ينتمى فناننا الراحل، إلى مدرسة الكاريكاتير فى التمثيل المصرى، وهى
مدرسة عريقة، ذات شأن، من أساتذتها حسن فايق، المتوتر الأعصاب بلا ضرورة،
المتحمس دائما.. عبدالفتاح القصرى، المعلم الجاهل.. عبدالسلام النابلسى،
الارستقراطى المفلس، الوجيه بلا وجاهة.. وطبعا، إسماعيل ياسين، الرجل الذى
يعيش بقلب وأحاسيس طفل.. وإذا كان الكاريكاتير، أصلا، يعتمد على إبراز
التناقض، أو التباين، بين الجوهر والمظهر، فضلا عن درجة ما من التلاعب فى
أبعاد وملامح هذا النمط أو ذاك، فإن يوسف داود، بداية، تمتع بشكل
كاريكاتورى، ولأنه سطع على الشاشة، بعد ان تجاوز الأربعين من عمره، فإن
ملامحه جاءت، وبقيت، مكتملة، مستقرة: جسم بالغ الضخامة، معتدل القوام،
يعلوه رأس كبير، أميز ما فيه الفم الشديد الاتساع. ولان لمعان صلعته يمتد
إلى الجبهة، فإن الحاجبين القصيرين، بشعرهما المشعث، يلفتان نظر المشاهد،
وإذا أضفت لهذه التقاطيع الغليظة صوته الخشن، المدعوم بحنجرة قوية، سيبدو
كأن الطبيعة منحته شكلا كاريكاتيريا.
شارك يوسف داود فى أكثر من خمسين فيلما، علاوة على عدة مسلسلات
ومسرحيات. ومنذ البداية، أثبت جدارته الفنية، بفضل ما تميز به من حيوية
انفعالية، نفاسنية، وبدنية، فبرغم ضخامة بنيانه، فإنه على قدر كبير من
الليونة والنشاط. بعد ثلاث سنوات من دخوله عالم السينما، قدم خلالها خمسة
أو ستة أفلام، يبلور رأفت الميهى شخصيته فى «سمك لبن تمر هندى»، حيث يتوافق
يوسف داود تماما مع الخيال الجامح لرأفت الميهى.. اسمه فى الفيلم «ملاك»،
بينما هو أقرب للشيطان، ضابط شرطة يريد الايقاع بالبطلين، محمود عبدالعزيز
ومعالى زايد، يتهمهما بالإرهاب، يطاردهما من مكان لمكان، خاصة داخل مستشفى
يلخص المجتمع المصرى آنذاك، وحتى الآن.. يوسف داود هنا، يجسد القوة
الغاشمة، ويتحول من الجدية الصارمة إلى الهزل التام، ومن الذكاء اللامع إلى
الغباء المفرط، ومن الشجاعة المتهورة إلى الجبن الخالص، وها هو فى ذروة
عنفوانه ينهنه بالبكاء مرتعشا أمام تأنيب وتوبيخ والده.. وفى انقلاباته
ينتقل، بنعومة، من حال لحال.
بهذه الأبعاد، ظهر يوسف داود فى عشرات الأفلام. المفارقات تأتى خلال
التناقض بين ما يجب ما يكون عليه، وما هو عليه فعلا، فهو مدير الفندق
الأنيق، الدقيق، الشريف، فى «بخيت وعديلة» لنادر جلال 1995، لكنه لا يتورع
عن الارتشاء، بل الدخول فى عملية قذرة مع نصابين. وفى «أمير الظلام» لرامى
إمام 2002 يؤدى دور مدير مؤسسة رعاية مكفوفين، وبدلا من أن يكون رحيما مع
النزلاء، نراه يقسو عليهم بطريقة وحشية. لكن، ها هو، بغطرسته، يجهش بالبكاء
ويجأر بالصراخ، عندما يصبح ضحية للهوان. وفى «زيارة السيد الرئيس» لمنير
راضى 1994، يغدو ناظر مدرسة أطفال فى قرية منسية، يتوهم أنه موسيقى موهوب،
يحلم بأن يكتشفه الرئيس الأمريكى الذى سيزور القرية. لكن، ها هو يتهالك
محبطا، شأن بقية الأهالى، حين يحرق القطار الذى يحمل الرئيس دون أن يتوقف
فى المحطة ولو للحظة.
