القصة التى أحاطت بالفيلم تستحق أن تروى، فقد تكون أهم من الفيلم
ذاته.. حين بدأ عرض «تنورة ماكسى» لمخرج جديد، اسمه جوبو عبيد، قامت الدنيا
فى بيروت ولم تقعد، وطالبت عدة جهات، سياسية ودينية، بإيقاف الفيلم فورا،
كما حدث من قبل مع «فندق بيروت» أو «بيروت بالليل».. وسريعا، تدفق الجمهور
إلى دور العرض التى امتلأت بالمتفرجين، مما يؤكد أن المنع هو أفضل وأقصر
طريق للترويج، وقبل أن يصدر القضاء حكمه على «تنورة ماكسى»، تناقل الناس
رأيهم السلبى فى العمل، ليس لأسباب فكرية أو عقائدية، ولكن لأن الفيلم ممل
وسخيف، شديد الحزلقة والادعاء، وبالضرورة، انصرف عنه الجمهور.. وفى الحفلة
التى حضرتها، قبل مرور أسبوعين على عرضه، لم يكن فى الصالة، أكثر من خمسة
أشخاص، من ذوى الحظوظ السيئة، ومن بينهم أنا، وصديق لبنانى ارتفع صوت شخيره
أثناء العرض، فضلا على الناقد على أبوشادى، الذى شغل منصب مدير الرقابة على
المصنفات فى مصر، والذى علق على الفيلم بقوله إن حمولته من الشتائم
والألفاظ النابية شديدة الوطأة، كما أن المشاهد الجنسية من الممكن حذفها أو
تخفيفها، خاصة أنها بلا ضرورة، بالإضافة لكونها، سواء كانت تخيلية أو
واقعية، تدور داخل بين من بيوت الله.
«تنورة ماكسى» يدور إبان الغزو الإسرائيلى للبنان عام 1982، ويتابع،
هجرة العدد الكبير من أهالى الجنوب نحو الشمال، السرد، يتم بالكثير من
الوسائل: الكتابة المباشرة على الشاشة. وثائق ومشاهد تعرض على شاشة
التلفاز. راوى، لا تعرف بالضبط هل هو الصبى، الذى يظهر بين الحين والحين،
أم أنه المخرج، كاتب السيناريو جوبو عبيد.. يتابع الفيلم مجموعة من
المهجرين، تتعرض لتحرشات من المقاومين على نحو يشبه التجنى الذى يصل إلى حد
الافتراء. ولسبب ما، ربما لمزاج صانع الفيلم السيئ، يتعمد أن يضع بين
المهجرين عددا من المعوقين ذهنيا، وجسمانيا، وأخلاقيا.. تأويهم جميعا غرفات
وأقبية كنيسة ودير. شاب، فى طريقه لأن يصبح من رجال الدين، يخفق قلبه بحب
فتاة، يتخيلها معه على انفراد، الأمر الذى أثار حفيظة رجال الدين، سواء من
المسيحيين أو المسلمين.
الواضح أن المخرج الشاب، من الناحية الفنية، لا يزال أخضر العود طريا،
تجده يتخبط بين أكثر من أسلوب، فعلى طريقة الإسبانى، كارلوس ساروا، يقدم
رقصات تعبيرية، لا علاقة لها بروح الفيلم أو عالمه.. ومن الإيطالى، فللينى،
يأخذ طريقة عمل المكياج الصارخ لبطلاته، بالإضافة لخطواتهم المتبخطرة،
وكأنهن فى عرض أزياء.. ويستعير من الأفلام المصرية قدرتها على التسكع
الدرامى، وحشو العمل بما لا يفيد، بما فى ذلك التطويل المضجر فى مشاهد من
الممكن اختزالها إلى الربع، وذلك أن تتخيل حفل زفاف ينهمر فيه الرقص مع
أغنية «لندا يا لندا» كاملة.
