< هزيمة يونيو 1967 جاءت بخبير اقتصادي لانقاذ
السينما فإنهم المخرج الإيطالي العالمي روبيرتو روسوليني الذي جاء إلي مصر
بدعوة من د.ثروت عكاشة لتأسيس مركز أفلام الحضارية.. بالنصب والاحتيال <
حافظ علي استقلالية الرقابة وتعاملت بحزم مع رجالات الوزارة وعلي رأسهم
الوزير ولم أطع لهم أمرا مخالفا لأحكام القانون الأديب الكبير رشدي صالح
هاجم الترخيص بعرض فيلم انطونيو الجميل واتمه بالرداءة فاكتشفا أن وراء
الحملة زوجة السيدة اعتدال مختار الرقيبة السابقة احتفل دار توثيق السينما
المصرية وبحضور جمع من الأصدقاء الصحفيين والنقاد بالعيد الرابع يعد
الثمانين للمستشار مصطفي درويش الرئيس الأسبق للرقابة علي المصنفات الفنية،
متعه الله بالصحة ودوام العطاء. ليلتها تحدث «درويش» فأفاض علينا - بروحه
الساخرة- ببعض ما لا نعلمه من وقائع وخفايا ذلك الجهاز حديثا منسوجا بخيط
من المرارة، استهل حديثه بمولده في الفاتح من مارس عام 28 بحي منيل الروضة،
حيث كانت المزارع الخضراء علي امتداد البصر، ذلك قبل أن يلتهمها العمران،
تعلم - كأبناء جيله - في المدارس الحكومية، وتخرج في كلية الحقوق جامعة
فؤاد الأول عام 49 وقتها كانت الجامعة تموج بالحركة الوطنية في ظل تعددية
سياسية . فن الأطياف وأضاف شغفت منذ حداثتي بفن الأطياف، فقد دأب أبي علي
اصطحابي إلي السينما، ومازالت تعلق بذاكرتي بضعة مشاهد مما شاهدته في
طفولتي، منها مشهد لأم كلثوم وهي تشدو بصوت ملئ بالشجن «يا طير يا عايش
أسير» والمشهد من فيلم «وداد» عام 36 وأذكر أيضا لقطات من جرائد سينمائية -
لكل من «موسوليني» و«هتلر» وكل منهما ينفث في شعبه روح التعالي والتعظيم
بينما يطأ الطليان بالنعال أرض الحبشة والصومال، وتكتسح جحافل الألمان
النمسا وتشيكوسلوفاكيا وبولندا، وأعتقد منذ ذلك الوقت ترسب في نفسي المقت
للنازية والقاشية بكل أساليبها ومظاهرها فضلا عن الجنوح للحرية. - كان من
الطبيعي - بعد تخرجي - أن أعين في النيابة العامة وهو الأمر الذي لم يتحقق
لماذا؟ لاتهامي بأن لي ميولا يسارية، ربما نبشوا في الأوراق فترة الجامعة،
حيث تم احتجازي وشقيقتي الطالبة بذات الكلية - كلية الحقوق - لبضع ساعات ،
وحرمنا من دخول الجامعة لمدة ثلاثة أيام، ذلك بسبب حيازتي لنسخة من البيان
الشيوعي الذي حرره «كارل ماركس»، و«فريدريك انجنز» وكان مطروحا آن ذاك بين
أيادي الطلبة. هيئة الرقابة قامت ثورة يوليو ورأت الدولة إنشاء هيئة رقابية
عليا باسم النيابة الإدارية فتقدمت للامتحان أمام المحامي الوطني فتحي
رضوان ولكن تم رفض طلبي لميولي اليسارية كيف؟ مرت الأيام وتغيرت الأجواء
السياسية ورجحت كفة السوفييت، وتم عقد صفقة الأسلحة التشيكية، وكان مجلس
الدولة هو حلم كل من تخرج في كلية الحقوق فتم تعييني بالمجلس عام 55 رقيب
بالصدفة كان شغفي بالأفلام والاطلاع علي صناعها معروف للكافة، وقد حدث أن
تناطح «محمد علي ناصف» رئيس الرقابة علي المصنفات الفنية مع جهات سيادية،
مما تسبب في أزمة فأقالوه وراحوا يبحثون عمن يشغل منصب الرقيب. كانت
التعيينات تتم بالمعرفة الشخصية وكان لي صديق يعمل بالنيابة الإدارية هو
الشاعر «أحمد لطفي» وكان بالصدفة شقيق زوجة د.ثروت عكاشة وزير الثقافة. حدد
لي الصديق لقاء مع الوزير وهكذا عينت بالصدفة رئيسا للرقابة علي المصنفات،
ولم تكن الصدفة الوحيدة في حياتي، ولا أنكر أن انتابني بعض القلق من
انتقالي من السلك القضائي إلي آخر إداري وفي منصب قد يعرض شاغله للكثير من
الضغوط والحملات الصحفية، ولكني لا أنكر أيضا أن الحظ كان حليفي علي مدار
84 عاما. انهيار الوحدة توليت المنصب الجديد بعد بضعة شهور من انهيار مشروع
الوحدة بين مصر وسوريا، وقد تبعه أن جنح النظام لدعم وزارة الإعلام لعلاج
الاثار المترتبة علي كارثة الانفصال، ذلك علي نقيض وزارة الثقافة التي تبنت
- سياسة تشجيع الإبداع والانفتاح علي ثقافات العالم. وهنا يحق لكم أن
تتساءلوا عمن دفع بمحب للحرية ومؤمن بالتعددية والديمقراطية للسير علي درب
الإجراءات المقيدة لحرية التعبير؟ وتنحصر الإجابة عن ذلك السؤال في نقطتين
أولاهما تخص ما لمسته خلال اللقاء الأول مع د.ثروت عكاشة من جنوح لتحرير
الفنون خاصة السينما من المحظورات، لعتق الجماهير من رق الاستسلام لصندوق
عبيط اسمه التليفزيون، يبث الدعاية والإعلام الموجه علي مدار اليوم،
وثانيهما ما يخص القانون رقم 43 لعام 55 الذي ينظم العمل في الرقابة،
وتنحصر أحكامه في المحافظة علي الأمن والنظام العام والآداب، فأقبلت علي
العمل علي أمل أن أتمكن من تطبيق أحكام القانون بمرونة بما يدعم في الأساس
حرية التعبير. مسلسل المفاجآت حملت لي الأيام مفاجأة أخري نتجت عن غفلتي
عما يمكن أن تلعبه الصحافة في تأكيد شائعات مغلوطة عن شخصي وأيضا عن
انتماءاتي السياسية - ونتج عن تلك الغفلة أن أدليت بحديث لصحفي من جريدة
«أخبار اليوم» وكان يرأسها التوأم علي ومصطفي أمين دار الحوار بالطبع عن