فنان الكاريكاتير، فى التمثيل، يلمس شغاف القلب، حين يجد شخصية
إنسانية بعيدة عن نمطه المعتاد. وفى قائمة أفلام يوسف داود، إلى جانب دوره
الرقيق، الرومانسى، فى «شقة مصر الجديدة» لمحمد خان 2007، يتألق فى «فيلم
هندى» لمنير راضى 2003، كعاشق لآلة العود الشرقية، يتسع أفقه لقبول
الآخرين، يحنو على الجميع، يحتضنهم بنظرات تفيض بمحبة خالصة، وهو فى هذا
يبدو أعمق إنسانية من ابنته المتدينة، التى لا تخلو من تطرف.. رحم الله
فناننا الأثير.
صلاح نظمى
كمال رمزي
الثلاثاء 26 يونيو 2012 - 8:45 ص
غدًا، عيد ميلاد صلاح نظمى «24 يونيو 1918 ــ 12 فبراير 1991»، صاحب
الحضور المنسى، المظلوم، سواء من الجمهور أو النقاد. شارك فى أكثر من مائتى
فيلم، منذ «هذا جناه أبى» لبركات 1945، حتى «بلطية بنت بحرى» لصلاح سرى
1995. وبرغم هذا الكم، لن تجد تفسيرا لظاهرة انتشاره، كما لن تقرأ تقييما
لأدائه المختلف، أو على الأقل المتباين، بين هذا الفيلم وذاك.. ربما، لأن
أدوار صلاح نظمى الأولى، اتسمت بمزيج من الشر، والاستعداد للتآمر، مع
الابتعاد عن رقة العواطف وخفة الروح. ومع توالى التأكيد على هذه الأبعاد،
وفى ظل سينما كسولة الإبداع، أصبح الرجل شخصية جاهزة، يكفى أن يظهر مع فريد
الأطرش أو عبدالحليم حافظ أو عماد حمدى أو غيرهم من النجوم المحبوبين، كى
يدرك المتفرج أنه إزاء غريم البطل، ينازله، بالدسائس، كى يستولى على
الحبيبة.
هذه الشخصية الجاهزة، بدت كضرورة، فى عشرات الأفلام، كى تنقذ البطلات،
من الإدانة الأخلاقية، برغم أن تصرفاتهن، بالمعايير الإنسانية الجادة،
تنتزع منهن غلالات الرومانسية، وتقضى على التعاطف معهن..
فمثلا، فى «بين الأطلال» لعزالدين ذوالفقار 1959، يخفق قلب منى ــ
فاتن حمامة ــ بحب الروائى محمود ــ عماد حمدى ــ لكن تتزوج من رجل آخر،
يعمل فى السلك الدبلوماسى، وحين يصاب الروائى، السكران، فى حادث سيارة،
تقرر البقاء إلى جانبه، ضاربة، عرض الحائط، بنواهى وحقوق زوجها الذى يضطر
لطلاقها.. ولأن الذى يؤدى دور زوجها هو صلاح نظمى، الثقيل، فإن المتفرج لا
يرى فداحة ما فعلته تلك الزوجة. وتتكرر هذه الحالة لاحقا، فمع فاتن حمامة
أيضا، فى «الخيط الرفيع» لحسين كمال 1971، يغدو صلاح نظمى رجل أعمال ناجح،
شريف، صاحب شركة مقاولات لها شأنها، يثق فى زوجته، ويحترم أحد المهندسين
الطموحين ــ بأداء محمود ياسين ــ وتنشأ علاقة بين الزوجة والمهندس،
مبررها، أن الزوج الجاد، الثقيل، صلاح نظمى ينكب على عمله، وليس عنده الوقت
الكافى للاهتمام بالمدللة.. بعد عشرة أعوام من «الخيط الرفيع»، أمسى صلاح
نظمى عجوزا فى «الجحيم» لمحمد راضى، فتتجه زوجته ــ بأداء مديحة كامل ــ
لإقامة علاقة مع عابر سبيل ــ عادل إمام ــ وتدفعه لقتل زوجها، ولكنه يرفض،
فتفتح الغاز لينفجر المكان قبل هروبها، فتموت مع زوجها.
