يعدّ
فيلم "شرقية" أوَّل فيلم إسرائيلي يتناول بانتقاد الوضع المزري الذي يعاني
منه البدو في البلاد. إيغال أفيدان تحدَّث إلى مخرج الفيلم عامي ليفني وإلى
كاتب السيناريو جاي عفران وبطل الفيلم عدنان أبو وادي.
§
كيف نشأت فكرة إنجاز هذا الفيلم؟
جاي عفران: لقد نشأت في قرية يهودية نائية تقع في الصحراء وكنت أذهب
إلى المدرسة مع أطفال العائلة البدوية المجاورة. وكان هذا طبيعيًا بالنسبة
لي في طفولتي. ولكن عندما أصبحت جنديًا لاحظت أنَّ المرء يصف زملائي البدو
على أنَّهم "لصوص" وكان البدو أيضًا يسطون مرارًا وتكرارًا على قريتنا. لقد
عمل والد زملائي البدو من أجل إسرائيل في العام 1948 وحصل في المقابل على
قطعة أرض، ولكن لم يتم توثيق ذلك بوثائق ورقية، بل شفويًا ومن خلال
المصافحة. والآن تحاول الحكومة منذ أن توفى هدم مخيَّم هذه العائلة. ولكن
هناك إسرائيليون يهود من المنطقة يدافعون عن هذه العائلة. والدولة تريد
تعويضهم عن توطينهم في مكان آخر، ولكنهم يريدون البقاء هنا. لقد كتبت
سيناريو الفيلم عندما كنت طالبًا. وقرأ عامي ليفني الذي كان يدرس معي
الموجز الخاص بالفيلم وأراد على الفور تولي إخراجه.
§
هل يستند الفيلم إلى أحداث
واقعية؟
فقدان الثقة في الدولة - الممثِّل عدنان أبو وادي في دور كامل في
أثناء عمله كرجل حراسة في محطة الحافلات الرئيسية في مدينة بئر
السبععفران: بعد بضعة أشهر من بدئنا العمل في الفيلم في العام 2005، قام
رجل أمن بدوي يعمل في محطة الحافلات المركزية برمي نفسه على إرهابي فجَّر
نفسه في المحطة. وأصيب البدوي جراء ذلك بجروح خطيرة؛ غير أنَّ الدولة لم
تعترف به باعتباره ضحية من ضحايا الإرهاب. وفي البداية أردنا تصوير قصته في
فيلم، ولكن بعد ذلك قمنا بخلق شخصية خيالية.
§
كيف حصلت على دورك الأوَّل
كممثِّل؟
عدنان أبو وادي: اتَّصل بي صديق وتحدَّث عن مخرج يائس يبحث منذ ثلاثة
أعوام عن ممثِّل وسيغادر الآن مدينة رهط البدوية باتِّجاه تل أبيب. وأنا
أعيش في قرية غير معترف بها وغير بعيدة عن هناك. ولكن ذلك لم يثير إهتمامي؛
فأنا لست ممثِّلاً، بل أعمل حارسًا. وكنت في السابق موظَّف حراسة في مصلحة
السكك الحديدية. ولكنه أصر وهكذا وافقت على لقاء عفوي. ولكي لا يعرف أي أحد
في القرية عن ذلك أجرينا في السر اختبار اللفظ تحت جسر على الطريق السريع -
مثلم من يقوم بصفقة بيع مخدِّرات.
§
ماذا تعني كلمة "شرقية"؟
مواطنون من الدرجة الثانية - يعيش حاليًا ما لا يقل عن مائة وعشرة
آلاف بدوي في إسرائيل، معظمهم في صحراء النقب داخل تجمّعات سكنية ما يزال
يعتبر الكثير منها غير قانوني ويهدَّد بالهدم.عامي ليفني: يطلق البدو هذا
الاسم على الرياح الشرقية التي يعتبرونها رياحًا شريرية وخطيرة...