نقديا، جاء استقبال الفيلم سيئا، حتى إن غسان حجار، ناقد جريدة
«النهار»، كتب «المؤسف أن الفيلم، والذى أعد أساسا كمشروع جامعى مدته نصف
ساعة، صار مضيعة للوقت مع الساعة ونصف الساعة، إذ بدا فارغا من مضمونه،
مرتبكا فى رواية القصة، وفيه مطولات مملة».. إذن «تنورة ماكسى»، كان أصلا،
مشروعا فنيا، لكن تحول إلى صفقة، وأصبح مشروعا تجاريا، وإلا قل لى ما معنى
أن تسهم فى إنتاجه وزارة الثقافة اللبنانية، وأن يأخذ أموالا من بعض
مهرجانات الخليج.
المصلحة
كمال رمزي
السبت 26 مايو 2012
أسعدنى نجاح الفيلم، جماهيريا، خاصة أنه يأتى بعد فترة كساد مؤلمة،
وعقب عداء غادر لفن السينما، لذا فإن شباك التذاكر المنتعش، هذه المرة،
يعبر عن أمرين، أولهما، ذلك الاستقرار النفسى، النسبى، لدى الناس، فالملاحظ
أن دور العرض، أيام القلق، تغدو خاوية، لا يغشاها إلا أقل القليل..
وثانيهما، أن عالم الأطياف، لا يزال محتفظا بقدرته على الجذب، بل على
البقاء نابضا بالحياة، والدليل على هذا ذلك العدد الكبير من متفرجين فى
مقتبل العمر، أولاد وبنات.
لكن، الرواج شىء، والقيمة شىء آخر، فالرواج، أيا كان حجمه، هو مكسب
مؤقت، أما القيمة، فإنها ربح متجدد، وليس بالضرورة أن يتناقض الرواج مع
القيمة، فمن المحتمل أن يجتمع الحسنيين فى عمل واحد، وهو الاجتماع الذى كان
من الممكن أن يتوافر فى «المصلحة»، لولا إصابته بمرض من المناسب أن يطلق
عليه، حسب التعبير الشعبى «الفتاكة»، أى التأنق الزائد، الغرور، المغالاة،
الإفتعال، الإعجاب بالذات.. فهنا، ترى النجم المحبوب، أحمد السقا، يتقمص
شخصية أحمد السقا، أكثر من أدائه لدور ضابط الشرطة، حمزة أبوالعز. يسير
ويتحرك ويجرى ويتكلم كنجم وقور، يحاول فى نظراته، ذات الانفعال الواحد،
إقناعك بقدراته التمثيلية.. وفى المقابل، يثبت ــ أحمد عز فى دور تاجر
المخدرات سالم المسلمى ــ جدارته فى الوقوف أمام أحمد السقا، بالزعيق،
والصياح، وكأن قوة الإقناع مقترنة بإطلاق العقيرة.
قصة الفيلم، ذات البناء البوليسى المعهود، تدور حول الصراع التقليدى
بين عصابات تهريب المخدرات والشرطة، ويتأجج غضب الضابط، حمزة أبوالعز، بعد
مقتل شقيقه، الضابط أيضا، على يد شقيق تاجر المخدرات، ويمتزج عداء بطلنا،
أحمد السقا، تجاه رئيس العصابة، أحمد عز، بحكم المهنة، مع الدافع الشخصى فى
الانتقام. وتتوالى المغامرة، والمطاردات، برا وبحرا، من سيناء إلى شرم
الشيخ، ولبنان والأردن، حتى يقوم الضابط الهمام بقتل قاتل شقيقه، وينتهى
الفيلم بقفص المحكمة الذى يقبع بداخله، التاجر والضابط.
«الفتاكة»، ليست قاصرة على الأداء، التمثيلى فحسب، بل تمتد إلى مجمل
عناصر الفيلم، فمصمم الديكور، محمد مراد، يتعمد أن يجعل فيللا رئيس العصابة
البدوى، ذات طابع عصرى، يحاكى بها فيللات أباطرة المخدرات، فى المدن
الكبرى.. وواضع الموسيقى المصاحبة، عمرو إسماعيل، يغرق الشاشة، وصالة
العرض، بطوفان لا يتوقف من المزيكا الصاخبة، وكأنه يقول لنا: خذوا بالكم،
الموسيقى هى بطلة الفيلم.
