاً جديداً..
وانتهت الحرب وخرجنا أحياء مصادفةً لكننا لم نسلم من مخزون الموت
المكدس في رؤوسنا والذي خُبِّئت فيه ملايين المشاهد المؤلمة تغلفها أصوات
غريبة وعجيبة دائرية دائماً لا تزال حتي اللحظة تزن كما الطائرة في رؤوسنا .
فكل هذا المخزون المكدس في رأسي يجعلني أحياناً عاجزا عن ترجمته في
فيلم خشية أن يكون سطحياً لا يعبر عن تلك الفانتازيا الجديدة التي تفنن
صانعوها بكيفية إخراجها في فضاء لتكون مدهشة لمن يراها ومع ذلك حاولت ترجمة
كل ذلك في فيلم (رسل الحقيقة ) وهو وثائقي متوسط والذي يتحدث عن دور الصحفي
كرسول في تغطية الحرب على غزة وأيضاً فيلم مونولوجات غزة الذي جاء مختلفاً
من خلال ربط المسرح بالوثيقة وهي حرب غزة تتجسد من خلال أطفال علي خشبة
المسرح يروون قصتهم ومعاناتهم عن الحرب الاخيرة.
§
أنت صورت تجربة مسرحية متعددة
الوظائف والأبعاد (فنية، نفسية، اجتماعية..) وجعلت منها فيلما وثائقيا أي
عملا إبداعيا ألا يطرح سؤالا: من كان عالة على الآخر المسرح أم الوثائقي؟؟
في البداية لم يكن سهلاً علي أن اترجم فكرة مونولوجات غزة المسرحية
في فيلم وثائقي لأنني كنت اخشي من ان يقتل المسرح الوثيقة او تصبح الوثيقة
عبئاً على المسرح وفي هاتين الحالتين مشكلة كبيرة لأن كلا من المسرح
والفيلم الوثائقي له عالمه الخاص ولكن ما الحل؟
هل بإمكاني أن أقوم بتصوير الاطفال على خشبة المسرح عندما تحدثوا عن
معاناتهم في مونولوجات دون تصرف أم أقوم باختزال المسرح والحديث مباشرة عن
معاناتهم في الحرب من خلال استخدام الأرشيف وصور الحرب والابتعاد عن المسرح
تماماً ام ماذا ؟؟
ولكن في النهاية قررت المزج بين هذين العالمين المسرح والوثائقي خاصة
وانهما يستمدان روحهما من الواقع ومن الحياة فقمت باستخدام اداة المسرح
التي استخدمها الاطفال لإيصال فكرتي وهي الحديث عن بشاعة واثر الحرب
الاخيرة على المجتمع الفلسطيني، فكان الانتقال ما بين المسرح والحياة من
لقطات خاطفة وسريعة من خشبة المسرح إلى الشارع والازقة وبالعكس يصحبها صوت
يمزج ما بين روح المسرح والحياة حتي تكاد أن لا ترى فصلا حادا ما بينهما
متكاملين تماماً ( النص المسرحي والوثيقة والحياة )
§
ما المقصود من الفيلم هل هو
المونولوغ باعتباره هذا الخليط من ضجيج الذات واعترافها وضعفها وانتصارها
من خلال شخصيات فيلمك... أم المقصود هو مونولوغ غزة كأرض مفردة وذات رمزية
مكتظة بكل شيء..
اعتقد انه ليس من الممكن فصل الذات عن الموضوع في هذه الحالة،
فالمونولوج جاء ليترجم ذات الانسان المرتبطة بالواقع وأحياناً أخري يختزل
الواقع بجملة (غزة علبة كبريت ونحن العيدان إلى بداخلها ) وهذا كناية عن
ضيق المكان والاختناق والمعاناة الجماعية للغزيين، وهذا المزج ما بين
الاثنين أعطي رمزية ما في الفيلم من خلال تفاصيل صغيرة اشتبكت مع جزيئات
المسرح والحياة لذلك جاء الرمز قوياً دون إسقاطه أو افتعاله فنراه قد سقط
من ذاته ودون تحميله اكثر مما يحتمل في واقعين مختلفين ومتناقضين إلى حد
كبير خشبة مسرح ثابتة وشارع ميت وإضاءتهما الخافتة المعدومة إلى حد ما
جعلهما في حالة تكاملية ويبقي الكلام سيد الموقف.