الرقابة وتوجهاتها المستقبلية، وكانت الجريدة شأنها شأن وزارة الإعلام
متبنية سياسة الكم ومعادية لسياسة الكيف، وكان كل منهما يتهم وزارة الثقافة
باحتضان دعاة اليسار، ومنهم الرقيب الجديد وهو شخصي الضعيف وربما كانوا
يستقون انطباعهم من حادث احتجازي لثلاث ساعات أيام التلمذة، ووعيت ما أولاه
لي التوأم من رعاية حين أجرت الجريدة في العدد التالي حديثا مع مدير
الرقابة السابق «محمد علي ناصف»، حيث تطاول علىّ لدرجة أن اتهمني بالجهل
التام بكل ما يتصل بالرقابة. درس لا يقدر بثمن كنت أسير عملي علي هدي مقولة
الإمام «أبي حنيفة النعمان» العلم عندنا هو الرخصة عن ثقة أما المنع فكل
واحد يحسنه، وقد حدث أن رخصت للعرض العام فيلماً رديئاً بعنوان «خذني
بعاري» لمخرج رحل عن دينانا دون أن يذكره أحد، وقد قام بتمويله صاحب مخبز
أراد أن يظهر علي الشاشة في مشهد شديد الفجاجة مع السيدة سميرة أحمد، فما
كان من د.ثروت عكاشة إلا أن فاجأني في مهاتفة صادمة يطلب سحب الترخيص يعرض
الفيلم، وبناء عليه تلقت الرقابة ضربات موجعة، قوامها إهدار مصالح المنتجين
واجهاض جهد صناع الفن السابع، ولكن عملا بالمثل القائل «الضربة التي لا
تكسر ظهري تقويني» وعيت درسا لا يقدر بثمن وتعلمت إلا أطلع أمرًا كرئيس
طاعة عمياء حتي لو كان وزيرا. ضحية الصراع وفي سياق سلسلة المفاجآت التي
حدثتكم عنها فوجئت بالأديب الكبير «أحمد رشدي صالح»، يشن علي حملة شعواء
للترخيص بعرض فيلم «انطونيو الجميل» ووصف الفيلم بالرداءة في مقال له
بجريدة الجمهورية، وما أثار دهشتي أن الفيلم المذكور خال من كل ما يخدش
الحياء، وهو من إخراج «ماورو بولوتيني» أحد كبار المخرجين في إيطاليا
والفيلم بطولة النجمين اللامعين «مارشيللو ماستروياني» و«كلوديا كارديتالي»
وموضوعه يدور حول التقاليد الصارمة التي تحكم الحياة في جزيرة صقلية في
الجنوب من إيطاليا، خلال قصة الشاب الوسيم انطونيو الذي يفشل في أداء دوره
ليلة الزفاف فتتفجر الفضيحة وتشاع في كل الأنحاء. احترت في تفسير الدوافع
وراء المقال اللاذع إلي أن ادركت أن غضب الكاتب الكبير وراءه غضب زوجته
السيدة اعتدال ممتاز الرقيبة السابقة، والحكاية من البداية أنه حال استلامي
منصبي طلبت قائمة بالأفلام الأجنبية التي لم يرخص لها بالعرض، ولدهشتي وجدت
بينها تحفا سينمائية لكبار الأدباء في العالم وجدت مثلا فيلم «المسيح» أعيد
صلبه لكازاتنزاكي و«الجاعة» لماري ماكارثي و«المليونيرة» لبرناردشو فرخصت
بالعرض لما لا يزيد علي خمس أفلام، فلم يكن لها مردود غير عادي علي
الجمهور. غير أن المقال جاء في توقيت محسوب، ليساهم في الحملة ضد وزارة
الثقافة ومنها الرقابة والرقيب، وانهالت علي الأقلام بالنقد بدعوي إساءة
استعمال سيف الرقابة واغراق السوق المصرية بأفلام أجنبية مما يهدد السينما
كصناعة وطنية. تلاحقت حلقات الحملة لاستنفار مجلس الدولة لإنهاء ندبي حفاظا
علي هيبته، ليكون اقصاء الرقيب أحد السهام الموجهة لاشعال الصراع بين
الوزارتين، بهدف تصفية وزارة الثقافة، وهو ما تم بأسلوب مبتكر بعنوان «دمج
الوزارتين»، كل ذلك ولم يكن قد مر علي عملي بالرقابة سوي أربعة شهور. وعلي
الفور هاتفني «عبدالمنعم الصاوي» وزيرالثقافة والإعلام ليوحي إلىّ بإلغاء
ندبي، ولكني أجبته إجابة قاطعة بأنني أعمل في وزارة ولا أعمل عند وزير.
ويشاء الحظ وبعد أربع سنوات أن يطلبني د.ثروت عكاشة لتولي ذات المنصب في
وزارته الثانية. خبرة واستقلالية رجعت للرقابة مزودا بخبرة لا يستهان بها،
فحافظت علي استقلاليتها وتعاملت بحزم مع رجالات وزارة الثقافة وعلي رأسهم
الوزير، ولم أطع لهم أمرا مخالفا لأحكام القانون، كما اجتهدت لتطوير أسلوب
العمل بما يساهم في تطوير السينما المصرية، وذلك بإبداء النصح لصناع
الفيلم، وإتاحة المزيد من حرية التعبير، وللحق كنت أحيانا أصيب وكثيرا ما
أخيب. كنت أحيانا أصيب كان خير مثال علي فشل سياستي هو موقفي من فيلم
«البوسطجي» تحفة «يحيي حقي» وإخراج «حسين كمال» وحقيقة الأمر ليس من
صلاحياتي التدخل في العمل السينمائي، ولكني لدي مشاهدة الفيلم - وكنت قد
قرأت النص الأدبي - استوقفني في الفيلم اغفال الجانب الروحي لأبطال الفيلم،
«جميلة» الارثوذكسية وحبيبها «خليل» البروتستاني غير البوسطجي المسلم ذلك
بسبب الرعب من المحظورات الرقابية، وقد كان لاختلاف ملة الحبيبين وضع
القسيس شروطا تستلزم تأجيل القران وبالتالي التعجيل بالكارثة فجاءت الخاتمة
غاية في الوحشية - ما أزعج يحيي حقي نفسه والتمس من المخرج تخفيفها - حيث
يعمد الأب سكينة في قلب ابنته «جميلة»، فتطلق صرخة مدوية. كانت التعليمات
الخفية - الخاصة بعدم المساس بالدين - أقوي تأثيرا علي المخرج من نصيحتي
المتواضعة ليبقي علي رهافة الفيلم. وبين صعود وهبوط سارت بي الأيام حتي
وجدت نفسي فجأة طائرا لأول مرة في حياتي إلي باريس ومنها إلي مهرجان «كان».