أداء صلاح نظمى، إجمالا، يميل للواقعية التى تبلغ أحيانا حد الطبيعية.
يبتعد تماما عن الصوت العالى ويتجنب المغالاة فى الانفعالات، ويتميز بقدرته
على إبراز تفاصيل البعد الاجتماعى، فى الأنماط التى يؤديها، وآية ذلك تتجلى
فى علاقته بالملابس والاكسسوارات، فإذا تأنق وجلس خلف مكتب، ممسكا بسيجار
أو بايب، فإنه ثرى، منعم.. وإذا ارتدى الجلباب الصوف، البلدى، بأكمامه
الواسعة، ووضع الجبة الكشمير حول كتفيه، وحمل العصا الأبنوس، فإنه المعلم
الذى لا يشق له غبار.. وفى «المطارد» لسمير سيف 1984، و«التوت والنبوت»
لنيازى مصطفى 1986، ينضم إلى حرافيش حارة نجيب محفوظ. يتعرض لمهانات
الفتوات، برغم حالته الميسورة. فى الفيلمين، يلتمع فى عينيه ذلك الإحساس
المركب بالغضب المكتوم، والإذعان طلبا للأمان.. وثمة ثلاثة أفلام ظهر فيها
على نحو لافت: فى «ثرثرة فوق النيل» لحسين كمال 1971، يؤدى شخصية الأديب
خالد عزوز، وبرغم اندماجه فى أجواء العوامة المعبقة بدخان الحشيش، يحاول
الاحتفاظ لنفسه ولو بقدر قليل من الوقار. وفى «الأفوكاتو» 1984، يمنحه رأفت
الميهى دورا كوميديا ــ ربما لأول وآخر مرة ــ فيجسد شخصية سليم أبوزيد،
أحد مراكز القوى، المسجون، الذى لم يتخل عن صلفه وغروره. وفى «شىء من
الخوف» لحسين كمال 1969، يقنعنا تماما بأنه درع عتريس، والرجل الثانى فى
عصابته.. لا يتحدث كثيرا، لكن تجهم وجهه، وصلابة ملامحه، ورصانة حركته،
أمور تؤكد قوته ونزعته الإجرامية. وحين يتخلى عن «عتريس»، يبدو الأخير كمن
فقد درعه.. صلاح نظمى، صفحة منسية فى كتاب السينما المصرية.
مولود فى 25 يناير
كمال رمزي
الأربعاء 20 يونيو 2012 - 8:55 ص
فى هذا الفيلم يمتزج العام بالخاص، الوقائع الموضوعية بالمواقف
الذاتية، فالمخرج أصلا، أحمد رشوان، يرنو، إلى تحقيق سينما جديدة، مستقلة،
لا ترضخ للسائد والمألوف، وربما، مثل غيره من زملاء جيله، يتمنى، فى جانب
من قلبه، تغيير النظام الأبوى المستبد، الجاثم على الوطن، منذ ثلاثة عقود..
ومع هذا، فإن أحداث الثورة، بعنفوانها، تباغته، كما فاجأت، بدرجات متفاوتة،
القائمين بها، ذلك أن هول البطش بها، ومحاولة قمعها، بوحشية قوات الأمن،
كان أكبر مما هو متوقع، لكن الأهم، أن مئات الآلاف من أبناء مصر، قبلوا،
بعزيمة من فولاذ، التحدى، وواجهوا، بصدور عارية، وسواعد خالية من السلاح،
قوات مدججة بالسلاح والعتاد.. ولم يكن أمام أحمد رشوان، إلا النزول إلى قلب
ميدان الوغى، حاملا آلة التصوير، ليرصد، بعين سينمائية، مرهفة وشجاعة، ما
يندلع على أرض النار والدم.