اذن مونولوج غزة هو أرض مفردة وذات رمزية مكتظة كما الشوارع كما
الطرقات كما السماء المزدحمة بالطائرات كما الاصوات كما وجوه الناس كما كل
شيء .
§
لم تلتزم بكادر معين للقطة
أحيانا يتسع المجال وأحيانا يضيق رغم أن كل أمكنتك منغلقة (باستثناء البحر
في آخر الفيلم) هل هذا اختيار أم هي طبيعة الموضوع وطبيعة النفسية الغزاوية
؟؟
كان لاختيار اللقطات الضيقة الغير مفتوحة والمعتمة رمزية عالية
للتعبير عن ضيق الحياة وقلة الفراغ الذي يعيشه الناس في المكان فغزة
بطبيعتها الجغرافية تعد من الأماكن الاكثر كثافة سكانية في العالم ومتنفسها
الوحيد وبدون قيود وليس كل الاوقات هو البحر لذلك كان للبحر في نهاية
الفيلم مدلول قوي ورمزية عالية تدل على أنه رغم ضيق المكان وقلة الفراغ
وكثرة المعاناة إلا ان هناك حياة من الممكن ان نعيشها كما جاءت في الأغنية
( كاميليا جبران - أهل الشاطئ الآخر ) لتعزز ما أردت أن أقول أن كثرة
المعاناة تخلق ثقافة جديدة لكيفية التشبث بالحياة.
§
مفهوم الموت كان حاضرا ولكنه كان
موتا عاجزا على قتل أصحاب المونولوجات وعاشوا كي يسخروا من الموت على خشبة
المسرح وهو موت عجز على قتلك أيضا كإنسان وكفنان..
أن تعيش في غزة عليك ان تتوقع كل شيء حتي الموت المباغت، إذن تحت هذا
الشعار عشنا وعاش هؤلاء الأطفال ولكنهم نجوا لكي يسخروا من هذا الشعار من
خلال كلمات كتبوها ليعبروا بها عن حياتهم بعد حرب بشعة عاشوها كقول أحدهم (
الحرب خلصت ولكن بعدها موجودة براسي ) وآخر ( يا سلام علي غزة واحلام غزة
صار الواحد نفسوا يموت موتة حلوة مش يعيش عيشة حلوة
)
فهذه السخرية المطلقة في التعبير عن الموت لها دلالتها الكبيرة على
أننا شعب رغم كل معاناته الا انه لازال يحب الحياة وكما قال شاعرنا الكبير
محمود درويش ( على هذه الارض ما يستحق الحياة
)
§
أنت من جيل الشباب الجديد في
السينما الفلسطينية وخاصة الوثائقية ما هي إضافات هذا الجيل في رأيك ؟؟
في السنوات الأخيرة شهدت الساحة الفنية الفلسطينية وخاصة في مجال
صناعة الافلام تغيراً ملحوظاً في كم الافلام المنتجة سواء كانت بإنتاج
فلسطيني او بتمويل أجنبي فإننا نرى تغيراً واضحاً وملموساً على صعيد الشكل
والمضمون فهناك البعض يحاول الخروج بل وكسر الصورة النمطية المعروفة للفنان
الفلسطيني وآخرون لازالوا خاضعين لأيديولوجيا وأفكار تؤثر على ترجمتهم
لواقعهم ولكننا في كل الأحوال إذا أردنا تقييم المرحلة الاخيرة وخاصة على
صعيد الفيلم الوثائقي تحديداً في غزة نجد هناك تحسن كبير طرأ على نوعية
الأفلام وشكلها الفني فمن المعروف أن غزة هي أكثر المناطق في العالم الغنية
بالأحداث والصراعات وهذا جعل الجميع يفكر كثيراً في كيفية نقل هذه الاحداث
بفيلم مختلف بعيداً عن الاخبار أو الروبورتاجات التي تنقلها قنوات التلفزات
العالمية عما يدور في غزة
فالمهمة تكون أصعب وبحاجة إلى أن تروي وتفكير وثقافة لكي يخرج العمل
بشكل وصورة ومضمون جديد بالإضافة الي مشاكل التمويل التي يواجهها المخرج
وقلة الحريات .
§
لكن الصورة النمطية عن المبدع الفلسطيني أنه فنان القضية، هو الفدائي
وسلاحه الفن؟؟ يعني التقييم الإيديولوجي مقدم على التقييم الجمالي ؟؟ هل
تنطبق عليك هذه الصورة أو هل ترتاح لهذا التقييم...