وكان الوقت قبل أيام من حرب يونية ولكن من يعلم الغيب؟ سافرت بترشيح من
المخرج «أحمد بدرخان» مقرر لجنة المهرجانات وتأييد من رئيس اللجنة «نجيب
محفوظ» بهدف الاطلاع علي ما وصل إليه فن السينما من رقي وعمل دراسة مقارنة
مع الأفلام المصرية، واقتراح وسائل الارتقاء بها وحقيقة الأمر لم يكن علاج
السينما المصرية سرا وكان يتلخص في تحرير الإبداع. انقاذ المومياء بدعوة من
د. ثروت عكاشة جاء المخرج الإيطالي «روبيرتو روسيلليني» لتأسيس مركز أفلام
الحضارة، فدعا المخرجين لتقديم أفكار لعمل أفلام تتناول تاريخ مصر العريق،
وتقدم بالفعل ثلاثة مخرجين هم توفيق صالح ويوسف شاهين وشادي عبدالسلام، لكن
«روسيلليني» لم يتحمس إلا لموضوع شادي غير أن «شادي» بات مهددا بعدم تنفيذ
الفيلم لأن استمرار «روسيلليني» كان مشكوكا فيه بعد زلزال الخامس من يونية
إضافة أن د. عبدالرازق حسن الخبير الاقتصادي الذي عُين لإنقاذ السينما -
خلال رئاسته لشركة الإنتاج لم يكن مقدرا لقيمة فيلم «شادي» الفنية، ورأي من
وجهة نظره أنها تكاليف بلا عائد والتفت إلي رأس المشروع «روسيلليني» ووجه
إليه الاتهام بالإحتيال والنصب، وتعقب الفيلم في الرقابة لوقف الترخيص
بتصور الفيلم، لأن احتمال فشله - علي حد قوله- لا تحتمله الخزانة فأجبته
بأن احتمالات الفشل ليست من الموانع الرقابية وأسرعت بالترخيص لفيلم «شادي»
وهو الأمر الذي أثار حملة تشكيك في وطنية الرقيب واتهام الفيلم بمعاداة
القومية العربية. أزمة الفيلم الأمريكي احتشدت الجماهير من جميع الأنحاء
لرفض قرار التنحي، فدعا د. ثروت عكاشة لاجتماع لجنة التنسيق لمناقشة الموقف
من الفيلم الأمريكي وقد انحاز غالبية الأعضاء لقرار المنع باستثناء ثلاثة
أعضاد هم «سعد كامل» و«أحمد رشدي صالح» و«مصطفي درويش» وفي إطار المفاجآت
المعتادة هاتفني السيد الوزير في اليوم التالي محذرا من منع الفيلم
الأمريكي ما يعني عدم الاعتداد برأي الأغلبية، ولم تمر ساعات إلا وتصدر
صفحة الأهرام الأولي خبر منع عرض الفيلم الأمريكي، ما أثار الذعر في نفوس
مديري شركات التوزيع، فاتصلوا بي مستفسرين عن تاريخ التنفيذ فطمأنتهم بأن
الرقابة هي الجهة الوحيدة المنوط بها الإجازة أو الحجب، وأن الرقابة حتي
ساعتها لم يصدر عنها مثل ذلك القرار. كان اليوم إجازة أسبوعية لكن استدعيت
علي وجه السرعة للقاء الوزير في مكتبه فأسرعت للقاء ممنيا النفس بسماع
موسيقي لفاجنر وماهلر لكن فوجئت به يصوب إصبعه إلي صدري متهما لي بالعمالة
لأمريكا، وهي تهمة تكفل اعتقالي، شرحت له الأمر بهدوء ولم أصدق نفسي وأنا
راجع إلي بيتي حرا طليقا ولم أصدق نفسي مرة أخري حين أحاطني الوزير بثقته
وكلفني بالسفر إلي أوروبا والمعسكر الشرقي لسد الثغرة التي خلفها حجب
الفيلم الأمريكي، وكان الوزير وخلال لجنة التنسيق قد أعلن في الصباح قرار
منع الفيلم الأمريكي والانجليزي وأيضا الألماني. ولكن الأحوال لا تدوم إذ
ما إن قضيت مهمتي وعدت إلي أرض الوطن، حتي تعرضت لحملة تخوين أعقبتها حملة
تكفير. كنت قد أعدت نفسي لزيارة تشيكوسلوفاكيا بالقراءة عن السينما
التشيكية، وفور وصولي طلبت مشاهدة فيلم «غراميات شقراء» للمبدع «ميلوش
فورمان» وقد فاز ذات المخرج لاحقا بأوسكار مرتين عن تحفتيه: وطار فوق عش
الوقواق وأماديوس. وكان الفيلم يتضمن مشهداً لبطلي الفيلم وهما عرايا في
شحته للعرض في نادي السينما المقرر افتتاحه عام 68 إلا أن الوزير اصدر
قرارا بمنع عرض الفيلم لتدني مستواه الفني ودفاعا عن اختياري لم أقف ساكنا
بل أرسلت ملفا كاملا من مقالات نقدية تشيد بالفيلم ومبدعة، لكن أحداً لم
يطلع عليه وما أثلج صدري أن نجحت في عرض الفيلم للصحفيين في نادي النقابة.
لم تثمر رحلتي إلي الاتحاد السوفييتي آن ذاك إلا فيلم «المدرس الأول»
للمخرج آندريه ميخالوكوف كوزنتشالوتسكي، وقد رأيت أن افتتح به نشاط نادي
السينما، ولكن الوزير وقد عين نفسه رقيبا منع عرض الفيلم ثم أجازه بعد
أربعة أسابيع وأعتقد أن سبب المنع كان مشهدا رائعا للبطلة وهي تنزل عارية
إلي البحر لتتطهر بعد ليلتها الأولي مع أحد ملاك الأرض الذي تزوجها
بالاكراه ظنا منه أنه يملك الأرض ومن عليها. وفي ختام فترة رئاستي الثانية
للرقابة تلقت الإدارة فيلم «المتمرودن» تحفة «توفيق صالح» الذي قدره النقاد
واحدا من أحسن مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية، وقد رخصت للفيلم بالعرض
عملا بمبدأ حرية التعبير، إضافة للصدق في التنبؤ بالكارثة المحتملة وأخيرا
لعدم خطورة عرضه عرضا عاما، وحدث أن ألغي انتدابي وعدت إلي منصبي في مجلس
الدولة عدت وأنا مطمئن علي «المتمردون» وجاءت الإدارة الجديدة لتعمل مقصها
بالحذف والتشويه في الفيلم والأمر العجيب أن أعاد الفيلم الأمريكي للعرض في
الصالات بعد ثلاثة شهور من الحجب ودون أن يدري أحد من رجالات وزارة الثقافة
بمن فيهم نجيب محفوظ رئيس مؤسسة السينما. والآن يرضيني شرف الاجتهاد لفرض
حرية التعبير وتقدير الإبداع وتعدد مصادر استيراد الأفلام وفتح النوافذ
أمام أعمال مستوحاة من الأدب العالمي لكبار المخرجين ونجوم لامعين، والآن
أواصل متعة المشاهدة ومتعة الكتابة.
