«كينجي
ميزوغوشي وفن السينما اليابانية» كتاب جديد صدر عن المؤسسة العامة للسينما
بدمشق (2012)، للمؤلف الياباني تيداو سيتو، وبترجمة لعبدالله ميزر، الذي
سبق له ان ترجم كتبا أخرى في سلسلة «الفن السابع»ذاتها، و الكتاب الجديد
يحمل الرقم 210 في السلسلة. ربما تنضاف هنا أهمية أخرى للكتاب تنبع من هوية
المؤلف نفسه، فهو ياباني، ويعرف خاصية ميزوغوشي، ربما أكثر ممن وضعوا كتبا
من جنسيات أخرى عن هذا المخرج الذي يعتبر «أحد كبار صانعي السينما» في
التاريخ، بحسب دفاتر السينما الفرنسية، لأنه يدخل في عوالمه من بوابة
أفلامه، وذلك بـ«تقييم عمله ضمن التاريخ الثقافي والاجتماعي في اليابان».
ولأن الأمر قد يغدو كذلك للوهلة الأولى، فغالباً ما يقع المؤلف سيتو أسيراً
لأسئلة تأتي من قبل الأجانب المهتمين بالسينما اليابانية، وبخاصة لسؤال
مراوغ يبدو هنا أنه بحاجة لإجابة متعمقة متعلقة بالمخرج الياباني الأكثر
اخلاصاً للتقاليد اليابانية، والأكثر تأثرا بالثقافة الغربية من بين
المخرجين العظماء من امثال اوزو ياسوجيرو، وآكيرا كوروساوا.
يعتقد المؤلف عند هذه النقطة إنه لم تكن هناك ثقافة يابانية نقية ومتفردة،
وذلك بسبب وجود السلطة الاقطاعية حتى منتصف القرن التاسع عشر حيث كانت
الثقافة اليابانية وأحاسيسها الجمالية والأخلاقية مختلفة جدا عما هي عليه
اليوم.
ويرى المؤلف سيتو أنه مع الوقت بدا عهد التحديث والغربنة، فعبّر كوروساوا
الذي ينحدر من عائلة ساموراي عن التقاليد الأخلاقية والجمالية لروح
الساموراي بفنية وخصوصية عالية ، فيما استطاع اوزو ياسوجيرو الذي كان ينتمي
لعائلة ثرية، صنع أفلام كانت الأكثر تعبيرا عن ثقافة البرجوازيين المختلفة
خلال حداثة اليابان وتأتّى ذكاء ميزوغوشي - موضوع الكتاب - في تحويل نمط
(كابوكي) وتقليد الرقص الياباني الى السينما اليابانية، وكلاهما من منتجات
ثقافة تجارية ليابان اقطاعية، وأخير يضيف المؤلف سيتو اسم امامورا شوهي
الذي تعلم كثيرا من المزارعين، وهذه هي الأسباب التي ربطت مثل هؤلاء
المخرجين بالتقاليد اليابانية المغرقة في خصوصيات بالغة التعقيد، وكل واحد
بطريقته الخاصة تحت تأثير عارم للغربنة، في وقت كانت السينما اليابانية
تشهد على خلق أحاسيس حديثة بالذات وتحولات الفرد الياباني أمام سيل متعاظم
من الحداثة الغربية المستوردة .
بالطبع لا يمكن تحديد الفوارق في أسلوبية الكتابة، من خلال وجهة النظر هذه،
بين الأفلام اليابانية والثقافة اليابانية، وهذا ماسنلحظه في فصول الكتاب
الكثيرة التي لم تهمل التأكيد على عمق هذه العلاقة، وتبيان الطريقة النقدية
الخاصة بالمؤلف باعتبار أن الفيلم هنا هو تاريخ ثقافي واجتماعي أيضا
.