يجد الوثائقي ضالته في الحياة والناس ويتجلى عندما يستطيع أن يعبر عن
عالمهم وأحلامهم وبحرية وبدون إيديولوجيا أو فكر معقد يحد من حريته في
الاختيار والتعبير بشكل أوسع فيها البعد الانساني العالمي يغلب على البعد
الوطني المحلي وأنا شخصياً أعترف بأن الهم الوطني الفلسطيني موجود في أعمال
كل الفلسطينيين بشتي أعمالهم الفنية ولكن التعبير عنها يختلف من شخص إلي
اخر وهذا طبيعي واعتقد ان هناك فلسطينيون تجاوزوا هذه المسألة وصنعوا
أعمالاً فنية وافلاماً تجاوزت الإيديولوجيا والصورة النمطية للمبدع
الفلسطيني في التعبير عن قضيته
ولكن أحياناً كثيرة نجد تشابكا بين ما يحمله الفنان من أفكار
وإيديولوجيا وهم وطني وما بين الواقع المعاش الذي يريد ان يعبر عنه الفنان
في عمله، فهذه العلاقة إن لم تكن محسوبة جيداً ستؤثر بشكل سلبي على العمل
في جميع المستويات وأنا أعتقد أن الفنان لو تحرر من هذا العبء الايديولوجي
سيصبح اكثر قدرة على التعبير عن الواقع
والي الآن وانا اسعى من اجل الخروج من هذه النمطية الي مساحة أجد فيها
مكاناً للتعبير بحرية ودون أعباء إيديولوجية أو وطنية مع اهمية المحافظة
علي روحها الفلسطينية في إطار معالجة فينة مختلفة على صعيد الصورة والصوت
وبدون أي تطرف وهذا يحتاج إلى ثقافة أوسع وحرية مجتمعية أكثر
.
§
ماذا تعني لك هذه الجائزة وخاصة
أنك تسلمتها من المنصف المرزوقي أول رئيس عربي منتخب وهو مثقف ومفكر وحقوقي
؟؟
كانت الجائزة بالنسبة لي حملاً ثقيلاً ومسؤولية اكثر ثقلاً رميت علي
كاهلي والتي ستضعني أمام تفكير دائم في كل لحظة سوف أقدم فيها على صنع عمل
فني جديد، وبالنسبة لي حين تسلمت الجائزة من الرئيس التونسي المنصف
المرزوقي والذي انا وبصدق من اشد المعجبين به وخاصة انه اول رئيس منتخب
وبديمقراطية بعد الربيع العربي وكان يشرفني وبشدة مشاهدته والاستماع اليه
عبر قنوات التلفزة وهو يدافع عن حقوق الانسان والحريات وكذلك هو شخص متنوع
المعرفة والثقافة واجمل ما فيه احترامه للإنسان كانسان بغض النظر عن فكره
ومعتقداته وغير ذلك احببته لأنه شخص بسيط غير متكلف، لذلك ان يكرمني شخص
بهذه القامة هذا بحد ذاته شرف عظيم لي ويمنحني القوة والكثير من المسؤولية
امام أي عمل فني قادم
§
هل لديك مشاريع آتية (وثائقي أو
روائي)
أنا الآن أقوم بالتحضير لفيلم روائي طويل بعنوان "بوم" والذي يتحدث عن
حياة الناس في مخيمات اللاجئين من خلال فني صوت يقوم بالتصنت على بيوت
الناس وتسجيل قصصهم وأحاديثهم بالإضافة الي مشروع ( نادي لاما السينمائي )
الذي أقوم برفقة مجموعة من الفنانين بالتجهيز له والبحث عن جهات تكون حاضنة
لهذا النادي باعتباره اول نادي سينمائي يفتتح في غزة بعد تدمير دور العرض
السينمائي في الثمانينات ...