جريدة القاهرة في
22/05/2012
«لاتنسيني
يا اسطنبول»..هكذا تكرم المدن
بقلم : د. وليد سيف
يظل دائما النموذج الدرامي التركي قادرا علي إدهاشنا وإبهارنا..
وهوينجح في غزوالقلوب بميلودرامية ورومانسية المسلسلات التي أدمنها
جمهورنا، كما أنه يتمكن في إنتاجه السينمائي المتميز من أن يملأ العقل
والروح بأفلام نابضة بالحياة والصدق وبأساليب فنية جديدة ومبتكرة ومتنوعة.
كان فيلم (عسل) التركي الحائز علي الدب الفضي في برلين 2010 أحد مفاخر
بانوراما مهرجان الإسكندرية في دورته قبل السابقة. فهو يعد واحدا من أفضل
وأقوي ما قدمته السينما في العالم خلال السنوات الأخيرة. فقد تمكن مخرجه
سامح كوبلان أوغلو من أن يكشف خلاله عن أصالته كمبدع وأن يقدم ما يمكن
اعتباره فيلما رائدا يستعصي علي التصنيف وأن يحقق متعة فنية غير مسبوقة
بقصته المؤثرة عن طفل يبحث عن والده في غابة مليئة بالخطر، بكل ما توحي به
القصة والصورة من أفكار ملهمة عن سيرة الإنسان في الأرض/ الغابة. من
المتوقع أيضا أن يتحقق نفس النجاح في دورة مهرجان الإسكندرية القادمة
بمجموعة كبيرة من الأفلام يتنافس منها علي الأقل خمسة للاشتراك في المسابقة
الدولية ومنها : البيت وحيوات خفية وأمر جاد. ولكن يأتي التواجد الأقوي مع
فيلم أشادت به اللجنة العليا للمهرجان ورشحته بقوة لعرض الافتتاح وهو ملحمة
من الشجن والحنين الرائع للمدينة المتوسطية الجميلة بعنوان (لا تنسيني يا
اسطنبول). مكاسب تركية وهو فيلم في حقيقة الأمر يحقق مكاسب كثيرة للسينما
التركية.. مكاسب تتجاوز بكثير النظرة ضيقة الأفق التي تسعي للكسب السريع عن
طريق استقطاب جماهير تقبل علي الأفلام بحثا عن نجومها أوسعيا وراء لقطات
مبهرة أومشاهد مثيرة أو حكايات مسلية، سرعان ما ينساها المشاهد وسرعان ما
يفقد احترامه لها لأنها لا تسعي إلا لدغدغة مشاعره وتلبية أحط رغباته. علي
هذا النمط كانت كل نتاجات الأفلام المشتركة بين مصر وتركيا في نهاية
الستينات. ذكر لي أستاذي الراحل عبد الحي أديب أنها تحققت في فترة كساد
السينما المصرية بعد هزيمة 1967 وأنه لولا رحلة فريد شوقي الميمونة
للأناضول وما أسفر عنها من مشروعات سينمائية عديدة لخربت البطالة بيوت
العديد من سينمائيينا. ولكن المأساة أن فنانينا الذين شاركوا في هذه
الأفلام لم يضعوا نصب أعينهم سوي صناعة أفلام تجارية بحتة متواضعة فنيا
ومعدومة القيمة والفكر من نوعية عثمان الجبار أوشيطان البوسفور والتي تعكس
عناوينها ما تدور حوله من قصص بوليسية مستهلكة أوأفكار هندية ميلودرامية
مستوردة لا تثير سوي البكاء من فرط الحزن علي البطل أو الانبهار ببطولاته
وقوته الخارقة . وكان لابد لهذه الأفلام أن تنمحي من الذاكرة وأن تنغلق
سريعا أبواب الخير والإنتاج المشترك أمامنا. بدون طعمية وكشري علي جانب آخر
تماما يقف فيلم لا تنسيني يا اسطنبول. فهو يتحقق عن رغبة جادة في الإفادة
والاستفادة من مواهب من خارج تركيا. والمكاسب الهائلة التي يحققها فيلم "لا
تنسيني يا اسطنبول" تتمثل في سعيه وراء حالة من العشق الحقيقي للمدينة من
خلال مجموعة من الفنانين الأصلاء كبار الموهبة من منطقتي البلقان والشرق
الأوسط. عاشوا في تلك المدينة لبعض الوقت وأحبوها وعبروا عن حبهم لها من
خلال حكايات صادقة دون عاطفية بلهاء أومباشرة فجة أو شعارات زائفة أونفاق
ذميم لجمهور من البسطاء والسذج. فيلم «لا تنسيني يا اسطنبول» لا يشبه
مدينته بالفول والطعمية والكشري والبتنجان المخلل علي غرار الأغاني التي
نتوهم اننا نزرع بها مشاعر حب الوطن. وهولا يبحث بسذاجة عن أسباب حب
المدينة في كوب شاي في ساعة مغربية أوحتي في صورة امرأة ترتدي طرحة
وجلابية. ولكن هذا العشق يتمثل في لحظات إنسانية نادرة ومواقف بسيطة ولكنها
معبرة عن اختلاط حقيقي مع أهاليها الطيبين البسطاء الذين لا يتحدثون عن
البونبوني ولا يرتدون البلوفرات الغالية. قصص حقيقية من خلال قصص حقيقية
عاشها أوعرفها ستة مخرجين ممن حققوا مكانة دولية ينسج كل منهم حكايته
المنفصلة في زمن لا يتجاوز الخمس عشرة دقيقة. من بين هؤلاء الفلسطيني
الشهير هاني أسعد صاحب الجنة الآن والبوسنية المعروفة عايدة بيجيك
والارميني إريك نازاريان والفلسطيني الدنماركي عمر شرقاوي الحائز علي الفهد
الذهبي من روتردام. تتنوع رؤي وحكايات كل منهم لتشكل دائرة متسعة لمناقشة
قضايا الهوية والموروث والقومية. وتتكامل عبر الحكايات خريطة واسعة للمدينة
بمختلف أحيائها ودروبها وأهاليها من فقراء بسطاء إلي متوسطي الحال..ومن
حرفيين وموظفين إلي فنانين وصحفيين وشعراء. تتابع في بداية هذا الفيلم
حكاية رجل يقضي ليلة عصيبة مع سيدة تركية ومجموعة من النساء العجائز
الطيبات في بنسيون فقير .. تبذل السيدة قصاري جهدها لتعيد له أمواله التي