أبو وادي: ... لأنَّها تحمل الغبار والحرارة وتصيب الجسم بالجفاف. هذه
الريح تهب في المشهد الأخير. كما أنَّ ما يعيشه البدو في الوقت الحالي في
جنوب إسرائيل هو "رياح شرقية"، أي هدم الكثير من منازلهم، حيث يوجد نحو
سبعين ألف بدوي يعيشون في "تجمّعات سكنية غير قانونية". إذ تعتبر قريتنا
غير قانونية على الرغم من أنَّ عائلتنا تعيش هنا في المكان نفسه منذ ثلاثة
أجيال وعلى الرغم من أنَّ عدد سكَّان القرية يبلغ ثلاثمائة وخمسين نسمة. تم
رفض كلِّ طلباتنا للحصول على رخص بناء. ولكن أنا لا أريد العيش في مكان يجب
فيه على البدو السكن في أماكن مزدحمة ستؤدِّي حتمًا إلى خلق الكثير من
المشاكل.
§
هل تنتظر أنت أيضًا الحصول على
رخصة بناء؟
أبو وادي: منذ ستة أعوام. كما أنَّني ما أزال أسكن مع والدي ووالدتي،
وأنا الآن في سنِّ الثلاثين. ولا يمكنني الزواج من دون بيت. وإن لم يكن لدي
منزل أين ستسكن زوجني؟ ومنزلنا ضيِّق ومزدحم. لقد بنينا هذا البيت الحجري
قبل تسعة أعوام، وكان ذلك ما يزال ممكنًا. وفقط في الأعوام الأخيرة صار يتم
وباستمرار هدم البيوت المبنية بدون تصاريح بناء، وحتى أنَّهم هدموا خيمة
ابن عمي.
§
هل قمت بأداء الخدمة العسكرية؟
أبو وادي: لا. في هذا الوقت لم يعد هناك أي شخص تقريبًا يذهب إلى
الجيش. وقبل فترة قصيرة جاء جندي بدوي يخدم في حرس الحدود في إجازة إلى
أهله وشاهد جرَّافة تهدم منزله. ومع أنَّه كان يرتدي الزي الرسمي، لكن لا
أحد اهتم بذلك. فلماذا يجب على الشباب الذهاب إلى خدمة الجيش؟ نحن نعيش
سوية في دولة واحدة، وأنا لدي العديد من الأصدقاء اليهود ولكني ضدَّ سياسات
الحكومة.
§
يقول المخرج عامي ليفني: "أنا
أقدِّر كثيرًا أسلوب حياة البدو وعلاقتهم مع الطبيعة. وأنتقد في الوقت نفسه
انغلاق هذا المجتمع الذي لا يسمح بممارسة النقد الذاتي".قرَّرت الحكومة في
شهر أيلول/سبتمبر الماضي توطين ثلاثين ألف بدوي في مناطق أخرى. ولكن لن يتم
دفع تعويضات إلاَّ لمن يستطيع إثبات ملكيته. ولذلك يتحدَّث ممثِّلون عن
البدو عن "إعلان حرب". فما رأيك في ذلك؟
أبو وادي: يحتج الناس لدينا على هذا القرار كما أنَّهم يقومون بإغلاق
الطرق الرئيسية، ولكني لا أرى أنَّهم سيقومون بإنتفاضة.
عفران: سافرت مع والدتي قبل أن أكتب السيناريو مرورًا بالكثير من
التجمعات السكنية البدوية. وقالت والدتي إنَّ انتفاضة جديدة ستندلع هنا،
وذلك بسبب تعرّض الناس لضغوطات كثيرة جدًا. وفي الواقع عندما لا تقدِّم
الحكومة لهؤلاء الناس الكهرباء والماء أو فرص العمل ويفقدون أراضيهم من
خلال إعادة توطينهم ويفقدون بالتالي مصادر دخلهم، فإنَّ هذا سيخلق قنبلة
اجتماعية.