كاتب السيناريو، وائل عبدالله، يتغنى ببطولة الشرطة، ويرثى، فى مشاهد
طويلة، شهدائها، ومن حقه أن يفعل هذا، خاصة وأن الشهيد هنا دفع حياته وهو
يؤدى واجبه بعيدا عن قتل الثوار.. اهتم وائل بإبراز جوانب الضبط والربط،
فضلا على صرامة النظام، مع لمسات إنسانية من القيادات العليا. ومن الإنصاف
القول إن الفيلم يكتسب شيئا من الحيوية، بفضل طاقة ومهارة المخرجة ساندرا
نشأت، لكن لا يمكن إغفال داء «الفتاكة» الذى أصابها، فأخذت تغالى فى متابعة
طائرة الشرطة المروحية من عدة زوايا، ثم تسرف فى جرجرة سالم المسلمى لعشيقة
شقيقه، زينة، على سلالم الفيلا، وهو يشتمها بكلمة نابية.. وفيما يبدو أن
مخرجتنا، بأريحيتها، تتوقع، صعود التيارات المتخلفة إلى السلطة، فجعلت قوات
الشرطة، بالملابس الرسمية، تصلى، قبل القيام بعملية مداهمة.. فيا للفتاكة!
نسيم الأمل
كمال رمزي
الخميس 24 مايو 2012
حسنا فعلت عبلة الروينى بنشرها، فى «أخبار الأدب»، النص الكامل
لحيثيات الدعوى الإرعابية، السمجة، المقامة ضد ستة من كبار الفنانين
المصريين، ذلك أن هذه الحيثيات الدقيقة، النافذة، العامرة بالفهم، تتجاوز
قضية عادل إمام ومن معه، إلى آفاق أبعد وأعمق غورا، وبالتالى تحقق عدة
أهداف نبيلة فى آن، فهى، جوهريا، تنصف القضاء المصرى، وتثبت جدارته
بالتوقير، خاصة حين يجلس على منصته قضاة من ذوى القامات الكبيرة، الراسخة،
لا تهتز بين أيديهم كفتا ميزان العدالة.. وتعطى الصفحات الأولى من الحيثيات
نموذجا رفيعا فى البحث والدراسة، عن حرية الرأى والتعبير، اعتمادا على
عشرات المراجع القانونية، والمواثيق الدولية، والفقه، والقضايا المماثلة،
مع مقارنات، ونماذج دالة، وتبيان دقيق بين الخيط الأبيض والخيط الأسود..
هنا درس ثمين، فى جدية تلمس الأصول، بهدف الوصول إلى معايير العدالة تستحق
أن يستوعبها طلبة كليات الحقوق، وكل العاملين فى مجال القانون، وكل مهتم
بالشأن العام.
لكن ما يثير الإعجاب بحق، طريقة نظر الحيثيات إلى المناطق الفنية التى
أغضبت رافع الدعوى، فالقاضى المستنير، المثقف ثقافة رفيعة، يدرك تماما أسس
النقد الأدبى، والفنى، فى أجلى معطياته، القائم على تفسير العمل وتقييمه،
وعدم اجتزاء بعض مقاطعه وعباراته، واعتبارها هى كل أو لب العمل. بل ينبه
القاضى إلى أن هذا «التفسير» قد يكون صحيحا أو مخطئا، يقصده المبدع أو لا
يقصده، وبالتالى لا يمكن اعتماد «التفسير» على أنه الحقيقة.. وبحس نقدى
سليم ومرهف، تفند الحيثيات عوار دلائل «الازدراء» الواردة فى صحيفة الدعوى
الخائبة، ومنها على سبيل المثال استخدام لحن أنشودة أسماء الله الحسنى مع
ظهور «الزعيم»، فالحيثيات ترى أن هذا اللحن عمل فنى من صنع البشر، لذا فإنه
ليس من الدين فى شىء، وإذا كان قد استخدم فى كلمات أخرى، فإن أول ما يتطرق
للذهن «ليس التحقير من أسماء الله بحال، وإنما لخدمة العمل الدرامى فى بيان
أن شخصية الزعيم قد أضفت على نفسها قداسة الصفات الإلهية، وهو وصف لكل
فرعون اعتبر مصر وخيراتها له هو، وليس لشعبها، فقادته هذه الأثرة وهذا
الاستبداد إلى الظلم والطغيان».
