منذ عقود طويلة لا تكف السينما الأميركية - بما في ذلك تلك الأكثر
هوليوودية وبالتالي الأكثر تجارية وجماهيرية من بينها - عن التصدي لتاريخ
وكالة الاستخبارات المركزية المعروفة اختصاراً بالـ «سي.آي.إي». وغالباً ما
يتم هذا التصدي بأسلوب الفضح والإدانة حتى وإن كان الأمر لا يخلو بين
الحـــين والآخر من أفلام تحاول، ودائماً بجهد كبير، ان يبيّض صفـــحة هذا
الجـــهاز المريع والذي يرى كثر انه، بعد كل شيء، الجهة التي تبني السياسة
الأميركية الحقيقية. غير ان هذه مســـألة أخرى لن نتوقف عندها هنا، حيث ان
ما يعنينا انما هو الحديث عن واحد من الأفلام الحديثة التي حاولت ان تجعل
من تلك الوكالة موضوعاً لها... واللافت هنا ان الفيلم الذي نتناوله للدلالة
على هذا، لم يحققه واحد من مخرجي هوليوود المخضرمين المشاكسين، بل واحد من
نجوم التمثيل الكبار فيها.
>
وقبل هذا، لا بد من ان نشير الى أن السينما الأميركية هي واحدة
من سينمات قليلة في العالم، يمكنها أن تتلاعب بالتاريخ كما تشاء. كما ان في
إمكانها من ناحية ثانية ان تشخصن التاريخ الى حدود يصعب على العقل تقبّلها.
لكن الأدهى من هذا كله هو ان المتفرج حتى وإن كان مطلعاً بعمق على التاريخ،
لا يبدو قادراً على الاحتجاج. بل هو يقبل الامور كما هي، معتقداً - في
غالبيته العظمى على الأقل - ان تلك هي الحقيقة التاريخية. وما فيلم «الراعي
الصالح» الذي حققه الممثل روبرت دي نيرو ليكون ثاني فيلم طويل يخرجه، سوى
دليل ساطع على هذا. فالفيلم كان، في صيغته الاساسية الاولى، أشبه بعمل
توثيقي عن تاريخ وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية طوال أربعين سنة، مع
تركيز خاص على الحملة العسكرية الفاشلة في «خليج الخنازير» على الساحل
الكوبي والتي كانت عام 1961، اكبر فشل حصدته السي. آي. إي. في تاريخها.
هكذا أراده الكاتب اريك روث منذ البداية. غير ان الفيلم سرعان ما تحوّل بعد
مروره من استوديو الى استوديو، ومن يد الى يد، الى فيلم عن ضابط كبير في
السي. آي. إي. يسترجع ذلك التاريخ من خلال ذكرياته. بل حتى من خلال اكثر
ذكرياته شخصية.
>
في البداية كان هذا الفيلم قد كتب كي يخرجه فرانسيس فورد
كوبولا. وكان ذلك في عام 1994. غير ان المشروع لم يتحقق. فأسندت مهمة
الإخراج الى وانغ يوانغ، ثم الى فيليب كوفمان. ثم توالى غيرهم من المخرجين،
حتى انتهى الامر الى اثارة حماسة روبرت دي نيرو الذي كان قد خاض في فيلمه «البرونكس»
التجربة الإخراجية الوحيدة في حياته حتى ذلك الحين. لكن دي نيرو، الذي كان
هو من رغب في إسناد البطولة الى مات دايمون، محاطاً بنصف دزينة من كبار
النجوم، رغب من روث ان يبدل السيناريو بحيث يغطي تاريخ السي. آي. إي. منذ
ولادتها حتى اليوم... أي من دون التوقف عند حملة «خليج الخنازير» فقط. لكن
روث اوضح لدي نيرو صعوبة الامر ووعده، ان حقق «الراعي الصالح» ونجح، ان
يكتب له تتمة تمتد منذ الحملة وحتى اليوم. وقبل دي نيرو... ما يجعل من
المحتمل في اي لحظة أن يقدم على تحقيق فيلم تال. فهل تراه في العمل المقبل
ايضاً سيشخصن الحكاية كما فعل في الأول؟ ليس الجواب واضحاً حتى الآن. ويبدو
اننا سنسمع قريباً أخباراً حول المشروع الجديد. اما هنا فلنتوقف عند فيلم
«الراعي الصالح» كما عرض، وحقق نجاحاً لافتاً، واعتبر نموذجياً في مقاربته
الشعبية لحكاية تاريخية من هذا النوع.
>
هل الحكاية حقاً تاريخية بعد كل شيء؟ أجل. والدليل أن الفيلم
يبدأ بغزوة «خليج الخنازير»، التي يعزو الفيلم فشلها الى تسريبات كشفت
الخطة في شكل مسبق (مع أن الحقيقة التاريخية تقول غير هذا: تقول ان السبب
هو الإهمال والخفة في التعاطي مع الخطة. وكون الخطة رسمت ونفذت على عجل).
الغزوة تقدم الينا، إذاً، في صياغة تاريخية تبدّي المشاهد شبه وثائقية
(بحيث إن الامر اختلط على كثر فظنوا ان معظم المشاهد المستخدمة وثائقية).
وهذه المشاهد هي صور للمعركة والتراجع، الذي ما إن يتم، حتى تنقلنا
الكاميرا الى منزل الجنرال ادوارد ويلسون، احد كبار ضباط السي. آي. إي. ومن
هنا ننتقل رجوعاً في الزمن الى عام 1939، العام الذي جرى فيه تأسيس السي.
آي. إي. غير ان هذا التأسيس لا يقدم الينا في بعده التاريخي، بل من خلال
ويلسون نفسه الذي كان في ذلك الحين طالباً في جامعة يال وضُمّ الى جماعة
شبه سرية كانت تطلق على نفسها اسم «جماعة الجمجمة والعظام» وهي جماعة تضم
الطلاب اليمينيين الأثرياء، من الذين يبدو – وفق الفيلم على الاقل، وكذلك
وفق بعض الحكايات المتداولة، ووفق افلام سبق عرضها – انهم كانوا هم النواة
التي منها اسس بعض مسؤولي الأف. بي. آي. وبعض السياسيين، وكالة
الاستخبارات. مهما يكن، فإن فيلم «الراعي الصالح» يقول هذا، لكنه هنا،
بدلاً من أن يغوص في السرد التاريخي، يتابع حياة ادوارد ويلسون ومغامراته
وغرامياته، ثم بخاصة خيانته لأستاذه الألماني الاصل فردريكس الذي يشتبه بأن
جاسوساً نازياً، ما يتسبب في طرده من أميركا، ليكتشف ويلسون لاحقاً ان
الرجل كان عميلاً انكليزياً تغلغل الى اوساط النازيين الاميركيين، فاعتقد
ويلسون ورفاقه انه نازي، الى درجة ان ترحيله محا عامين من الجهود السياسية
والجاسوسية ضد النازيين الاميركيين، وتسبب بالتالي في اول خطأ فادح وكبير
اقترفته السي. آي. إي. في تاريخها غير المجيد.
