للسنة الثانية على التوالي يحصل المخرج الجزائري المخضرم مرزاق علواش
على جائزة أفضل فيلم روائي في مسابقة الأفلام العربية في الدورة الرابعة
لمهرجان
الدوحة تريبكا. فقد تحصل السنة الماضية على هذه الجائزة عن فيلمه "نورمال"
(طبيعي)
ثم حصد فيلمه "التائب نفس" الجائزة في هذه الدورة.
·
السنة الماضية حصدت الجائزة وهذه
السنة أيضا لقد أصبحت المتربع على
عرش جوائز مهرجان الدوحة تريبكا
(ضاحكا) هل تتصورون أني مشارك ببعض "الأسهم"
في الجوائز التي يتم توزيعها؟
·
لا لا
طبعا.
الحقيقة أن ما يهمني أكثر من الحصول على الجائزة هو الحضور
والمشاركة في هذه المهرجانات، وهذا مفيد لكل السينمائيين، لكني أريد أن
أشير هنا
إلى الشعور بـ"الإذلال" الذي يصيب السينمائيين الشبان الذين لا يشاركون في
هذه
المهرجانات، وأعرف منهم شبانا جزائريين كثيرين متميزين، ولا
أعرف ما إذا كان هناك
من سيهتم بهم، وهذه من مشاكل صناعة
السينما، وعلى العموم نحن بحاجة إلى أن نساعد
السينما بكل الوسائل.
·
نحن نعلم أنك استثمرت قيمة
الجائزة السنة
الماضية لتنتج فيلم الفائز "التائب" وعلمنا أنك وجدت عدة صعوبات ؟
فعلا
أنا استثمرت القيمة المالية للجائزة السنة
الماضية واعتمدت على دعم مهرجان الدوحة
لأنتج فيلمي هذا في ظروف صعبة وقاسية وفي
وقت وجيز. فقد وجدت إشكاليات في التصوير
وفي التمويل وهذا الفيلم تم تصويره بكاميرا لا تتجاوز قيمتها 6000 يورو
اشتريتها
للغرض لما ضاقت السبل ورفعنا التحدي. كانت لنا إرادة وعزيمة لإنجاز هذا
العمل وقد
توفقنا في إنجازه بجهود كل الشباب المشاركين فيه من ممثلين وتقنيين وغيرهم.
الذين
برهنوا على عزيمة شبابية قلّ نظيرها ولم تثنهم الصعوبات. وها نحن بينكم في
الدورة
الرابعة للمهرجان.
·
كيف وجدتم الدورة الرابعة من
مهرجان الدوحة
السينمائي "ترابيكا"؟
أنا لم أحضر إلا دورتين فقط من المهرجان، لكني
أرى أن مهرجان الدوحة يطور ذاته ويبلي بلاءً حسنا، وفي النهاية سيتغلب على
كل
المشاكل الصعبة التي قد تعترضه مستقبلا.
·
هل لاحظتم أن هناك مواضيع
مشتركة تجمع التجارب السينمائية المغاربية
(تونس\الجزار\المغرب)؟ وهل هذا محض صدفة
أم أن الأمر له أسبابه ودلالاته؟
نعم هذا صحيح، لكن لا أظن أن
السينمائيين المغاربيين عقدوا اجتماعات وموائد مستديرة للتعبير عن تجاربهم
السينمائية بل كان لكل سينمائي منهم أسلوبه وطريقته في السرد السينمائي،
كما أن كل
واحد منهم كان يعرف ما يحدث في تجارب الآخرين القريبين منه.
·
لكن
هناك بعض الأمور المشتركة بينكم وبين المخرج التونسي محمود بن محمود مثلا
في التطرق
إلى مواضيع حقوق الإنسان؟
أنا أعرف واقع السينما منذ وقت طويل وأعرف
السينمائيين بهذه البلدان المغاربية، كما أعرف أنه لا يمكن رواية قصة
سينمائية بدون
الاستفادة والتفاعل مع التجارب السينمائية القريبة منها.
·
وبالنسبة
للسينما العربية كيف ترونها؟
في البداية أنا أرى أن "السينما التجارية"
بعد الثورات قد اختفت تقريبا وتركت لنا المجال للإبداع، كما أرى جيلا
سينمائيا
جديدا تجاوز الرقابة السابقة وهو الآن منطلق للتجربة.
·
هل ترون أن
الجيل السينمائي القديم يعاني من "عقدة أوديب" وأن الجيل السينمائي الجديد
"سيقتل
الأب" بالمعنى الفرويدي، أي سيلغي تجارب الجيل السينمائي
السابق
ويتجاوزه؟
من الجيد أن يقوم هذا الجيل السينمائي الجديد بقتل الأب بهذا
المعنى، وأنا شخصيا سأركن للتقاعد (ضاحكا)، ولكن في مجال السينما عموما
ليست هناك
إعادات بل تراكم للتجارب السينمائية وتواصل، وعلى كل حال يمكن الانطلاق
بميزانيات
صغيرة وأفكار كبيرة لإنتاج أفلام ناجحة كما يحدث مع الكثير من الأفلام التي
حازت
على الجوائز.
الجزيرة الوثائقية في
06/12/2012
"الشتا اللي فات":
شهادة سينمائية بليغة عن الثورة
أمير العمري
لاشك أن فيلم إبراهيم البطوط "الشتا اللي فات"، ثالث أفلامه الروائية
الطويلة،
يعد أهم وأفضل ما ظهر من أفلام عن الثورة المصرية، سواء من ناحية الدقة
والموضوعية
والقدرة على التأثير إلى جانب براعة المستوى الفني والشمولية، دون أي
شعارات أو
إدعاءات، وبعيدا عن المبالغات الميلودرامية.. آفة الفيلم
المصري المزمنة.
فيلم "الشتا
اللي فات" ليس فقط رؤية بصرية مذهلة عن ذلك الغضب المشحون الذي ظل يتصاعد
وصولا إلى انفجار الثورة في يناير 2011، بل وشهادة مؤثرة وبليغة عن "عصر
التعذيب"
وعن الرعب الذي يعيشة فيه المصريون الذين يتطلعون إلى نهضة بلادهم في ظل
"الدولة
البوليسية" منذ أكثر من ستين عاما، فتفكيك هذه الدولة القمعية لا يتم سوى
من خلال
سلطة ثورية حقيقية تدعمها الجماهير.