على هذا المنوال المتفتح، قلبا وعقلا، يواصل القاضى النزيه، قراءة
الأعمال السينمائية، محل الخلاف.. وبعد مناقشة مستفيضة لمسألة السخرية
والازدراء باللحية والنقاب، يصل إلى نتيجة تقول، بوضوح وشجاعة «إن لباس
الرجال والمرأة يخرج عن أن يكون من الأمور التعبدية التى لا تبديل فيها،
ومن ثم فلا يجوز إقرانه بالدين وإسباغ القدسية عليه بوصفه جزءا من الدين،
إذ إن اللباس واللحية يرتبطان فى حكمهما الشرعى بواقع المجتمع والزمان
اللذين يعيش فيهما الفرد».. هكذا، سطور هذا النص، إجمالا وتفصيلا، مكتوبة
بوعى يعتمد على ثقافة واسعة، قانونية وتاريخية ودينية، فضلا عن ذوق فنى
مرهف، يدرك كنه العمل الإبداعى، يتعامل معه بمبضع الجراح لا بسكين الجزار..
وبالضرورة، وصل إلى حكم عادل ينص على «عدم قبول الدعويين المدنية والجنائية
لعدم الجريمة» وإلزام المدعى بالمصروفات وخمسين جنيها أتعاب المحاماة.. لكن
الأهم فى تقديرى، أنه ــ الحكم ــ قد يغلق الأبواب على المتنطعين، هواة رفع
القضايا. وفى ذات الوقت، يفتح نافذة الأمل والطمأنينة، على مصراعيها.
حريم السلطان
كمال رمزي
السبت 12 مايو 2012
شغف جمهور عربى واسع بمتابعة حلقات هذا المسلسل، يرجع فى تقديرى، إلى
أسباب من خارجه، أكثر من قدرته الذاتية على الجذب وإثارة الاهتمام،
فالمسلسل يحقق نوعا، ودرجة ما، من الحذر الفكرى، يبعد التركيز المحموم،
المرهق، فيما يدور على أرض الواقع، خاصة فى هذه الفترة القلقة، الحبلى بشتى
الاحتمالات. بعبارة أخرى، يهرب العمل، بمشاهديه، من زماننا ومكاننا إلى
«حريم السلطان».. أحداثه، تجرى فى الثلث الثانى من القرن السادس عشر، إبان
ارتفاع نجم الدولة العثمانية، وعلاقات أبطاله، ببعضهم البعض، تدور داخل
قصور الأستانة العامرة بمقتنيات واردة من شتى البلدان التى تم فتحها، فضلا
على جوارى، بمختلف الأشكال والألوان، وافدات من الدول المهزومة.. وعلى طول
المسلسل، ما إن تخرج الكاميرا، للحظات، إلى الأسواق، حتى ترتد سريعا، داخل
أروقة وحمامات وغرف نوم وقاعات القصر، حيث ترقص الجوارى، ويصدحن بالأغانى،
ليرفهن، ويدخلن البهجة إلى نفس السلطان، وفى ذات الوقت، يمتعن عين المتفرج
بما يشبه أجواء «ألف ليلة وليلة».