>
على هذا النحو إذاً، يتأرجح الفيلم بين ما هو تاريخي حقاً، او
ما يمكن ان يكون تاريخيّاً، وبين ما هو روائي يتتبع بطولات وتنقلات ومآثر
ادوارد ويلسون، الذي يتنقل بعد التأسيس بين برلين ولندن وباريس، حيث له في
كل عاصمة مهمة ولقاءات تكشف التسلسل التاريخي للأحداث السياسية: دخول
أميركا الحرب العالمية الثانية، مجريات الحرب نفسها، بدايات الحرب الباردة
إذ انتقل الصراع من اميركي/ألماني، الى أميركي/شيوعي، الماكارثية وهمجيتها،
وصولاً الى حملة خليج الخنازير. ولعل اللافت هنا هو ان الفيلم يتوقف مطولاً
عند السنوات الست التي أمضاها ويلسون في لندن... غير انها لم تكن سنوات
سياسية فقط، كما كان يحق لنا ان نعتقد، بل كذلك، وبخاصة، سنوات شخصية لا
تخلو من غراميات وخيانات... بيد أن هذا كله لا يمنع وليسون طبعاً، من ان
يكون من اوائل المسؤولين الاستخباراتيين الاميركيين، بل الغربيين عموماً،
الذين يهتمون بمنشقّي المعسكر الاشتراكي، وبتدبير الثورات والانتفاضات
الشعبية في المجر وبرلين وغيرهما. كما انه لا يمنع من ان تتطور حياة ادوارد
ويلسون في شكل منطقي، حتى نراه لاحقاً يزور في جامعة يال ابنه الشاب ادوارد
جونيور وقد اصبح بدوره عضواً في تلك الجمعية التي «اسست جهاز الاستخبارات
وتواصل دائماً صناعة القادة السياسيين الاميركيين». في تشديد على
الاستمرارية. وهي استمرارية كانت بداياتها، يوم كان ويلسون بدوره طالباً في
يال، واعترف امام رفاقه، في مشهد طقوسي، بأنه يمتلك ورقة كتب فيها والده
المنتحر رسالة لم يجرؤ هو على قراءتها. في النهاية، عند المشهد الأخير من
الفيلم وإذ يشعر ويلسون انه بات قادراً على مجابهة ماضيه وحاضره، يقرأ
الورقة ليجد فيها اعترافاً من أبيه بأنه خان وطنه.
>
على رغم ان المؤرخين الأقحاح، قد اخذوا على الفيلم، خطأ الكثير
من «التأكيدات التاريخية» التي وردت فيه، أكد آخرون ان الفيلم، على رغم
طابعه الشخصاني، عرف كيف يرسم في شكل جيد ومنطقي ما يمكن ان يكونه ذلك
التاريخ، بخاصة ان دي نيرو، وقبله الكاتب اريك روث حرصا على ان يملآ الفيلم
بشخصيات حقيقية وجدت حقاً وكان لها دور حقيقي في اللعبة التاريخية، من
ادوارد ويلسون نفسه، الذي إنما كان القناع الذي يخفي شخصية المؤسس الحقيقي
جيمس جيزوس انجلتون، الى آلن فيليب، الذي هو القناع الذي يخفي آلان دالاس،
والجنرال بيل ساليفان (قام بالدور دي نيرو نفسه) الذي كان في الحقيقة
الجنرال ويليام دونوفان... الخ.
alariss@alhayat.com
الحياة اللندنية في
10/12/2012
»بن أفليك« يقود عملية إنقاذ لمجموعة من الرهائن الأمريكان
من داخل طهران
كتب : ماجـــدة
خـــيراللــه
يظل (بن
أفليك)
حالة
فنية
غامضة بالنسبة لي، أتحدث بشكل خاص
عن نفسي، فهو صاحب اسم فني كبير أو علي الأقل يتمتع بشهرة تتيح له أن يكون
واحدا من
نجوم هوليوود، ولكن علي مستوي الإنجاز، أجده
في غاية التواضع، أفلامه الجيدة قليلة
جدا، ولم تترك أي علامات مميزة تستحق التوقف عندها، حتي فيلم بيرل هاربر
كان وجوده
إحدي نقاط ضعف الفيلم وليس قوته وإذا تابعت عدة مشاهد من أفلام
متفرقة له، سوف
تكتشف أنه يحمل
نفس حالة البلادة التي تطل من عينيه
ونفس ردود الأفعال.
لكن تقول إيه (أرزاق)!! وإذا كانت لديك أي ذرة شك فيما أقول إنت حر
طبعا، ولكن حاول أن تقارنه بزميله الموهوب فعلا"مات ديمون" الذي كان رفيقه
في أكثر
من مشروع فني ، سوف تجد أن مات ديمون قدم مجموعة من الأدوار المتباينة
المتنوعة
المختلفة، حتي تكاد تنكره "لاتتعرف عليه" في كل فيلم يقدمه،
وربما يخطر في بالك
لماذا مقارنة بن أفليك مع مات ديمون، أقول لك جاء الربط بينهما منين، فقد
شاركا معا
في كتابة سيناريو
فيلم
شديد الأهمية من بطولة جاك نيكلسون
هو"جود ويل هانتينج"
وحصلا عنه علي جائزة أوسكار أفضل سيناريو، بعدها ارتفعت أسهم مات ديمون
وقدم باقة
من الأفلام لايشبه أحدها الآخر، بينما
ظل بن أفليك
يلعب في منطقه ضبابية، لايحرز
أهدافا ولكنه يجري في الملعب علي أية حال!
مناسبة الكلام عن بن أفليك، تأتي في معرض الحديث عن أحدث أفلامه "أرجو"
الذي لعب بطولته وأخرجه أيضا، وموضوع الفيلم مأخوذ عن مقالة كتبها
المحلل
السياسي "جوشوا بيرمان" عن واقعة محاولة إنقاذ ستة من الدبلوماسيين
الأمريكان،
احتموا في السفارة الكندية، في طهران بعد أن قام مجموعة من الإرهابيين
الإيرانيين
بمهاجمة السفارة الأمريكية في عام ٩٧٩١ وقتل من بها، اعتراضا علي قيام
أمريكا
باستقبال الشاه الهارب بعد ثورة الخوميني!!
أما سيناريو
فيلم "أرجو" فكتبه "كريس تيريو" ، الفيلم
يدور حول
واقعة حقيقية
فعلا، تتوفر لها كل عناصر الجذب، ولكنها أيضا واقعة، تشبه عشرات
غيرها، قدمتها السينما الأمريكية في أفلام أكثر قيمة، وجمالا،
شيء ما يجعل المتابعة
ثقيلة، ليس لأنك
تعرف النهاية، وهي نجاح مهمة انقاذ الستة أمريكان من براثن، حكومة
الخوميني، ولكن لأن السيناريو، لم يحمل أي عناصر إبداع حقيقية،
فكل نقطة
تؤدي لما
يليها، مع انعدام حالة المفارقة، أو المفاجأة! مثل هذه النوعية من الأفلام
من
المفترض ان تضع
المشاهد في حالة هائلة من التوتر، منذ لحظة البداية، ولكن الفيلم
تعامل مع الحدث بشكل أقرب للتسجيلي، ولم ترتفع حالة التوتر إلا
مع الدقائق العشر
الأخيرة!
يبدأ
الفيلم باستعراض تاريخي لإمبراطورية فارس، ومجدها وصراعها
الأزلي مع الإمبراطورية الرومانية، ثم
بقفزة
في الزمن
يصل إلي حكم شاه إيران،
محمد رضا بهلوي الذي كانت زوجته ترفل في النعيم، حتي أنها كانت تستحم
باللبن،
وتحافظ علي جمال وحيوية بشرتها، ونعومة جلدها، ثم يستعرض الفيلم عودة
الخوميني من
منفاه، واندلاع الثورة الإسلامية ضد
الشاه، والوحشية التي تعاملت بها ثورة
الخوميني مع رجال الشاه ومؤيديه، لدرجة شنقهم
وتعليق جثثهم في الشوارع، ثم هروب
الشاه ولجوؤه إلي أمريكا
في فترة رئاسة جيمي كارتر، مما دفع
السلطات الإيرانية
إلي مهاجمة السفارة الأمريكية في طهران،
وقتل من بها، إلا أن ستة منهم
ينجحون
في
الهرب بمعجزة، واللجوء إلي السفارة الكندية والاختباء بها!!
