لايمكن أن تعرف حدود قوة وبساطة وجسارة المرأة المصرية إلا إذا شاهدت
فيلماً ينضح صدقاً وفناً مثل فيلم "ضلّ راجل" الذى أخرجته حنان عبد الله،
ونجحت من خلاله فى تكثيف رؤية أربع نساء من أماكن ومستويات تعليمية وثقافية
مختلفة عن العلاقة مع الرجل فى مجتمع شرقى محافظ كالمجتمع المصرى.
اسم الفيلم قادم مباشرة من المثل المصرى المعروف" ضلّ راجل ولا ضلّ حيط"،
ولكنه لا يكرّس لمفهوم المثل فى صورته المتخلفة التى تجعل المرأة فى حاجة
الى أى رجل"والسلام"، لأن ذلك أفضل لها من أن تستند الى الجماد، المثلْ
يجعل المرأة كائناّ بلا خيارات، لايمتلك أى شروط أومطالب، عليه فقط أن
"يلحق" رجلاً من الرجال قبل أن يعيش الوحدة والهوان.
فيلمنا ليس بالتأكيد ضد الرجل، وهو بالقطع ليس فيلماً تحريضياً مثل بعض
الأفلام النسوية، تحتاج المرأة الى رجل والعكس صحيح، ولكن المرأة لا يجب أن
تقبل أى رجل وخلاص، النساء لا ترفضن الرجال ولكنهن تحلمن بالإستقلال
والحرية والكرامة، لديهن شروط إنسانية لا يمكن المساومة بشأنها.
اختارت حنان عبد الله نماذجها بعناية، محور التقسيم هو الحالة الإجتماعية،
هناك أولاً بدرية المتزوجة، وهناك ثانياً وفاء المطلّقة، وهناك ثالثاً
شاهندة مقلد الأرملة، ولدينا رابعاً سوزان التى لم تتزوج بعد،هذا هو أساس
التقسيم المناسب لموضوع الفيلم.
تنويعات واختلافات
ولكن التقسيم يأخذ كذلك أطيافاً ملونة باختلاف السن والمكان والمستوى
التعليمى: بدرية شابة من بنى مزار فى محافظة المنيا، ووفاء عجوز بدينة تعيش
فى الحسين فى القاهرة القديمة، وشاهندة مقلد مناضلة يسارية تجاوزت سن
الشباب وتعيش فى كمشيش بالمنوفية، أما سوزان فهى شابة فى أوائل الثلاثين،
حاصلة على مؤهل عال، ولكنها استقلّت عن اسرتها بافتتاح محل للخردوات فى
دمياط.
تبدو العيّنة على هذا النحو وكأنها محاولة لتمثيل معظم شرائح نساء مصر
المحروسة، الأهم من التمثيل أن المخرجة التى تقابلت مع السيدات نجحت فى
اكتساب ثقتهن فبدأن فى الفضفضة ، ويقوم بناء الفيلم بأكمله على تضفير
الروايات والحكايات والإعترافات معا وكأنها حكاية طويلة خاصة جداً ولكنها
عامة جداً، وتقطع ثورة يناير السرد ثم تختم مشاركة الفتيات فيها أحداث
الفيلم الذى ينتهى بأمل فى أن تواصل المرأة معركتها تحت شعار تردّد كثيرا
فى ميدان التحرير هو: " ما تعبناش .. ما تعبناش .. الحرية مش ببلاش".
بدرية حاصلة على مؤهل متوسط (دبلوم)، زوجها أيضا يحمل دبلوماً منذ 18 عاماً
، ولا يستطيع أن يعمل به، لديها ثلاثة أطفال تحبهم وترعاهم، سيدة منزل من
الدرجة الاولى تربّى الدواجن والمواشى، ولكنها تتعمد الكلام بالفصحى، كان
حلمها القديم أن تصبح فنانة تشكيلية، تحب زوجها ولكنها وافقت عليه فى سن
صغيرة جداً ، كانت مبسوطة أكثر بالفستان والزفة والفرح، نراها فى صور قديمة
مع الزوج على الشاطئ، ولكنها ستحكى عن مشاحنات وصلت بها الى طلب الطلاق
وترك المنزل، استفزها زوجها بتعليق سخيف يقلل من جهدها بعد يوم عمل شاق
داخل المنزل، تقول لنا فى مرارة أنها لا تطلب سوى أن تسمع كلمة حلوة، مجرد
عبارة شكر يقولها الغريب ويضن بها الزوج.
وفاء العجوز البدينة المطلقة الوحيدة تقول بوضوح أنها تكره الرجال، تحكى
ببساطة مثل سيدات المناطق الشعبية عن أدق تفاصيل حياتها، كانت مجرد فتاة
يعرضون عليها العرسان، رفضت أن تتزوج رجلاً لأنه أصلع، وافقت أخيراً على
زوج شرس وقوى، تعترف أنه كان يطلب منها حقه الشرعى فى أى وقت، أنجبت منه
ولم تتغير المعاملة، تعترف أنها زُفّت الى زوجها بطريقة الدُخلة البلدى حيث
اشتركت سيدات عجوزات فى فض بكارتها، فجأة زاد عليها الهمّ فهربت من المنزل
ورفضت الرجوع، وصفها زوجها بأنها امرأة مجنونة، ولكنها تبدو الآن سعيدة
بالحرية رغم كل شئ.
شاهندة مقلد، حكاية حب طويلة مع ابن خالتها وحبيبها وزوجها صلاح حسين،
والدة صلاح كانت رافضة، شاهندة كانت تحب صلاح وهو يحبها دون أن يعلنا ذلك،
تم كتب كتابها على شخص آخر ولكنها أصرت على الزواج بمن أحبت، صور قديمة
لهما تعلن عن شراكة حياة، تقول شاهندة إن زوجها الراحل كان يؤمن بحرية
المرأة ودورها حقيقةً لا كلاماً ، يتوقف الفيلم عند مأساة اغتيال صلاح حسين
فى حادث كمشيش فى الستينات، فى فيلم وثائقى قديم تظهر شاهندة وهى تجرى
بالملابس السوداء وحولها أهل القرية يهتفون بسقوط الإقطاع، مؤتمرات
جماهيرية تشارك فيها شاهندة وسط الفلاحين قبل وبعد ثورة يناير، أصبحت
تستكمل اليوم معركة زوجها وانحيازه للبسطاء، لا تستطيع أن تمنع نفسها من
الدموع وهى تتذكر بعد كل هذا العمر لحظة إبلاغها بمقتل زوجها.