لم تكن عملية انضمام ميزوغوشي سهلة الى عالم الفن السابع، ففي عشرينات
القرن الماضي كانت السينما لاتزال تلوح في المخيال الشعبي الياباني بوصفها
فن السفهاء والعصابات الاجرامية (الياكوزا)، ولهذا كان من الطبيعي أن لا
يلقى الفتى في توجّهه تأييد الأب أو الأخت التي لعبت دوراً كبيراً في
تربيته وتكوينه، وهي الأخت التي ترسم صورة «الحب النقي». فحتى مدير استوديو
نيكاتسو، كما تذكر حوليات هذه السينما، كان عضواً في عصابة كانت تتحكم بشكل
كبير بكل من يعمل فيها، ولكن التحول العاصف باتجاه الشركات الحديثة أدى الى
انخفاض تأثير الياكوزا والشخصيات الظلامية الاخرى. ومنذ العام 1930 بدأ
يخفت الخوف من هذه الصناعة بنتيجة التسلط العسكري – للمفارقة – اذ توقف
النمط الانفلاتي، وبدأ دعم انتشار الايديولوجيات التي وقفت وراء صنع أفلام
جادة أخذت تحظى بالثناء والجوائز على حد سواء.
لم ينج ميزوغوتشي رغم مسايرته لتلك الفترة، فبعد الرقابة الشديدة على فيلم
«السيمفونية الحضرية» وفيلم «ومع ذلك يذهبون» توقف ميزوغوشي عن صناعة
الأفلام الخاصة بالبروليتاريا، فقد خضع لاستجوابات قاسية من الشرطة وأصبح
خائفا على تجربته وكان ذلك كافيا لتخويف أي شخص على الرغم من أن ميزوغوشي
لم يكن جبانا ، ولكن لم يكن مولعا كفاية على مايبدو باليسار، فدفن نفسه في
فترة مييجي (ثلاثينات القرن الماضي) في الأعمال العاطفية، التي حقق خلالها
افلاما عديدة ومن بينها «عصابة جيبون» و«بوبي». واستطاع عام 1937 أن يحقق
فيلم «مأزق الحب والكره» بمستوى ميلودرامي قوي فقيل عنه إنه فيلم منمق ،
وكان مجرد ترجمة سينمائية لرواية «البعث» لتولستوي، لقد كان صعبا تخيّل كيف
يمكن لهذه الرواية أن تتحول على نحو رائع إلى دراما يابانية متكاملة ،
فالحب مستخدم هنا لاعطاء شكل أو توضيح لفكرة الطبقة، اذ يكمن الصراع بمجمله
هنا بين اؤلئك الذين يودون الابقاء على الواقع الحالي، واؤلئك العشاق الذين
يرغبون في تغيير واقعهم، وهذا بالضبط هو ماكان يصنع قاعدة للدراما في حالة
«المعلم ميزوغوشي».
يجيء تيداو سيتو على جنون زوجة ميزوغوشي، فيرى أنه كان بمثابة المأساة
الكبيرة التي تسببت له بمعاناة عظيمة، وسيمكن رؤية هذا على نحو واضح في
بلورة الفن المبني على الأفكار البوذية في التكفير والصلاة وخاصة في أفلامه
اللاحقة ومنها «حياة اوهارو» و«الحاكم سانشو». ويمكن بحسب الكاتب ملاحظة أن
كينجي ميزوغوشي عمل طوال حياته على قصص النساء اللواتي يكرسن حياتهن
لمساعدة الرجال ذوي الارادة الضعيفة. فربما كان يظهر النساء ضعيفات ، لكنهن
كن يملكن أرواحا لاتقهر مثل السيف الياباني برموزه المتعددة والمتسلطة. ومن
الواضح هنا أن ميزوغوشي استخدم السمات الشخصية للناس القريبين منه، وكان
هناك أدلة كما يذهب المؤلف إلى أنه كان في حال شجار دائم معهم.