الفيلم قد يبدو بسيطا، ولكن بشىء من التأمل، ندرك أنه شديد التركيب،
وأنه على قدر كبير من السلاسة، فمخرجه المتمكن، أحمد رشوان، مع مونتيرته
المتفهمة لأصول فنها، استطاعا أن يجدلا من المادة المتنوعة، الثرية،
المتوافرة لديهما، عملا يتدفق بنعومة على الشاشة، برغم كميات العنف التى
تكتظ بها المشاهد.. اعتمد رشوان على صورة فوتوغرافية، وعناوين جرائد،
ومقاطع من خطب حسنى مبارك، وشذرات من التلفاز، وحوارات متناثرة، ولقطات
وثائقية، وتعليقات من المخرج، المشارك فيما جرى، والذى يقوم، فى الفيلم،
بدور الراوى، الأمر الذى يعطى للعمل درجة ما، من الحميمية.
يهدى المخرج فيلمه للشهيدين مينا دانيال، وأحمد بسيونى، أولهما استشهد
فى مذبحة ماسبيرو الشهيرة، وثانيهما، المصور، الذى درج على تنبيه زملائه
إلى البنادق الموجهة نحوهم، والتى يراها خلال عدسة الزوم، وبالتالى كان هو
نفسه هدفا ثمينا لأحد القناصين.. إهداء يعبر بوضوح عن انحياز أحمد رشوان،
والذى يتجلى لاحقا، فبعد أن يستعرض المخرج «ألبومه» الشخصى، بكاميرا تكاد
تتحول إلى عين بشرية، تحنو على المصابين، تتزاحم لترصد اصطياد الشباب
الثائر، لتزج بالواحد تلو الآخر، بلا رحمة، داخل عربات الشرطة السوداء،
مشيعين بكلمات غادرة، وضربات هراوات غادرة.. إنها مشاهد تسجيلية جديدة،
تضاف إلى الشرائط الوثائقية التى تدين ذلك النظام القمعى، بمخالبه الهمجية.
«مولود فى 25 يناير» يعرف فضيلة الاختزال والتكثيف والإيحاء، فبعدد
قليل من الصور الفوتوغرافية، يعبر بما تحمله من بقع الدم، وجثث ملفوفة فى
أكفانها، عن جريمة تفجيرات كنسية القديسين، وعن طريق التقطيع السريع، بين
عبارات حسنى مبارك، التى يتحدث فيها عن الأمن، وما يدور فى الميدان، يبين
الفيلم بعد الشقة بين السلطة المتداعية، مجسدة فى رئيس يتهاوى، وشباب شد
العزم على إنهاء النظام.. وبينما تزداد شراسة المعارك، ينتقل المخرج إلى
بيته، لالتقاط الأنفاس.. وها هى القهوة، تغلى، داخل كنكة فوق الموقد.. ولا
يفوت أحمد رشوان أن يقدم جانبا مشرفا من فنانين، اندمجوا فى آتون الثورة،
يسرى نصر الله، خالد يوسف، جيهان فاضل، محمد خان، كاملة أبوزكرى، وآخرين،
يبرز من بينهم خالد الصاوى، الذى يتابعة الفيلم فى أكثر من مظاهرة، وفى كل
مرة، يبدو وجهه، من دون ماكياج، وكأن الإنهاك يغزو ملامحه، ولكن لمعة
الإصرار والإيمان بالنصر يلتمع فى عينيه.. إنه فى هذا، يشبه الفيلم تماما.
جثة.. فوق صندوق انتخابات
كمال رمزي
السبت 16 يونيو 2012 - 8:00 ص
باستخفاف، وعلى نحو كوميدى ساخر، تعاملت السينما المصرية مع
الانتخابات، ومن الصعب أن يلومها أحد فى تصوراتها الكاريكاتورية، فهى فى
هذا تعبر عن تاريخ طويل من الزيف والتضليل، يتجلى على الشاشة فى المشهد
التقليدى المتكرر، للشادر المقام فى منطقة شعبية، من أجل الدعاية لمرشح
يجلس على المنصة، نعلم أنه أفاق وفاسد، وإلى جانبه زبانية يعددون مناقبه
ويكيلون له المديح، وغالبا، ينتهى الاحتفال بخناقة، تتطاير فيها الكراسى،
وترتفع النبابيت، وتتهشم كلوبات الإضاءة.. ومن قلب عشرات الأفلام، يمكن
القول إن السينما المصرية، نظرت بعين الشك، لأعضاء مجالس النواب، الأمة،
والشعب، بل فضحت الكثير من دوافعهم وتوجهاتهم وممارساتهم، سواء قبل أو بعد
انخراطهم تحت قبة البرلمان.