سوزان فتاة تبدو عملية جداً ، نراها وهى تتحاور فى متجرها الصغيرمع بعض
المنتقبات منهن واحدة تزوج عليها زوجها، ترفض سوزان أن تعطى صوتها لمرشحة
على منصب الرئيس بحجة أن المرأة قد تحمل وتلد ولا تستطيع التفرغ، تراجعها
صديقتها بأن هذه الحالة إستثنائية، كما أن هناك رجال يتقلّدون مناصب ولا
يتفرغون لها باسباب مختلفة.
مشكلة سوزان أنها تخطت الثلاثين بدون زواج، ولكن ذلك لا يزعجها على
الإطلاق، تمت خطبتها أكثر من مرة وفسخت هى الخطوبة، نقطة اللاعودة تكون
عندما يتطلع خطيبها الى مؤهلاتها الجسدية، تقول إنها تعمدت أن تقابل أحد
خطّابها وهى فى حالة رثّة ،هرب منها ولم يعد مثل السابقين، تدريجياً تعترف
سوزان أنها تصبح عدوانية بعد الخطوبة، وعندما تفسخ خطبتها تحس وكأنه جبل
وانزاح.
الإعتراف الأخطر الذى يفسّر المشكلة كلها ستقوله سوزان فى النهاية، تقول
إنها تعرضت للتحرش من جدها، عاشت فى هلع ورعب لمدة عام كامل، لم تستطع أن
تتكلم، وعندما تكلمت لم يصدقها أحد، تتابعها الكاميرا وهى تتجمل استعداداً
لعريس جديد، حزينة ومتوترة ومضطربة، ولكنها سعيدة لأنها الآن مستقلة عن
الجميع.
على نار هادئة
كل حكاية تم بناؤها على مدار الفيلم على نار هادئة . ليس فى الفيلم هذا
الصخب المزعج فى بعض الأفلام التى تصف أحوال المرأة .عندما تكتمل
البورتريهات الأربعة ينتهى الفيلم، ربما تشعر أن خط ثورة يناير تم إقحامه
قليلاً، مما أعطى انطباعا بأن المخرجة متفائلة بتغيير جذرى سابق لأوانه،
بدرية تقول إنها ستذهب للإستفتاء، ووفاء تقول إن شيئا لم يتغير، لم أحب أن
يخرج الفيلم عن حكايته الأصلية، كان من الممكن أن يُستخدم الكلام عن الثورة
فى خلفية الحكايات الإجتماعية، أما مشاهد المظاهرات مثلاً فقد كانت أكثر من
الحاجة.
كنت أريد أيضاً أن يستكمل الفيلم الصورة ولو بشهادة صوت رجالى واحد مثل زوج
بدرية، الرجل ظهر وهو يأكل أو يلاعب أولاده دون أن تواجهه المخرجة بملاحظات
زوجته ومشاكلها معه، كانت المواجهة ستعطى الفيلم قوة وعمقاً.
ولكن كل هذه الملاحظات تتضاءل أمام قوة هذه النماذج النسائية المختارة، لن
تنس نظرة شاهندة الواسعة التى ترى أنه لا توجد امرأة حرة فى وطن مستعبد،
ولن تنس مناقشات بدرية مع ابنها العائد من الإمتحان ليبلغها أنهم غشوا كل
الإجابات، ستتذكر أيضا خجل وفاء وروحها المرحة، وقدرة سوزان على الصمود
ومواجهة نفسها وتعرية عقدتها رغم الألم والأسى.
نجاح فيلم "ضلّ راجل" الحقيقى فى هذا الإنطباع القوى الذى يتركه فى ذهن
مشاهده عن المرأة المصرية بكل لحظات قوتها وضعفها ، أحلامها فى مواجهة
الواقع الصعب، حيرتها فى سبيل تحقيق نفسها، مشاعرها كأنثى ومطالبها
كإنسانة، تأرجُح حياتها بين اليأس والأمل.
قوة الفيلم فى أن عنوانه يتحدث عن "ظل الرجل" فيما هو فى الحقيقة عن "ظل
المرأة" الظليل الذى لولاه ما كانت الحياة.
عين على السينما في
07/08/2012
"ستو زاد" .. نظرة خاصة تعانى من زيادة الجُرعة!
محمود عبد الشكور
مشكلة فيلم "ستّو زاد" الذى أخرجته هبة يسرى عن جدّتها المطربة العظيمة
شهرزاد تتمثّل ببساطة فى أن به من عناصر القوة ما يعادل عناصر الضعف، فيه
تلك النظرة الذاتية والخاصة التى تعطى الفن حلاوته وتفرّده، ولكن فيه أيضاً
من الترهل والثرثرة البصرية ما يستحق المراجعة، لدينا مخرجة تريد أن تكون
مختلفة، ولكن هذه الإرادة سرعان ما تخرج عن السيطرة فتزيد الجرعة ويتوه
القصد والمعنى والهدف.
هبة يسرى مخرجة موهوبة وطموحة بلا شك، اختارت وهى طالبة فى معهد السينما
بالجيزة أن تصنع فيلما تسجيلياً قصيراً عن فتيات الليل بعنوان "المهنة
امرأة".
نجحت فى اقناع بعض أولئك الفتيات بالكلام أمام الكاميرا فتحدثن بلغتهن
العارية. لم يكن الفيلم مثيراً على الإطلاق، على العكس، فقد صنعت هبة عملاً
مؤلماً لا ينسى، وطبعا قامت الدنيا ولم تقعد داخل المعهد وخارجه، ويقال إنه
الآن محفوظ فى حزائن معهد السينما، ولا يتم عرضه على الإطلاق.