ليفني: من الممكن حدوث اشتباكات عنيفة، ولكن من غير المحتمل قيام
انتفاضة، وذلك لأنَّ البدو منقسمون. إذ إنَّ كلَّ قبيلة وكلَّ قرية تقاتل
من أجل مصالحها الخاصة. أطلق في العام 2007 مزارع إسرائيلي النار على أشخاص
من البدو اقتحموا مزرعته في صحراء النقب، وقتل شخصًا وأصاب آخر. وفي عام
2008 أقرّ البرلمان بمبادرة من سياسيي اليمين المتطرِّف قانونًا يعتبر مثل
هذه الأعمال دفاعًا عن النفس. ولذلك برَّأت المحكمة عام 2009 المزارع
الإسرائيلي لأنَّ تصرفه هذا كان دفاعًا عن النفس. ولكنها حكمت من ناحية
أخرى على البدوي الجريح بالسجن عشرين شهرًا.
عفران: هذا القانون مرعب ويعدّ معاداة للعرب. فلو أطلق المزارع النار
على لص يهودي وقتله لكان سينتهي به المطاف إلى السجن.
أبو وادي: كيف يطلق المرء النار على رجل ويقتله لمجرَّد أنَّه سرق
بقرة أو غنمة لأطفاله الجياع؟ من أين سعيش وهو من دون عمل؟ هذا الحادث
صدمني، لأنَّنا من مواطني هذه الدولة، ولكن مع ذلك تعيش قريتي من دون
كهرباء، وكذلك تعيش العديد من القرى من دون ماء. والبدو يفقدون بصورة
تدريجية ثقتهم في الدولة.
ليفني: هذا القانون هو عبارة عن رخصة للقتل، ولم يكن سيتم إصداره لو
كان اللص شخصًا يهوديًا. وأنا أقدِّر كثيرًا أسلوب حياة البدو وعلاقتهم مع
الطبيعة. وأنتقد في الوقت نفسه انغلاق هذا المجتمع الذي لا يسمح بممارسة
النقد الذاتي. ولذلك كان أيضًا تصوير هذا الفيلم صعبًا للغاية، إذ كنا نخشى
دائمًا من أنَّ البدو يمكن أن يعرقلوا مشروعنا. لقد استغرق الأمر وقتًا
طويلاً حتى وجدنا بعض البدو الذين سمحوا لنا التصوير في أراضيهم. كما أنَّ
كثيرًا من البدو الذين كنا نصل إليهم من خلال اتصالاتنا كانوا يستقبلوننا
بحرارة، ولكنهم كانوا يطردوننا بعد بضعة أيَّام.
أبو وادي: كان من الممكن أن يكون التصوير في قريتي وأمام جميع معارفي
أمرًا مرهقًا جدًا بالنسبة لي. زد على ذلك أنَّ سلطة الأراضي هي من يقوم
بالتصوير لدينا - وهذا في العادة قبل أسبوع من هدم المنازل. ولذلك يرتاب
الناس لدينا من التصوير.
§
أين تمكَّنتم في آخر المطاف من
تصوير الفيلم؟
ليفني: قدَّمت لنا عائلة بدوية مخيَّمًا يقع على أرضها. وعلى الرغم من
أن شركة الإنتاج قد تقدَّمت بطلب للسلطات من أجل الحصول على رخصة بناء، لكن
طلبها قوبل بالرفض. وهكذا بنينا مخيَّمنا قبل يومين من بدء التصوير وذلك
بسبب خوفنا من إقدام السلطات على هدمه. وكان علينا أن ننهي أعمال التصوير
خلال خمسة أيَّام، لأنَّنا كنا نخشى من الهدم. وأخيرًا قمنا نحن بهدمه بعد
ثلاثة أيَّام من العمل.
§
هل يستطيع الفيلم الحيلولة دون
تنفيذ قرار توطين البدو في مناطق أخرى؟
أبو وادي: لا أعتقد، ولكنه يستطيع عرض واقعنا كما أنَّه سينال إعجاب
المشاهدين.