كاتبة السيناريو، ميرال أوكاى، التى توفت فى 9 أبريل 2012، عن «53»
عاما، تعد من الوجوه الثقافية المهمة فى تركيا، عملت فى الصحافة، وألفت عدة
كتب، وكتبت سيناريوهات تسعة أفلام، بالإضافة لعدد من المسلسلات، شاركت فى
بعضها، كممثلة، بدون أجر، كنوع من المؤازرة والدعم.. وفى آخر أعمالها يتجلى
ذكاؤها، مبدئيا، باختيار «قماشة» عريضة، تاريخية، تصلح للامتداد، إلى مئات
الحلقات. لكن القدر لم يمهلها بعد كتابة جزأين يصل الواحد منها إلى الخمسين
حلقة. اهتمت ميرال أوكاى بشخصية السلطان سليمان القانونى الذى استمر حكمه
من 1520 إلى 1566، لكن اهتمامها الأكبر اتجه نحو جاريته «روكسلانة»
المخطوفة من أوكرانيا، والتى أصبحت خليلته، لتغدو زوجته، سلطانة ذات نفوذ
قوى، مهدت الطريق كى يؤول الحكم إلى ابنها سليم الثانى. فى هذا الصعود،
تمكنت «روكسلانة» ــ اسمها «هويام» فى المسلسل ــ من مواجهة الدسائس وإحباط
المؤامرات ضدها، وإبقاء قلب سليمان القانونى بين أصابعها.. امرأة على هذه
الشاكلة لابد أن تكون طموحة، جميلة، قوية، ذات عزيمة لا تلين، وهى هنا،
بأداء الممثلة المتميزة، مريم أوزلى، ذات الجمال الفاتن، والقدرة على
الانتقال الناعم من انفعال لانفعال، تبدو أعمق حضورا من الجميع، بما فى ذلك
خالد أرجينك، الذى قام بدور سليمان القانونى.
سخاء الإنتاج، تستر على بطء المسلسل، بل على ضعف الإخراج، فلولا
الرياش الناعمة والديكورات الفخمة والملابس الموشاة وتنوع الأزياء، لبدا
«حريم السلطان» عملا مملا من العسير تقبله.
جدير بالذكر أن المسلسل أحدث انشقاقا فى الشارع التركى، ما بين مؤيد
ومعارض، والأسباب سياسية واجتماعية قبل أن تكون نقدية، فنية.. فلفترة
طويلة، عقب تولى كمال أتاتورك حكم البلاد وإلغاء السلطنة عام 1923، أصبح
ينظر للحقبة العثمانية على أنها مجرد فقرة دامية فى التاريخ، لا تستحق
الإشادة.. لكن منذ سنوات، بدأ رد الاعتبار لها، سواء فى كتابات بعض
المؤرخين الجدد، والعديد من المثقفين، وهم، الذين انزعجوا من «حريم
السلطان»، خاصة فيما يتعلق بصورة النساء، كجوارى وخادمات فراش، ولم يشفع
للمسلسل ظهور سليمان القانونى كحاكم يريد تحقيق العدل.
الرئيس
كمال رمزي
الأربعاء 9 مايو 2012
أشد ساعات الليل ظلاما، هى التى تسبق الفجر، وأحسب أن شيئا من الضياء
يسطع بثقة، على أرض الوطن، برغم أكوام العتمة القابعة فى الأركان، والتى قد
تجعلنا لا ننتبه، بما فيه الكفاية، إلى ذلك الإنجاز الكبير، المتلألئ
بالآمال، الذى تعبر عنه أكثر من قناة، حين تقدم، بدأب ومهارة، لقاءات بالغة
الجدية، مع رؤساء مصر المحتملين، فى هذا التوجه، يتميز برنامج «مصر تنتخب
الرئيس» بمستواه الرفيع، فكرا وفنا. البرنامج يستغرق خمس ساعات، وينقسم إلى
قسمين فى «استوديو الحوار»، حيث تجرى مناقشات، فى العمق، مع كل مرشح،
تتعرض، بالتفصيل، لبرنامجه، وتاريخه، ورؤيته.. ثم «استوديو التحليل»، وفيه
يفسر، ويقيم، إخصائيان، ما جاء على لسان المرشح. خمس ساعات.
تم سريعا، من دون ملل، والفضل فى هذا يرجع للجهد الواضح الذى بذله
فريق الإعداد، فى تجميع المعلومات، واختيار نخبة متخصصة فى شتى المجالات،
فضلا على مذيعين على قدر كبير من القدرة على الإصغاء ــ تلك العملة النادرة
ــ ويلفت النظر، روح الاحترام التى تسرى فى البرنامج، سواء فى المناقشات،
وحتى الاختلافات، مع المرشح، أو تفسير وتحليل وتقييم ما جاء على لسانه.. من
الناحية الفنية، اتسمت ديكورات البرنامج بجماليات لا تخطف النظر ولكن مريحة
للعين، تبتعد عن البزخ الصارخ، تعتمد على إضاءة، ذات طابع درامى، ترتفع
وتنخفض حسب احتياج المواقف، تركز على المتحدث وتكاد تخفى كل ما يمكن أن
يشتتت انتباه المتابع، وثمة موسيقى مصاحبة، موائمة، لا تملأ الفواصل
والنقلات وحسب، بل تعبر عن المواجهات، بالإضافة إلى صوت تصفيق جمهور كل
مرشح، من دون صفير أو هتافات.. جمهور متحضر، كم أتمنى استمرار أسلوبه
المحترم، حين ينزل إلى الشارع، ولا يهتف بتلك الكلمات المنذرة بالشؤم،
المقبضة للقلب، التى تعلن «بالروح، بالدم.. نفديك يلا فلان».