دقة هندسية
فيلم البطوط قائم على سيناريو متوازن مصنوع
بدقة هندسية: ثلاث شخصيات: الناشط السياسي عمرو (عمرو واكد)،
مذيعة التليفزيون فرح (فرح
يوسف) وضابط أمن الدولة آدم (صلاح الحنفي).
يبدأ الفيلم بقبلة لا تكتمل بين
عمرو وفرح.. ربما تكون في خيال عمرو.. فالحب بينهما لم يكتمل،
ولاشك أننا سنعرف
السبب من دون أن يصرح لنا الفيلم من خلال الحوار، فالحوار في الفيلم عموما
ليس
حوارا يشرح ويفسر بل حوار محدود المساحة، يهمس أكثر مما يصرخ، فالصراخ
سيأتي من
حوار من نوع آخر، هو الحوار بين أجهزة التعذيب التي يمارس من
خلالها "عنف أجهزة أمن
الدولة"، وبين أجساد الشباب المعتقل الهزيلة.
اليوم 25 يناير 2011.. يوم سيكون
له شأن خاص في تاريخ مصر. بطلنا يفتح باب شرفة مسكنه لنكتشف
أنه يقيم في شقة
يواجهها حائط أصم، وكأنه سجين اختار عزلته بنفسه أو ربما فرضت عليه.
عمرو
متردد، خائف، لا يريد أن يغادر المسكن ليرى ما سر كل تلك الحركة والهتافات
والضجيج
والمطاردات التي تحدث في الخارج والتي تتناهى إلى أسماعه. جاره يتحدث عن
مظاهرة
كبيرة في الطريق. عمرو يحبس نفسه داخل شقته، لكنه يراقب كل ما
يحدث في العالم من
خلال شاشة الكومبيوتر وشبكة الانترنت (هو مصمم مواقع وخبير بعالم
الكومبيوتر
والانترنت).. لكن السبب الحقيقي لهذه العزلة والوجل والتردد هو الخوف الذي
جاء
نتاجا لما مر به من تجربة خاصة مع السلطة.
إنه جالس، يشاهد عبر شاشة الكومبيوتر
شريطا سبق أن سجله، يحوي شهادة شاب يروي قصة اعتقاله في مطار
القاهرة ثم تعرضه
للتعذيب بعد عودته من البوسنه حيث كان يقوم بتصوير الحرب التي كانت تدور
هناك في
التسعينيات.. إنها قصة شقيق ابراهيم البطوط التي أصبحت معروفة الآن، وما
جرى له على
يد شرطة أمن نظام مبارك عام 1996. والشخص الذي نراه على الشاشة
هو الشخص الحقيقي..
وهو يتحدث عن الصعق بالكهرباء.. في مشهد ربما يكون أكثر مشاهد الفيلم
امتلاء
بالتأثير الدرامي: صوت وكأنه صوت قطارات الأنفاق التي تجري تحت الأرض، بكاء
مكتوم..
الشاب يريد أن يصرخ وهو يتذكر ويروي قصته، لكنه عاجز حتى عن الصراخ. إن
ألمه حقيقي
تماما، فهو
لا يؤدي دورا بل يسترجع حقيقة ما وقع له.
سنعرف بعد ذلك كيف اعتقل بطلنا عمرو قبل سنتين وتعرض للتعذيب القاسي
في مشهد آخر
من أقوى مشاهد الفيلم بسبب واقعيته ونجاح البطوط في إخراجه من الناحية
التقنية
واستخدامه للزوايا وأحجام اللقطات وتركيب اللقطات معا بحيث نجح في خلق
إيقاع سريع
يقدم للمشاهد في واقعية شبه تسجيلية، تفاصيل ما يحدث في غرف التعذيب
القابعة تحت
الأرض في مباني أجهزة الأمن.
أكاذيب الإعلام
لكننا الآن ما زلنا في 25 يناير. وننتقل
إلى المذيعة- فرح- التي تقدم الأخبار والبرامج الإخبارية وتجري
مع زميلها "تامر"
المقابلات في البرامج الإخبارية التي يقدمها التليفزيون المصري. لكن
التليفزيون لا
يبث حقيقة ما يجري في الشارع، وعندما يستضيف فإنه يستضيف اثنين من كبار
ضباط
الشرطة، يقللان كثيرا من شأن ما يحدث، و ينصح أحدهما يضرورة
قطع وسائل الاتصال
كأفضل وسيلة للتغلب على المشكلة القائمة.
أما ضابط أمن الدولة (آدم) الذي يراقب
من مكتبه البرنامج التليفزيوني فأمامه الكثير من العمل مع
زملائه رغم استهانته
الظاهرة من المظاهرات.
يستمر الفيلم لنرى كيف يتعامل الضابط مع رجل.. يفترض أنه
شيخ من شيوخ المساجد، يبدو أنه "خرج عن الخط" ذات مرة، فام استدعاؤه إلى
مقر أمن
الدولة حيث يرغمونه هناك على شرب كميات كبيرة من الماء لكنهم يمنعونه من
الذهاب إلى
دورة المياه إلى أن يتبول على نفسه، كنوع من العقاب المخفف أو
الإنذار كما يقول له
الضابط حتى لا يكررها مرة أخرى!
تدريجيا ومع تصاعد أحداث الثورة.. تدرك فرح أنها
تخون نفسها ورفاقها حينما تقبل أن تمارس لعبة الكذب التي يصر عليها زميلها
تامر
فتترك العمل وتنضم للثوار.
وعندما يعجز الضابط عن السيطرة على الموقف كما كان
يتصور يقوم بإرسال أسرته إلى مسكنه الفخم في العين السخنة أي بعيدا عن
القاهرة،
ويوزع الأسلحة البيضاء على البلطجية لكي يتولوا ترويع
المواطنين.
ونرى تصويرا
جيدا واقعيا لكيفية تعامل الشباب مع الفوضى الأمنية عن طريق تشكيل مجموعات
الحماية
المدنية أو اللجان الشعبية، وكيف يحدث الصدام بين الشباب والبلطجية، وكيف
تتعرض فرح
وأحد زملائها الشباب لحادث ترويع وبلطجة.