ليفني: آمل أن يتمكَّن هذا الفيلم الذي أعتبره فيلمًا وطنيًا من إحداث
تغيير ما ووضع حدّ لهذا الظلم من خلال نقدنا. عفران: يعتبر هذا الفيلم على
أية حال أوَّل فيلم إسرائيلي يعرض فيه البدو على أنَّهم أبطال؛ وهذا وحده
يعدّ نجاحًا كبيرًا. وكذلك يعدّ بطلا الفيلم الخياليان كامل وعدنان مواطنين
إسرائيليين وطنيين وهذا في إسرائيل ليس أمرًا بديهيًا.
______________
فيلم "شرقية"، إسرائيل، فرنسا، ألمانيا 2012، خمسة وثمانون دقيقة،
باللغتين العربية والعبرية وبترجمة ألمانية.
حقوق النشر: قنطرة 2012
قنطرة في
23/05/2012
مقاربة موضوع شخصي بطريقة غير شخصية
«أبي
ما زال شيوعياً».. غياب الأب والمصالحة مع الذات
نديم جرجورة
يبدأ، بعد ظهر اليوم، العرض التجاري لـ«أبي ما زال شيوعياً، أسرار
حميمة للجميع» لأحمد غصين، في صالة «سينما متروبوليس» في «مركز صوفيل»
(الأشرفية)، في إطار برنامج «جمعية متروبوليس» الخاصّ بـ«دفاتر يومية: شهر
السينما اللبنانية». فيلم وثائقي ذاتي جداً. نابعٌ من قلق المخرج إزاء
الراهن، ما دفعه إلى استعادة الماضي بحثاً عن أجوبة معلّقة على أسئلة
ملتبسة. عثر على أرشيف عائلي حميم للغاية، تمثّل بأشرطة كاسيت سُجِّلت
عليها حوارات من طرف واحد هو الأم، على مدى أعوام طويلة أمضاها الأب
الشيوعي اليساري عاملاً في المملكة العربية السعودية. أرشيف كهذا حرّض غصين
على مواجهة الماضي عبر الـ«مونولوغ» الطويل والقديم للأم، بحثاً في الذاكرة
عن تمزّقاتها، وبحثاً عن الأب في هذه الذاكرة أيضاً. غير أن الانخراط
المطلق في عمق الصدام الخفيّ بين المخرج وذاته أولاً، وبينه وبين الأم
والأب (معاً، أو كل واحد على حدة) ثانياً، وبينه وبين العلاقة القائمة بين
والديه ثالثاً، جعل «أبي ما زال شيوعياً...» أحد أجمل الأفلام الذاتية،
الذاهبة بحبكتها إلى التخوم القصوى لأسئلة متعلّقة بالمخزون الإنساني
الغنيّ بالتباسات وغموض وشعور بالوحدة بسبب غياب الأب زمن الحرب الأهلية
اللبنانية. هذا الانخراط بدا شهادة ذاتية حادّة، جعلها غصين مدخلاً إلى
تطهّر ذاتيّ ما من قسوة الماضي، كما إلى ما يُشبه المصالحة مع الذات إزاء
الماضي وأسئلته المعلّقة.
«المصالحة مع الذات. تصفية الحسابات. البحث عن معنى غياب الأب. هذا
كلّه يُمكن أن يصحّ كأسباب دافعة إلى إنجاز الفيلم»، كما قال أحمد غصين:
«أُضيف إليها ما يُشبه الرغبة في حلّ معضلة خاصّة بالذاكرة. بالنسبة إليّ،
لم يكن أبي موجوداً دائماً. غير أن فكرة إنجاز الفيلم نشأت عند عثوري على
الأرشيف المتمثّل بأشرطة الكاسيت، المتبادلة بين والديّ أثناء غربة أبي في
السعودية. أعتقد أني لم أكن لأنفّذ مشروعاً كهذا لو لم أعثر على هذا
الأرشيف. ليس سهلاً تحقيق فيلم عن الأب أو عن الأم. المادة الموجودة
حرّضتني على هذا. أردتُ مقاربة موضوع شخصي كهذا بالتعاطي معه على أنه موضوع
غير شخصي أيضاً. لهذا، تناولت العلاقة بين الوالدين وتغيراتها، بالتوازي مع
العلاقات السياسية والاجتماعية والحياتية الحاصلة في فترة الثمانينيات (زمن
تبادل الأشرطة) تحديداً، وتبدّلاتها أيضاً»، أي خلال الفترة الممتدة بين
عشرة أعوام وخمسة عشر عاماً: «هذه فترة كافية لحدوث تبدّلات على المستويات
كافة. هذا أعانني على موازنة الذاتيّ بالعام. كانت هناك حرب واجتياح وأحوال
اقتصادية وحياتية تبدّلت هي أيضاً في هذه الفترة».