صلاح أبوسيف، فى «الوحش» 1954، يؤكد وقوف رضوان باشا «عباس فارس»،
الإقطاعى، عضو مجلس النواب، بجانب ووراء المجرم، فارض الإتاوات، قاطع
الطريق، عبدالصبور «محمود المليجى»، ويحميه، مقابل قيام الأخير بتصفية حساب
الباشا ضد خصومه، ومساعدته فى الانتخابات.
بعد أكثر من ثلاثين عاما، يحقق داود عبدالسيد «الصعاليك» 1985،
والفيلم، شأنه شأن «الوحش»، يعتمد على أحداث حقيقية، فبينما استوحى صلاح
أبوسيف قصة «الخط»، مجرم الصعيد، استند داود عبدالسيد على وقائع صعود وأفول
«رشاد عثمان»، أحد شبيحة الانفتاح فى الإسكندرية. «الصعاليك»، يرصد مشوار
الصديقين الصعلوكين، صلاح ومرسى، بأداء محمود عبدالعزيز ونور الشريف.
أولهما عاطفى، عشوائى، والثانى عقلانى، صارم القرارات والتصرفات، يدرك
بدهائه أن التستر على جرائمهما، ومواصلة تسيدهما، وزيادة نفوذهما، أمور لن
تتحقق إلا بوصوله عضوا فى مجلس الشعب، وكان له ما أراد.
نور الشريف، يطالعنا فيما بعد، متسللا إلى البرلمان، هاربا من ماض
ملوث: «الهروب إلى القمة» لعادل الأعصر 1996، و«عمارة يعقوبيان» لمروان
حامد 2006. فى «الهروب إلى القمة» يتحول نور الشريف من لص الخزائن «سيد
الهوا»، بوجهه الواضح الإجرام، إلى «وجدى الزينى»، بوجهه البرىء، المحترم،
بعد إجراء عملية تجميل وتمتد لنمط حياته، فيغدو، بفضل مؤسسات أقرب
للعصابات، نائبا بمجلس الشعب، يقوم باستجوابات، متفق عليها، بشأن صفقات
القمح المشبوهة، يصول ويجول، لتنتهى المسألة بتقديم الشكر للقائمين على
الأمور. هنا، يكشف الفيلم لعبة الاستجوابات المزيفة.. أما فى «يعقوبيان»
فإن نور الشريف، بمهارة، يجسد «الحاج عزام» المتسلق، المتورط فى تجارة
الهيروين، يريد تأمين نفسه بالاحتماء بالبرلمان، وربما لأول مرة، إن لم تكن
المرة الوحيدة، نشهد على الشاشة، رشوة الحزب الحاكم ــ أيامها ــ حيث يدفع
«الحاج» مالا كثيرا، لمسئول يقول، صادقا، إن هذه المبالغ، ليست له وحده.
ينهض «حتى لا يطير الدخان» لأحمد يحيى 1984 على ذات الفكرة التى
تعشقها السينما المصرية: الشاب القادم من قاع المجتمع، يدرك، بذكائه الوحشى،
قوانين الصعود السريع فى نظام لا يرحم. ينغمس فى جرائم، ويجد درعه فى حصوله
على عضوية مجلس الشعب.. عادل إمام، يؤدى شخصية «فهمى»، المعدم، الذى يدرس
الحقوق، ويعيش حياة ضنينة فى كنف ثلاثة أصدقاء أثرياء، يجهز لهم سهراتهم
ويدبر لهم الحشيش، وشيئا فشيئا يتحول إلى تاجر مخدرات، يعرف طريقه إلى
البرلمان.. لكن السينما المصرية الحذرة، بنزعتها الأخلاقية، لا يفوتها
معاقبة «فهمى» الذى يموت مدمنا. ومصيره البائس هنا، لا يختلف عن مصير طابور
زملائه: «رضوان باشا»، يلقى حتفه على يد مخلبه «عبدالصبور». «مرسى»، فى
«الصعاليك» ويقع فى قبضة الشرطة. «سيد الهوا» أو «وجدى الزينى» ينكشف أمره
فى «الهروب إلى القمة». «الحاج عزام». يغادر عمارة يعقوبيان، فى طريقه
للسجن.