هرب بها زوجها. لا تدور بينهم حوارات كثيرة ولكن التعاطف الإنساني يجمعهم
والشعور بأن ثمة شيء جميل يربطه بهؤلاء يجعله يفقد موعد رحلة العودة حتي
بعد أن يسترد نقوده. لم تكن هؤلاء النساء وعلي رأسهن هذه الزوجة الجميلة
البسيطة الطيبة سوي تعببر حقيقي عن حس حضاري وإنساني صميم تغلغل إلي روح
هذا الزائر الغريب وأدخل في قلبه هذا العشق الجميل. في قصة أخري تشهد
المدينة حكاية العشق والخصام والجدل والعراك بين الكاتب الفلسطيني وحبيبته
المجندة الإسرائيلية واسمحوا لي ان أقول الجميلة فوق العادة. ولكن صراعهما
وجدلهما ليس لدعوة بلهاء للسلام ولكن للتأكيد علي الخلاف العميق بين
القوميتين الذي يطغي علي أي حب أوعاطفة حتي ولوكانت تجاه امرأة بهذه
الجاذبية الطاغية. رحلة بحث هناك أيضا عازف أمريكي يجتر ذكرياته وهويبحث عن
متاعه الضائع في اسطنبول وحكاية رابعة عن عجوز فلسطينية تائهة نعيش معها
رحلة بحثها عن الفندق الذي تقيم فيه مع ابنتها. وتتواصل رحلات البحث مع
ممثلة تستكشف تيمة عطيل في حياتها الخاصة. ولا تخلو الحكايات من مأساة ام
صربية تبحث عن ذكري ابنها الراحل. وهكذا تجمع الموضوعات تيمة البحث بمعناه
العام وبكل ما يمثله من افتقاد لاشياء مادية أومعنوية. قد ترتبط ذكريات
البحث في اسطنبول بنهايات سعيدة وقد لا يسفر البحث عن العثور علي المطلوب
ولكن المؤكد أن التوغل في اسطنبول يترك أثرا عميقا ويصنع حالة خاصة وذكري
لا تنمحي. تتحقق الوحدة أيضا من خلال هذه الهارمونية بسبب تشابه الأسلوبية
لدي المخرجين سواء في إيقاع المشهد أوطول اللقطات أوالبناء البصري وكأنك
تشاهد فيلما واحدا لمخرج واحد. ويساهم في هذا التناسق أيضا هذا الحرص علي
تحقيق مقاسات الفصول أوالقصص بأحجام واحدة أوفي تلك اللقطة الجميلة
الانتقالية للبحر ليلا مع مرور سفينة في قلبه بينما تتلألأ أضواء المدينة
في عمق الكادر وحيث الوصول إلي هذا المكان أقرب لمحطة مفعمة بالجمال ومثيرة
للخيال ودافعة للتأمل في هذه الحيوات المجتمعة والنفوس الممتلئة بالشجن
والامل. المخرج والممثل أما العنصر المشترك المثير للاندهاش فيتمثل في هذه
الوحدة في الأسلوبية في الأداء التمثيلي. فلا يمكنك ان تتخيل ان هؤلاء
الممثلين قد استجابوا لتوجيهات مخرجين مختلفين. فالجميع يؤدون بطريقة تمزج
بين المعايشة الكاملة مع الانضباط الشديد في الانفعالات دون مبالغة أوتزيد.
ويتمكن جميعهم من التعبير في لحظات الصمت بنفس القدرة والمستوي. ويأتي كل
منهم محملا بماض طويل وذكريات قاسية وحياة مليئة بالألم والتعاسة.. حالة
يمكنك أن تستشعرها من طلة الروح ونظرة العين وانكسارة الجسد. ولكن الكل
أيضا لديهم هذه الدرجة العالية من الكبرياء والصلابة والقدرة علي المقاومة.
شخصيات مكتملة الأركان والأبعاد . وتتمكن الأفلام القصيرة بزمنها المحدود
من عرض حيواتهم بتكثيف ودون إخلال. إن فيلم لا تنسيني يا اسطنبول يمثل في
رأيي الشخصي فتحا جديدا في مجال الفيلم الروائي الطويل الذي يعتمد علي
مجموعة من القصص أوالأفلام القصيرة. والحقيقة أنني لم أشاهد في هذا المجال
فيلما من هذا النوع بهذا الإكتمال ولا بهذه الاسلوبية المتوحدة . وإذا كنا
قد عرفنا في السينما المصرية خاصة في الستينات وبداية السبعينات افلاما
تجمعها موضوعات واحدة مثل صورة أوالبنات والصيف إلا انها كانت علي الرغم من
ذلك أفلام منفصلة كان الأفضل في رأيي أن تقدم في عروض مستقلة. فكل فنان من
صناعها له أسلوبية مختلفة عن غيره وكانت وحدة الموضوع واهية، فالمعالجات
والتيمات والأساليب مختلفة تماما. وهكذا يشكل فيلم «لا تنسيني يا اسطنبول»
حالة فريدة في وحدته الشكلية والموضوعية . وفي فكرته النبيلة وفي قدرة
صناعه علي استلهام همم فنانين أحبوا بلدهم وأقاموا فيه لفترات طالت أوقصرت
ولكنها تركت فيهم أثرا جميلا. في رأيي أن صناعة أفلام من هذا النوع بهذه
الأسلوبية والقدرة علي الفهم والتنسيق هي سبيل أكيد لتضافر جهود فنانين
شبان في مشروعات سينمائية قد تتحقق بفضل توحدهم وتعاونهم. وهوأيضا فيلم
نموذجي للتعليم في ورش الأفلام القصيرة التي تنتج أفلاما لا يراها أحد ولا
تمنح فرصة حقيقية لصناعها في الظهور ولكن استلهام نماذج مثل (لا تنسيني يا
اسطنبول) بإمكانه أن يتيح فرصا أكبر ومجالات أوسع للعرض. وفي النهاية ورغم
إعجابي بالنموذج التركي في السينما، فالسياسة موضوع آخر وتظل لمصر
خصوصيتها. بل إن السينما المصرية أيضا من العراقة التي تجعلها أكبر من ان
تستورد نماذج جاهزة ولكن المسألة في رأيي هي ضرورة الاطلاع علي نماذج
سينمائية تطورت في السنوات الأخيرة لنري كيفية الاستفادة منها بما لا
يتعارض مع خصوصيتنا وطبيعة أسواقنا وإمكانياتنا الإنتاجية والتوزيعية.