شكّلت التسجيلات الصوتية نواة جوهرية لـ«أبي ما زال شيوعياً...»، بهدف
استعادة الماضي للتطهّر الذاتي من أسئلته المعلّقة حول الأب وغيابه، والأم
وحضورها، والبلد وحروبه وتبدّلاته. لكن هناك صُوَرا فوتوغرافية أيضاً أكملت
النواة، أو بدت امتداداً طبيعياً لها. التسجيلات الصوتية أداة حوار بين أم
حاضرة وأب غائب، والصُوَر الفوتوغرافية أداة استعادة لأب حاضر فيها بعد
تأخّر: «هذا نقاش طويل: إعادة تشكيل الذاكرة، أو إعادة ترميمها. هناك مسألة
أخرى: أعتبر أني قادرٌ على أن ألعب بالذاكرة. لديّ، كأفراد جيلي، قدرة أكبر
من الجيل السابق لنا على اللعب، أو على مقاربة الذاكرة والأشياء والتفاصيل
من زوايا عدّة، على خلاف الجيل السابق لنا. نحن عشنا الحرب. هذا صحيح. لكن
وطأتها علينا مختلفة تماماً عن وطأتها على الجيل السابق لنا. هذا ما سمح لي
باللعب».
السفير اللبنانية في
24/05/2012
عن تجربة المخرج اليوناني سبيرو ستاثولوبولس
الدير والقنبلة وفيلم اللـقطة الواحدة
زياد عبدالله
تبدأ الحكاية من دير يقع على جبلين صخريين شاهقي الارتفاع، قمة الجبل
الأول يحتلها القسم المخصص للرهبان، والثانية للراهبات، وكلاهما منحوتان في
صخر الجبلين، ولا يصل بينهما أي جسر أو معبر، سوى ما يمكن أن يخرج علينا من
خيال الراهب المتيم وهو يخاطب الراهبة في قمة الجبل الآخر بواسطة مرآة
تنعكس عليها أشعة الشمس، حينها فقط سيحول شعرها الذي يتوق لأن يراه إلى حبل
يمتد بين الجبلين، ولنرى ذلك مجسداً بواسطة«الأنيماشن».
يلخص ما تقدم فيلم المخرج اليوناني سبيرو ستاثولوبولس Meteora «ميتورا»
،2012 ويمكن اعتباره أيضاً معبراً للدخول إلى عالم هذا المخرج وهو في
خطواته الأولى، وليس «ميتورا» إلا فيلمه الثاني الذي وقعت عليه في الدور 62
من مهرجان برلين السينمائي، وقد سبقه بفيلم واحد عنوانه «بي في سي ــ1»
،2007 وليكون هذا الفيلم لقية لا يقل وقعها وأثرها على مشاهدتي «ميتورا»،
ولتكون الكتابة عن هذين الفيلمين بمثابة تتبع لما يختبره هذا المخرج في
فيلميه وما يمكن أن يقدمه مستقبلاً، على شيء من الرهان عليه طالما أن يبحث
عن مضامين أفلامه ضمن الأشكال التي يقترحها. في تتبع «ستاثولوبولس» ما يغري
بالكتابة من دون علامات ترقيم، لكن ها هي فاصلة، وعلي أن أتبعها بأخرى،
لئلا أصير ليوبولد بلوم في رواية جيمس جويس «عوليس» ومنولوج بلوم يحتل آخر
60 صفحة من الرواية دون علامة ترقيم واحدة، وعلى شيء على ارتباط بـ «بي.