الانتخابات، فى هذه الأفلام، وغيرها، لا تستغرق العمل كله، فهى تأتى
كحلقة من حلقات الصعود، ولهدف لا علاقة له بما يتشدق به المرشح حول رغبته
فى خدمة أهالى الحى الكرام. ولعل الفيلم الوحيد الذى يتابع الانتخابات
كاملة، هو «الجردل والكنكة» لنادر جلال 1997، حيث تتوالى المواقف الساخرة،
من أساليب الدعاية الممجوجة، لكل من بطلى الفيلم: «بخيت المهيطل» بأداء
عادل إمام، و«عديلة صندوق» بأداء شيرين، فالهتافات المبتذلة من نوع «المهيطل
يا بلاش.. واحد غيره ما ينفعناش»، وهو الهتاف السمج، المتكرر واقعيا، مع كل
مرشح، بالإضافة لتوزيع قطع اللحم والقماش كرشوة للمواطنين، فضلا على تعقب
الفيلم لأساليب المناورات الرخيصة التى يتبعها الخصوم، الأقرب إلى
العصابات، وربما ما يعيب «الجردل والكنكة» انتصاره غير المبرر لبطليه،
وزعمه أنهما ينحازان للناس، بينما نعلم تماما أنهما أفاقان، من شذاذ
الآفاق.
عشرات الأفلام، تعرضت لمسألة الانتخابات، معظمها ساخر، وهذا لا يعنى
أنها ضد الديمقراطية، لكنها مجرد هجائيات للأسلوب المصرى فى اختيار النواب
وإدارة العملية الانتخابية.
من بين هذه الأفلام، يتألق «يوميات نائب فى الأرياف» لتوفيق صالح
1969، وبالتحديد فى شذرة من حوار كاشف وبديع، ولقطة النهاية التى تقول
الكثير.. يقول المأمول ــ توفيق الدقن ــ إنه لا يتدخل فى الانتخابات، كل
ما يفعله هو إلقاء الصندوق، بأوراقه، فى الترعة، وتقديم صندوق آخر، جديد،
جاهز، أوراقه تختار المرشح الذى تريده الحكومة.. أما عن اللقطة الأخيرة،
التى توفرت فيها الطاقة الإبداعية لكل من توفيق الحكيم، وكاتب السيناريو،
ألفريد فرج، مع المخرج توفيق صالح، فتأتى حينما يتم العثور على جثة الفتاة
الجميلة، الأخاذة، الغامضة «ريم» ــ إلى ماذا ترمز؟ هائمة فى مياه الترعة..
يندفع البعض لسحبها إلى الحافة.. من القاع، يخرجون صندوق الانتخابات.. لا
يمكن للمرء إلا أن يفكر طويلا، فى معنى انتهاء الفيلم بجثة ريم، ممددة، فوق
صندوق انتخابات.
مشاهدة جديدة
كمال رمزي
السبت 9 يونيو 2012 - 8:55 ص
قلت لنفسى: لو أنى قرأت هذا الكتاب فى بداية حياتى المهنية، كنت سأغدو
متذوقا لفن السينما، أفضل كثيرا مما أنا عليه، ولتمكنت، على نحو أعمق، من
كشف الأسرار الخلابة لسحر عالم الأطياف.