تبدأ الأحداث الحقيقية للفيلم، بعد 444 يوما
من الهجوم علي
السفارة الأمريكية في طهران، وطوال هذه المدة، لم تتوقف المخابرات
الامريكية عن
التفكير في خطة إنقاذ للستة دبلوماسيين الهاربين، وأخيرا تلجأ إلي أحد
عملائها،
وهو"توني مانديز" أو بن أفليك، ومن اللقطات الأولي، تتعرف علي
شخصيته، فهو يعيش
بمفرده
بعد أن هجرته زوجته، واصطحبت معها ابنهما البالغ من العمر عشر سنوات، وسوف
تلحظ أن ملامح بن أفليك
تحمل انطباعا واحدا، في جميع المواقف، سواء كان يفكر، او
كان متوترا، أو سعيدا أو تعسا، كل الجديد الذي يقدمه في هذا الفيلم، أنه
أطلق
لحيته، وأضاف بعض الشعيرات البيضاء، المهم.. أن الكرة أصبحت في
ملعب "توني مانديز"
عميل المخابرات، الذي
يخطط لفكرة للخروج
بالستة دبلوماسيين من طهران، بأقل قدر من
المخاطر، ويفكر
في خطة جهنمية، طرأت علي باله وهو يشاهد مع طفله فيلم
كوكب
القرود، ويلحظ، دقة الماكياج
الذي علي وجوه الممثلين في هذا الفيلم، وتصبح فكرته
اللجوء إلي عالم السينما، من خلال التعاون مع منتج سينمائي،
يقنعه بعمل فيلم "كده
وكده" وماكيير شهير، علي أن يكون الفيلم ينتمي إلي فئة الخيال العلمي، عن
حروب
الفضاء والأساطير الفارسية، ويتم تصويره في إيران!!
وفكرة لجوء رجال المخابرات في العالم، للاستعانة بعالم السينما،
يبدو أنها تتكرر كثيرا، فقد فعلتها المخابرات المصرية في عملية الحفار،
عندما تم
الاستعانة ببعض النجوم المصريين
للتصوير "كده وكده" في إحدي الدول الأفريقية، حيث
يستقر حفار إسرائيلي ضخم، وكانت خطة المخابرات تدميره قبل أن يتحرك
للبحر المتوسط،
حدث هذا في سنوات السبعينيات، وطبعا هناك الفيلم الامريكي العبقري حقا، ذيل
الكلب
الذي شارك في بطولته داستين هوفمان، وروبرت دي نيرو، حيث تستعين المخابرات
الأمريكية بمخرج شهير، لتقديم حرب وهمية علي الشاشة تحدث في
إحدي الدول، لمنح شرعية
للتدخل الأمريكي لفض الاشتباك في تلك المنطقة المزعومة من العالم، ونظرا
لشدة إتقان
الفيلم، يتم التخلص من المخرج الموهوب بتصفيته جسديا ليلقي جزاء سنمار!
المهم أن عميل المخابرات الأمريكية
"توني مانديز" يذهب إلي طهران
بصفته مخرجا كنديا، ومعه مجموعة من الصور تمثل السيناريو
الدقيق لفيلم الخيال
العلمي
المزمع تصويره في مناطق صحراوية في إيران، وطبعا تحدث بعض المفارقات
والمغامرات، هي كل ما يقدمه هذا الفيلم من متعة لاتزيد علي عشر
دقائق فقط!
والطريف في الموضوع أن الماكيير
الذي شارك في صناعة الشخصيات
الوهمية في الفيلم الوهمي، قد كافأته المخابرات الأمريكية،
وحصل علي أوسكار في عام
تنفيذ العملية، علي مجمل أعماله، وهكذا يجب أن تتأكد أن عالم السينما ليس
بعيدا علي
الإطلاق عن عالم السياسة، في كل دول الدنيا وفي كل الأزمنة، التي تلت بداية
مولد
السينما في عام 1895 وحتي وقتنا الحالي!
آخر ساعة المصرية في
11/12/2012
الكتابة عن السينما:
عالم شاسع الخيال وبعيد المنال
أن تكتب عن السينما معناه أنك قد انتقلت من عشق السينما بمعنى العشق
الأولي لها، والمتمثل في مشاهدة الأفلام السينمائية من أجل تحقيق متعة
ذاتية محضة، إلى عشق ثاني لها، هو عشق إعادة كتابة ما شاهدته من أفلام
سينمائية انطلاقاً من معرفتك الخاصة، سواء السينمائية منها تحديداً أو
الثقافية العامة على وجه التعميم، ووفق وجهة نطرك الشخصية المبنية طبعاً
على سعة الأفق المفترض والثقافة الواسعة المحصل عليها إن توافرت، أو على
الأقل في البداية، أي بداية الكتابة عن السينما، وفق ذوقك الشخصي الخاص.
ذلك أن الكتابة عن السينما هي انتقال معرفي من لحظة الانفعال بما تراه إلى
لحظة الفعل، أي تقييم ما رأيته، وتقديم وجهة نظر حوله، ليس لك شخصياً وإنما
للآخرين. وهنا بالضبط مكمن الصعوبة.
فأن تجعل الآخرين يرون ما تراه أنت في الأفلام السينمائية التي
شاهدتها، فتلك مسألة تتطلب منك جهداً مضاعفاً: جهد الفهم الأول لما شاهدته
من أفلام سينمائية، وجهد التحليل الذي تريد أن تخص هذه الأفلام السينمائية
به. وكل ذلك اعتماداً على القدرة على التحكم في الصور السينمائية التي
شاهدتها والكلمات النقدية التي تستعملها وأنت تقوم بالكتابة عن السينما.
طبعاً تتعدد نوعية الكتابة عن السينما من كاتب لآخر وفق منظوره الشخصي
ووفق الهدف المتوخى أيضاً من هذه الكتابة في حد ذاتها، ووفق منطلقاتها
الأنثروبولوجية والإيديولوجية والاجتماعية والفنية وغيرها، ولكنها في
النهاية تلتقي في أنها كلها تسعى أو تحاول على الأقل قراءة مجموعة من الصور
انطلاقاً واعتماداً على مجموعة من الكلمات.
وبما أنّ السينما إضافة إلى كونها كتابة بالصور وبالصوت وبكل ما يرتبط
بهما، فإنها وهي تتشكل عالماً فنياً، تتحول، كما يقول إدغار موران، إلى
عالم سحري هو أقرب إلى عالم الحلم من أي عالم آخر. انه عالم شاسع الخيال
وبعيد المنال، ولا يمكن القبض على مختلف مكوناته إلا من خلال العيش فيه من
جهة والابتعاد عنه من جهة أخرى. فنحن لا نتحدث عن الحلم إلا بعد انتهائه،
كذلك الأمر بالنسبة للأفلام السينمائية فلا يمكن الحديث عنها إلا بعد
مشاهدتها طبعاً.
لكن هذه المشاهدة السينمائية التي يجب أن تكون متعددة وغير واحدية،
تختلف في ما بينها حتى بالنسبة للفيلم السينمائي الواحد، فكيف بالأحرى
لمجموعة من الأفلام السينمائية. يرجع الأمر تأكيداً إلى الظروف التي تكون
محيطة بنا لحظة المشاهدة ونوعية القاعة السينمائية التي نشاهد فيها الفيلم،
من دون الحديث عن المشاهدة الأخرى التي قد تكون عبر الأقراص المضغوطة وداخل
شاشة صغرى، هي شاشة التلفزيون أو شاشة الكومبيوتر. من هنا وتبعاً لمقولة
هيراقليطس من كوننا "لا يمكن أن نسبح في النهر ذاته مرتين"، فإننا لا يمكن
لنا تبعاً لذلك أن نشاهد الفيلم السينمائي بالرؤية نفسها مرتين، لأن ظروفاً
أخرى تكون حاضرة في لحظة المشاهدة التي نروم تحقيقها.
ولكن مع ذلك فإن إعادة المشاهدة هاته هي ما يتيح للرؤية النقدية أن
تتحقق بشكل أفضل، على اعتبار أن المشاهدة الأولى ما هي إلا مشاهدة
استطلاعية وتذوقية بالدرجة الأولى. وإذا كانت الصورة كما يذهب إلى ذلك
رولان بارت، تحمل مرجعها معها، فإن الكتابة بدورها عن هذه الصورة تحمل
خصوصية صاحبها في ثناياها، وهو ما يجعل من الكتابة عن السينما في الواقع
كتابات متعددة عنها، حتى بالنسبة للكاتب الواحد بل بالنسبة لكتّاب مختلفي
المشارب والأفكار.