في. سي - 1» المصور بلقطة واحدة متواصلة دون قطع ولمدة 81 دقيقة، ولمحاكاة
ذلك أدبياً أو على الورق أسعى للتحول إلى بلوم وهو يبدأ مونولوجه بـ «نعم
لأنه لم يفعل شيئاً مثل هذا من قبل كأن يطلب أن يقدم إليه الفطور في السرير
مع بيضتين».
بما أنني كائن ورقي سأقول عن فيلم «بي. في. سي - 1»، إنه فيلم بلا
علامات ترقيم، كما لو أن المونتاج يضع تلك العلامات للفيلم حين تقطع لقطة
ونمضي إلى أخرى، وأن علامات الترقيم تشبه التصورات الزمنية التي على
المونتير أن يمضي خلفها ليكون للفيلم قلب نابض، فإن «كان الإخراج نظرة،
فالمونتاج نبضة قلب» على رأي غودار.
لقطة واحدة
لا يحتاج فيلم «بي. في. سي - 1» إلى مونتاج، إنه لقطة واحدة، وبالتالي
هنا سيكون أهم ما يعنيه ذلك ألا وهو تطابق زمن الفيلم مع الزمن الواقعي،
فما نشاهده يستغرق من الزمن ما يستغرقه في الواقع تماماً، إذا لا حاجة لأن
يتم صنع واقع جديد بإضافة لقطة إلى لقطة، كما أن الفيلم يروي قصة درامية
تمتلك بداية ووسط ونهاية، وهي تصاعدية بامتياز، ولا تمنحنا الوقت لالتقاط
أنفاسنا طالما أن الشكل الذي تروى فيه قصة الفيلم متصل بهزيمة أعتى عدو
للسرد السينمائي ألا وهو الزمن، والقول إن الفيلم الذي تجري أحداثه في
كولومبيا مأخوذ عن قصة حقيقية، لن يغير شيئاً من أن المشاهد يعيش القصة
بأفضل ما يمكن للوسيط السينمائي أن يقدمه عليها، وتحقيق أثر يشابه قطار
الأخوين لوميير والناس تتدافع من أمام الشاشة التي يمضي فيها قطار قادم
نحوهم، وكل ذلك في لقطة واحدة لا تتخطى الدقيقة، لكنه زمن واقعي أيضاً.
هيتشكوك كان أول من صوّر فيلماً بلقطة واحدة، وكان له أن يقدم عام
1948 Rope «حبل»،
وقد كان أول أفلامه الملونة، لكن اللقطة الواحدة كانت تتوقف مع تبديل شريط
الكاميرا الذي لا يصور أكثر من 10 دقائق في حينها، ما استدعى من هيتشكوك
حيلة تمثلت بمرور إحدى الشخصيات أمام الكاميرا بحيث تتحول الشاشة إلى
السواد والقيام بتبديل الشريط في هذه الأثناء، وبالتالي فهو فيلم بلقطة
واحدة مأخوذة 10 مرات هي مرات تغيير الشريط. هذا يقودنا بالتأكيد إلى فيلم
الروسي ألكسندر سوخوروف Russian Aًْ «فلك
روسي» 2002 المصور بلقطة واحدة تمتد لـ 90 دقيقة، وهو مصور في متحف
«الهرميتاج» أو «قصر الشتاء» في سان بطرسبورغ، ومن خلال تنقل ارستقراطي
فرنسي من القرن 19 في ذلك المتحف واستعادته لحقبات روسية تاريخية وشخصيات
مفصلية فيها، ولعل التحدي الأكبر كان في السيطرة على المجاميع البشرية التي
تتحرك أمام الكاميرا، خصوصاً في الحفلة التي تقام في الجزء الأخير من
الفيلم، ولينجح سوخوروف في تحقيق ذلك في المحاولة الثالثة، كما لأقول عند
مشاهدتي الفيلم، ها قد أنجز العمل، وأصبح فيلم اللقطة الواحدة منجزاً، ولعل
ذلك ليس بالأمر القليل أبداً، لكن كان الأمر بحاجة لتتبع ما يرويه الفيلم
الذي سيبدو منهكاً لمن ليس على اتصال بالتاريخ الروسي، الذي تجري استعادته
كما لو أننا حيال فعل للتداعي التاريخي وعلى شيء من الشذرات التي يمليها
موقع التصوير، متبنياً في الوقت نفسه ما يقول انطونيوني «الخيال البصري
يتحرك في فراغ ما لم يكن مرتبطاً بقصة».