إنها سيرة سينمائية حافلة تلك قدم فيها ميزغوشي 86 فيلما بين عامي 1922 –
1956 كان من بينها لا شك الروائع الفنية الخالدة مثل «حياة اوهارو»
و«اوغيستو مونيغاتوري» و«امراة من اوساكا» و«مرثية اوساكا» و«مسيرة طوكيو».
ويبقى إن ميزوغوشي قدّم جوهر المجتمع الياباني بطريقة واقعية ذكية
بمقاربتها المباشرة للمشاكل الاجتماعية، ولكن هذا لم يمنع المخرج الروسي
اندريه تاركوفسكي من القول عنه إنه المخرج القادر على الذهاب الى ما وراء
حدود المنطق المتماسك ونقل التعقيد العميق وحقيقة الارتباطات غير المحسوسة
وظواهر الحياة الخفية.
الحياة اللندنية في
25/05/2012
نقطة ساخنة
فجر يعقوب
اختيار ادارة جـوائز «ايمي» العالمية المخرج والمنتج المصري أسعد طه
للمشاركة في لجنة تحكيم مهرجانها لهذا العام اعتراف بمسيرة هذا الصحافي
الذي جال عبر السنوات الماضية في أكثر من 70 دولة، بعضها اشتهر بكونه مناطق
حروب ونزاع ساخنة. قدّم طه للإعلام العربي الجديد منذ العام 1997 سلسلة من
الأعمال الوثائقية المتلفزة التي كرسته في مناطق الأزمات المشتعلة في هذا
النوع الذي كانت تفتقده الشاشات العربية. وربما جاءت سلسلة «نقطة ساخنة»
لتؤكد أن الفضاء الإخباري العربي المصور لن يكون على حاله بعد الآن، وهو ما
دفع طه لأن يؤسس شركة مستقلة في دبي باسم «هوت سبوت فيلمز» انتج من خلالها
سلسلة وثائقية بعنوان «يحكى أن» المعنية بالهم الانساني والتاريخي، وأتبعها
بعشرات البرامج التي وجدت طريقها للبث بجدارة عبر شاشة «الجزيرة» في أوقات
سابقة.
اليوم وبعد اندلاع ثورة 25 يناير في وطنه الأم يعود أسعد طه ومعه شركته
التي غرّد من خلالها خارج السرب الوظيفي الذي كان يمكن لأول «امبراطورية»
فضائية اخبارية عربية أن تمنحه له. يعود ليطلق «هوت سبوت فيلمز» من ميدان
التحرير في العاصمة المصرية، أو على بعد مئات الأمتار منه، بعدما وجد ضالته
في الأحداث القريبة التي تمسه في شكل مباشر، وتشكل له حالة وثائقية نادرة،
ولا تقل سخونة عن المناطق التي زارها وجال فيها. وهو قد أدرك بحدس المخرج
الوثائقي أن وجود شركته بعيداً من البلد الذي أطلق شرارة التغيير في ثورة
25 يناير - بصرف النظر عن المآل هنا - قد يحجم دورها حتى لو تجول شخصياً في
سبعين بلداً جديداً مشتعلاً حول العالم.
والأكيد أن شركة أسعد طه الخاصة بالبرامج والأعمال الوثائقية التلفزيونية
ستعرف عهداً جديداً في مصر لم تعرفه سابقاً رغم مرور نحو عقد ونصف على
انطلاقها، وها هي تشهد انطلاقة جديدة تعطيها ألقاً بعدما خفتت حدة الانشغال
الفضائي ببرامج ثقيلة من عيار البرامج التي أنتجها طه في الأوقات الذهبية
للبث الفضائي العربي الذي بات مهدداً هو الآخر ببعض ما صنعته يداه. وليس
اطلاق بعض الفضائيات الإخبارية العربية الجديدة، غير تأكيد على وجود مأزق
من نوع ما عند بعضهم. أما صاحب «هوت سبوت فيلمز» فوجد الحل في «أبطال
طبيعيين وديكورات طبيعية ملهمة» في مصر لا ينقصها سوى تحريك الكاميرا في
مواجهتها للحصول على عشرات الساعات الوثائقية المتلفزة... ففي كل يوم فيلم
يمكن أن يقال.