عندما شاهدتُ الفيلم ضمن برنامج خاص للأفلام الممنوعة، أدهشتنى حساسية
طالبة فى تناول موضوع شائك أكثر من جرأة الموضوع أو جرأة ألفاظه، أعجبنى
الفيلم أكثر من فيلم آخر لنفس المخرجة الشابة تتحدث فيه عن عشقها للفن
وحبها للأضواء وللنجوم الكبار، ومعاناتها فى إقناع والدها بالتحديد بأن
تدرس السينما، رغم أن الأب دارس للموسيقى، وابن المطربة العظيمة شهر زاد،
ووالده / جدّ المخرجة، كان أحد العازفين الكبار على آلة التشيللو فى فرقة
أم كلثوم.
رؤية ذاتية
بدا واضحاً أن أحد اهتمامات المخرجة علاقتها بالفن ورغبتها فى التحقق، وقد
جاءت فكرة عمل فيلم وثائقى طويل عن الجدة شهرزاد "على الجرح" كما يقولون،
ولذلك اندمجت هبة يسرى تماما مع مثلها الأعلى فذابت الحدود بينها وبين
موضوعها، كل ما حققته شهرزاد تمنّته الحفيدة، فى كل لقطة كانت تقول لنا
أنها تريد أن تكون مثل هذه السيدة.
أعتبرُ أن هذه الرؤية الذاتية جداً من عناصر القوة فى الفيلم، لأنه من
السهل أن تلجأ الى التقليدى، والتقليدى فى هذه الحالة هو أن تقول إن شهر
زاد ولدت سنة كذا، وغنت لأول مرة فى سنة كيت، وتزوجت من فلان، وتعاونت مع
السنباطى فى هذه الأغانى، وظهرت كمطربة فى تلك الأفلام، ولكن الجديد فعلاً
أن يكون الفيلم من خلال عيون حفيدة تعشق الفن، الجديد أن يكون اسم الفيلم"
ستّو زاد" وليس " شهر زاد".
ليس معنى ذلك أن الفيلم سيهمل المعلومات الفنية، ولا الأغنيات الأشهر
للمطربة الكبيرة مثل "ياناسينى" و "عسل وسكر"، وليس معناه أنه لن يتعرض
لحفلاتها داخل وخارج مصر، ولكن كل ذلك سيشكل أساس الفيلم وليس شكل البناء
الفعلى الذى يدور بوضوح حول شابة لم تتحقق تشعر بالفخر بسبب جدتها التى
تحققت، رغم اختلاف الأجيال.
جمال هذه الزاوية أن الفيلم أصبح بالضرورة عن الجدة والحفيدة معاً ، ولكن
ظلت المشكلة الواضحة أن المخرجة لم تستطع أن تضبط فكرتها، فأصيب البناء
بالخلل، وتدخّلت أكثر من مرة بصوتها أو عن طريق كتابة عبارات ساذجة بلا
معنى أفسدت الإيقاع والمعنى، وأوقعت الفيلم فيما يقترب من الثرثرة التى
تستلزم أن تحذف مما تم تصويره ما لا يقل عن نصف الساعة.
هناك مثلا مقدمة عن حب هبة لجدتها التى تعتبرها عشقها الأول، ثم تتحدث
المخرجة بصراحة على أنها لم تكن تحلم أصلاً بأن تقف وراء الكاميرا، ولكنها
أرادت أن تكون ممثلة، وتستطرد بأن تعرض لنا لقطة من أحد أفلامها وهى تحت
الأضواء وتستمع الى تصفيق المعجبين.
كان يمكن أن يتم تكثيف البناء بصورة محكمة وصارمة يتحقق التوازن فيها بين
الذاتى والموضوعى، وخصوصاً أن السرد وجد حيلة جيدة جداً لتحقيق ذلك: هبة
ووالدها وشقيقها محمود يزورون الجدة شهرزاد فى شقتها المطلة على النيل،
تغيّرت ملامح الجدة تماما، بدت مثل ربة منزل عجوز عادية تعاونها إحدى
الخادمات.
خيوط البناء الأساسية أيضاً كانت تستطيع أن تحقق التوازن المنشود لأن
الحوار سيتواصل بين ثلاثة أجيال متتالية: جيل شهر زاد وزوجها عازف التشيللو
البارع الذى شجعها ودفعها للأمام مما جعلها تتحقق فنياً وأسرياً، وجيل
الابن، والد المخرجة، دارس الموسيقى الذى يتشكك الآن فى الوسط الفنى، ولا
يستريح لما حققه هو فى حياته لافنياً ولا أسرياً، والذى يداعب ابنته فى
الفيلم ويصفها بالمجنونة، كما يعترض على علاقتها بزملاء العمل، ثم جيل هبة
الطموح التى تظهر بنفسها فى مشاهد كثيرة وهى تحاور جدتها بانبهار، كما
تناقش والدها بقوة. كان واضحاً أنها تريد أن تقول لنا إنها تحلم بأن تكون
مثل الجدة وليس مثل الأب.
خطوط نموذجية
هنا خطوط نموذجية حقاً لصناعة فيلم تسجيلى استثنائى عن مطربة استثنائية
بواسطة حفيدتها التى تحلم بأن تكون استثنائية، ولكن نظراً لفوضى ضبط البناء
المونتاجى للفيلم، وحشد الكثير من المشاهد التى تكرّر المعنى، فإنك ستبذل
جهداً هائلا فى اكتشاف هذه الأسس الهامة للفيلم، طبعا هناك مشاهد يتحقق
فيها هذا الجدل بين رأى الجدة شهر زاد ورأى ابنها بشكل متتابع، ولكن هناك،
فى مناطق أخرى، استغراق فى بعض النقاط التى كان يكفيها مجرد المرور العابر.
كان الفيلم يستعيد قوته من زاويتين: الأولى عندما تحكى شهرزاد عن نجاحاتها
الفنية مثلما حدث فى أغنية يا ناسينى التى أثارت غيرة أم كلثوم فوصفتها
بأنها سيمفونية وليس مجرد أغنية، أو عندما نغوص فى علاقة المطربة الكبيرة
بزوجها، كأن نسمع أشرطة الكاسيت التى تحمل رسائل الحب الموسيقار المغترب فى
سلطنة عمان الى زوجته بالقاهرة.