تأسيساً على ما سبق، يمكن القول بأن الكتابة عن السينما بالنسبة إليّ
هي لحظة تأمل عميق في الحياة وهي تتحول إلى مجرد صور عابرة للوقت، لكنها
صور عميقة ودالة. الكتابة عن السينما هي أيضا، كتابة عن الحياة وهي تتحول
إلى حلم. حلم يتطلب من صاحبه تأويلاً معيناً لمجرياته. لكنه تأويل يتسم
باللذة، كما يقول رولان بارت، لذة المشاهدة أولاً ولذة الكتابة عن هذه
المشاهدة ثانياً. الكتابة عن السينما ما هي في العمق إلا تحويل للموضوع
المشاهد إلى مادة للتحليل والمناقشة وطرح الرأي. ومن هنا تأتي قيمتها
الثقافية العالية. فبغياب الكتابة عن السينما تظل السينما عبارة عن فن رائع
لكنه يحتاج إلى من يحوّله من جمال الصور إلى جمالية الكلمات. وحده الكاتب
العاشق للسينما من يستطيع ذلك.
عين على السينما في
11/12/2012
قراءة سياسية وتاريخية لفيلم جيمس بوند الجديد
بقلم: هند هيثم
هند هيثم تقدم هنا قراءة تحليلية تاريخية وسياسية للفيلم الأحدث من
سلسلة أفلام جيمس بوند "السقوط من السماء" (أو سكايفول) الذي يقدم صورة
مختلفة من العميل السري البريطاني الأشهر في عالم الخيال، ووذلك في إطار
رؤية الكاتبة للأفلام الشعبية الأمريكية...
ثمة مُشكِلتان بخصوص فيلم جيمس بوند الأخير، "سكايفول" (2012)،
بالنسبة لي: أن الفيلم قد حُرِق لي بالكامل، ولأنّه الفيلم الوحيد من سلسلة
جيمس بوند - حتى الساعة - الذي ترقبت صدوره ونويت مُشاهدته في عرضه
السينمائي، فإن هذا يجعل حرقه تجربة مُزعجة - ومع عرض الفيلم في الولايات
المُتحدة الأمريكية مُتأخراً عن عرضه العالمي، فإن هذا يُفاقِم سوء
التجربة. المُشكلة الأخرى أن هذه المُراجعات الحارقة للفيلم جاءت من دون أي
مكافآت، فالمُراجعات النقدية للفيلم كانت كما وصف ت. س. إليوت الرجال الجوف
في قصيدته بالاسم نفسه: "شكلٌ بلا هيئة، ظلٌ بلا لون/قوة مشلولة، إيماءة
بلا حركة".
هذا مؤسف، فالمرء يرغب في مُكافأة فكرية مُقابِل حرق الفيلم، كما أن
الفيلم يستحق مُراجعات ثاقبة ومُتبصرة، فالفيلم ليس فيلم آكشن عادياً، وليس
فيلم جيمس بوند عادياً. إنّه فيلم حول موت إليزابِث وتتويج تشارلز
المُقبِل. إنّه فيلم حول الأساس الذي قامت عليه المملكة التي صارت تُعرف
اليوم بالمملكة المُتحدة.
"أفتقد الحرب البار"
رغم الحرق الشنيع الذي تعرضت له حبكة الفيلم، ذهبتُ لأشاهده. أحب
أفلام الجاسوسية التي تدور في زمن الحرب الباردة للغاية - لهذا فإن
فيلم "تِنكر تايلر سولجر سباي"(2011) بالنسبة لي شِعرٌ خالص، وإن كان لا
يروق للكثيرين. وفي البداية، كُنت أظن أن فيلم بوند الجديد سيدور في هذه
الحُقبة، بحُكم أنّه قيل إنّه يدور حول ماضي زعيمة المُخابرات البريطانية
العتيدة "إم"(جودي دِنش)، وإم قد قالت في فيلم "كازينو رويال" (2006): "بحق
المسيح، أفتقد الحرب الباردة!
"كما يعرف الجميع بحلول الآن، الفيلم لا يدور حول الحرب الباردة،
لكنّه يُقدِم ثاني أفضل شيء: المُخابرات البريطانية تُعيد ترتيب نفسها،
والملكية البريطانية تُعيد ترتيب نفسها.
الفيلم لا ينأى عن الحرب الباردة، فأخطاء الماضي التي تُلاحِق إم
اليوم، وتُهدد بالإطاحة بالمؤسسة الاستخباراتية البريطانية وقعت إبّان
الحرب الباردة، والعميل تياغو رودريغز كان يعمل في أوج الحرب الباردة
(1968-1979).
الفيلم، كذلك، يتحدث عن خدمة غارث مالوري (ريف فاينز) العسكرية، وأسره
من قبل الجيش الثوري الإيرلندي. بشكلٍ ما، فإن إيرلندا كانت فييتنام
بريطانيا في الستينيات، وواحدة من أشد جبهات الحروب الصغيرة التي أعقبت
الحرب العالمية الثانية سخونة.
الكفاح الإيرلندي يعود إلى زمنٍ بعيد، فجزيرة إيرلندا قد تعرضت
للاحتلال من قبل قبائل الأنكل والساكسون الذين احتلوا بريتاني - وسموها أرض
الأنكل، إنكلند - وامتدوا إلى ويلز، إسكتلندا، وإيرلندا. قاومت إيرلندا
وإسكتلندا الاحتلال الإنكليزي لزمنٍ طويل، غير أن سياسات العرش الإنكليزي
كانت أقل عدوانية في إسكتلندا، فالعرش الإنكليزي قد اعترف بالنبالة
الإسكتلندية، وتزاوج الإنكليز مع الإسكتلنديين، حتى أن الملك الذي أعقب
إليزابِث الأولى على العرش الإنكليزي كان جيمس ستيوارت الإسكتلندي، أول
ملكٍ يملك عرشي إنكلترا وإسكتلندا فعلاً. في المُقابِل، تعرضت إيرلندا
لعمليات سحق مُستمرة، كان من أشهرها مذابح عيد الفِصح في 1916 التي كتب
عنها ويليام بتلر ييتس قصيدته الشهيرة، "عيد الفصح، 1916" وفيها المقطع
الذي يصف فيه استشهاد المقاتلين الإيرلنديين بقوله: "وُلِد جمالٌ رهيب".
من الصعب التفكير في مواجهة مالوري مع الإيرلنديين - التي يعتز بها،
وإن كان يرفض الحديث عنها - من دون تذكر إنّه "الفريق القديم نفسه، مُنذ
1916"، كما في أغنية فريق "كرانبريريز"، خصوصاً وأن مالوري عسكري تحول إلى
بيروقراط. إنّه رجل المؤسسة البريطانية، العرش الإنكليزي-الإسكتلندي الذي
بينه وبين الإيرلنديين دم.
ماضي إم، مالوري، وشرير الفيلم، راؤول سيلفا (خافيير بارديم) معروف،
غير أن ماضي جيمس بوند نفسه مجهول. هل على الجمهور أن ينظر إلى أفلام بوند
السابقة بوصفها تاريخ خدمته؟ (هذا فيلم الذكرى الخمسين لانطلاق السلسلة).