خارجي
مع هيتشكوك ومن ثم سوخوروف ما الذي قدمه ستاثولوبولس في «بي. في. سي -
1»؟ والإجابة تكمن في أن الفيلم مصور خارجياً في 90٪ منه، وهو يروي قصة
درامية لها أن تتضح من العنوان الذي يعود إلى نوع من الأنابيب التي تستعمل
في تمديدات الكهرباء. فالفيلم يبدأ من سيارة تقل خمسة أشخاص، والكاميرا
تركز على حقيبة في حضن أحدهم، ومن ثم سرعان ما سنقع عليهم وهم يقتحمون
مزرعة، ويقومون بتقيد أفراد الأسرة التي تملكها، ومن ثم وضع قنبلة في رقبة
الأم، التي تشكل طوقاً حول رقبتها من الأنابيب سابقة الذكر، ومن ثم يغادرون
ويتركون شريط كاسيت يقول لهم ألا يتصلوا بالشرطة لأنهم سيفجرونها بواسطة
جهاز تحكم من بعد ما لم يحضروا لهم المبلغ المطلوب. هكذا يبدأ الفيلم،
والتوتر على أشده، وإن كان «الطول الدقيق للمشهد هو الذي يخلق قيمته
العاطفية»، فإننا نتكلم هنا عن فيلم لا يمكن الحديث فيه عن مشاهد، بل عن
لقطة واحدة ستخلق قيمة عاطفية تأخذ كامل مدة الفيلم، ونحن نتابع المرأة
وزوجها وابنتها يتوجهون إلى بلدة قريبة، بعد أن قام الابن بالاتصال
بالشرطة، وبقيت البنت الصغرى والولد في البيت، وعليه فإننا سنمضي معهم وهم
يتوجهون إلى تلك البلدة. في البداية سيستعينون بجارهم الذي يملك سيارة،
لكنه يطردهم منها حين يعرف أن ما تحمله المرأة ليس إلا قنبلة، ومن ثم
سيمضون إلى سكة القطار وهناك سيقوم ولدان بنقلهم بواسطة عربات يدفعونها على
السكة، إلى أن يصلوا إلى البلدة حيث يكون خبير المتفجرات بانتظارهم، و يا
له من خبير مسكين!
سيكون هذا الخبير برفقة زوجته وابنته، وحين يعاين القنبلة سيعود إلى
سيارته ويخرج منها أشد المواد بدائية: شمعة، وعلبة كبريت، وكماشة صغيرة،
وسلك، وسكين صغيرة يستخرجها من علبة تحتوي على فاكهة، إضافة إلى سطول لتجلس
عليها المرأة ويجلس هو مقابلها، وهكذا سيمضي في تفكيك القنبلة شديدة
التعقيد. أترك الأحداث والنهايات، والحوار المتقشف، وما يطرأ على تلك
المرأة أثناء خضوعها لتفكيك القنبلة وهي تضع شمعة في حضنها لا يفلح في
اشعالها خبير المتفجرات في البداية بواسطة أعواد الكبريت، وليعود إلى فعل
ذلك بواسطة ولاعة الزوج، لكنها وفي كل مرة يستخدمها لتحمية السكين تنطفئ
الشمعة ويعود إلى إشعالها وهكذا.
كابوس
في النهاية يمكن القول إن الفيلم يضعنا حيال كابوس حقيقي، والكاميرا
لا تتوقف عن الاقتراب والابتعاد عن الشخصيات طوال الفيلم بواسطة Stabilized Tracking Camera «كاميرا
محمولة ثابتة»، حيث سيكون التصوير دائماً بكاميرا محمولة «من البديهي»، لكن
من دون اهتزازات الكاميرا المحمولة باليد مباشرة، إذ إنها مثبتة على جسم
ستاثولوبولس الذي صوّر الفيلم بنفسه.