فى مقابل ذلك، كان الفيلم يترهل كلما قطعته بعض تأملات المخرجة المسموعة أو
المكتوبة عن الفن والإبداع، صحيح أن هناك جهدا كبيرا وواضحا فى الإستعانة
بمواد مصورة لحفلات شهر زاد فى مصر والعالم العربى، وشرائط فيديو عائلية
تظهر فيها المخرجة وهى طفلة مع جدها وجدتها ووالدتها، بالإضافة الى مجموعة
من الصور القديمة التى تحتفظ بها شهرزاد لأعمالها المسرحية ولحفلاتها
الغنائية.
ولكن كل ذلك لم ينصهر مع الأسف فى بناء متماسك. ليس أدل من ذلك مثل أن
الفيلم الذى بدأ بزيارة الجدة كان يجب أن ينتهى بوداعها، ولكننا نكتشف بعد
مشهد الوداع أن الفيلم مازال مستمراً، حيث تظهر شهرزاد من جديد وهى تغنى!
نوستالجيا
هناك نوستالجيا (أو حنين) واضحة الى هذا الزمن البعيد الذى أتاح لفتاة كان
والدها قوى الشخصية وعنيفاُ، لدرجة أنه جعلها تنام على السلم، أن تتمكن رغم
ذلك أن تكون مطربة كبيرة فى زمن العمالقة، هناك حنين الى عصر الكبار مثل أم
كلثوم التى كانت وراء زواج شهر زاد من زوجها عازف التشيللو القدير، وهناك
حنين الى عصر المواهب الصوتية الحقيقية التى تغنى على المسرح باقتدار نراه
فى مشاهد كثيرة.
فى المقابل، يبدو الأب من أنصار الحياة العادية والتقليدية، محافظ جداً الى
درجة تجعله يستنكر ما تفعله ابنته من العمل والسهر مؤكدا أن والدته، شهر
زاد كانت تسهر فى رعاية زوجها العازف خلفها، وعندما تجادل هبة من خلف
الكاميرا بأن من حق الموهوبات تحقيق أنفسهن، يتحدث الأب موافقاً بشرط أن
تكون المرأة موهوبة بنسبة 100% مثل أمه المطربة العظيمة.
أحببتُ هذا الجدل الذى يؤكد ما قلته بأن الفيلم فى الواقع عن الحفيدة التى
تتمنى أن تتحقق مثل الجدة، أحببتُ أيضاً فكرة الإستثنائى فى مقابل التقليدى،
التناقض بين أن يتحقق جيل النصف الأول من القرن العشرين رغم كل الصعوبات،
بينما يحلم جيل الألفية الثالثة بالتحقّق وسط عبارات الجدل والسخرية،
وبالطبع قلت "الله" أكثر من مرة لقفلات الست شهرزاد المدهشة فى أغنياتها
الرائعة.
فقط تمنيتُ أن تكون قدرات وأدوات هبة يسرى على مستوى فكرتها وطموحاتها،
وتمنيت أن تؤمن فى أفلامها القادمة بأن قرارالحذف لا يقل أهمية عن قرار
الإضافة والتصوير، وأن تحقق التوازن بين الذاتى والموضوعى لأن ذلك يجعل
الأفلام أكثر عمقاً ونضجاً واكتمالاً.
ولكننا فى النهاية أمام فيلم يستحق المشاهدة، إن لم يكن من أجل الطرب
والإعجاب بأغنيات شهر زاد، فمن أجل الجدل والنقاش مع حفيدتها الشابة
الموهوبة.
عين على السينما في
07/08/2012
ذكريات حول تجربة نادي السينما
أمير العمري
كان نادي القاهرة للسينما مشروعا طموحا من مشاريع وزارة الثقافة في عصر
الوزير ثروت عكاشة. وأظن أن الفكرة ولدت من رحم حالة الزخم السينمائي الذي
شهدته مصر بعد هزيمة 1967.
كانت هناك حالة من المراجعة الثقافية والسياسية التي اجتاحت البلاد، وشغلت
المثقفين تحديدا، بالبحث في أسباب الهزيمة، والرغبة العارمة في التحرر من
الثقافة التقليدية العتيقة، والتطلع إلى ثقافة أخرى، أكثر حداثة، وأكثر
تعبيرا عن التحولات العضوية التي وقعت داخل "الانتلجنسيا" المصرية في
علاقتها بالطبقة الوسطى، وبالسلطة.
وكانت هناك رغبة في تطوير السينما، ومد تجربة تدخل الدولة في الإنتاج
والتوزيع والعرض من خلال ما عرف بـ"القطاع العام السينمائي"، على
استقامتها، والتطلع أيضا إلى ربط العملية الإنتاجية، بالعملية الثقافية، أي
إتاحة الفرصة لظهور ثقافة سينمائية جديدة يمكنها أن تساهم في تطوير الذوق
والوعي بحيث تتغير نظرة الجمهور في تعامله مع الفيلم. ولاشك لدي في أن وراء
هذه الرؤية كان يقف عدد من المثقفين والنقاد الذين أرادوا تطوير تجربة
"جمعية الفيلم" (التي تعد الكيان الثقافي السينمائي الأعرق في مصر فقد
تأسست عام 1960)، لكن لاشك لدي أيضا في أن النظرة الرسمية للدولة الناصرية
وقتها، تلاقت مع رغبة النقاد في الانفتاح السينمائي على التيارات الحديثة
والتجارب السينمائية الجديدة في العالم، ولكن ليس بغرض التطوير والتثقيف
وزيادة الوعيفقط، بل أيضا لاستيعاب واحتواء حركة السينمائيين الجدد من
الشبان الغاضبين الذين كانوا قد نجحوا في تأسيس "جماعة السينما الجديدة"،
وأخذوا يطالبون بـ"حصة" مناسبة من مخصصات الإنتاج السينمائي في "القطاع
العام"، أي من خلال مؤسسة السينما الحكومية التي كانت تنتج عددا لا بأس به
من الأفلام سنويا، لم تكن بالضرورة كلها من الأفلام الجيدة، بل كان فيها
أيضا ما عرف بـ"أفلام حرف ب"، على غرار ما كان سائدا في هوليوود، وهي أفلام
كان هدفها الأساسي تجاريا، ولم يكن هناك مانع بالتالي من ظهور أفلام مثل "شنبو
في المصيدة" و"من أجل حنفي" و"الزوج العازب" وغيرها!