وفقاً لهذا، فإن على بوند أن يتقاعد. الفيلم يُظهِر بوند يشيخ بالفعل،
لكنّه لا يُظهِره بمظهر شون كونري - أول جيمس بوند. لعل الأقرب للتصور أن
جيمس بوند العميل الذي يُعيد نفسه، فهو يقول إن هوايته "البعث"، وهو يبعث
نفسه كُل مرة: من الموت، ومن الماضي. لذلك، فإنّه لا يحمل الماضي معه كما
يفعل سيلفا، وكما تفعل إم رغم أنها تُنكِر. إنّه قادرٌ على إعادة التجسد،
وعلى خدمة الإمبراطورية من خلال انبعاثه. إنّه تجسيدzeitgeist (الزايتغايست، روح العصر) المُتجدد للإمبراطورية
البريطانية.
أبناء إليزابيث
أتذكر أنني قرأتُ في طفولتي في مُذكراتٍ لكاتب مصري - نسيت اسمه -
يقول فيها إنّ الأطفال والمُراهقين كانوا يُحاولون إغاظة العساكِر
البريطانيين في مصر بالقول: "ياللي بتحكمكم نتاية!" (أي أنثى)في الواقع،
بريطانيا لم تزدهر إلا في عهد حُكم (نتايات)، وعلى الرغم من كونها صاحبة
ثقافة ذكورية عدوانية، إلا أنها قد نجت في أوقات الأزمات بفضل ملكاتها
الثلاث العظيمات - مع فرق العظمة: إليزابِيث الأولى، فكتوريا،
واليزابيث الثانية - التي حفظت المؤسسة الملكية البريطانية من الانهيار في
زمنٍ صارت فيه مادة فولكلورية للتندر.
إليزابيث الأولى، بالذات، مادة للأساطير. حين توفي البلوبيرد هنري
الثامن - ملك إنكلترا الذي يُسمي نفسه ملك إنكلترا وإيرلندا وإسكتلندا
وفرنسا والمُدافِع عن الإيمان ورأس الكنيسة الأنغليكانية - فقد ترك إنكلترا
مُمزقة، مُفككة، مُشتتة، وولي عهدٍ مريضاً في السادسة عشرة، إدوارد السادس،
توفي تاركاً العرش لابنة عمته الليدي جين غراي - التي لم يكُن لها حق
مُطالبة بالعرش.
قبل موت البلوبيرد، فعل شيئاً وحيداً صالحاً، حيث أصدر قانون الخلافة،
واستعاد ابنتيه الكُبريين ماري وإليزابِث إلى خط الخلافة - بعد أن كان قد
حرمهما منه، وأعلنهما ابنتي حرام. هكذا، كانت ماري الثانية على خط الخلافة،
وقد اجتاحت جيوشها - بدعم أخوالها الإسبان - لندن، وأعدمت جين غراي وكُل من
معها. غير أن حُكم ماري لم يدم أكثر من ثلاث سنوات، ثُم ماتت. وانتقل العرش
إلى شقيقتها إليزابِث. المُهمة المُلقاة على عاتق إليزابِث كانت مُريعة:
الإسبان كانوا يرتعون في البلد، البلد مُمزق بين الكاثوليكية
والبروتستانتية والبروتستانتية المُتطرفة، الذراع البابوية كانت تعمل ضدها،
الإسكتلنديون خرجوا عن طوعها مع ملكتهم ماري ملكة الإسكتلنديين - ابنة
عمتها. بالإضافة إلى ذلك كُله، كانت بريطانيا هنري تيودر في ذيل أوروبا،
وبينما كان عصر النهضة ينتهي في كُل أوروبا، فإنّه لم يكُن قد دخل بريطانيا
حتى.
تبدأ أساطير إليزابِث بأسطورة الجاسوسية: كان لدى إليزابِث - وكبير
جواسيسها، فرانسِس والسِنغهام - جواسيس في كُل أنحاء العالم المعروف وقتها،
جواسيس في البلاطات الملكية، جواسيس في الشوارع، جواسيس عسكريون. كان
لديها، بالإضافة إلى الجواسيس، عُملاء ملكيون يقومون بمهام تخريبية ضد
مصالح دولٍ أخرى، مثل البرايفتييريين الذين كانوا يقومون بأعمال قرصنة
موجهة ضد السفن الإسبانية في عرض المُحيط محميين بأوامر ملكية من إليزابِث
نفسها. وحين قدمت إسبانيا احتجاجاً رسمياً، ردت إليزابِث بالإنعام على كُل
البرايفتييريين المعروفين برتبة فارس، ومن ضمنهم والتر رالي، مُكتشف
فرجينيا في ما سيُعرف بالولايات المُتحدة الأمريكية - وفرجينيا مُسماة
باسمها، حيث أن لقبها “الملكة العذراء”. (حاولت هوليوود استخدام أسطور
إليزابِث وجواسيسها في فيلمين: "إليزابِث"(1998)و"إليزابِث: العهد
الذهبي"(2007)، غير أن الجزء الأول كان عبارة عن شوربة خُضار لم يُنقذها
إلا تكامل أدائي كيت بلانشِت في دور إليزابِث وجيوفري رش في دور فرانسِس
والسِنغهام، والجزء الثاني كان تجربة مؤسفة لم يُنقذها أي شيء.
إليزابِث اللحظة المؤسسة لبريطانيا الحديثة، والرمز البريطاني الأكثر
توقيراً واحتراماً وحضوراً في الفن والثقافة والأدب وشؤون الحُكم.
وفيلم "سقوط السماء"- أو "سكايفول"، حيث أنّه اسم مكان - يُعيد بناء بلاط
إليزابِث حول "إم"- وهُنا لعبة حول حرفM الذي يرمز إلىmother:
أم، و matriarch: أمومي/ الأم بوصفها رأس العائلة، وmonarch: العاهل، رأس المملكة. (هذه اللعبة ممتدة من “كازينو رويال”، حين
يقتحم بوند منزل “إم”، ويقول لها: “ظننت أن “إم” حرفٌ عشوائي، ولم أعرِف
أنّه يرمز إلى....” فمنعته من تكملة عبارته.
جودي دِنش لعبت دور إليزابِث من قبل في فيلم "شكسبير عاشقاً" (2000)،
وهذا يُضفي عليها مزيداً من الهيبة الملكية، كما أنها “ديم”. (المُقابل
الأنثوي للقب فارس). وهذه عوامل لا يجهلها المُشاهِد البريطاني - الذي
صُنِع الفيلم له. إنّ حرف "إم" يعني - مِن ضمن ما يعنيه - رأس المملكة،
وجودي دِنش ليست بعيدة عن كونها من تجسدات الذئبة العجوز إليزابِث.
حول إليزابِث رجال الملكة: رجالٌ مُخلصون لإنكلترا، ولإليزابِث بوصفها
تجسيد إنكلترا، وأمهم جميعاً، وملكتهم. إليزابِث/إم تملك حق تقرير حياتهم
ومماتهم، فتصدر أمر موت بوند، وتُعاقِب رودريغز أشد العِقاب، وتتجاهل
مالوري، وتتحكم بتانر. في هؤلاء جميعاً صورٌ من رجال إليزابِث: إيرل لستر -
الذي قُدِم مُنافساً لإليزابِث، لكنّه تواضع لها ووضع نفسه في مكانٍ أدنى
علانية - يظهر في مالوري. بِل تانِر - مُدير الموظفين - نُسخة مُعاصرة من
روبرت سيسل رئيس مجلس مُستشاري إليزابِث، وطريقة تعامِل إم معه تُشبه طريقة
تعامل إليزابِث مع سيسل. تياغو رودريغز هو روبرت ديفرو، إيرل إسِكس الذي
كان مُقرباً من إليزابِث قبل أن تُعدِمَه بتُهمة الخيانة - وتقول إحدى
النظريات الفضائحية إنّه كان ابنها، بينما ترى نظرية فضائحية أخرى أنّه كان
ابن إيرل لِستر، روبرت ددلي، محظيها الأول.