كل هذه الأحداث التي ينسجها السيناريو
ببراعة حول الشخصيات الثلاث، يتم تداخلها مع خطابات الرئيس
السابق حسني مبارك
الثلاثة التي يرفض فيها باستمرار أن يترك السلطة، مرددا وعود لا يصدقها
أحد، وصولا
إلى إعلان تخليه عن السلطة تحت الضغط الشعبي الهائل. وهنا تدخل الكاميرا
للمرة
الأولى إلى ميدان التحرير. فنحن لا نرى الميدان سوى في المشاهد
الأخيرة من
الفيلم.
تداخل الأزمنة
يعتمد البطوط في بناء فيلمه على التداخل
بين الأزمنة: الحاضر والماضي والماضي القريب، والانتقال فيما
بين هذه الأزمنة
بسلاسة تامة وفي سياق مفهوم للمشاهد، حيث يمكنه الربط بين المشاهد
المختلفة، وفهم
دلالاتها في السياق.
عندما يطلب عمرو من بواب مسكنه أن يأتيه بكميات كبيرة من
الأطعمة والسجائر نفهم أنه قرر أن يمكث في بيته لا يغادره وأنه يتحسب
لاتساع نطاق
المظاهرات الشعبية.
وعندما يقوم ببث شهادة المذيعة فرح عبر الانترنت وإخفاء
الأسطوانة التي سجلت عليها الشهادة المصورة، نعرف أنه سيجلس بعد ذلك في
انتظار
الاعتقال. وهو يعتقل ويتم تعذيبه بالفعل مع مجوعة من الشباب في
مشاهد مبتكرة منها
ذلك المشهد الهائل الذي يصوره البطوط في مساحة كبيرة خربة مهدمة لا نعرف في
أي مكان
بالضبط يمكن أن توجد، مكان يستخدمه رجال أمن الدولة، حيث يضعون مناضد
ومقاعد في صف
طولي أي أمام بعضها البعض، ويجلس كل معتقل وأمامه مباشرة يجلس
ضابط من ضباط أمن
الدولة يستجوبه ويوجه له التهديدات والإهانات، وتتحرك الكاميرا تدريجيافي
حركة "تراكنج"
لتنتقل من المنضدة الأولى إلى الثانية حتى الأخيرة والتي نرى حولها عمرو
والضابط الذي يستجوبه وآدم.. ضابط أمن الدولة المسؤول عنه مباشرة والذي
أطلق سراحه
من قبل بشروط. هنا تتوقف الكاميرا ويدور الحوار الذي ينتهي
بصمود عمرو واستهانته
بالضابط، لقد استرد قوته أخيرا وأصبح لا يهاب الموت.
عبارات الحوار في هذا
المشهد طريفة وساخرة، والمشهد يجسد على نحو ما، سواء من حيث زاوية الكاميرا
أو
التكوين كيف أن المعتقلين الشباب أقوى من سجانيهم الذين يستجوبونهم!
طابع حداثي
يستخدم البطوط في فيلمه شاشات التليفزيون
والكومبيوتر وكاميرا الفيديو كثيرا، مما يضفي طابعا حداثيا على
الفيلم، فمصر 2011
ليست كمصر 1977.. عمرو يشاهد الكثير من الأحداث عبر الكومبيوتر وشاشة
التليفزيون:
الانترنت والأسطوانات وتسجيلات الفيديو
القديمة، رغم أنه سجين في شقته تقريبا لخوفه
من عاقبة التحامه بالشارع. وأسرة فرح تشاهد ما يحدث من مظاهرات
عبر قناة تليفزيون
بي بي سي. وضابط أمن الدولة يشاهد برنامج "قلب البلد" الذي كانت تعمل فيه
فرح وهو
في مكتبه، والشيخ المعتقل داخل غرفة أمن الدولة يشاهد الأخبار في
التليفزيون من
داخل امكتب الذي حبسوه فيه (تنقل أخبار التليفزيون الغارات الإسرائيلية على
غزة)
وحينها يتدخل الضابط ويدير مؤشر التليفزيون إلى قناة تبث أغنية. في القناة
التليفزيونية نشاهد عبر شاشات غرفة التحكم صناعة الكذب على المشاهدين، وكيف
يستعينون برجل يتصل تليفونيا من داخل القناة موهما جمهور
المشاهدين بأنه يتحدث من
ميدان التحرير حيث يقوم بتشويه الشباب المتظاهر على النحو الذي كان سائدا
إبان تلك
الأحداث. خطابات مبارك تظهر على شاشة التليفزيون. تستخدم فرح الكاميرا من
فوق سطح
إحدى البنايات لتصوير الشباب الذي يشارك في الثورة في أسفل..
في الشارع، كما تستخدم
الكاميرا لتسجيل شهادتها (بدون مكياج)..إلخ
في الوقت نفسه يستخدم البطوط أسلوب
كتابة تواريخ الأحداث على الشاشة أي التواريخ التي تعكس تطورات
أحداث الثورة،
إمعانا في تأكيد طابع الواقعية التسجيلية. وبوجه عام يمزج البطوط بين
التسجيلي
والروائي في فيلمه في بعض المشاهد بمهارة ودون أدنى إقحام. ولعله كما صرح،
قام
بتصوير جانب من أحداث الثورة- والفيلم، في ميدان التحرير في
اليوم الذي سبق سقوط
مبارك. ولاشك أن هذه المشاهد أضفت الكثير من الواقعية والصدق على "صورة"
الفيلم
خاصة وأن ظهور عمرو واكد فيها بدا مقعنا وطبيعيا.
إضاءة شقة عمرو خافتة الإضاءة،
فهو منغلق على نفسه، كأنه يتفادى أن يراه أحد. يتوجس حتى عندما
يسأله ابن جارته
الطيبة عما يجري فيجيبه: لا أعلم. الأجواء أجواء خوف وقلق وترقب.
إضاءة مكاتب
أمن الدولة وأقبيتها أيضا ذات إضاءة خافتة، وهو ما يتسق مع طبيعتها وطبيعة
ما يجري
في داخلها. ومصدر الضوء عادة محدود يحاكي الضوء الطبيعي، ولا توجد أي لقطة
في
الفيلم تضاء إضاءة ساطعة لتنوير الكادر على طريقة هوليوود
التقليدية، ومشاهد الثورة
ليلية في معظمها أي خافتة الإضاءة أيضا.. إنه ضوء الشتاء!