وكان الصراع بين القديم والجديد قد انفجر في المجتمع المصري في تلك الفترة
التي عرفت أيضا نشاطا كبيرا وزخما في إصدار المجلات الثقافية مثل "الفكر
المعاصر" و"المجلة" و"الكاتب" و"الطليعة"، وغيرها.
كانت الدولة تسعى إلى الاحتواء، وربما أيضا إلى نوع من "الأدلجة"، أي
السيطرة الأيديولوجية على المثقفين بتياراتهم المختلفة التي كانت تميل في
ذلك الوقت تحديدا، إلى اليسار، حتى لا تفلت الأمور من بين أيدي سلطة كانت
تشعر بحجم الغضب الكامن في الصدور، وكان "التنفيس والاحتواء وتقديم بعض
التنازلات المحكومة" أفضل ما تملك تقديمه، فلم يكن ممكنا مثلا أن تترك
تجمعات السينمائيين تتخذ لنفسها مسارا خاصا، بل سعت السلطة إلى ربطها من
البداية بالدولة، وبالسلطة الثقافية من خلال وزارة الثقافة، ولكن بحصافة
وذكاء ومنح بعض التنازلات في الطريق، وليس باتباع سياسة العصا والجزرة،
ورفع شعارات فجة مثل "إدخال المثقفين إلى الحظيرة"، كما حدث بعد ذلك في عهد
آخر مختلف تمام الاختلاف!
تأسس "نادي السينما" في هذا المناخ، وأداره في البداية الناقد مصطفى درويش،
عندما كان يقدم عروضه في موسمه الأول (1968) في قاعة "إيوارت" بالجامعة
الأمريكية. وكان مصطفى درويش رقيبا سابقا وفي الوقت نفسه، قاضيا في مجلس
الدولة.
والطريف أنه عندما فتح النادي أبوابه للعضوية تقدم للحصول على عضويته أكثر
من خمسة آلاف عضو، تحت تصور أن النادي سيعرض "الأفلام الممنوعة"، بكل ما
يمكن فهمه بالطبع من كلمة "ممنوعة" هنا، والمقصود الأفلام التي تتضمن مناظر
مثيرة.
إلا أن الوزارة أوضحت أن الهدف من تأسيس نادي السينما ليس عرض أفلام
ممنوعة، بل عرض الأفلام ذات القيمة الفنية الرفيعة، ولذلك رفض النادي قبول
مئات الطلبات واكتفي بنحو ألف عضو، ارتفع بعد ذلك إلى نحو ألفي عضو، عندما
أصبح يعرض أكثر من عرض واحد، في سينما أوبرا، وفي قاعة إيوارت بالجامعة
الأمريكية أو قاعة النيل. وكان هذا العدد كبيرا جدا بمقاييس نوادي السينما
في العالم التي لم يكن يزيد عدد عضوية كل منها عادة عن 300 عضو.
في العام الأول من عمر النادي (1968) كانت العروض، كما ذكرت، تقام في قاعة
إيوارت بالجامعة الأمريكية. وفي العام التالي انتقلت عروض النادي إلى سينما
أوبرا في وسط القاهرة، في واحد من أجمل الميادين، وهو ميدان الأوبرا أو
ابراهيم باشا سابقا، حينما كانت "الأوبرا" القديمة التي أنشأها الخديوي
اسماعيل، مؤسس القاهرة الحديثة (تعرف أيضا بالقاهرة الاسماعيلية) لاتزال
قائمة قبل احتراقها أو حرقها في أكتوبر من عام 1972. وكان يجاور سينما
أوبرا "كازينو صفية حلمي" الذي يعتبر جزءا من تاريخ الفن الغنائي في مصر،
وكان الميدان مفتوحا، يتمتع بالرونق والسحر والجمال، تتفرع منه الشوارع
الرئيسية الشهيرة: ابراهيم باشا (الذي أطلق عليه شارع الجمهورية) وفيه
سينما "حديقة النصر" الصيفية التي شاهدنا فيها عشرات الروائع السينمائية
العالمية، وشارع فؤاد الأول (26 يوليو)، وشارع عبد الخالق ثروت. وفي الركن
الأيسر من الميدان كان هناك سور الأزبكية الأسطوري التي لاتزال ذكراه قائمة
حتى يومنا هذا.
كان الاتفاق بين نادي السينما ودار سينما أوبرا، على تخصيص حفلة المساء من
كل أربعاء لعروض النادي.
وكنا نلتقي أمام مدخل سينما أوبرا، مساء كل أربعاء، مع عشرات الشخصيات
المرموقة من النخبة المثقفة. وكان النقاد والسينمائيون الشباب أيضا يتجمعون
ويتناقشون مناقشات طويلة تسبق الدخول لمشاهدة العرض، حيث كان يتولى أحد
النقاد تقديم الفيلم، على أن تعقب العرض مناقشة مفتوحة كانت تستمر أحيانا
إلى ما بعد منتصف الليل.
وقد تخرج من نادي السينما الكثير من النقاد والسينمائيين أيضا، أي الشباب
الذين اتجهوا لدراسة السينما، بعد أن تشبعوا بثقافتها، وتعلموا أبجديات
السينما من خلال المشاهدة والتحليل أولا، قبل استكمال الدراسة العملية.
وأعتقد أن انتهاء دور نوادي السينما في العالم، وليس في مصر فقط، وتضاؤل
أهمية ما ظل قائما منها، يعود أساسا، إلى الانتشار الهائل للفيديو أولا، ثم
للأسطوانات المدمجة (DVD) التي وفرت الفرصة للشباب لمشاهدة ما يرغبون، بل أدى انتشار الانترنت
أيضا إلى أن أصبح الكثير من الأفلام الفنية متاحا عبر الشبكة العالمية
للانترنت، ويمكن أيضا تحميله على جهاز الكومبيوتر ومشاهدته وإعادة مشاهدته
مرات ومرات. وربما يرجع الأمر أيضا إلى تراجع فكرة الثقافة في محيط جماعي،
بعد أن انتشرت القيم الفردية الانعزالية لدى الشباب.