لم يأت «مصر تنتخب الرئيس» كاختراع من أحد، ولكن جاء تعبيرا عن واحدة
من تجليات تلك الثورة التى ستغير الكثير من الواقع المصرى، بل غيرت، فعلا،
تغييرات جوهرية، فلأول مرة، ربما فيما بعد محمد على الذى جلس على دست الحكم
بإرادة شعبية على نحو ما، يختار الشعب المصرى، بحريته، رئيسه القادم، من
بين أكثر من دستة مرشحين.. وربما يرى البعض أن أيا منهم لا يستحق، بقوة، أن
يغدو رئيسا.. إلا أنى، مع آخرين، أرى فى هذا شعاع الفجر الجديد، فلا أحد
بينهم يمكنه أن يبهرنا بكاريزما جمال عبدالناصر، ولا يثقل كاهلنا بإنجازاته
الوهمية كبطل للحرب والسلام، على طريقة أنور السادات، ولا يعايرنا بزعمه
أنه صاحب الضربة الجوية، وملك الاستقرار، كما الحال بالنسبة لحسنى مبارك..
المرشحون، يوضعون الآن، تحت دائرة الضوء الذى يلقبه «مصر تنتخب الرئيس»،
وأيا كان من سيكتب له أن يصبح حاكما، فإنه، فى ظنى، سيطل مدركا، على نحو
ما، أن اختياره، فى جوهره، أقرب للاختبار، عليه أن ينجح فيه، وإلا، فإن درس
السادات، بنهايته الفاجعة، وحسنى مبارك، بمصيره التعيس، قد يتكرر مرة أخرى.
عودة.. (الطليعة)
كمال رمزي
السبت 5 مايو 2012
إصدار هذه المجلة، من جديد، فى ظنى، لا يأتى من باب الحنين للماضى،
لكن يأتى تلبية لاحتياج شديد فى حاضر حائر، تارة يتلألأ بنور الأمل، وتارة
ينذر بأوخم العواقب، إذا سادت فيه الأفكار الغوغائية، المعادية للعقل، ضيقة
الأفق، ذات الجوهر المتخلف، المتعصب لكل ما تجاوزه الزمن والتحضر.. فى
افتتاحية العدد الأول، بعد طول غياب، يحدد المحرر رسالتها التنويرية
الجديرة بالاحترام، المبنية على رؤية واضحة، واعية، لواقع وطن اندلعت فيه
ثورة لم تكتمل، وارتباك عام، ومآزق، وقوى ثورية، شابة، ناهضة، برغم ما قد
يبدو من غيوم داكنة، هوجاء، تريد دولة دينية تعتمد على الاستبداد.