الجزيرة الوثائقية في
10/05/2012
الأسلوب التأمّلي كوسيلة تفعيل
محمد رُضا
سنوات ضوئية كثيرة بين البيئة التي أنبتت انطونيوني، أنجيلوبولوس،
تاركوفسكي، مالك، كوروساوا، إيتشيكاوا، كوزنتسيف، زوخوروف، ولز، هيتشكوك،
يازوجيرو، برغمن، غودار، تروفو، غريفيث، تاتي، كيتون، تشابلن، بونويل،
كلير، فورد، هيوستون، أندرسن، شلنسجر، راسل، فيلليني، زيفريللي، وايز،
فاسبيندر وأستطيع أن أضيف مئتين آخرين فوق هؤلاء من الذين لم تكن السينما
فناً لولاهم، وبين الحفنة العربية من السينمائيين التي صنعت الإبداع نفسه
او قريباً منه. الإختلاف الشاسع هو أن البيئة الأولى تنفسّت الحرية مع
الأكسجين في وقت واحد وبأنف واحد، بينما الثانية كان عليها أن تجهد في سبيل
تحقيق ما تريد وحين لم يكن عليها أن تفعل فإن السبب كان كامناً في انفتاح
الدولة الى القدر الكافي للسماح للأبداع أن يمر.
هذا هو السبب الذي من أجله استطاع المخرج الأجنبي تجاوز الأمس وحديث
الحضارات الدؤوب الذي لا يمكن له أن يتبلور عن أكثر من درس في التاريخ،
ويواصل بناء حاضر هو ذاته حضارة المستقبل. أفلام هؤلاء في الخمسينات
والستينات والسبعينات، وأفلام مخرجين آخرين يعملون اليوم، هي بنيان يومي في
وجدان المشاهدين ومساهمة في مواصلة حضارة الفن السابع الأكثر ظهوراً
وتأثيراً من سواها بسبب ما يتمتّـع به الفيلم من قدرات وعناصر.
والعملية ممتزجة بحيث لا يمكن فصل أي عنصر منها عن الآخر.
لكي يفكّر ترنس مالك بتحقيق فيلم من نحو ساعتين وعشر دقائق بتخصيص نصف
المدّة لتصوير كوني يشمل الحياة على الأرض وفي السماء وفلسفتي الزمن
والنشوء وليوصل تلك الرسالة الروحية المتّصلة بجوهر الدين (كما فعل
تاركوفسكي من قبل) اعتمد على عاملين: جوّاني جبلته الثقافة المنفتحة
واستقلالية الرأي وما نشأ عليه من أوجه الحرية المختلفة، وخارجي مفاده وجود
جمهور مختلف يفهم المقاصد الفلسفية والشعرية والجمالية والروحانية وافق
عليها او لم يوافق، ويرغب في مشاهدة أعمال تنحو بالمواضيع صوب لغات فنية
منفردة. كلاهما، الداخلي والخارجي في العملية، لم ينشآ بقرارات ولا في دول
ألزمت المواطن الفرد باتباع طريقها الخاص، بل ولم تفعل، في الأساس، أكثر من
احترام حق الإنسان في حرية الرأي وحماية ذلك الحق بتجنيبه وطأة المتغيّرات
السياسية. فالحكم هنا قد ينتقل من اليسار الى اليمين، او العكس، لكن حرية
القرار والتفكير والإبداع لا تتأثر الا بالعوامل الاقتصادية وحدها.
في الفيلم التركي «ذات مرّة في أناضوليا» لنوري بيلغ شيلان مشاهد
كثيرة لثلاث سيارات تشق ظلام الليل في هضاب وسهوب الأناضول في رحلة تطول
لتشمل ثلثي الفيلم. تلك اللقطات الطويلة تبدأ كما لو كانت تبحث بدورها عن
طريقها للوصول الى المشاهد، لكنها لا تبحث طويلاً، سرعان ما تتآلف والذين
يدركون أن العمل آيل الى عرض مشبع بتفاصيل الحياة والنفس البشرية تحت سماء
بحث مواز لشخصيات الفيلم في ظاهره عن جثة ميّت، وفي فحواه عن حقيقة
السلوكيات البشرية. هذا بدوره لم يكن ليتم على هذا النحو لو لم تكن
المعطيات الاجتماعية والثقافية متوفّرة لطرح الفيلم أسلوباً ومضموناً.
حين البحث عن المقابل العربي، نجد أن الملمّـين بالأسلوب التأمّـلي
كوسيلة تفعيل ذاتية لرصد الحياة والابتعاد عن التقاليد، فنية كانت او
فكرية، إما مبعدون وإما يعانون من شح التمويل. نتيجتان متلازمتان في
مجتمعات تتعرّض فيها السينما الى هجوم مركّز: لا النظم تريدها لأنها
"تنوير"، ولا الجماعات الدينية ترغب بها لأنها تعتبرها "حراماً"، ولا رجال
الأعمال يعيرونها أي اهتمام لأنها "غير مربحة".