ويجسد البطوط مظاهر
التعذيب بشكل واقعي تماما: تعليق المعتقلين من القدمين وضربهم بالأسلاك
واستخدام
الصدمات الكهربائية والاغراق في الماء.. وغير ذلك. وبذكاء شديد يصور البطوط
إثنين
من حراس السجن وهما يتناقشان حول: من منهما سيقبض الجمعية أولا، وفي مقابل
هذه
الحالة البائسة، يصور كيف تعيش أسرة آدم.. ضابط أمن الدولة، في
رفاهية، تخدمها
مربية فلبينية، وكيف يمتلك شقة فخمة وسيارة فارهة كما يمتلك ذلك الشاليه في
منتجع
العين السخنة على ساحل البحر الأحمر.
ولا ينتهي الفيلم نهاية سعيدة رغم أننا
نعرف أن عمرو يعود إلى حبيبته فرح وربما سيتزوج الإثنان قريبا
بعد أن توحدا معا في
الثورة، فنحن نراهما معا على أحد جسور النيل في القاهرة وأمامهما كاميرا
تصورهما
على خلفية النيل معا. لكن هذه النهاية التي تبدو رومانسية هي في الحقيقة
ليست كذلك،
فنظرات الإثنين مليئة بالتوجس والحزن والقلق. القلق على مصير الثورة التي
يقول لنا
البطوط إنها لم تكتمل.
عن الإخراج
يبدو إبراهيم البطوط في فيلمه الثالث، أكثر خبرة
ومهارة في التعامل مع الكاميرا برصانة، فهي تتحرك وقتما ينبغي أن تتحرك
(لتعقب رجال
الشرطة وهم يقومون بتفتيش شقة عمرو وتحطيم قطع الأثاث والأدوات الصحية
بوحشية)
ويعرف كيف يستفيد من الموسيقى (التي تعكس الترقب والتوتر والقلق والغضب)
والمؤثرات
الصوتية، ويخلق منها مع الصورة، إيقاعا متصاعدا سلسا رغم التداخل في
الأزمنة كما
أشرنا، كما يركز على استخدام اللقطات القريبة، ويمنح الممثلين
مساحة للتعبير
بتلقائية والاندماج معا وكأنهم يعيشون الحدث، في تناغم بديع. ولاشك أن وجود
عمرو
واكد في الدور الرئيسي في الفيلم ساهم في أن يأتي أداء الممثلين من حوله،
ومعظمهم
من المبتدئين أو الهواة، على كل هذا النحو من البساطة والعمق.
أداء محكوم لا إفراط
فيه في التعبير عن المشاعر.
صلاح الحنفي الذي اكتشفه البطوط بالصدفة في
"الميدان" أي ميدان التحرير، قوة تمثلية كبيرة في دور ضابط أمن الدولة
"آدم". ولاشك
أنه سيواجه الكثير من الإغراءات مستقبلا للقيام بأدوار مشابهة عليه أن يفلت
منها
سريعا ويفرض نفسه بموهبته، كممثل غير نمطي.
فرح يوسف: ملائمة بطزاجة وجهها لدور
المذيعة المتماثلة مع "النظام" رغبة في الصعود، شأن معظم فتيات
البورجوازية الصغيرة
في عالمنا، إلا أنها تحسم ترددها مع إدراكها بأنه "لم يعد في الإمكان أبشع
مما كان"
وأنه حان الوقت للانضمام للثورة مهما كانت العواقب!
في نهاية الفيلم تنزل
معلومات دقيقة على الشاشة تضم أرقاما وأسماء: عدد الذين استشهدوا أمام
ماسبيرو (حيث
يوجد مبنى التليفزيون المصري) في المواجهات العنيفة مع الجيش، وكيف استشهد
286 شخصا
خلال أقل من عام، وجرح 8469، وفقد 271 عيونهم، واغتصبت 27 ناشطة سياسية،
ووقعت كشوف
العذرية على بعضهن، وأنه لايزال هناك 12 ألف سجين مدني في سجون
عسكرية طبقا لأحكام
عسكرية... وأن "العد مازال مستمرا"- كما يقول العنوان النهائي.
لقد تحررت
الإرادة، وانطلق عمرو من محبسه لكي يشارك الجماهير إحساسها بالحرية، لكن
اللقطة
الأخيرة تشي بالترقب والتوجس، بانتظار القادم.. وهو ثقيل لكن عمرو فرح
وأمثالهما
مصرون على عدم التراجع.
الجزيرة الوثائقية في
06/12/2012
انطلاق المهرجان الدولي لفيلم البيئة بالقيراون
تونس – صالح
سويسي
انطلقت بعاصمة الأغالبة فعاليات الدورة التاسعة للمهرجان
الدولي لفيلم البيئة بالقيروان. ويشارك في الدورة الجديدة التي تحمل شعار
"الانتقال
الطاقي والتنمية المستدامة في تونس" 52 فيلمـًا في المسابقة من 18 بلدًا
وهي
ألمانيا، بلجيكا، بركينا فاسو، كندا، الصين، مصر، فرنسا، العراق، روسيا،
سويسرا،
وتونس، في حين يشارك في فعاليات المهرجان سنمائيون ومهتمون من
5 بلدان. وبرمجت لجنة
التنظيم ندوة علمية حول "الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة في تونس"
ومائدتيـْن
مستديرتيـْن الأولى حول "الإسلام والبيئة' والثانية تتعلق بـ "السياحة
البيئية"
فضلا عن معرض رسوم ونحوتات لجمعية ثقافية مغربية وزيارة المدينة/المحمية
الطبيعية
للجهة "محمية التواتي" بمنطقة نصر الله.
وأعد
المنظمون برنامجا منوعا للدورة التاسعة والتي كان من المفروض أن تكون
العاشرة غير
أنّ الظروف التي مرت بها تونس العام الماضي حالت دون التئام المهرجان الذي
يعتبر
الأول من نوعه في المنطقة العربية. وكان اليوم الأول مخصصا
للافتتاح ثم "الإضاءة
الأولى" للتظاهرة مع الندوة العلمية التي أدارها الخبير الدولي محمد عادل
الهنتاتي،
وشارك فيها المنجي الخماسي بمداخلة حول "دسترة الحقوق البيئية"
وعامر الجريدي
بمداخلة حول "الانتقال الطاقي بين المفهوم والتطلعات" ولطفي عزوز بشهادة
حول "تجربة
نيجيريا" والهادي علي بمقاربة حول موضوع "الغاز الصخري"
ولطفي البريكي الذي قدم
مداخلة بعنوان "البديل الطاقي".