الحياة اللندنية في
25/05/2012
الطموح إذ يكون غير متوازن
الدار البيضاء – مبارك حسني
يحار المرء في تصنيف أفلام بعينها، ويحار أكثر حين يجد نفسه في المحك
التحليلي لما يود توظيف مفهومي الموضوعية والحرية فيه. الأول يخص النقد
والثاني يخص الإبداع. فهل على المرء ان يتوخى الموضوعية ولا يراعي الظروف؟
ومن جهة أخرى، هل يعتبر الحرية مسوغا كافيا يسمح بكل التجاوزات بلا نقاش
ولا نقد؟
فيلم «شقوق» للمخرج المغربي الشاب هشام عيوش، من هذه الأعمال السينمائية
التي تثير هذه التساؤلات، ليس لأنه فيلم كبير وقوي، بل العكس لأنه فقط فيلم
عادي جدا رغم إدعاءات مخرجه. وما يهم بخصوصه، هو أنه اجتمعت فيه أمور
تستدعي النظر عن قرب فيما هو سينمائي وما هو مغربي، وما يجب أن يحدد
العلاقة بينهما. يجب بداية، القول أن المخرج هو الأخ الأصغر للمخرج المعروف
نبيل عيوش، وهما معا من عائلة غنية معروفة تعتمد على صناعة الإعلان مع حضور
ملموس في إطارات المجتمع المدني. وفي فيلم هشام الأول هذا نرى شيئا من «علي
زاوا» شريط شقيقه الشهير، مع تحوير الفضاءات والشخوص. ليس في «شقوق» أطفال،
بل ثلاثة أشخاص راشدين لكن منكسرين ومحبطين ومخربين من الداخل، لكن فيه
أيضا عوالم مدينة سفلية داكنة تعج بكل الانحطاطات الممكنة من أجواء انحراف
وتخدير وأردان ودعارة، أي الوجه القبيح. المخرج قام بنقل عدسة الكاميرا إلى
مدينة طنجة عاصمة الشمال بدل الدار البيضاء.
ويظهر جلياً مبرر هذا الاختيار، وهو غالباً مُملى، بشكل واع أم لا. فهذه
المدينة اشتهرت بهذا الوجه في أدبيات كتّاب أمريكا الذين عاشوا فيها إبان
حقبتها الكوزموبوليتية ، وبما خلده كاتبها الشهير محمد شكري في رائعته
«الخبز الحافي». لكن شتان ما بين رصانة الأدب وهشاشة الشريط. فهذا يقلد ذاك
من فوق، سطحيا، وإذا عرفنا أن عيوش الأصغر، من مواليد باريس حيث ترعرع
ويقيم، يمكن تعضيد فهم هذا الاختيار. فكم من مخرجي فرنسا ذوي الأصول
المغربية ينهجون ذات النهج إلى حد صار معه «تياراً سينمائياً» إن جاز
التعبير.
ومن هنا سؤالنا في مقدمة المقال. النقد لا بد أن لا يغض الطرف عن هذا
المعطى بتاتاً. فحكاية الفيلم اولا مفارقة للواقع الذي تود الشهادة عنه:
رجلان يقعان في حب امرأة غير مصنفة، برازيلية !! اي أنها امرأة اسقطت في
واقع ليس لها. الأول يحبها حسيا وجسديا، وهو ستيني العمر بالكاد خرج من
فترة سجن طويلة، والثاني صديق له يحبها حبا عاطفيا قلبيا. ثلاثي معروف في
الأدبيات وفي السينما، وهشام عيوش اكتفى برميه في يم مجتمعي مغربي يروم أن
يرسل عبره خطابا فوقيا (مرة أخرى) مفاده أنه مخرج منخرط وملتزم بقضايا
الوطن ومشاكله وهمومه. لكنه في ذات الوقت وبقصــته هذه، يود الانخراط في جو
سينمائي بأبعاد دولية. وهذا الازدواجية جعلت الشريط يحيد عن هدفيه ويرتمي
في الهلهلة.