لقد تم تفريغ السينما من احتمالاتها بعدما تم حظر التعامل مع المواطن
كإنسان له الحق في المعرفة. لذلك ما كان على النظم الموجودة سوى إحكام
الغطاء على ذلك الصندوق بتحويل مؤسسات السينما من خادمة لفن السينما الى
مرشد له. المشترك الوحيد بين معظم المخرجين المغيّبين عن العمل بصورة
مستمرة في الدول العربية التي سبق لها وأن انتجت أفلاماً، مثل محمد خان
وداوود عبد السيد ومحمد ملص وأسامة محمد وبرهان علوية (رغم أن بعض هذه
النماذج لديها أسباباً شخصية تساعد في إبعادها)، هو أنهم لا يستطيعون
القبول بأسلوب سرد قصصي يلتقي مع الغالبية، بل سينماهم هي انعكاسات ذاتية
وبالضرورة أسلوبية وفنية، ما يعني أنها مُـصادرة من قبل أن تنتقل من الورق
الى الفيلم. السبب في أن محمد خان لم ينل الجنسية المصرية إلى اليوم، رغم
حقّه فيها ورغم أن آخرين ولدوا في مصر من أم مصرية قد نالوها، لا يعود إلى
أنه سقط ضحية تجاهل او تناس او مجرّد غض نظر، بل إلى أنه فكّر ومارس فنّه
خارج الصندوق كما لا ترغب آلية النظام السابق منه ومن سواه أن يفعل. هي لم
يكن لديها خيار حيال مخرج تواصل مع الغرب من قبل وأثبت انفراده وقدراته مثل
يوسف شاهين لكن لديها خيار مع مخرج لم ينجز هذا النطاق من التسويق والتأييد
الغربيين.
المسألة تبدأ من الماضي الذي سيطر على اتجاهات الحاضر الذي سيسيطر على
اتجاهات المستقبل أيضاً سواء تغيّر الوضع لصالح العمل السينمائي الإبداعي
او بقي على حاله. وما علينا فهمه هو أن العديد من السينمائيين العرب
محاصرين ليس سياسياً او رقابياً في الأساس، بل بالصناديق التي وضعوا أنفسهم
فيها. صناديق قد لا تتراءى لهم، لكنها بالتأكيد موجودة وهم في وسطها.
هذا ما يجعل الفرحة بوصول الفيلم العربي إلى مسابقة كان مجدداً كبيرة
وحذرة في الوقت ذاته. من ناحية فعل استحقاقي مهم، ومن ناحية ثانية مبعث
لسؤال حول كم سنة ستمر قبل أن نجد فيلماً عربياً آخر في هذا النطاق؟.
الجزيرة الوثائقية في
10/05/2012
"انفصال
" المجتمع الايراني عن المستقبل
أسامة صفار
لا يكتسب الفيلم الايراني "انفصال " للمخرج "أصغر فراهادي" قيمته من حصوله
علي جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام 2012فقط ولكنه يتجاوز ذلك الي تلك
المفارقات المدهشة التي تعرض لها حيث منع عرضه في ايران وفي مصر أيضا .
واذا كان المنع هو السنة السائدة في عالمنا الاسلامي فقد أصبح الأمر
أشبه بسلوك النعامة اذ تدفن رأسها في الرمال بينما يتقدم اليها المهاجم
متصورة أنه لن يراها بينما هي من لا يراه فالأفلام والمطبوعات وغيرها أصبحت
متاحة للجميع في أي مكان في العالم وفي اي وقت بفضل ثورة التكنولوجيا التي
أزالت امكانيات المنع والمصادرة الي حد كبير
.
ويرقي فيلم "انفصال " لأن يصبح وثيقة اجتماعية للحظة الايرانية
الحالية حيث تضيء المنطقة المسكوت عنها في انعكاس السلوك السياسي منذ ما
قبل الثورة الاسلامية مرورا بها وحتي الان علي المجتمع الايراني الذي أصيب
بفصام حاد بين طبقاته من جهة وبين أجياله من جهة أخري وبقدر ما يستعرض
السيناريو نوعا من الصراع الطبقي لا يرقي للمستوي الايديولوجي ويظل يدور
حول محور سلوك الأفراد في صراعاتهم اليومية دون وعي جماعي بالفكرة الطبقية
فانه يصنع توازيا بين أسرتين تدور بين كل من الزوجين فيهما صراعات مختلفة
نوعيا ويرصد الصراع بين الأسرتين باعتبار أن كل منهما تنتمي لطبقة اجتماعية
مختلفة ويؤكد بوجود طفلة في كل أسرة علي مستقبل ينبغي انقاذه والا سيرث
الأطفال صراعات الكبار في دوائر لا تنتهي .