وإلى جانب عروض الأفلام تضمن برنامج المهرجان
أنشطة أخرى مثل عرض ملابس تقلدية مغربية وأعمال فنية ومنحوتات
فضلا عن عرض فلمين
قصيريـْن لجمعية إبداع للفنون والثقافة من المغرب، مع تظاهرة بعنوان "قضايا
البيئة
في رسوم الأطفال" في شارع الثقافة، وزيارة لمحمية 'التواتي' (نصر الله،
القيروان)
الطبيعية وجولة في المدينة العتيقة. ليختتم
المهرجان يوم
الأحد.
المهرجان يثير الجدل
وكانت عديد وسائل الإعلام
المكتوبة والإلكترونية
العربية منذ أيام، تداولت خبرا مفاده أنّ العاصمة
الإماراتية أبوظبي ستحتضن في شهر مارس/آذار من العام المقبل أول مهرجان
دوليّ لفيلم
البيئة في المنطقة العربية، الخبر يثير أكثر من تساؤل خاصّة أنّ أول مهرجان
دولي
خاص بسينما البيئة تأسس في مدينة القيروان التونسية منذ سنة 2010.
وباتصالنا
بالسيد عمر النقازي مؤسس المهرجان لم يخف استغرابه من الخبر، وقال أنّ
"المهرجان
وفكرته كانت تونسية بالأساس، مضيفا أنّ المهرجان تنظمه جمعية الفنّ السابع
منذ
تأسيسه وكانت آخر دوراته سنة 2010 قبل أن يحتجب العام الماضي
ليعود هذا العام بداية
من 3 ديسمبر المقبل.
وفي هذا السياق يقول النقازي "قرأنا في عدة صحف ومواقع
خليجية وعربية، ما مفاده أنّ دولة الامارات المتحدة تستعد لاحتضان المهرجان
الدولي
لفيلم البيئة في شهر مارس المقبل واعتبرته حسبما صرحت به شركة
الانتاج الإعلامي "ميديا
لاب" التى تبنت تأثيث هذا المهرجان أنّه الأول في العالم العربي، ومن هنا
أردت أنْ أوضح وأطلع الرأي العام على الاستحواذ والهيمنة على أفكار
الناس.."
ويواصل النقازي "أعتقد جازما أنّ المهرجان الدولي لفيلم البيئة
بالقيروان هو الأول والذي تمّ تأسيسه سنة 2001
وبالتحديد في 16
ماى 2001
وهو إلى
الآن ما زال قائما وستنعقد دورته التاسعة
إن شاء الله في الفترة من 3 إلى 9 ديسمبر
2012
هذا من ناحية،
ومن ناحية أخرى إنّ المملكة العربية السعودية أنشأت مهرجانا
للبيئة وقع تسميته مهرجانا دولي للحياة الفطرية وإنشائها كان
في سنة 2004 ثم لم
يذكر بعد، كذلك مصر أسّست مهرجان فيلم البيئة سنة 2006 وقام بتأثيث دورتين
ثم
توقف.."
ويؤكد
النقازي أنه في سنة 2005 وبالتحديد في شهر فيفري وبمناسبة إمضاء "الأطلسي
البحرى"
بدولة الإمارات تمّ استدعاؤه كمؤسس لمهرجان القيروان وتمّ الإمضاء على
اتفاقية قيام
مهرجان دولي لفيلم البيئة في أبوظبي تحت رعاية نادي التراث الإماراتي.
ويستغرب
اليوم تصرح دولة الإمارات بأنّ مهرجانها هو الأول في العالم
العربي بينما هو يحتلّ
المرتبة الرابعة ويتساءل والكلام له "فهل أن المسؤولين في الإمارات وأخصّ
منهم
السيخ أحمد بن حمدان آل نهيان رئيس أمناء هذا المهرجان ليس له مستشارون
يرشدونه ولا
يغالطونه؟.."
وكان خبر تنظيم أول مهرجان دولي لفيلم البيئة في أبوظبي قد انتشر
في عديد المنابر الإعلامية وجاء فيه "تستضيف العاصمة الإماراتية أبوظبي
وعلى مدار
ستة أيام خلال الفترة من 9 إلى 14 مارس 2013، أول مهرجان دولي لأفلام
البيئة في
العالم العربي، وتنظمه شركة الانتاج الإعلامي "ميديا لاب"،
ويأتي الحدث تحت إسم
مهرجان أبوظبي الدولي لأفلام البيئة. وصرح الشيخ أحمد بن حمدان آل نهيان،
رئيس مجلس
أمناء المهرجان، أن الفكرة تنبع من مسؤولية كل فرد تجاه الكون الذي نعيش
فيه، حيث
الكل معني به وبخطورة التحديات البيئية التي تواجهها البشرية اليوم
ومستقبلاً، خاصة
في ظل ما يقوم به الفرد من ممارسات تسهم في خلق نوع من التحديات البيئية
التي تضعنا
أمام مسؤوليات كبيرة، وسط أرقام مذهلة ومفزعة لحجم وعدد
الكوارث المناخية التي تعصف
بكوكب الأرض بسب تفاقم التغير المناخي والاحتباس الحراري وهناك الكثير من
الطرق
التي تسهم في زيادة الوعي البيئي لدى الجمهور وأكثرها فاعلية هي الإعلام
والفنون.."
وأضاف آل نهيان أن المهرجان يستهدف "الترويج الجماهيري لأهمية
المحافظة على البيئة من أجل أن تصبح الأرض مكاناً أفضل للحياة"، واستطلاع
ومواكبة
كل ما هو حديث وجديد في مجالات التوعية والحفاظ على البيئة. ويسير الحدث
جنباً إلى
جنب مع خطة أبوظبي 2030 والتي تولي اهتماماً كبيراً للجانب
البيئي في العاصمة من
خلال الحفاظ على التنوّع الأحيائي. كما يحرص المهرجان على دعم مشروعات
الأفلام
السينمائية والوثائقية المعنية بالبيئة بهدف زيادة تفاعل الإنسان مع البيئة
بصورة
إيجابية. وأشار رئيس مجلس أمناء المهرجان إلى أن المهرجان
سيسعى لوضع أسس علمية
وعملية راسخة لصناعة الفيلم البيئي في العالم العربي، ومن أجل التوصل إلى
حلول
توعوية.."