وأكثر من ذلك، أن المخرج توخى المنحى التجريبي في المعالجة الفنية
والتقنية. كاميرا على الكتف، ولقطات سريعة، متذبذبة، واستطالات وزوايا
التقاط جانبية. وكما يقول المخرج فهو صوّر الفيلم بدون الاعتماد على
سيناريو مكتوب، بل كان هناك فقط الفكرة الموحدة والممثلون الذين يسكنون
شخوصهم ويلتصقون بها ويحاولون اللعب كما لو كان الأمر حقيقيا. وهنا يطرح
مفهومنا الثاني الذي هو الحرية. فهل يمكن لعمل إبداعي أن يعتمد على الخواء؟
في عز الموجة الجديدة الفرنسية التي أعلنت المخرج مؤلفا والسيناريو غير ذي
أهمية قصوى، لم يحدث أن تم إخراج فيلم من لا شيء. إن الحرية في الإبداع
مسؤولية أيضا، خاصة إذا ما تم دعم الفيلم بأموال الدولة. وهذه الحرية
«المطلقة» ( لكن المستفزة والمفكر فيها لهذا الغرض بالذات) امتدت إلى جلّ
مناحي الشريط، من لغة شارعية صريحة، ولقطات ساخنة...
نعم، ليس الأمر حجراً على موضوع ولا على اختيار، فالإبداع لا يعرف الحدود،
يعرف فقط التمكن وقوة الخيال والقدرة على الإثارة العميقة في النفس والقلب
والعقل. في «شقوق» لا يثير الشخوص وحكاياتهم سوى الملل لكثرة ما شوهدت في
السينما من قبل وبشكل أفضل. في مجتمعات أكثر ضبطا وحرية واتساع رأي، وتلكم
فضاءاتها الحقيقية. أما إلصاقها بفضاءات غريبة عنها فهو تحوير غير جدي. لأن
هذه الحكايات نفسية أكثر منها اجتماعية، وهي ليست نتيجة ظروف عيش أو ظروف
بلد ومجتمع، بل نابعة من العواطف الإنسانية أصلا كما يمكن ملاحظتها في
العالم أجمع، وليس المغرب فقط. ودليلنا في ذلك المرأة البطلة. فهذه ليست
سوى حالة إنسانية خاصة. هي امرأة غير واجدة ذاتها ولا نشوتها في أي مكان،
ولا لدى أي شخص بعينه. امرأة سينتهي بها المطاف إلى الانتحار حتما والموت.
حين لا تجد التلبية القصوى لما تصبو إليه وما تريده.
خلط متعمّد
والحق أننا لا نفهم كثيراً هذا الخلط المتعمد. قد يشفع للمخرج أن هذا فيلمه
الطويل الأول، وبالتالي اختار المجابهة والدخول بقوة إلى المشهد السينمائي
المغربي هو الباريسي المضمخ بثقافة سينمائية وثقافية أخرى ربما متحررة أكثر
من اللازم من خلال صور حية مثيرة للحساسيات والجدال. وهو أمر قام به مخرجون
مغاربة في السابق. لكن الجديد ليس مرتبطاً بالضرورة بالصدام والاستفزاز،
والذي نحبه إذا كان جميلاً وبديعاً، لكن قد يحدث في حالة الإملاء، أو في
حالة انحسار الخيال الإبداعي.
ولا نعتقد ذلك بخصوص «شقوق»، فقد أثرت فيه ربما أجواء الانتاج التي تفرض
شروطها. رغم ما قيل بأن الشريط هو مغامرة فردية وشخصية لصاحبها هشام عيوش
لا غير، ونحن نريد تصديق ذلك، لكن النتيجة لا تشجعنا. كم كان سيكون عملا
مغايراً ومقبولاً بصيغته الشخصية الفردية، لو لم يطمح إلى مقارعة بلد أكبر
من الشريط كثيراً.