بوند قد يظهر شبيهاً بوالتر رالي، لكن الدور الذي أوكِل له كان أكبر
من ذلك بكثير: جيمس من عشيرة بوند من أهالي الأرجيل هو النجدة القادمة من
إسكتلندا، مُثبِت العرش. (جيمس بوند، وفقاً لإيان فليمنغ من الأرجيل -
مكانٌ في الجزر الإسكتلندية لم يُصور فيه الفيلم لتقليل النفقات - والأرجيل
موطن واحدة من أكثر فِرق الجيش البريطاني شراسة، ذوي القلانِس الذين
أرسلتهم بريطانيا في 1967 بهدف ذبح الثوار في الجنوب اليمني، وارتكبوا
مذابح شنيعة، من ضمنها مذبحة كريتر التي كانت قد أعلنت الاستقلال في يونيو،
بعد عشرة أيام على النكسة. كذلك، كانت الفِرق الإسكتلندية - خصوصاً فِرق
الأرجيل - القوة البريطانية الضاربة في إفريقيا وجُزر الملايو، وفي كُل
المُستعمرات التي ارتكبت فيها بريطانيا جرائم حرب بعد الحرب العالمية
الثانية.
من أكثر الأمور التي تبعث على سرور أي مولعٍ بالتاريخ البريطاني
إسبانية سيلفا. ثمة "شحتفة" توجع القلب في علاقة سيلفا بأمه باردة القلب
إم. سيلفا الجناح الإسباني الذي بترته إليزابِث ودمرته، وقد عاد ليُدمرها
هي بالذات.
في الفيلم كذلك، أوضح عرضٌ للعُقدة الأمومية في الفِكر البريطاني. كُل
هؤلاء يتصارعون على إم، أمهم جميعاً. أمهم ليست حانية، بل قاسية، باردة، لا
تكترث لهم، وتُسفه أعمالهم باستمرار، ولا تهتم إلا بإنجاز العمل. غير أنهم
أبناؤها جميعاً، وهم مرتبطون بها بخيطٍ لا فكاك منه: مالوري يتلقى رصاصة
بدلاً عنها، بوند يعود إلى الخدمة بعد أن أمرت بقتله، وحتى سيلفا - ولدها
المنبوذ - لا يقوى على قتلها في النهاية. كُلهم أطفالها الذين لا يعرفون
غيرها، ومن دونها هُم يتامى، وهي تقول لبوند: “الأيتام أفضل مُجندين”. بوند
يتيم، وقد جندته الاستخبارات البريطانية التي تلتقط الأيتام غير المُتكيفين
مع مُحيطهم لأن ولاءهم الوحيد سيكون للمؤسسة، ولأمهم فيها: إم. (الأمرُ
الذي يُشكِل إيماءة إلى كُل أدب الأيتام في الأدب الإنكليزي، والكيفية التي
يتعامل بها العرش معهم. كما أنّه من أساطير إليزابِث أن كُل أبنائها يتامى،
إذ أنها لم تتزوج أبداً.
غير أن يد الفناء تطال الملكة في النهاية.
إليزابِث الثانية
رغم محاولات بوند المحمومة، وتضحياته، ورغم تضحيات رجال إم الآخرين،
فإنهم لا يستطيعون أن يمنعوا المحتوم. لا أحد يعرف من قتل إم، أو ما قتل
إم. لم يكُن سيلفا. لم يكُن لها قاتلٌ مُحدد. إنّه الزمن. الفيلم يتعامل مع
هذا المُنعطف الزمني حين ينبغي إعادة ترتيب البيت. يأخذ جيمس بوند إم إلى
المنزل الذي شهِد طفولته، في سيارة من أربعة عقودٍ مضت، مزودة بأسلحة بوند
التقليدية. (مُعطيات الزمن الحالي فرضت عليه تقليل أسلحته إلى أقصى حد،
فكيفية خوض الحرب قد تغيرت). قائلاً لها: "نحن عائدان بالزمن إلى الوراء،
حيث لنا أفضلية". في هذه العبارة حنينٌ بريطاني إلى زمان المجد الغابر. لقد
انتهى زمن مجد بريطانيا، وملكتها العجوز تموت الآن.
إليزابِث الثانية، من بيت غوثا ساكس برغ الذي تحول إلى وِندسُر إبّان
تصاعد المد المُعادي للجرمان في الحرب العالمية الثانية، قد شاخت إلى حدٍ
كبير، وواحدة من ثيمات الفيلم المُسيطرة التعامل مع فكرة موت إليزابِث
الثانية. إن موتها محتوم، والتغيير محتوم. كيف يُمكِن الاحتفاظ بالمؤسسة
البريطانية بعدها؟ الوريث، تشارلز، غير جذاب، وكذلك غارِث مالوري في
الفيلم. إنّه الشخص الذي يكرهه أطفال إليزابِث الآخرون. (المشهد بين ريف
فاينز ودانييل كريغ في مكتب إم بديع: كِلا الرجلين يُمقِت الآخر مقتاً لا
آخر له، ويُصارعه على اهتمام إم. في النهاية، رغم أن بوند هو طفل إم
المُفضَل، فإنّه ينهزم ويضطر للانسحاب، بينما يقف مالوري وينفش صدره، فهو
باقٍ مع إم، وهو سيفرض إرادته عليها في النهاية، شاء بوند أم أبى.
غير أن التغيير يتم، في النهاية، والوريث ليس سيئاً كما يظهر. إنّه -
هو الآخر - ذئبٌ عجوز يصلح رمزاً للمؤسسة ورأساً لها، وله يُقسِم بوند
الولاء.
"وكُل يومٍ يُدنَى للفتى الأجلا"
يتعامل الفيلم مع ثيمة الموت بشكلٍ غير مسبوقٍ في سلسلة أفلام جيمس
بوند، ويدلُ على أن السلسلة قد وصلت سِن النُضج - وقد آن لها ذلك بعد خمسين
عاماً. بالإضافة إلى موت إم المحتوم - والإشارة إلى موت إليزابِث الثانية
الذي يراه الكثيرون وشيكاً، وشيخوخة جودي دِنش - فإن جيمس بوند نفسه لم يعد
شاباً، وكذلك مالوري وسيلفا. في الواقع، ريف فاينز كان مُرشحاً لدور بوند
في المرحلة الانتقالية بعد خروج بيرس بروسنان من السلسلة، قبل الاستقرار
على دانييل كريغ. كلاهما صار في مُنتصف العُمر، وشخصيتيهما في الفيلم
تتعاملان مع التقدم في العمر، والتأقلم مع واقع جديد. رُكبتا بوند تؤلمانه،
وحين يلحق بأحد أهدافه، فإن ذراعيه تكادان تنخلعان، وقبضتيه تنزلقان. بوند
يفشل في الاختبارات البدنية والطبية والنفسية. لقد صار أقرب إلى الشيخوخة،
والفناء يلمسه. غير أن قلب بوند في إنكلترا، وبما أنّه روح العصر، فإنّه
يتجدد بتجدد العصور. من هُنا جاءت فكرة البعث الذي يقول إنّه "هواية" له.
مالوري يستسلم ويخرج من الخدمة الميدانية أصلاً، فيما يتحول سيلفا إلى
إدارة نوعٍ خاصٍ من الخدمات الاستخباراتية - خارجاً من الخدمة، شخصياً، قبل
أن يعود لها في مُهمةٍ واحدة، فحسب. مشهد سيلفا على رُكبتيه في القفص
الزجاجي، وهيئته مشوهة، تصويرٌ بصري للموت والشيخوخة، وفيه تعبيرٌ عن واحدة
من ثيمات الفيلم الكُبرى.
حتى قبل مشهد سيلفا المُريع والحزين، فإن الفيلم، مُنذ مُقدمته،
يتعامل مع الموت. يُفتتح الموت بموت العميل رانسم، زميل بوند الذي كان
يحاول إنقاذه، ومن ثم يمر بإطلاق النار على بوند نفسه وقتله. ومن ثم، ينطلق
إلى لوحات مُقدمة الفيلم. (واحدة من علامات سلسلة بوند الشهيرة.