الجزيرة الوثائقية في
06/12/2012
فيلم فصل الكركدن
كيف
تخرج السينما من الشعر والفيلم من القصيدة
سالونيك - رامي عبد الرازق
ضمن
العروض الخاصة بتكريمات المخرجين خلال فعاليات الدورة الثالثة والخمسين
لمهرجان
سالونيك الدولي( 2-11 نوفمبر) اقيم العرض الخاص لاحدث افلام المخرج
الأيراني بهمان
قبادي (انف الفصول) والمستوحي من قصيدة بنفس الأسم لأحد
الشعراء الأيرانيين الذين
قضوا اكثر من 27 عاما في سجون الثورة الأسلامية في ايران.
تضم قائمة افلام قبادي
25
فيلما خلال ثلاثة وعشرين عاما, اي انه ينجز فيلما كل عام تقريبا وكان
اخر افلامه "لا
أحد يعرف القطط الفارسية" والذي اعتبر عمل ايقوني فيما يخص فكرة السينما
النضالية او على حد تعبير السينمائي التشيلي ميجيل ليتن وقت ان كان منفيا
(انه لا
توجد امام السينمائي سوى طريقة واحدة موثوقة لأستعادة صورة الوطن المفقود,
وهي ان
يعود ويقوم بتصويره من الداخل) وهو ما فعله بهمان عندما تسلل
إلى ايران وقام بتصوير
"القطط الفارسية".
اقام المهرجان مؤتمرا صحفيا خاصا للمخرج وقام بعرض اربعة من
اهم تجاربه السينمائية خلال العشر سنوات الاخيرة وهم بالترتيب الزمني"زمن
الخيول
المخمورة"إنتاج 99 و"السلاحف يمكن ان تطير" إنتاج 04, و"نصف قمر" إنتاج 06,
و"لا
أحد يعرف عن القطط الفارسية" 09, وأخيرا أحدث افلامه"فصل الكركدن" 2012 وهو
من
بطولة الممثلة الأيطالية مونيكا بيلوتشي في دور زوجة الشاعر الأيراني صاحب
القصيدة
المصورة في الفيلم.
الكاميرا تحلم
تمتد علاقة
بهمان بفكرة استخلاص الشعر من الصورة عبر تاريخ طويل من الأفلام, نستطيع ان
نلمح
هذا في"زمن الخيول المخمورة" و"السلاحف يمكن ان تطير"لكننا هنا امام تجربة
مختلفة
فليس الفيلم محاولة للخروج بالصورة/الفيلم إلى افق الشعر, ولكن الصورة هنا
هي
محاولة لترجمة ابيات شعرية او حالة شعرية كاملة بطلها شاعر
وقصيدة.
تبدا احداث
الفيلم في خريف 2010 عندما يتم الأفراج عن الشاعر العجوز سهيل بعد ثلاثين
عاما
قضاها في سجون الثورة الأسلامية, وبمجرد خروجه يسافر إلى تركيا بحثا عن
زوجته
السابقة مينا التي هربت من جحيم الأسلاميين بعد ان تم ابلاغها
ان زوجها قد مات
اثناء اعتقاله.
لا يخرج سهيل إلى الحياة فقط ولكنه يخرج إلى زمن سائل يتحرك فيه
إلى الخلف وإلى الامام حتى لا يصبح للزمن شكل او معنى معروف وإنما هو مجرد
مساحة
للذكريات والخيال على حد سواء.
يرتد بنا السرد
إلى خريف 77 قبل الثورة بقليل عندما كان سهيل شاعرا جميلا يحتفل مع زوجته
بصدور
احدث دواوينه الشعرية حيث يأخذها في رحلة إلى الغابات كي يكشف لها عن سر
هام وهو ان
ثمة شجرة كان يجلس اسفلها كي يكتب فّاذ بها تتحدث معه وتملي عليه بعض ابيات
القصيدة.
تضعنا هذه المكاشفة الخيالية او الفانتازية امام حقيقة الشخصية
وواقعها
الذي يمتد ما بين الروحي الخيالي وبين المادي المتجسد, وفي الوقت الذي
يصارح فيه
سهيل زوجته بذلك السر تلمح لنا الكاميرا ان ثمة عدو متربص بالزوجين وهو
السائق الذي
يعمل لدى الجنرال والد مينا احد رجال الشاه, هذا العدو/الخصم الدرامي سوف
يتحول
بلحيته الكثة إلى رمز مباشر ومكثف
في نفس الوقت لواقع الثورة الأسلامية وحقيقة
الأختباء خلف قناع الدين والحرب بأسم الله.
منذ اللقطات الأولى وبهمان يحاول ان
يجعلنا على مستوى الصورة ندرك اننا لسنا في واقع سينمائي عادي
ولكن ارضية الفيلم هي
حالة شعرية فالأشياء والشخصيات والألوان المستخدمة يغلب عليها طابع خيالي
كأنها
قادمة عبر ذاكرة الكاميرا او عبر احلامها بالشخصيات.
واذا كانت افلام بهمان
السابقة قد لعبت على وتر"الواقعية الشعرية" من خلال تصوير واضاءة وشخصيات
واماكن
واقعية يتفجر الشعر من علاقتها ببعضها البعض ومن علاقتها بالزمن والعالم,
فنحن هنا
امام تجربة مختلفة حيث تخرج السينما من الشعر او يخرج الفيلم
من القصيدة وليس
العكس.