لا يمكن الحديث عن كاميرا محمولة بالانتقال إلى «ميتورا»، بل يمكن
الحديث عن كاميرا ثابتة على قوائمها الثلاث
Tripod، ذلك أن ستاثولوبولس سيعود من خلال الفيلم إلى
موطنه الأصلي، سيأخذ من الدير الذي بدأنا بوصفه موقع تصوير استثنائيا، كما
أن الصراع في هذا الفيلم سيكون مغايراً تماماً لـ «بي، في، سي -1» حيث
سيكون داخلياً نفسياً، أو حسب تعبير ستاثولوبولس نفسه «ما يلتقي عليه
الفيلمان هو الوقوع في فخ يكون بمثابة وسيلة درامية، في (بي. في. سي ـ 1)
تقع الشخصيات في فخ القنبلة، بينما تقع شخصيتا (ميتورا) في فخ حياتهما في
الدير وحياتهما كبشر»، كما أن تقابل الجبلين سيكون على شيء من القطبية، قطب
الذكورة وقطب الأنوثة الذي مهما ابتعدا فإنهما يلتقيان. الفيلم في مضمونه
يحمل صراعاً أزلياً متواصلاً، هو صراع الروح والجسد، وليكون الراهب
والراهبة يحملان هذا الصراع في أعتى تجلياته، بين أن ينتصرا إلى حياة الزهد
والتخلي عن الشهوات أو يقع في أتون الحب المحرم، ولينتصر الخيار الثاني إذ
«لا نجاة من الغواية إلا بالاستسلام لها» كما يقول أوسكار وايلد في «دوريان
غراي»، وليكون بطلا الفيلم على اتصال بشكل أو آخر مع شخصيات حملتها روايات
اليوناني نيكوس كازانتكس، وليمضي الفيلم في سرد تلك الصراعات والتحولات في
لغة بصرية تستثمر أولاً في غرائبية وخصوصية موقع التصوير الذي سيكون بطل
الفيلم الأول قبل الراهب والراهبة، ومجاورة ذلك مع «الأنيماشن» وتحويل
الأيقونة إلى مفردة سينمائية، لها أن تستثمر بصرياً على هذا النحو للمرة
الأولى، ولتكون معبراً نحو ما يتجول في أعماق الراهب والراهبة، حيث شعر
الراهبة يتحول إلى حبل طويل يربط بين مكان إقامة كل منهما، أو في تقديم
هجائية للكنيسة كما هو الحال مع «الانيماشن» الذي يضعنا أمام مذابح سرعان
ما تتحول إلى بحر من الدماء، مضافاً إلى ذلك مشهد ذبح العجل وعنفه المفرط
ووقوعنا على تفاصيل ذبحه ومن ثم نفخه وتقصيبه، لا لشيء إلا ليدعو الراهب
الراهبة إلى غداء في البرية، يكون فاتحة اتصالهما الجسدي، كما ليقول الفيلم
أيهما أجمل مشهد ذبح العجل أم الحب؟ الأول مباح أما الثاني فمحرم!
«ميتورا» مقاربة تاريخية
يعود التاريخ مع هذا الدير إلى القرن التاسع الميلادي، حيث أقدمت
مجموعة من الرهبان على استيطان الجبال الصخرية وصنع تجاويف فيها لإقامتهم
بعزلة بعيدا عن البشر، سرعان ما تحولت إلى مجموعة متصلة من الغرف، حيث أصبح
الرهبان يعيشون في عزلة كل في غرفته، ولا يلتقون إلا في قداس يوم الأحد،
ومع سقوط الامبراطورية البيزنطية واحتلال اليونان من قبل العثمانيين، شهدت
«ميتورا» لجوء عدد كبير من الرهبان إليها، هرباً من بطش العثمانيين، وهكذا
توسع الدير وازداد عدد الرهبان، ومازال إلى الآن ملجأ عدد منهم.
الإمارات اليوم في
24/05/2012 |