تُغني أديل أغنية المُقدمة، "سقوط السماء"، ورغم أنها أغنية باهتة
بمقاييس أغاني بوند في العهد الذهبي، إلا أنها تدل على رغبة صانعي الفيلم
في تقديم شيء مُختلف مع هذا الفيلم: في "كازينو رويال" استخدموا مُغنياً
لأداء أغنية بوند، وفي "كوانتُم أوف سولس" (2008)استخدموا أغنية هِب هوب.
أغنية أديل كانت تراجعاً عن هذا الخط (التجديدي) في اتجاه استعادة روح
الفيلم نوار الذي يحضر في أصوات المُغنيات القديمات لسلسلة بوند - مع أنها
ليست سلسلة نوار، وإنما تشترك مع النوع في وجود أشرارٍ خطرين يحتفظون
بحسناواتٍ في قبضتهم. الأغنية كلاسيكية، يائسة، ومن حُقبة قديمة. كما أنها
تُشير إلى تحول في المشهد الغنائي ناحية استلهام نموذج مُغنية العصابات.
(مُشكلة الأغنية أن أديل (تزعق) فيها محاولة بصوتها الوصول إلى طبقةٍ تتخصص
فيها المُغنيات السوداوات، ولأنّه لا يوجد جوقة تحملها في بعض المقاطع، فإن
عيوب صوتها تظهر بوضوح.
تبدأ الأغنية بعبارة تقريرية حزينة: “هذه هي النهاية.” وتمضي: “إحبس
أنفاسك وعُد إلى عشرة. اشعر بحركة الأرض، ثم اسمع قلبي ينفجر من جديد. فهذه
هي النهاية.” وتُصاحِب سقوط بوند بقرارٍ من إم. الصور البصرية للمُقدمة
تشهد عودة مُصمم مُقدمات السلسلة مُنذ "العين الذهبية" (1995) دانييل
كلاينمان بعد أن تخلوا عنه في "كوانتُم أوف سولِس" - وكان الناتج مُقدمة
باهتة.
تشتهر مُقدمات بوند بالمشاهد السيريالية، وصور النساء الغارقات،
والتركيز المُفرط على عنوان الفيلم في الصور. هذه المرة، كان تكرار عنوان
الفيلم - للمشاهدين الذين لم يستوعبوا بعد أن عنوان الفيلم "سكايفول" -
مُهمة الأغنية، فيما ركزت المُقدمة على تقديم صورٍ سريالية ثلاثية الأبعاد
للموت والوحشة والماضي. بعض التشكيلات البصرية باعثٌ على الوحشة، مثل
التتابع في الخرائب تحت الماء، ومشهد ظلال بوند المُتشابكة وهو يُطلِق
النار على نفسه، ومكان جُرحه الذي صار ثُقباً ينفذ منه الضوء. (التتابع
نفسه تكرر في مشهد المرآة في النهاية، ويبدو أنّه كان موضوعاً لِمَن لم
يستوعب لعبة الظلال.
ويمر التتابع بطفولة جيمس بوند، وضيعة عشيرته. (في الكنيسة الصغيرة
القريبة من بيتهم، ثمة قبور لعشيرة بوند الإسكتلندية كُلها). وأيلان يقفان
عند الباب. صيد الأيائل كان دوماً من العلامات المُميزة للملكية
الإنكليزية، وحيث أن الضيعة - في الفيلم - مُجرد خراب، فإن حضور الأيائل
يرمز إلى الملكية التي تذوي وتضمحِل.
رُبما، لهذا السبب يُفجِر جيمس بوند ضيعة أسرته، ويهرب إلى الكنيسة.
لقد تداعى البيت القديم، وماتت الملكة. وعلى جيمس من عشيرة بوند من أهالي
إسكلتندا أن يُحافِظ على المملكة المُتحدة بخدمة “إم” الجديد، مالوري.
الحوار الأخير بين مالوري وبوند يحِل سؤال رمز “إم”
- ورُبما كان من الخير للفيلم لو أبقاه مُعلقاً -
"إم" يعني مونارك.
كذلك، يُقدِم الفيلم صورة نادرة للتوابيت الملفوفة بالإعلام، وإم تقف
وتُشاهدها. هذه أول مرة يتعامل فيها فيلم من سلسلة بوند مع فكرة الموت
أثناء الخدمة، ومع فكرة أن المؤسسة حين تتخذ قراراتها، فإنها تأكل أبناءها
كذلك: هؤلاء الذين في التوابيت، وسيلفا وبوند، كُلهم أبناء المؤسسة، وكُلهم
أبناء إليزابِث/إم الذين أطاحت بهم لتحفظ بقاء المؤسسة. (معلومة قد تكون
مُفيدة: القانون الأمريكي يمنع عرض صور توابيت الجنود القتلى الملفوفة
بالإعلام بدعوى أنها تُثير الرأي العام. المفروض أن القانون صدر بعد حرب
فيتنام، لكنّه لم يُطبق إلا بعد ازدياد عدد الجنود القتلى في حرب العراق.
الشرير
أفلام بوند شهيرة بأشرارها، بل إن بعض أفلامه تُسمى بأسماء الشرير
فيها مثل الفيلم الأول "د. نو"(1962)و"الإصبع الذهبي" (1964)، غير أنّه لم
يسبق للسلسلة أن حظيت بشريرٍ مِثل راؤول سيلفا. قرأت في الكثير من
المُراجعات النقدية للفيلم تذمراً بخصوص (فقر) سيلفا، حيث أنّه لا يقطُن في
قلعة مُحصنة، أو في مقرٍ تحت الأرض، وليس لديه سياراتٌ فارهة، أو أتباع بزي
موحد - مثل الإصبع الذهبي - ولا يُدير حتى مُنظمة شبيهة بمُنظمة “كوانتُم”
التي ظهرت في فيلمي "كازينو رويال"و"كوانتُم أوف سولس".
في تحولات شخصية راؤول سيلفا إلماعات ذكية إلى تحولات العالم: تياغو
رودريغز - راؤول سيلفا - كان عميلاً ميدانياً في الحرب الباردة، ومن ثم
تحول إلى قاتل بالأجرة، وإلى إرهابي سبراني - يستخدم الإنترنت وشبكات
الاتصالات وتقنية المعلومات لإدارة عملياته - يستخدم سيطرته على عالم
الاتصالات للحصول على مُهمات يُؤديها رجاله لمن يدفع أكثر.
كذلك، فإن في شخصية سيلفا حضوراً ذكياً لشخصية المُتعاقد المُستقل:
تقليدياً، كان أشرار بوند إما رؤساء المُنظمات - مثل د. نو والإصبع الذهبي،
وإمّا عُملاء داخل مؤسسلت كبرى - مثل عملاء المخابرات السوفيتية، أو أعضاء
في مُنظمات لها تكوين الهيدرا مُتعددة الرؤوس - مِثل أشرار
مُنظمة "كوانتُم". لقد كانت الرأسمالية تعمل بهذا الشكل، غير أن نموذج
العمل الذي تملك فيه المؤسسة كُل شيء قد تغير بعض الشيء، واستُبدِل بنظام
المُتعاقد المُستقِل. فالجيش الأمريكي - على سبيل المِثال - يستخدم
مُتعاقدين مُستقلين لتزويد جنوده بالطعام، ولتوريد الألبسة العسكرية، بل
ولتزويده بالمُحققين العسكريين والمُترجمين. لا أعرف حالة الجيش البريطاني
من هذه الناحية، غير أن سام مِندِز - الأمريكي - يجلب معه الكثير من
الضوضاء والجعجعة حول "عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر".
تقوم فكرة المُتعاقد المُستقل على تفويض بعض المهام الاستراتيجية إلى
شركاتٍ مُتخصصة بهذا النوع من العمليات، تُشكِل تُروساً في سلسلة تُسمى
سلسلة التزويد، وتهدف في النهاية إلى تجهيز مؤسسة - مثل مؤسسة الجيش -
وتزويدها بكُل اللوازِم اللوجيستية. حيث أن هذا أوفر للجيش من أن يمتلك كُل
السلسلة بنفسه. في هذه الحالة، الجيش يشتري فحسب، وليس مسؤولاً مالياً أو
أخلاقياً عن أي شيء يقوم به المُتعاقد المُستقِل.