لكن ينبغي أن أقول إن المشاهدة في "نادي السينما" تختلف تماما عن مشاهدة
الأفلام على شاشة الكومبيوتر المنزلي، فالفيلم مكانه الطبيعي يظل في قاعة
السينما، أي على الشاشة الكبيرة، ولا يمكن أن ترقى مشاهدة الأفلام في غرفة
صغيرة بشكل فردي تماما إلى طقس المشاهدة الجماعية وسط جمهور. أضف إلى ذلك
بالطبع، وجود نشرة مطبوعة حول الفيلم المعروض، والمناقشات الثرية التي تعقب
العروض، وتتيح الفرصة للاستماع إلى الآراء المختلفة. ومن الجدل الذي يدور،
يستفيد المرء ويكون صورة أكثر وضوحا، سواء عن الفيلم، أو عن ثقافة الناقد
الذي يتولى إدارة المناقشة.
(للموضوع بقية)...
عين على السينما في
07/08/2012
ذكريات حول تجربة نادي السينما (2)
نظرة إلى الماضي.. إلى ثقافة السبعينيات السينمائية
أمير العمري
بعض من يكتبون عن السينما لا يحترمون الترجمة، بل إن "المجتمع الثقافي" في
مصر أصبح، بشكل عام، لا يحترم الترجمة، فقد صارت الترجمة مهنة على المشاع،
أي أصبحت مهنة يمارسها كل من يعرف، ومن لا يعرف. والمقصود بالمعرفة ليس فقط
معرفة اللغة الأجنبية التي يترجم عنها، أو أصول اللغة العربية التي تترجم
إليها، بل معرفة وإلمام كاف بالمادة موضوع الترجمة، فترجمة كتاب في جانب من
جوانب الفن السينمائي مثلا، ليس مثل ترجمة كتاب سياسي يقوم على التحقيق، أو
المذكرات، وليس كترجمة كتاب في العلوم الطبيعية. فلكل مادة المتخصصون فيها.
ولكن بكل أسف، لم يعد هذا قائما، بل أصبحنا نرى الكثير من الكتب التي تظهر
في الغرب تصدر في ترجمات سريعة رديئة استهلاكية، فيها قدر كبير من الضحك
على ذقون القراء. ومن هذه الكتب أتذكر على سبيل المثال، كتاب روجيه جارودي
"الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل" الذي صدرت منه ترجمة رديئة للغاية،
معظمها كلام خاطيء أوغير دقيق، إلى أن صدرت ترجمة جيدة منه عن إحدى دور
النشر المحترمة في مصر. وهناك أحيانا مترجمون من الكبار، أي من أساتذة
الأدب الانجليزي، قد لا يعرفون كنه المادة التي يترجمونها أو يقتبسون منها
في كتبهم، رغم معرفتهم باللغة الإنجليزية وآدابها.
ولعل من أجمل ما قرأت في معرض التعبير عن فوضى الترجمة والكتابة، ما كتبه
الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل ذات مرة من أننا: "نؤلف في حين أننا نترجم،
ونترجم بينما نحن في الحقيقة نؤلف"!
فيما يتعلق بترجمة النقد السينمائي وجوانب الثقافة السينمائية لعل من
الغريب جدا أن أقرر هنا أن من أفضل من ترجموا في هذا المجال، ناقد وكاتب،
لم يصدر له كتاب واحد، بينما كان يمكن أن يملأ ما ترجمه في السينما،
مجلدات. والحديث هنا عن الناقد السينمائي يوسف شريف رزق الله.
كان يوسف يترجم أسبوعيا تقريبا لنشرة نادي السينما بالقاهرة في عصره
الذهبي، أي لمدة عشرين عاما، من 1969 إلى 1989. وكانت ترجمات يوسف من
مقالات ومقابلات وتقارير ومقالات نقدية ومعلومات وتحقيقات عميقة، متخصصة،
عن الظواهر السينمائية في فرنسا والعالم، تثرينا وتغذي ثقافتنا. ويكفي أن
يراجع المرء مجلدت نشرة نادي السينما في السنوات المشار إليها، لكي يقف على
كنوز من المعلومات والتحليلات التي لم يوجد لها مثيل من بعد، بهذا الشكل
الأسبوعي المنتظم والشامل.
كانت ثقافة يوسف السينمائية الموسوعية، وإجادته التامة للغتين، الفرنسية
والإنجليزية، إلى جانب معرفته الممتازة باللغة العربية، تساعده على تقديم
هذه الترجمات الجميلة، السلسة، الواضحة، الثرية. فضلا عن هذا كله، كان يوسف
ولايزال أساسا، من هواة السينما الكبار بلا أدنى شك، ولولا حبه وإخلاصه لما
يحب، لما أنتج كل ما أنتجه، بزهد واضح، ودون أي رغبة في الادعاء أو البحث
عن الشهرة، فقد كان يكتفي بالنشر في نشرة نادي السينما التي كان يكتب لها
أيضا الدراسات التفصيلية عن الأفلام أحيانا مع غيره من كبار النقاد، أو في
مجلة "المسرح والسينما" ثم "السينما" إلى أن توقفت. وأظن أنه كتب أيضا
لمجلة "الإذاعة والتليفزيون" لفترة، وكان بالطبع قطبا أساسيا في جريدة
"السينما والفنون" الأسبوعية التي صدر منها 33 عددا عام 1977 ثم أغلقت
بضغوط مباشرة من السلطة. ولم يحدث قط أن وضع يوسف اسمه على أي مادة مترجمة،
باعتباره مؤلفها أو كاتبها، كما يفعل كثيرون حاليا، بل كانت المادة
المنشورة دائما مشفوعة في النهاية بعبارة "ترجمة: يوسف شريف رزق الله".