سائل الزمن
يحاول الفيلم في
مناطق كثيرة لا ان يعبر بصريا عن ابيات القصيدة ولكن ان يكون هو القصيدة
وهو ما
استدعى عدة عمليات سردية وعدة اساليب في الحكي والتصوير والمونتاج كان
اهمها كما
ذكرنا فكرة تسييل الزمن وتحويله إلى فضاء للتعبير وليس مجرد
اطار للحكي, فمن
المعروف ان القصة تحكي خلال فترة زمنية معينة وعبر تسلسل زمني معين سواء
كان
تصاعديا او عكسيا او حتى متكسرا ولكن بهمان يتعامل مع الزمن كما يتعامل معه
الشعر
حيث لكل بيت /لقطة زمنها الخاص ولا نقصد به زمن حدوثه فقط ولكن
زمن الشعور به او
التفكر فيه او حتى محاولة التأكد إذا ما كانت ما تعرضه اللقطة قد حدث
بالفعل ام انه
محض خيال او ذكرى لم تتحقق.
يخرج سهيل من السجن ليبدأ الزمن في التدفق داخل روحه
دون ان يحمله المخرج عبء الذاكرة التي تحكي او تستعيد بل يلجأ إلى فكرة
الذاكرة
الجمعية حيث تشترك الكاميرا مع الشخصيات في التذكر فلا تضعنا
امام سؤال السرد
التقليدي(من الذي يتذكر؟)
في لقطات كثيرة تبدو الكاميرا مثل شخص يرافق الشاعر او
الزوجة خاصة في مشاهد جلوس الشاعر بالسيارة لمراقبة منزل زوجته في تركيا,
ان
الكاميرا تظل جالسة بالسيارة حين يخرج هو منها ليقف على البحر
كأنها تريد ان تمنحه
فسحة من الوقت بمفرده قبل ام تعاود مرافقته او التماهي معه.
صحيح ان فكرة شخصنه
الكاميرا ليست بالأبتكار الجديد ولكن بهمان هنا يوظفها جيدا في اطار شعرية
اللحظات
وانسنة السرد قدر الامكان كي لا يتحول إلى عصير سيريالي غامض نتيجة الحالة
المونتاجية واللونية التي يسرد من خلالها الفيلم.
نعرف من خلال السائل الزمني المتدفق عبر رحلة
سهيل إلى تركيا حجم المأساة الأنسانية التي تعرض لها على يد
الأسلاميين حين اتهموه
بانه يكتب شعر سياسي يحرض ضد(النظام المقدس للجمهورية الأسلامية), ويستخدم
القاضي
الذي يحاكمه هذا التعبير(النظام المقدس)ليضعنا ذهنيا امام موقف الثورة
الأسلامية من
نفسها, انها ترى نفسها ثورة مقدسة بأسم الله ولذا فإن كل ما يصدر عنها هو
بأمر الله
وبرضاه.
في مقابل هذا(النظام المقدس)نجد السائق الذي يحب مينا في صمت لدرجة
المرض, يأخذنا سائل الزمن عبر ذاكرته ليعيدنا إلى نفس اللحظة التي كان
يكاشف فيها
الشاعر زوجته بأمر الشجرة التي تتلو عليه ابيات القصيدة, بينما السائق
الجالس في
السيارة يمارس جنسا شاذا مع احمر الشفاه الخاص بالزوجة حيث يمتصه ويأكله في
وله
ونشوة.
لحظات متناقضة لا يمكن فيها الحكم على احد فالسائق مريض بالحب ولكنه
حب
هوسي احمق بلا عقل, والشاعر زوج وعاشق يقدر قيمة الزوجة التي منحتها له
الحياة.
ولكن في الوقت الذي يخرج فيه الشاعر حبه على شكل ابيات شعرية نجد
السائق
وقد صار احد الثوار الأسلاميين في محاولة منه للأنتقام من الجنرال والد
الزوجة الذي
لقنه ضربا مبرحا جراء محاولة تعديه على الزوجة في السيارة.
الموقف السياسي
هنا يعلن بهمان
بوضوح عن موقفه السياسي من صناع الثورة الأسلامية المزعومة, حيث يعتمد
السائق على
علاقته بالحرس الثوري من اجل تلفيق تهمة للشاعر وزوجته والحكم بسجنه ثلاثين
عاما
وبسجنها عشرة اعوام, ولكن السجن ليس كافيا فهو لا يريد
الأنتقام فقط ولكنه يريدها
ايضا فيقع الزوج في دائرة التعذيب الجنهمية عبر مشاهد يختلط فيها الخيالي
بالجحيمي,
في محاولة لاجباره على تطليق زوجته دون وجه
حق.
وتصل ذروة المأساة السياسية اذا
جاز التعبير عندما يسمح للزوج والزوجه باللقاء ولكن دون ان
يروا بعضهم البعض اي
يرتدي كل منهم كيس اسود على رأسه وفي ذروة لقائهم الجنسي الحار يقتحمهم
السائق
ويقصي الزوج ويغتصب الزوجة التي تحمل وتلد طفلين.
قد تبدو واقعة الأغتصاب والحمل
المشكوك في كونه سفاحا او غير سفاح احد كلاشيهات السينما
السياسية المعروفة,
فالمرأة هي الوطن او البلد والزوج هو المواطن الشرعي والمغتصب هو كل من
يرغب في
مباشرتها دون وجه حق وبسلطة ديكتاتورية يمنحها لنفسه بأسم الدين او
الأيديولوجيا.
ولكن اتساع الأفق الشعري في الفيلم يُخرج هذا الكلاشيه من
تقليديته ويحيله إلى صورة شعرية كاملة عبر تصوير عملية الولادة وخروج
الطفلين من
الرحم ثم بعد ذلك عبر تتبع مسار أحد التوأمين والتي تعمل
كعاهرة من اجل المال,
ويلتقيها الأب الشاعر خلال بحثه عن الأم لنشك انه ضاجعها او ضاجعته دون ان
يدري او
تدري انه من الممكن ان يكون اباها.
هذا الخلط في الأنساب والشك الكامل في حدود
العلاقات الأنسانية هو خروج بالأكلاشية من ضيق الأطار السياسي
إلى فكرة اختلال
النظام الكوني كله الناتج عن حدوث مثل تلك الامور القهرية والنزاعات
الانسانية
الكبرى.