«الطليعة 21» لا تحاكى، ولا تقلد «الطليعة» الكلاسيكية، الثورية، التى
تستحق وقفة تنعش الذاكرة بدورها الفعال، ومواقفها الشجاعة، خلال عقد ونصف
العقد (1962 ــ 1977)، وجاءت آلاف صفحاتها، تعبيرا ناصعا، مخلصا، لشعارها
«طريق المناضلين للفكر الثورى المعاصر».. مقالاتها، الأقرب إلى الدراسات
العميقة والأبحاث الشاملة، القت الضوء على عشرات القضايا المعتملة فى
الواقع، وامتدت آفاقها لتنفذ، بتحليلاتها، إلى ما يدور فى العالم، خارج
الحدود، خاصة فى أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية.. «الطليعة» التى وصل
توزيعها إلى عشرات الآلاف من النسخ، غدت مصدرا لوعى ومعرفة أكثر من جيل،
ولأنها سارت ضد تيار السلطة، تم وأدها عقب انتفاضة يناير 1977، فبينما روجت
أجهزة إعلام السادات، لوصفه المتجنى للثورة، على أنها «انتفاضة حرامية»،
أصرت المجلة، فى افتتاحيتها على تشخيصها كانتفاضة ثورية.. قبلها، اتخذت
«الطليعة» موقفا حاسما، ضد سياسة الانفتاح، ومع معركة السلطة ضد ثقافة
الوعى والإدراك، وتعمدها على نوافذ الاستنارة، أغلقت مجلة «الكاتب»
المحترمة، عام 1975، فما كان من مجلة «الطليعة»، فى مبادرة نبيلة، غير
مسبوقة، إلا استضافة المجلة المغدورة، وخصصت لها مساحة لا يستهان بها فى
صفحاتها التى تصل إلى «194» صفحة، من القطع الكبير.. ولعل من أهم إنجازات
«الطليعة» ملحق «الأدب والفن»، الذى أشرف عليه الناقد الكبير، فاروق
عبدالقادر، الذى جعل منه عيارا نزيها للإبداع الثقافى، فى الرواية، الشعر،
المسرح، السينما، الفنون التشكيلية، وساهم فيها أصحاب الأسماء الذين أصبحوا
من كبار الكتاب، الموثوق فى تحليلاتهم وتقييماتهم.
من الناحية الشكلية، تختلف الطليعتان فى بعض الجوانب: غلاف الطليعة
الكلاسيكية يخلو من الصور، شأنه فى هذا شأن المتن، وورقها هو ورق الجرائد،
والمقالات مرصوصة وراء بعضها، من دون أى مساحات فراغ، وبها أبواب ثابتة،
مثل «تقارير الشهر» التى تتابع بالرصد والتحليل، أهم الأحداث المحلية
والعربية والعالمية، بينما فضلت «الطليعة 21» ــ ربما نسبة إلى القرن
الواحد والعشرين، أن تضع صورة لجحافل ثوار يناير، حملة الإعلام المصرية،
ومتنها مطبوع على ورق أبيض، وهى أيضا من القطع الكبير. عدد صفحاتها «112»
صفحة، أى لا تتجاوز ثلثى صفحات والدتها، وتباع بعشرة جنيهات، بينما ثمن
الأولى عشرة قروش، وتصدر بانتظام، شهريا. «الطليعة 21» تصدر فصليا،
وبالتالى من العسير أن تلاحق تغيرات الواقع المتسارعة، وإن كان هذا التباعد
النسبى، يعطى لكتابها فرصة أوسع، وأعمق، للتحليل والتقييم.. وتعتمد على
تمويل ذاتى، وتخلو من الإعلانات، مما يثبت إيمان مصدريها بوطن يستحق،
ويحتاج لرؤية ثورية، نضالية، شريفة، لما يجرى فيه. إنها جديرة بالاحترام.
بيروت بالليل
كمال رمزي
الأربعاء 2 مايو 2012
اهتمت الصحافة اللبنانية بقضية «بيروت بالليل» أكثر من الفيلم ذاته،
فما إن أصدرت «مديرية الأمن العام» قرارها بمنع عرض «بيروت بالليل» أو
«فندق بيروت»، حسب عنوانه الأجنبى، حتى أخذت ردود الأفعال الساخنة تندلع.
معظمها، ينتقد القراء انتقادا شديدا، ويعتبره مقدمة تنذر بالخطر علي حرية
الفكر والفن التى تتمتع بها الثقافة اللبنانية. من ناحيته، قام طاقم الفيلم
بعقد مؤتمرات صحفية، وتقديم شكوى إلى «مجلس الشورى». لكن الأهم أن هذا
المنع أدى إلى انتشار «بيروت بالليل»، خلال أقراص «الديفيهات» على نحو واسع
ومكثف. ثمن القرص، الذى يباع علنا، ألف ليرة، أى أقل من عشرة جنيهات، أو
ربع ثمن تذكرة السينما فى لبنان. «بيروت بالليل» شارك فى العديد من
مهرجانات السينما، وعرضته كاملا قناة «أرتيه» الفرنسية.