السينما الأخرى
كان يوسف من أوائل الذين تولوا تعريفنا، من خلال ما نقله إلى العربية، بعدد
من أبرز وأهم السينمائيين في فرنسا وأوروبا عموما، ليس فقط من الأجيال
صاحبة التراث المؤثر، بل من التيارات الجديدة التي كانت تظهر من وقت إلى
آخر. وقد كنا سعداء الحظ أن نشأنا ونشأ اهتمامنا بالسينما في تلك الفترة من
أواخر الستينيات، عندما كانت حركة التجديد في السينما الأوروبية وسينما
القارات الثلاث، في أوج مجدها وانتفاضتها على السينما التقليدية القادمة من
هوليوود. وكانت فرنسا تحديدا، "كعبة" الحركات الجديدة في السينما، من
الموجة الجديدة إلى سينما الحقيقة، إلى السينما النضالية، وغيرها. وكان
المخرج الفرنسي الشهير جان لوك جودار قد أعلن وقتذاك، تمرده على السينما
القديمة التي كان يصنعها واصفا إياها بـ"السينما البورجوازية"، وأقدم على
إخراج تجارب جديدة "ثورية" في الشكل والمضمون. وكانت حركة الاحتجاج
العالمية التي تصدرتها جماعات الشباب في العالم ضد حرب فيتنام والوحشية
التي كانت تمارسها القوات الأمريكية هناك، قد أضافت رافدا فكريا مثيرا إلى
حركات التجديد في السينما، التي بدا ميلها بوضوح في تلك الفترة، بل وربما
منذ تلك الفترة أيضا، إلى اتباع أسلوب الفيلم التسجيلي في الأفلام الروائية
الطويلة. وعلى سبيل المثال، لم يكن غريبا أن يظهر في تلك الفترة، فيلم مثل
"معركة الجزائر" (1969) للمخرج الإيطالي الكبير جيلو بوتيكورفو، لايزال يعد
نموذجا على تلك السينما المتمردة العظيمة.
كان يوسف أيضا جريئا جدا فيما ينقل لنا عن الفرنسية، عن مخرجين لم نكن نعرف
عنهم كثيرا، مثل جورج كلوزو وجان بيير ميلفيل وأندريه ديلفو (البلجيكي)
وماركو فيراري (الإيطالي) وبرتران تافرينييه وكوستا جافراس وبرتران بلييه
وفرنسوا تريفو وكلود شابرول وكلود ليلوش، وغيرهم. ولعل من أهم ما نقله لنا
يوسف أيضا، الكثير من أدبيات سينما التمرد والغضب التي ارتبطت بحركة التمرد
المشهودة في مايو 1968 في فرنسا، بل كان يوسف من أوائل من كتبوا عن تأثير
هذه الحركة على السينما، وقدم لنا سردا تفصيليا دقيقا لتطور الأحداث في
باريس منذ إعفاء مدير السينماتيك الفرنسية هنري لانجلوا، من منصبه، إلى
اندلاع غضب المثقفين والسينمائيين الذين تزعمهم جودار وتريفو، ثم انتفاضة
الطلاب، وانضمام العمال إلى الطلاب وإقامة المتاريس في باريس وتحويلها إلى
ثكنة عسكرية. وقد نشر هذا في مجلة "المسرح والسينما" وكان عضوا في هيئة
تحريرها ولم يكن قد بلغ الثلاثين من عمره بعد.
وكان ما عرضه يوسف يأسرنا، أبناء جيلي وأنا، فقد كنا مفتونين بقدرة
السينمائيين الشباب على إشعال شرارة حركة ثورية في بلد من أعرق
الديمقراطيات في العالم. وكانت ثورة الشباب وقتها في قمة مدها في أوروبا،
وكانت مظاهرات الشباب في العواصم الأوروبية ترفع صور ماوتسي تونج (الذي كان
قد بدأ الثورة الثقافية في الصين)، وصور ماركس ولينين وكاسترو وجيفارا. وقد
امتدت الحركة الثورية أيضا إلى مصر في أول مظاهرات تندلع منذ استيلاء الجيش
على السلطة في 1952، احتجاجا على "مجتمع القهر" و"زوار الفجر"، وتطالب
بالديمقراطية، وتحمل المسؤولين فيما عرف بـ"الاتحاد الاشتراكي"، والدولة
عموما، مسؤولية الهزيمة، بعد أن انكشف حجم ما يكمن من فساد تحت السطح
البراق للشعارات السائدة في 1967.
كان يوسف شريف وراء اختيار عدد من أهم الافلام التي عرضت في "نادي
السينما"، وهي في معظمها فرنسية، وكانت بالنسبة لأبناء جيلي، الذي جاء بعد
جيل يوسف ورفاقه، اكتشافات حقيقية.
لا تلمس المرأة البيضاء
من هذه الافلام، التي لازلت أتذكرها وأتذكر ما كتبه وترجمه يوسف حولها،
فيلم بديع بعنوان "لا تلمس المرأة البيضاء"
Touche pas à la femme blanche
لماركو فيراري، وهو من الإنتاج الفرنسي- الإيطالي المشترك.
لم أكن، في ذلك الوقت من عام 1974، قد ذهبت إلى باريس، أو قمت بزيارة أي
بلد خارج مصر، فقد كنت في مرحلة الدراسة الجامعية. وكان الفيلم يدور في
منطقة عرفت أنها شهيرة جدا في قلب باريس هي منطقة سوق الهال
Les Halles
وكان الفيلم مزيجا من الخيال المبني على التاريخ القديم والتاريخ الحديث،
ففي هذا السوق القديم كان العمال والطلاب قد أقاموا المتاريس، وأخذوا يشنون
الهجمات على قوات الأمن الفرنسية. وإذن فقد استخدم السوق كمكان محصن
للاحتماء والهجوم المضاد. ولذلك كان من أول القرارات التي اتخذتها السلطات
الفرنسية بعد مايو 1968، إزالة السوق من الوجود وفتح المنطقة وتحويلها إلى
منطقة سياحية تمتليء بالبوتيكات الحديثة على نحو ما نرى الآن، وهو ما رأيته
بعد أن قمت بأول زيارة لي إلى باريس عام 1981.
وفي الفيلم، وهو نوع من "البارودي"
parody
أي التصوير الساخر، والكثير من الإحالات الفكرية والتاريخية التي تربط
بطريقة مضحكة، بين ما يحدث من هدم وتحطيم واقتحام بشع من جانب قوات الشرطة
الفرنسية لسوق الهال وتدميره، وما حدث من إبادة للهنود الحمر في أمريكا على
يدي الجنرال جورج أرمسترونج كاستر، الذي عرف بلقب "جزار الهنود الحمر".