جريدة القاهرة في
22/05/2012
حين تنقلب السينما علي حكامها
بقلم : محمود قاسم
الحاكم هو الانسان الأعلي في الدولة، وهو لدي الناس اليد المانحة
والباطشة، ولهذا السبب، يجب التعامل معه أثناء حياته، وبعد رحيله، من منطلق
المصلحة التي يمثلها هذا الحاكم لكل طوائف الشعب، المقربين منه، والناس
العاديين، وبشكل خاص الفنان، فالابداع الانساني خاصة في السينما، وايضا في
الشعر، فإن الابداع يبقي، كي يعبر بصورة واضحة عن صورة الحاكم لدي الناس،
خاصة المبدعين، ابان ازدهار حكمه، أو بعد وفاته، أو خلعه من السلطان، الذي
جعل منه شخصا مليئا بعناصر التقديس، حتي اذا هبط من عليائه عصفت به
الاقلام، والاقدار مهما كانت هيبته، إلا في حالة واحدة أن يكون الحكم
بالتوريث، فالأبناء هم استمرار لتواجد الأبناء، لهذا سعي مبارك إلي
التوريث، مثلما نجح حافظ الأسد أن يدفع بابنه إلي سدة الحكم، فلم يجرؤ أحد
علي مس كرامة الأب لسنوات طويلة، وأمامنا أربع مقالات نتحدث فيها عن كيف
وقفت السينما المصرية إلي جوار حكامها، تنزل عليهم هالات التقديس أثناء
حيواتهم، حتي إذا هبطوا من علياء الحكم، نزلت بهم العواقب، وتحولوا إلي
البقرة التي إذا ما وقعت انهالت عليها السكاكين تمزق في لحمها وترمي عليها
جميع الجرائم التي حلت بالوطن. حدث هذا بشكل واضح مع حكام الأسرة العلوية،
ابتداء من محمد علي باشا وحتي الملك فاروق، والذي ازدهرت السينما في عهده
بشكل ملحوظ، وهذا هو موضوع مقالنا الأول، ثم حدث ذلك في عهد عبدالناصر، حيث
نال هو من التمجيد قدر ما حاولت السينما المصرية في عهده إلي إهانة فاروق
وأجداده في أفلام عديدة، أما الحقبة الثالثة فقد دارت في عصر أنور السادات
بعد مايو 1971، وما سمي بظاهرة الكرنكة، وما إن تم اغتيال السادات حتي خرجت
الأقلام بقوة لانتقادات عصره الانفتاحي الذي تصالح فيه مع اسرائيل، رغم أن
حسني مبارك كان نظامه يحاول التقليل كثيرا من صورة سلبيات عصر السادات، ولا
شك أن السينما التي تم انتاجها وسيتم بصورة غزيرة بعد ثورة 25 يناير سوف
تظهر عصر مبارك بالصورة نفسها التي فعلتها سينما ما بعد يوليو، مع الأسرة
العلوية، خاصة عصر الملك فاروق. الحكام لا الزعماء ولدت السينما المصرية
الروائية الطويلة عام 1927 أي ابان زهو الملك فاروق وفي السنة نفسها التي
غادرنا الزعيم سعد زغلول إلي العالم الآخر، ونحن هنا لن نتوقف عند الزعماء،
وكيف صورتهم السينما، لكننا سنتوقف عند الحكام فقط، فلا شك أن الكثير من
الجدران والبيوت في الأفلام التي تم انتاجها بين عامي 1927، وحتي وفاة
الملك فؤاد عام 1936، كانت مزينة بصور رسمية للملك فؤاد، باعتباره الحاكم
الذي يحبه المصريون، وقد كانت للرجل مكانة خاصة في وسائل الاعلام آنذاك،
خاصة الصحف والمجلات، كما كانت هناك احتفالية خاصة بالأمير الصغير خاصة في
مجلات الأطفال في تلك الآونة. ومن خلال ما لدينا من مشاهد وصور ووثائق عن
السينما المصرية، فإن مكانة الملك فؤاد الأول لم نرها علي الشاشة بالصورة
نفسها التي حدثت لابنة فاروق حيث كان لهذا المليك سحره الخاص، سواء وهو
أمير، أو بعد أن صار مليكا، وقد بدا بصورته كشاب في السادسة عشرة من العمر،
في مكان بارز من غلاف دفتر فيلم "أبو ظريفة" اخراج الفيزي الذي عرض في 15
أكتوبر عام 1936، أي بعد فترة قصيرة من توليته العرش، ولن نلبث أن نراه
موجوداً في أغلب دفاتر الأفلام خاصة في دفتر فيلم "غرام وانتقام" حيث يوجد
به وثيقتان بالغتا الأهمية، الأولي بعنوان "الملك" والثانية عبارة عن
الكلمات الكاملة لأوبريت مواكب العز.. الذي كتبه أحمد رامي ولحنه رياض
السنباطي، وأدته أسمهان مع مجموعة الكورس، وهما وثيقتان نادرتان سننقل
احداهما بالكامل، ونشير إلي الأولي التي قيل فيها ان "غرام وانتقام" هو أول
الافلام المصرية التي حظيت بتشريف الملك المفدي في أول حفلات عرضها، فقد
أثارت هذه الرعاية السامية نفس الاستاذ مصطفي كامل الفلكي، فرأي أن يرفع
هذه الكلمة لأعتاب الملك عربون ولاء واخلاص أهل الفن جميعا لذاته العليا.