دانيال عربيد، مخرجة الفيلم حققت من قبل «معارك حب» 2004، و«رجل ضائع»
2007، وكلاهما له علاقة بالحرب الأهلية، بينما «بيروت بالليل» يدور فى
الحاضر. بطلته «زاهية» واسم شهرتها «زاهى»، تغنى فى ملهى ليلى، تتمتع بوجه
بالغ الجمال، وجسد فائر فاتن، تؤدى دورها بمهارة تمثيلية واضحة، دارين
حمزة، ذات الصوت المتحشرج، المشروخ، حيث يبدو ضعفه واضحا فى الأغانى الصعبة
التى تنشز بها «أهواك» لعبدالحليم حافظ، «يا حبيبى تعالى قوام الحقنى»
لأسمهان، «يا زهرة فى خيالى» لفريد الأطرش، لكن ذكاء دانيال، اللبنانى
المتقد، جعلها، مع مصورها الفرنسى، تختار أجمل الزوايا لبطلتها، فمن جانب
خلاب لجزء من كتفها، إلى لقطة كبيرة لشفتيها الكرمزيتين، إلى لقطة عامة
لها، بفستان أزرق، بينما كل شىء غارق فى الظلام، «زاهى»، تشنف آذاننا
بوجهها وجسمها.
«زاهى»، تريد الطلاق من زوجها الشرس، المنفصلة عنه، تلتقى منذ
البداية، بماثيو، المحامى الفرنسى، حسب زعمه، يؤدى دوره ممثل فرنسى، من
الدرجة الثالثة فيما يبدو، بارد، ثقيل الظل، جامد الملامح، لا تعرف ما الذى
دفع «زاهى» إلى عشقه، والهيام به، بل خلع ملابسها فورا، كلما انفردت
بسماجته ــ هكذا، الناس حظوظ! ــ وتسرف عربيد فى تعقب تفاصيل تلك اللقاءات،
المرة تلو المرة، على نحو يعطى ذريعة لانزعاج السلطات الرقابية، التى أرجعت
منعها للفيلم إلى أسباب سياسية قبل أن تكون أخلاقية.
ماثيو، العشيق، بأداء «شارل برلينج»، فى مستوى الشبهات. يتفق مع محام
لبنانى على شراء معلومات حول اغتيال رفيق الحريرى، وبينما يذيع التليفزيون
اللبنانى أخبارا عن أحداث دامية، يستدعى مسئول المخابرات بطلتنا، يسألها عن
حقيقة «ماثيو»، ومكالماته التليفونية أمامها، وعما إذا كانت سمعت كلمة
«إسرائيل» منه.. عقب خروج «زاهى» من جلسة التحقيق منهكة، يتألق الفيلم
للحظات، فعيون الرجال، فى الشارع، تبدو لها كما لو أنها تراقبها.. وهو ذات
الإحساس الذى ينتاب «ماثيو»، بعد استجوابه من قبل نفس رجل المخابرات
الهادئ، القوى، الذى يؤدى دوره ممثل متميز، اسمه بول مطر، طبعا، من الصعب
تخمين السبب السياسى الذى أدى لمنع الفيلم، لا يمكن أن يكمن السبب فى تقديم
الفرنسى على أنه «جاسوس»، خاصة أن فرنسا مساهمة فى الإنتاج. كذلك من
المستبعد أن يرجع الدافع إلى ظهور لبنانى يعرض تقديم معلومات عن مصرع
الحريرى فى مقابل قبول فرنسا له كلاجئ سياسى.
أغلب الظن أن الرقابة انزعجت، حين قال رجل المخابرات مايفيد باختراق
بعض أجنحة مؤسسته، وتقوم الأجنحة الأخرى بكشفها.. أيا كان الأمر، فإن
«بيروت بالليل»، الضعيف، المتهافت إجمالا، أسعده الحظ بتلك الرقابة التى
منعته.. فأهدته.. قبلة الحياة.
الشروق المصرية في
02/05/2012 |