وتدور قصة الفيلم حول "سيمين" التي تلعب دورها الممثلة ليلة حاتمي،
الراغبة في مغادرة إيران رفقة زوجها "بيمان معادي" الذي يلعب دور نادر، لكن
رفض الزوج لهذه السفر، بدعوى رعاية أبيه المصاب بمرض "الزهايمر" الذي لا
يريد تركه وحيدا، سبّب في انفصال "نادر وسيمين".
وهجرت "سيمين" بيتها ، وذهبت عند عائلتها، لكن متاعب بقاء الزوج مع
أبيه العجوز، و ابنته التي رفض تسليمها إلى "سيمين"، تسبب في إحداث مؤلمة
تركت بصماتها على علاقة "نادر وسيمين"، فالخادمة التي أتت للعمل في البيت،
لم تقم بواجبها لظروفها العائلية والصحية، وهو الأمر الذي بسببه وصل صراعها
مع "نادر" إلى المحكمة، بعد طردها من البيت، متهمة إياه بقتل جنينها.
ويتناول الفيلم حقائق اجتماعية مؤلمة ومريرة، يصورها المخرج في قالب
درامي، و من خلال سيناريو محبوك يشبه الأرابيسك اذ ينسج بمهارة علاقات
الأطراف بدفئها المحبوس والمحاصر بمشكلات قاسية لم يتسبب فيها الأفراد بقدر
ما صنعتها التحولات الاجتماعية الكبري .. وطبقا لتقييم القاضي الذي يحكم
بين الزوجين نادر وسيمين فانه يبلغ المرأة أن مشكلتها "صغيرة " اذ هي ترغب
في الهجرة الي خارج البلاد ويرفض زوجها تمسكا بالبقاء مع والده ( تاريخه –
تراثه - ماضيه ) ويرفض أيضا منحها حضانة ابنتها ( مستقبله ) وفي الوقت
ذاته فان الجد العجوز المصاب بالزهايمر قد فقد كل ما له صلة بالواقع المحيط
في اشارة الي القطيعة بين ايران اليوم وايران الأمس وترفض الأم أن تنشأ
طفلتها في ظروف مجتمعية ترفضها هي وتبرر سفرها بهذا الأمر وبين تطلع الأم
الي مستقبل مختلف عبر عالم جديد أدركته بانتمائها الطبقي وانفتاحها وتمسك
الأب بالماضي ووفائه لمعني الأبوة ورغبته في رعاية رجل يعرف هو أنه أبيه
بينما لا يعرف الرجل أنه ابنه تقف الابنة حائرة وتنفصم عري الأسرة ليأتي
دور الخادمة ابنة الطبقة الفقيرة التي قدمت دورها بحساسية شديدة وملامح
معبرة بشكل اسر وتحاول المرأة الفقيرة التوفيق بين عملها في رعاية الجد
المريض أثناء غياب ابنه في عمله وبين ظروفها الخاصة القاسية ولكنها تفشل
ويشرف الجد علي الموت نتيجة غيابها الغامض عنه وينفعل الابن بشدة دافعا
الخادمة بعنف خارج المنزل لترفع دعوي تتهمه خلالها بالتسبب في اجهاضها وبين
جولات التحقيق يصدق زوج الخادمة زوجته ويمارس سلوكا عنيفا تجاه من سبب ضررا
لزوجته وينكر الرجل بينما تقع ابنته في حيرة حيث تصدق أن والدها قد دفع
المرأة بالفعل وسبب لها أذي جسدي لكن المواقف تتغير فجأة اذ تعترف الخادمة
لزوجها أنها كذبت وأنها لم تكن حاملا حين دفعها الرجل .
ورغم الميلودراما التي يسببها الطلاق لا تتنازل "سيمين " عن طلبها
للطلاق وتذهب للقاضي مع نادر لتحديد من سيكون حاضنا للطفلة التي ترفض
الاختيار أمام والديها فيطردهما القاضي ليسمع منها دون حرج
.