لكن، بعد أن قرأت، مستمتعا، فصول الكتاب، اقتنعت أن الحظ حليفى، ذلك
أنى عايشت، بعيون المؤلف، عشرات الأفلام التى انبهرت بها من قبل، وكأنى
أشاهدها للمرة الأولى.. فعلى سبيل المثال، حين يتعرض الباحث لفيلم «إم»
للمخرج الألمانى فريتز لانج، الذى يدور حول قاتل مجنون للأطفال، أصاب
المدينة بالهلع، وبينما تكاد الشرطة تفشل فى العثور عليه، يحاول المجرمون
القبض عليه. المنظمتان، الشرطة ورجال العصابات، يقدمهما المخرج كـ«منظمتين
متماثلتين متوازيتين، تهتمان بتخليد الذات، والقبض على المجرم هو الذى سوف
يسمح لكل من المنظمتين بالاستمرار فى عملهما كالمعتاد». ولتأكيد هذا
المعنى، يتابع الفيلم اللقاء المنفصل الذى يدور بين رجال الشرطة من ناحية،
ورجال العصابات من ناحية أخرى، وقائد كل مجموعة يناقش فشل العثور على
المجرم.. هنا، يرصد الباحث أحد ابتكارات لانج الإبداعية، حين يربط بين
المؤسستين عن طريق الحوار، حيث يبدأ بجملة فى اجتماع الشرطة، ينهيها بجملة
فى اجتماع المجرمين، فالحوار واحد، وطريقة التفكير واحدة، وعن ذات الفيلم،
يتأمل المحلل طريقة أخرى، مبتكرة، صاغها فريتز لانج مبكرا «1931»، فى
استخدامه للصوت، فالأم التى اختفت ابنتها «إيلزى» تنادى عليها، وفى كل مرة،
نرى صورة مختلفة: من نافذة المنزل، إلى السلالم، ثم إلى الفناء حيث يجف
الغسيل المنشور، إلى طاولة العشاء الخالية حيث من المفترض أن تجلس «إيلزى»،
وأخيرا إلى البعيد، حيث تدور كرة أطفال فى منطقة مليئة بالأشجار، وإلى
بالونة مشبوكة فى أسلاك التليفون، ومع كل لقطة يصبح النداء على الطفلة
أبعد، وفى اللقطتين الأخيرتين يتحول إلى مجرد صدى واهن.. مما يعنى ضياع
البنت من أمها.
على هذا النحو من التذوق المرهف، تتواصل رحلة المؤلف، طوال أكثر من
ستمائة صفحة، متنقلا عبر مئات الأفلام، متلمسا مناطق الجمال فى اللغة
السينمائية، وبلاغتها، وارتباطها ببعضها بعضا، ويتعرض، برحابة أفق للسينما
التسجيلية، وتأثير الإذاعة، والمسرح، والتليفزيون، على فن الفيلم الذى
يتطور مع كل اختراع بشرى، والكتاب فى هذا يبدو أرق من عنوانه المتجهم
«تقنيات مونتاج السينما والفيديو.. التاريخ والنظرية والممارسة»، وفيما
يبدو أن العنوان له علاقة بمهنة كاتبه كين دانسايجر، الأستاذ، المحاضر، فى
الجامعة الأمريكية، ولكن الرجل، فى طريقة نظره للأفلام، وتحليلها، يتحرر
تماما من الآراء «الأكاديمية» المسبقة، ويستقبل العمل السينمائى بوجدانه،
وعقله، لذا جاء الكتاب مفعما بالأحاسيس، والآراء، وربما لهذا السبب أعيد
طبعه أربع مرات، منذ صدوره عام 1993.. طبعا مع إضافات تُلاحق التغيرات
والتطورات فى كل طبعة جديدة.. ولا أظن أن أحدا كان من الممكن أن يترجم
الكتاب، بهذه السلاسة والدقة والعذوبة، سوى الناقد المتميز، أحمد يوسف،
الذى يتسم أسلوبه، أصلا، بنوع فريد من الجمال، فضلا على ما يتمتع به من
ثقافة واسعة، وخبرة بالأفلام التى يتعرض لها كين دانسايجر.. وهنا، من باب
الأمانة، لابد من الإشارة إلى أن الكتاب يحمل رقم «1689» من إصدارات المركز
القومى للترجمة، الذى قام على كتفى د.جابر عصفور، وواصل مشواره من أتى
بعده، الأمر الذى يؤكد أن مصابيح الإنارة فى مصر، لن تطفأ أبدا.
الشروق المصرية في
09/06/2012 |