وفي الوثيقة صورة للفاروق العظيم يطوف بأنحاء ستوديو مصر، وقد ظهر إلي يسار
جلالته حضرة صاحب العزة حسين سعيد بك عضو مجلس الادارة المنتدب لشركة
ستوديو مصر التي أنتجت الفيلم، أما مصطفي كامل الفلكي، فهو اسم مدير
الدعاية الذي كتب يقول: "انه لشرف أي شرف، وفخر أي فخر، أن يتفضل مليك وادي
النيل، فيشرف، أعزه الله، حفلة العرض الأول بسينما ستوديو مصر لفيلم "غرام
وانتقام" وبطلته فقيدة الفن "أسمهان" وبطله يوسف وهبي الفنان. وفي ختام هذه
الصفحة من الاطراء الملحوظ جاء "ليس هذا الطبع بمستغرب منك فما هو الا درة
جديدة انتظمت في عقد حدبك علي شعبك الوفي، وسهرك علي مصالح رعاياك
المخلصين، ولا يسعني ازاء هذا التدفق، كما لا يسع أخواني أهل الفن جميعا
إلا أن نهتف من الاعماق هتافا مدويا يهز أركان السماء "عاش الفاروق" و"لعل"
من أسباب زيارة الفاروق لاستديو مصر وايضا حضور العرض الأول للفيلم هو أن
الفيلم قام بتحية الفاروق، وأسرة محمد علي في الأوبريت الذي كال بالمديح
لأبرز حكام مصر من هذه الأسرة فجاءت كلمات أحمد رامي كالتالي: أنا بنت
النيل أخت الهرم/ لقد صحبت الدهر منذ القدم/فكان انضر عصر/ ملأت منه
عيوني/عصر زها وتباهي هي/ بالاسرة العلوية/المجد فيه تناهي/ إلي أب
المدنية/حيوا معي ذكري الزعيم الاول/حيوا معي ذكري محمد علي (كورس) تحيا
لنا ذكراه/ يا نعم ما أسداه/بالفتح والعمران/ثم هناني الذي جملني كساني حلة
العيش النضير/واحتوي ملكي علي أبنائه يتسامون كبيرا عن كبير/حيوا معي ذكري
العزيز الاكمل/نادوا لاسماعيل نور المجتلي (كورس) تحيا لنا ذكراه/ يا نعم
ما أسداه/بالعز والسلطان/وعلا قدري وذاعت شهرتي/في ربوع الأرض بالذكر
الجميل/وشربت العلم من منبعه/صافي المورد عذب السلسبيل/لما شفت يمني فؤادي
منهلي/حيوا معي ذكري الملك الأفضل(كورس)تحيا لنا ذكراه/ يا نعم ما
أسداه/بالعلم والعرفان/واعتلي عرشي الذي أخلص لي/واسا جرحي وراسي
البائسين/وغذا روحي بما أرسله/في شباب الملك من عزم متين/حيوا معي عهد
الربيع المقبل/حيوا معي فاروق كنز الأمل (كورس) دامت لنا نعماه/ يا نعم ما
أسداه/للبر والاحسان/يا مليك العصر يا حليف النصر/عشت لوادي النيل واقبل
حبه/خالص للعرش موفور الولاء/وامضي للعلياء سباق الخطي/نحن من حولك للتاج
الفداء طمس الصورة ومن المعروف أن السينمائيين ظلوا يغنوان للفاروق في
أفلامهم طويلا، مثلما حدث في أفلام "ليلي بنت الفقراء" و"الماضي المجهول"
و"قلبي وسيفي" وذلك بالاضافة إلي الصور البارزة في خلفيات المشاهد،
والأماكن العامة، والخاصة، ما أرّق رجال الثورة، فراحوا يطمسون صورة
الفاروق في الخلفيات، مثلما حدث في أفلام "الاسطي حسن"، و"غزل البنات"
و"أنا بنت ناس" وغيرها. وكما نري فإن هذا التكريم الذي تم لأسرة محمد علي،
قد انقلب الأمر إلي النقيض في افلام ما بعد ثورة يوليو، ليس فقط بطمس صورة
الملك فاروق من فوق جدران ديكورات الافلام، بشكل يدعو إلي الاستفزاز، لكن
كل الصور البراقة في موكب العز، قد تحولت إلي النقيض، فإذا كان الأوبريت قد
مجد عميد الأسرة محمد علي، فإن السينما المصرية طوال تاريخها قد تعمدت الا
تقترب من الوالي، ولا تزال هناك عقبات أمام فيلم متكامل عن الباشا، وقد
تعاملت معه السينما المصرية بحيادية، مثلما يأتي ذكره ضمن أحداث فيلم
"رسالة إلي الوالي" اخراج نادر جلال عام 1997، كما أن هذه السينما لم تذكر
اخلافه، وعلي رأسهم ابراهيم باشا، والخديو سعيد، حتي ضمن أحداث "شفيقة
ومتولي" ولم تر السينما من بناة مصر في تلك السنوات سوي باشوات ساديين،
فاسدين دون أن تري منهم بارقة أمل أما الخديو اسماعيل في هذه السينما فقد
نالته شرور السينمائيين حيث حوله حلمي رفلة في فيلم "ألمظ وعبده الحامولي"
عام 1962، إلي «زير نساء»، يخطف النساء، ويشتهي لحومهن، مما استدعي قيام
الثورة ضده، أي ما يسمي بتلبيس الاحداث، والحقيقة أن عبده الحامولي، في
الواقع، كان أكثر ظلما حين تزوج من ألمظ فأبعدها عن الفن حتي لا تناقشه
وحولها إلي سيدة بيت وحرم الناس من صوتها النادر. أي أن السينما تعاملت
بقسوة شديدة مع رجال حاولوا أن يجعلوا البلاد هم الرونق نفسه لباريس
فأنشأوا قناة السويس، عماد الاقتصاد المصري طوال قرنين، وأقاموا الأوبرا..