ولكننا نرى هنا "كاستر" معاصرا تماما (يقوم بدوره ميشيل بيكولي) وهو يقود
قواته التي تركب الخيول في وسط باريس أثناء هجومها على المكان الذي تحصن
فيه عدد من صغار النشطاء والتجار لحماية سوقهم الذي اشتهر تاريخيا، وأظنه
كان يستخدم أيضا كمنطقة تحصن في زمن "كوميونة" باريس الشهيرة.
معركة تصفية سوق الهال تحال سينمائيا، إلى نموذج مضحك لما عرف تاريخيا باسم
"معركة القرون الصغيرة"، آخر المعارك التي خاضها كاستر ضد الهنود الحمر
والتي انتهت بهزيمة قواته ومقتله. وكانت هناك إحالات "بصرية" إلى حرب
فيتنام. وفي أحد المشاهد الساخرة، تظهر صورة الرئيس الأمريكي نيسكون.
ومن الجدير بالذكر أن موجة الأفلام التي تعيد للهنود الحمر اعتبارهم،
وتنتقد الوحشية التي تعامل بها الأمريكيون البيض مع السكان الأصليين في
القارة الجديدة، كانت قد دشنت رسميا عام 1970 بفيلم آخر شهير هو "العسكري
الأرزق"
Solider Blue اهتم به يوسف شريف كثيرا هو وأبناء جيله من النقاد، بل وأتذكر أيضا
أنه دارت حول هذا الفيلم في أوائل السبعينيات معركة نقدية في مصر، فهناك من
كان يعتبره فيلما ثوريا جريئا يفضح الإمبريالية الأمريكية، وهناك من جهة
أخرى، من اعتبره محاولة لتبرير بل وتجميل الطغيان الأمريكي، بدعوى أن
هوليوود لا يمكنها أن تتناقض أصلا مع "المؤسسة" الحاكمة في واشنطن. وسيثبت
الزمن وحده فيما بعد، خطأ تلك النظرية الأخيرة، وأن بداية السبعينيات كانت
أيضا بداية ظهور "تيارات" متباينة داخل هوليوود، وإنه ليس من الممكن
اعتبارها كيانا واحدا مصمتا خاليا من التناقضات.
وأذكر أنه كان هناك في ذلك الوقت، تقليد جميل اقتبسته "سينما مترو" تحديدا،
يحاكي التقليد الذي نراه في دور العرض الأوروبية، والفرنسية بوجه خاص، هو
أن تضع دور العرض إلى جانب الصور الموجودة للدعاية للفيلم المعروض في
مدخلها، اقتباسات من مقالات النقاد البارزين وآرائهم عن الفيلم. وكان هذا
على نحو ما، احتفاء بالنقد، وإعلاء من قيمة الكلمة المكتوبة وتأثيرها على
مشاهدي السينما.
وكانت مقتطفات من مقالات وكتابات سمير فريد وسامي السلاموني ويوسف شريف
وخيرية البشلاوي ومصطفى درويش توضع في مداخل سينما مترو، وكنا نتوقف ونقرأ،
ولم تكن السينما تحرص فقط على وضع مقالات الإشادة بالفيلم، بل وأيضا ما
يتعارض معه. وقد نال "العسكري الأزرق" نصيبه في هذا المجال.
في نشرة نادي السينما، التي كانت مجلة سينمائية حقيقية، أسبوعية، عميقة،
ومتخصصة، كانت مقالات ودراسات سمير فريد عن تاركوفسكي وجودار وبرتولوتشي
وغيرهم، ومقالات فتحي فرج عن جوزيف لوزي وأعلام السينما البريطانية الجديدة
مثل كاريل رايز وتوني ريتشاردسون وليندساي أندرسون وبيتر واتكنز
وسيناريوهات العبقري الراحل هارولد بنتر، والتغطيات الدورية الحافلة لسمير
فريد ورفيق الصبان ويوسف شريف وأحمد الحضري ثم سامي السلاموني في مرحلة
لاحقة، لمهرجان كان، مرجعا رئيسيا لنا، نستمد منه معارفنا حول أبرز
الاتجاهات في السينما العالمية. وكان الناقد الكبير رءوف توفيق ينشر
مقالاته الممتعة عن أفلام مهرجان كان في مجلة "صباح الخير" ثم تصدر فيما
بعد، في كتب بديعة.
ما الذي حدث بعد مرور السنين، أين ذهب حماس هؤلاء النقاد للكتابة الجادة عن
الأفلام، وإعطاء الفيلم حقه من النقد والتحليل التفصيلي الذي كان يعد من
أرقى أنواع النقد وأكثرها فائدة، ولماذا أصبح من ظلوا على قيد الحياة منهم،
الذين تتوفر أمامهم فرصة للنشر بدون معوقات، يحجمون عن كتابة النقد
السينمائي بهذا المفهوم، إكتفاء بكتابة الخواطر والانطباعات والتعليقات
السريعة؟
ماذا حدث؟
أظن أنه تغير المناخ العام، وغياب الأطر التي كانت تجمع النقاد على أهداف
واحدة، بغض النظر عن تحقيق المنفعة المادية، بل وغياب الهدف الثقافي الأكبر
والأشمل، أي القيام بدور فاعل في الواقع، ونقل المعرفة إلى شرائح أوسع من
الشباب، والهرولة بدلا من ذلك، إلى الدخول في "الحظيرة"، والحصول على نصيب
من "الكعكة" الرسمية بأقل جهد ممكن، ومن خلال استخدام واستثمار الأسماء
التي صنعها أصحابها في ظروف عمل جاد في الماضي، لخدمة المؤسسات الثقافية،
الجديدة، الشكلية، التي تأسست دون فعالية، ودون مشروع، بل وفي غياب أصحاب
المصلحة الحقيقية، أي الجمهور نفسه.
ولكن هل الذنب هو ذنب ذلك "الزمن" الجديد فقط؟ لاشك أيضا، أن الحياة
اختيارات، وأن موقف المثقف يعكس اختياره، وكل مثقف مسؤول في النهاية، عن
اختياراته. ولكن المجتمع كله هو الذي يدفع الثمن في النهاية.
عين على السينما في
15/08/2012 |