الحياة اللندنية في
25/05/2012
«تنورة
ماكسي» فيديو كليب طويل
بيروت - محمد غندور
تشهد السينما اللبنانية إنتاجاً ملحوظاً، يتنوّع بين الشخصي والحربي
والاجتماعي. بيد أن المشاكل التي يمر بها لبنان، والانقسام السياسي،
وانعدام المعايير لمحاكمة أي عمل فني، بدأت تظهر انعكساتها على السينما، ما
سيُصعب مهمة بعض المخرجين الذين يستعدون لأعمال مستقبلية.
ومن الأمثلة على ذلك، قرار منع عرض فيلم «33 يوم» الذي تناول حادثة في حرب
تموز 2006، في بعض المناطق ذات الانتماء المسيحي، ولكن هذا القرار، أثار
نقاشاً حاداً في البلد، ما أدى إلى معالجة الموضوع وإعادة السماح بعرضه.
كما فتح فيلم «تنورة ماكسي» للمخرج جو بو عيد، الذي بدأت الصالات عرضه منذ
أسبوعين، نقاشاً واسعاً بين رجال دين مسيحيين، طالبوا بسحبه من الصالات
ومنع عرضه، لما فيه من إساءة الى الدين والإيمان، ونجح الضغط الذي مورس من
جهات دينية على الأمن العام اللبناني، فأوقف عرض الفيلم.
وسيعطي قرار المنع، دعاية مجانية للفيلم، تطبيقاً لنظرية «كل ما هو ممنوع
مرغوب». والمستغرب أن الفيلم نال موافقة الأمن العام، حتى قبل تصويره، كما
وافق عليه «المركز الكاثوليكي للإعلام» الذي لم ير فيه انتهاكاً لحرمة
الكنيسة. وإذا كان رئيس جامعة «الحكمة» الأب كميل مبارك، دعا إلى مقاطعة
الفيلم بحجة أنه «يهين كرامة الإنـــسان ويحتقر المقدّسات، ويجعل دور
العبادة، مكاناً للرقص والخلاعة»، فهو سرعان ما تراجع عن موقفه، وأعلن أنّه
قال كلامه قبل مشاهدة العمل، وأعطى جواز مرور للفيلم.
وثمة من يقول إن الحديث عن قرار المنع له خلفية سياسية، بعدما ظهر اليمين
المسيحي المتطرف في الفيلم بشكل كاريكاتيري إبّان الحرب الأهليّة من خلال
شخصيّة الميليشيوي (دوري مكرزل).
قد يكون «تنورة ماكسي» من أجرأ الأعمال التي قدمت في الفترة الأخيرة، لأن
مخرجه لم يختبئ خلف قناع، بل أراد تسمية الأشياء كما هي، ومن دون إبهام.
وثّق ما بقي في ذاكرته، من دون أن يكون طرفاً، أو يُحاكم فئة ما على حساب
أخرى، فاتحاً المجال امام أن يكون للكنيسة البطولة المطلقة في الفيلم،
فمنها تبدأ الحكاية، ومعها تنتهي فصولها.
تدور أحداث الفيلم حول رجل يُغرم بفتاة وصلت حديثاً إلى قريته، هرباً من
الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. وبعدما كان عامر (شادي التينة) سيتفرغ
للحياة الدينية، يُقرِّر الزواج من الجميلة رندة (جوي كرم)، ويعيشان معاً
وينجبان صبياً سيكون له دور الراوي في العمل.
يعرض الفيلم ظروف الحياة الصعبة في كنف الاحتلال، والمشاكل التي تواجه
الطوائف لدى الانتقال من منطقة الى أخرى، مع الاستعانة بمشاهد حيّة لبعض
الأحداث المهمة مثل القصف على الضاحية الجنوبية لبيروت أو الدمار والتهجير،
للتعبير عن الفترة الزمنية آنذاك.