ولعل "فراهادي " كان واضحا منذ البداية في استعراضه لمشهد الجدل بين
عاملين بسيطين تلجأ اليهما " سيمين " لنقل أثاث من الدور الثاني علوي الي
الأرضي حيث يصممان علي تقاضي أجر النقل عبر ثلاثة أدوار ويغلقان عليها طريق
الصعود الي منزلها لتوافق شبه مجبرة علي اعطائهما الأجر الذي طلباه والمشهد
علي بساطته يؤكد علي العنف الذي يمارس من الطبقتين تجاه بعضهما وهو نفسه ما
يمكن أن نلحظه عبر سلوك زوج الخادمة الذي يحاول الاعتداء بالضرب علي "نادر"
في المحكمة وهو أيضا ما يمكن تأكيده حين ينفجر هذا العنف في ذات الشخص (
زوج الخادمة ) الذي يضرب رأسه بعنف في الحائط حين يكتشف كذب زوجته بشأن
اجهاضها نتيجة دفع "نادر " لها
ولعل مستقبل أطفال نشأوا في ظل صراع اجتماعي بين طبقة غنية منفتحة
ترغب الخروج من واقع منغلق وصراع بين طبقتين تنتميان لعامين مختلفين علي
المستوي الاقتصادي لا ينبغي أن يقرره مخرج وسيناريست لذلك ترك "أصغر
فراهادي " نهاية فيلمه مفتوحة اذ لا يحق لأحد تقرير مصير هذا الجيل
والاختيار بين مستقبل منفتح علي الاخر أو منغلق علي نفسه متمسك بماضي لا
يذكره سوي هذا الجيل نفسه
في فيلم " انفصال " حرفية مدهشة وقدرة عظيمة علي صناعة فيلم يمكن
قراءته علي مستوي كونه يستعرض مشكلات اجتماعية صغيرة وتفاصيل قد يمكن
علاجها عبر اصلاحات ويمكن أيضا قراءته عبر مستوي يقدمه كانذار أخير برصد
حجم التناقضات التي تحاصر المستقبل وتجبر أبناءه علي الاختيار وهم دون سن
الاختيار .
ويبشر "أصغرفراهادي" بمخرج ايراني لا يقل قامة عن عباس كياروستامي
ومحسن مخملباف وان تميز في قدرته المدهشة علي التحليل الاجتماعي وقد
ممارسة العمل السينمائي سنة 1986 بجمعية الشباب السينمائية في اصفهان، ومن
1986 حتى 2002 قام بعمل ست أفلام قصيرة ومسلسلان للتلفيزيون الوطني
الإيرانى.
وقدم في عام 2003 أخرج أول فيلم روائى طويل له وهو "الرقص مع الغبار"
والذي يتناول به شخصية نزار الذي يتعرض للعديد من الضغوط الاجتماعية
والأخلاقية التي تجبره على تطليق زوجته لأن أمها لا تسلك السلوك القويم،
ليهرب للصحراء لمعاونه رجل كهل في صيد الثعابين للتكسب منها وتسدد ما عليه
من ديون.شارك هذا الفيلم في مهرجان الفجر وكذلك مهرجان موسكو لنفس العام.
أما في عام 2004 فصدر له عمل يحمل اسم المدينة الجميلة ويتحدث عن شاب
يصدر ضده حكم بالأعدام وهو لايزال في السادسة عشر من عمره وحصل الفيلم على
العديد من الجوائز سواء من مهرجان الفجر السينمائى أو من مهرجان وارسو
السينمائى الدولي.
وقدم فيلمه الثالث الذي ظهر للنور عام 2006 وهو "الإربعاء الأخير"
والذي يسرد فترة من حياة سيدة سترسل من قبل شركة تنظيف لأحد المنازل وتفاجأ
بالزوجة التي تشك في أخلاص زوجها لهذا تلصق لها مهمة تتبع العشيقة وقد حصل
على جائزة هوجو الذهبية لمهرجان شيكاجو السينمائى الدولي.
وفي عام 2009 صدر له فيلم بعنوان "عن إيلى" وحصل على العديد من
الجوائز منها جائزة الدب الفضى لأحسن مخرج في مهرجان برلين الدولي في دورته
59، كذلك كاحسن فيلم في مهرجان تريبيكا السينمائى، إيضا مثل الفيلم السينما
الإيرانية في الأوسكار داخل فئة الأفلام غير الناطقة بالأنجليزية لكنه كان
مجرد ترشيح.
الجزيرة الوثائقية في
10/05/2012 |