جسد مونيكا
لأول مرة يلجأ
بهمان لاستخدام الجرافيك في افلامه سواء من خلال عملية تلوين المشاهد
واللقطات بشكل
مختلف عن صورتها الواقعية لاضفاء اللمسة الشعرية عليها او من خلال لقطات
فانتازية
توازي السرد الشعري خلال الأحداث, مثل مشهد اتخاذ الشاعر قراره بقتل الرجل
الذي حطم
حياته, حيث نراه وهو يقود سيارته وسط قطيع من وحيد القرن ويصدم
احدهم فيقتله, هذه
الصورة الشعرية الكاملة لم تكن لتتحقق سوى بالجرافيك المنفذ بحرفية مناسبة
بل
ويستكمل المخرج الصورة في مشهد النهاية عندما تهبط السيارة بالشاعر والسائق
في
المياه فينظر الشاعر ليجد وحيد القرن الذي دهسه غارقا امامه في
البحر فيدرك انه
اخيرا نال انتقامه وقتل من تصور نفسه وحيد للقرن لا يقهر.
ويتخلى بهمان عن
نزعته التسجيلية التي ظهرت في كل افلامه تقريبا خاصة المجموعة الأخيرة
ليقدم لنا
حالة تمثيلية كاملة يديرها بأقتدار خاصة في تعامله مع مونيكا بيلوتشي
الأيقونية
الأيطالية التي جاءت اختيار موفق بشكل كبير, لان مرحلتها
العمرية مكنتها من الظهور
بكلا الوجهين الأول للزوجة الشابة قبل الثورة والثاني للمرأة التي تحطمت
روحها على
يد السائق المهووس رمز الثورية الأسلامية.
وكان لجوء بهمان لمونيكا على ما يبدو
سببه وجود مشاهد جنسية داخل الفيلم وهي مشاهد لا يمكن
الأستغناء عنها او محاكاتها
لانها جزء من جسد القصيدة الفيلمية ومونيكا لها ذلك الجمال ذو المسحة
الشرقية التي
يمكن ان يجعلك تصدق انها ايرانية بالفعل.
لم نرها كثيرا وهي تتحدث الفارسية ليس
فقط من اجل التجاوز عن فكرة اللكنة واللغة ولكن لأننا امام
شخصية محطمة روحيا
ومنتهية الصلاحية الأنسانية, صامتة, تطفح عيونها عذاب وشك في جدوى العالم
والبشر,
مسجونة كما نراها في كثير من المشاهد من
خلف شباك حديدية او اسلاك متقاطعة, حريتها
الحركية فقط داخل حيز الذارعين العاشقين لزوجها اثناء ممارسة
الحب قبل ان يُنتزع
منها وتُنتزع منه ليعتليها السائق رمز الثورة المقدسة.
قدرة كبيرة على
الشعور بالترهل الروحي والخواء الداخلي عبر الملامح المصمطة والعيون الميتة
والشعر
الذي غادرته النضرة والنعومة.
لا يترك بهمان في الفيلم اداة من ادوات السرد
إلا ويوظفها بشعرية كبيرة, بعض مقاطع القصيدة نسمعها بصوت
الشاعر وهو يرددها في
الفضاء والبعض الاخر بصوت الزوجة ولكن الممتع هو ان نستمع إلى صوت الشجرة
التي تحدث
عنها الشاعر وهي تتلو بعض ابيات القصيدة تماما كما اخبر زوجته, ان صوت
الشجرة هنا-
وهي تلك الشجرة نفسها التي نراها في اللقطات الواسعة للغابة تبدو متجذرة
وعتيقة-
يشعرنا انها تأخذ محل الراوي او المعلق على
الاحداث والمشاعر ولكن من داخل الفيلم
نفسه وليس من خارجه, اي من داخل الواقع الشعري الذي مهد له
المخرج بشخصياته وليس من
خارج الاطار الخيالي العام الذي وضعه منذ البداية.
تتطور الاحداث ببطء نتيجة
للتوقف امام كل لحظة ومحاولة اعتصارها للنهاية, يبدو ان الزوجة
قد اسلمت نفسها فيما
بعد للسائق فقط كي تغادر ايران بعيدا عن
النظام المقدس او انه عثر عليها فيما بعد
هي واولادها في تركيا, الشك الكامل هو الحقيقة الوحيدة التي يقدمها لنا
المخرج
فالحكاية لا تعنيه كثيرا وللمتلقي ان يكملها كما يشاء, ولكن ما وراء
الحكاية من عبث
واختلال وهدم وانكسار وموت هو ما يريد ان يصل به للمتفرج.
من السهل ان تجلس
الشاعر امام الكاميرا طوال الفيلم ليتحدث عن معاناته في سجون الثورة او ان
تفرد
مشاهد كاملة لعمليات التعذيب المختلفة, ولكن كيف تترجم انكسار الروح
البشرية إلى
صورة فهذا هو الغرض! وهنا تتضاءل قيمة الحكاية في مقابل قيمة
المعنى الوجداني لتتخذ
السينما النضالية اذا ما صح التعبير صورة اكثر عمقا من مجرد كونها منشور
سياسي فخيم
بصلاحية زمنية مؤقته.
هل قتل الشاعر الرجل الذي هدم حياته في النهاية حقا عندما
اخذه معه في السيارة؟ ام خيل له هذا؟ من عين الزوجة التي تغادر إلى اوروبا
مع
ابنتها نرى سيارة الشاعر العجوز وهي ترفع من داخل الماء ولا
ندري هل انتحر بداخلها
بمفرده ام نال انتقامه كما صوره لنا المخرج في مشهد غرق وحيد القرن!
مرة أخرى لا
يمنحنا المخرج اليقين الكامل بالاحداث يتركها لمشاعرنا التي ربما تكملها
انتقاما من
السائق المهووس او لا تكملها تعاطفا مع حبه الهوسي الجنوني, ولكننا في
النهاية ندرك
ان ما حدث قبل ثلاثين عاما وطوال الثلاثين عاما من عمر الدولة الفارسية لم
يكن مجرد
ثورة على حكم الشاه وبأسم الأسلام ولكنه قهر روحي ونفسي ووجداني وجسدي
مرفوض بكل
المقاييس وان من يدعون"الثورية المقدسة"هم في الأصل مجرد
مهاوييس بالسيطرة وحب
الأمتلاك ورفض الأخر والرغبة في قهره والتحكم في روحه وهو ما لا يقبله
الدين الذي
يتحدثون بأسمه او الرب الذي يقاتلون من اجله.
الجزيرة الوثائقية في
06/12/2012 |