لم نر في الفيلم، جملاً غرامية أو حوارات ملتهبة بين العاشقين عامر ورندة.
لغة العيون كانت كفيلة في أن تفتح المجال للمشاهد في أن يتخيل أي سيناريو
يحلو له. أراد بوعيد أن يكون الحوار صامتاً، وأن يُولي أهمية أكبر للصورة
التي تميّز بها العمل.
ومن النقاط المثيرة في الفيلم والتي كانت شبه مبطنة، موقفه في الدفاع عن
القوى اليسارية، في وجه التطرف الذي سيطر على قريته المسيحية، مقدّماً
نماذج ميليشيوية من زمن الحرب الأهلية.
لم يختبئ بوعيد خلف اصبعه كما فعل عدد من المخرجين الذين تعاطوا في أفلامهم
مع الحرب والطائفية، ولم يُزوّر الأسماء، بل دل على طائفتها وهويتها،
عارضاً ما جرى في واقعه ومجتمعه آنذاك. وأراد من خلال قصة الحب الواقعية
التي جمعت والديه، أن تكون باكورة أعماله الروائية.
أطل المخرج في الفيلم من خلال طفل عمره ثماني سنوات، يرسم ويُلون ويقص
ويلعب ويتحكم بالأمور. وبشيء من الفانتازيا والخيال، عالج موضوع حرق
الكنيسة، والمشهد المتخيل الذي ترجم به أمه لأنها أفقدت رجل الدين إيمانه
وأغوته للزواج منها.
كما أراد المخرج أن يُكمل واقعيته الى أبعد الحدود، من خلال بعض المشاهد
الإباحية والعاهرات في قريته، وأن يقول أن فترات الحروب غالباً ما تُثير
الغرائز، كما أنها تُمهّد الطريق أمام الانفلات الأخلاقي، في ظل عدم
الاستقرار.
تميّز العمل بمشهديته الجميلة، واعتماده بشكل كبير على اللقطات الخارجية،
مع إهمال النص لمصلحة الصورة التي رافقتها موسيقى تصويرية كتبها مايك ماسي.
لكنّ هذا الاعتماد المبالغ به، لم يسعفه أحياناً، إذ عانى بعض المشاهد من
إطالة غير مبررة. والواضح أن بوعيد عمل كثيراً ليخرج كادره في أبهى حلة،
فاهتم بأدق تفاصيل المشهد، واعتمد على أشياء تراثية ومنازل صخرية، وأدوات
حرفية، مع تعدد الألوان الزاهية والأزياء اللافتة. يعاني الفيلم (98 دقيقة)
من انعدام الترابط والحبكة الدرامية وتشتت الأفكار، نظراً إلى ضعف في
السيناريو الذي كتبه بوعيد، الذي أراد عملاً، قد يتشابه الى حد كبير مع
الفيديو كليبات التي أخرجها لأبرز الفنانين اللبنانين والعرب.
أعطى المخرج بطولة عمله لممثلة آتية من تجربة مسرحية طويلة، وإلى عارض
أزياء، لكنهما نجحا في ايصال ما يريده، من خلال انفعالاتهما ووجهيهما
المعبّرين والقاسيين في الوقت ذاته.
ولد جو بوعيد في جنوب لبنان عام ١٩٨٣، وحاز ماستر في فنون السينما من جامعة
القديس يوسف في بيروت عام 2007. وبدأ مسيرة الإخراج من خلال أفلام قصيرة
ووثائقية، كما أخرج عدداً من الأغاني المصوّرة، ونال جائزة أفضل مخرج عام
٢٠٠٩ عن عمله المصوّر الثالث، إضافة الى جائزة أفضل فيلم روائي قصير «دود
الخل» عام 2005 في «طنجة»، وأفضل مونتاج في مهرجان بيروت السينمائي.
الحياة اللندنية في
25/05/2012 |