والبنايات الثقافية، والصحافة الحرة، وما اليه، وان كانت مصر المديونة عن
ثقافة وتقدم أفضل منها وهي مديونة، مهزومة مرات عديدة. والغريب أن الملك
فؤاد لم يحظ بأي تواجد في السينما، كما أن الغريب ايضا وجود صورة الأمير
فاروق علي جدران البيت في فيلم "دموع الحب" عام 1935، ولم يكن للملك فؤاد
أي تواجد. يعكس هذا مكانة الملك فاروق في قلب الناس، والسينمائيين، الذين
انقلبوا عليه بعد ذلك، لأسباب تتعلق بمصالحهم، فرغم هذا التواجد والمديح
الكبير للملك، فإن آخر صورة رأيناها للحاكم المصري في فيلم، كانت من خلال
ظهره، وهو يؤدي التحية العسكرية، قبل مغادرة وطنه في السادس والعشرين من
يوليو، وذلك في فيلم "الله معنا" لبدرخان عام 1955 . رجال الملك وقد دأبت
أفلام الثورة، علي التأكيد أن العصر السابق، كان كله فساد في كل شيء، في
الحياة الاجتماعية والنيابية، والسياسية، وأن الملك فاروق كان مشغولاً عن
الحكم بالنساء خاصة الفنانات، وعلي رأس القائمة سامية جمال، وكاميليا،
وتحية كاريوكا وأخريات، وهناك أفلام وطنية عديدة عن هذه المرحلة، كانت تري
أن الفساد قد طال رجال الملك، دون الاشارة إلي الحاكم بشكل مباشر، وإن كان
الأمر يؤكد أنه يعرف، وأنه وراء ما يحدث، وذلك مثلما رأينا في "رد قلبي"،
و"بقايا عذراء" و"في بيتنا رجل"، و"غروب وشروق"، وأيضاً تم ذلك في فيلم
روسي يحمل اسم "عبدالله الكبير". والغريب أن هذه الصورة عن الملك فاروق، قد
ظلت حتي نهاية التسعينيات من القرن العشرين، وفي بعض الأفلام تم تغيير
أحداث لم تكن موجودة في الواقع، مثل إيهام المتفرج أن الملك تزوج من حبيبة
الفنان فريد الأطرش في فيلم "قصة حبي" لبركات 1955، فكسر قلبه، وشرخ
وجدانه. الفيلم الذي ظهرت فيه شخصية الملك فاروق بأكبر قدر من الظهور، هو
من انتاج 1995، أي بعد قيام الثورة بثلاثة وأربعين عاما، والفيلم مأخوذ عن
كتاب بعنوان "امرأة هزت عرش مصر" لرشاد كامل، نشره أولا في مجلة "صباح
الخير" ثم في كتاب، والفيلم ليس عن الملك فاروق بقدر ما هو عن امرأة لعبت
دوراً في السياسة المصرية قبيل الثورة، هي ناهد رشاد "أسماها الفيلم نهي
رشدي" التي كانت كبيرة الوصيفات في القصر الملكي، وهي امرأة، كما جاء في
حلقات مسلسلة عن مأساة الملكة نازلي نشرت في مجلة الموعد لأكثر من ستين
حلقة، أنها: "كانت مقربة جداً من الملك فاروق، بحيث إنها عندما أجرت عملية
جراحية في المستشفي نفسها، الذي أجرت فيها نازلي عملية الكلي في أمريكا،
كان الملك فاروق يتحدث معها يوميا، وذلك ليطمئن بنفسه علي صحتها، ويومها لم
يكن يتحدث مع والدته أو يسأل عن صحتها، رغم أنه كان يعرف أنها تقيم في نفس
المستشفي بل إن جناحها كان ملاحقاً لجناح ناهد رشاد. هيبة الدولة تدور
أحداث الفيلم في فترة كانت الأحداث مأساوية بالنسبة للملك، دون أي تفسير
لما فعلته نازلي.. تدور الأحداث بين عامي 1942، وحتي ثورة يوليو، ففي القصر
الملكي، يجلس فاروق فوق كرسي العرش، وقد أحاطت به الحاشية، ويبدو الحزن علي
وجهه، والحشرجة في صوته، ونعرف أن قوات الاحتلال أرسلت له انذاراً شديدا،
ويعلن أنه من أجل الحفاظ علي هيبة الدولة فسوف يمتثل لمطالب الإنجليز، ومن
هذه المطالب أن يكلف مصطفي النحاس بتشكيل وزارة جديدة. أي أن فاروق هنا رجل
له نزعة وطنية، عكس ما حاولت الثورة أن تصوره لنا، ففي عام 1942، تعرف
فاروق "22 عاماً" علي الطبيب يوسف رشاد، الذي يأتي لعلاج الملك بعد اصابته
في حادث تصادم، وهو في طريقه إلي القصاصين، هذه الصداقة سوف تقوي - حسب
منظور الفيلم - ليس فقط بسبب مهارة الطبيب، بل لأن يوسف متزوج من حسناء
مولهة به، هي هند، التي تأتي لمقابلة زوجها في المستشفي العسكري البريطاني،
وهناك تقع عينا الملك عليها، فيعجب بها، بنفس الطريقة التي حدثت مع ناريمان
في فيلم "قصة حبي" مع اختلاف مصير العلاقتين. لذا، فإن الملك يطلب من
الطبيب أن يبقي بجواره ويعينه طبيباً خاصاً له، وبالتالي فسوف يأتي مع
زوجته للاقامة بالقصر الذي عندما تدخله المرأة، فإنها تحس أن أبوابه مفتوحة
من أجلها. أي أن السينما لم تتوقف قط عن النظر إلي الملك علي أنه «زير
نساء»، وفي هذا الفيلم فإنه يستبيح لنفسه نساء الآخرين، كما أن الفيلم يصور
الملك فاروق كشخص يثير الرثاء، فهو يحكم بلداً يحتله الانجليز، وهو لا يجد
في منصبه سلطانا وقوة، مثل أي حاكم، لذا فإنه يتمني لو انتصر الألمان في
الحرب العالمية الثانية، كما أنه قليل الخبرة السياسية بالإضافة إلي حداثة
سنه، فهو ليس أكثر من طفل كبير يحب اقتناء الألعاب. ويصور الفيلم دور زوج
نهي في تكوين الحرس الحديدي الذي يضم عناصر قوية من بعض ضباط الجيش الذين
مهمتهم حماية الملك، وحسب الفيلم، فإن من بين هؤلاء الحرس يوجد أنور
السادات، والضابط مصطفي كمال الذي سيصير عشيقاً للمرأة، الذي سيتردد أنه
القائد الحقيقي للثورة، وأنه العضو المفكر بين الضباط الأحرار، وأن الباقين
كانوا مجرد أدوات. ولسنا بصدد المقارنة بين التاريخ الحقيقي، والتاريخ
حسبما رأته السينما في هذا الفيلم، لكن صورة حاكم مصر قبل يوليو أنه كان
رجلاً ضعيفاً من ناحية يمكنه أن يضاجع زوجة طبيبه، وأن يحل جسدها لنفسها،
بل إنه يصحب هذه العشيقة معه إلي أوروبا، كي تعيش معه ليال حمراء فوق اليخت
الملكي، وتجد المرأة في زوجها رجلاً أصغر حجماً من عشيقها، ويتم الطلاق
فيما بين الزوجين، فيحلو الطريق أمامها كي تسعي إلي تدميره خاصة بعد أن
يطردها الملك من القصر، ويعلن زواجه من ناريمان، فتنضم إلي الضباط الأحرار،
وتصدم في أن مصطفي كمال منشق عن زملائه. ظلت هذه هي صورة الملك فاروق في
السينما المصرية بعد يوليو، وحتي الآن، وقد لعب الرقيب السينمائي طوال ستين
عاما دوره في أن تبقي هذه الصورة النمطية للملك فاروق وأجداده، إلي أن
انتبه الناس إلي الجانب الإنساني البائس، والمشرق لهذا الملك في مسلسل
تليفزيوني كتبته لميس جابر، وتعاطف الناس مع الملك وهم يرون ما يدور في
أروقة القصر، خاصة مسلسل آخر هو "ملكة في المنفي" كتبته راوية راشد، ومن
الواضح أن الصورة بدأت تتغير بشكل واضح في الفترة الأخيرة، بعد أن راح
الناس يقارنون بين ثورة يناير، وما عرفوا أنه انقلاب يوليو العسكري.
جريدة القاهرة في
22/05/2012 |