المُتعاقدون المُستقلون ليسوا حاضرين في المؤسسات العسكرية فحسب،
وإنما في كُل مؤسسة رأسمالية كُبرى. على سبيل المثال، يُدير خدمات توفير
الطعام والنظافة في الجامعات الأمريكية مُتعهدون مُستقلون - أشهرهم سيداكو
- وبذلك تتملص الجامعات من المسؤولية عن إدارة تلك العمليات، ومن مسؤوليات
توفير التأمين الصحي والحد الأدنى من الأجور للعاملين. في المُقابِل،
يستخدم المُتعهدون المُستقلون - من أمثال سيداكو - سياساتٍ شريرةٍ بهدف
تقليص الإنفاق، فيوظفون العاملين بدوامٍ جزئي للتهرب من التأمين الصحي ومن
تقديم حقوق للعمال، ويفصلون العُمال بُسرعة لأن تكلفة توظيف عُمال جُدد أقل
من الاحتفاظ بعُمالٍ موجودين.
راؤول سيلفا مُتعاقِد مُستقِل، يعمل في تنفيذ عملياتٍ للاستخبارات -
والمُنظمات الشريرة - كما يروق له، مُستخدماً عُملاء يُمكِن التخلص منهم
بسهولة، كما يفعل أي مُتعاقِد مُستقل. ولأنّه مُتعاقدٌ مُستقل، فإنّه لا
يحتاج إلى نفقات تشغيلية كبيرة، ولا يحتاج لأن يزرع الهيبة في قلوب الناس
بمقرٍ فخم وحراسٍ بزي موحد، خصوصاً وأنّه يعمل في الظلال - كما تقول "إم"إن
مُنظمتها تعمل - ويعمل مُستخدماً الفضاء السبران.
كذلك، فإن سيلفا يقطن الخرائب المهجورة كأنّه ابن آوى، أو كأنّه شبح.
وبالفعل، سيلفا يسلك سلوك من مات من قبل. ويتسق هذا مع الصورة المُروعة
للموت التي يظهر عليها في القفص الزجاجي. لقد مات من قبل، وحياته الحالية
حياة شبح، أو تجسد ما ورائي مُروِع. وموته النهائي تحصيل حاصل. إنّه شبحٌ
نذير Wraith يلحق بإم، وظهوره يعني موتها، آخر الأمر. حتى لو لم يقتلها هو، وما
يفعله بوند ليس إلا إنهاء المُطاردة - التي كانت ستنتهي في كُل الأحوال.
وفي شراسة سيلفا في مُطاردة إم إشارة واضحة إلى الموت. الأمرُ الذي
جعلني أتذكر بيت حاتم الطائي والأحداث تمضي إلى المواجهة النهائية: “يسعى
الفتى وحِمام الموت يُدرِكه/وكُل يومٍ يُدني للفتى الأجلا”". ولعل من ذلك
ما تقوله فتاة مكاو، سافرين (برنيس مالور)، لبوند حين يقول لها إنّه يعرف
كُل شيء عن الخوف: “ليس مِثله.” راؤول سيلفا مجنون حقاً، ليس مِثل الأشرار
المجانين الذين قدمتهم السينما مراراً من قبل، ومِثل أشرار بوند السابقين -
الذين يُعاني كُلٌ منهم من عاهة نفسية أو خلقية - وإنما مِثل شخصٍ تحول إلى
شبح.
بشكلٍ غريب - لكن مفهوم ضمن مؤسسة الأدب البريطاني، فإن راؤول سيلفا -
الشرير الذي ينتمي إلى هذا العالم بالذات - يُشبِه لورد فولدمورت من فيلم
“هاري بوتر وآثار الموت - 2”، حيث أنّه في البين بين، قد مات، لكنّه لم
ينتهِ من العالم، وهو ليس حياً أبداً. كِلاهما سادي مخبول، وكِلاهما عاجِز
عن إدراك أي مشاعِر يشعر بها الآخرون. وكِلاهما يتيم، وعالِق في مرحلة
الطفولة، ويرغب في أن تعترف به أمّه التي نبذته، وكلاهما قد تحول إلى الموت
نفسه. وكلاهما يعودان إلى المؤسسة: فولدمورت يُدمر هوغوورتس - مدرسة السحر
التي بدأ منها، وتبدأ منها الخيوط وإليها تعود - وسيلفا يُدمِر مكتبMI6 في
لندن مُسبباً أزمة وجودية عميقة للمؤسسة، ولرأس المؤسسة، الأم القاسية، إم.
من الصعب التنبؤ بما سيُقدِم عليه سيلفا، ورغم أن نواياه واضحة مُنذ
البداية، الانتقام من أمّه القاسية التي فضلت عليه جيمس بوند، فإنّه يُقدِم
عروضاً مُسلية، ورغم أنّه يرتكب أعمالاً وحشية - مثل قتل فتاة بوند
الآسيوية وإرهاب مكاو بأكملها - إلا أنّه يدعو للتعاطف معه، وقد رغبت في أن
يُوفَق في مُراده ويقتل إم - الأمرُ الذي لو تحقق، لكان فيلماً جيداً، لكن
عامل الزمن والشيخوخة وحتمية موت الملكة كان سيزول منه - التي كرهتها
كثيراً في هذا الفيلم.
إم (جودي دِنش)، هي المونارك، رأس المؤسسة ورمزها، وهي تتخذ قراراتٍ
مصيرية في كُل دقيقة، تؤثر على حياة الكثيرين من أبنائها - ومن العابرين
الأبرياء. إم تؤدي عملها بكفاءة بالغة، وتُحافِظ على المؤسسة من الانهيار.
إنها ساخرة، عدوانية، باردة، وغير مُتعاطفة. هي ليست موظفاً حكومياً يمتاز
بثقل الظِل مِثل مالوري، بل إنها تسير وحولها دائرة جليدية تمنع الوصول
إليها. (رُبما كانت البُحيرة الجليدية التي يعبرها بوند إليها تعبيراً عن
الصقيع الذي يفصل بينها وبين أبنائها في المؤسسة). جودي دِنش كانت كذلك
مُنذ بداية ظهورها في السلسلة، خصوصاً مع دانييل كريغ، غير أنها - ياللعجب!
- كانت أقل توحشاً في الجزئين السابقين، وأكثر مدعاة للتعاطف.
في "كازينو رويال"حديث مُطول بين جيمس بوند وفتاته - التي تلعب دورها
إيفا غرين - حول كونه يتيماً، وغير قابل للتأقلم مع مُحيطه. ثمة تركيز على
يُتم بوند - وسيلفا وغيره. وفي “كوانتُم أوف سولس” يقول بوند إن إم ترى
نفسها أماً له. ثيمتا اليُتم والأمومة المحور الأساسي في هذا الفيلم،
والسبب الذي يُثير التعاطف مع سعي سيلفا لقَتِل إم.
حين يأخذ بوند إم معه إلى "سكايفول"، فإنّه يُشير - بشكلٍ غامض - إلى
مقتل والديه، ويكون تعليق إم: "الأيتام أفضل فئة يُمكِن تجنيدها."كرهت إم
بشدة بعد هذه العبارة. إن إم - والمؤسسة - كيان ميتافيزيقي شرير يعتاش على
الصدمة النفسية التي يُعانيها هؤلاء الأطفال، ويربطهم بِها من مُنطلق أنّه
لا يوجد أحد غير هذه المؤسسة - وغير هذه الأم القاسية - يحتويهم.
تقرير بوند النفسي يقول إنّه لا يزال يُعاني تبعات صدمة طفولته،
وسيلفا لا يحتاج إلى تحليل نفسي ليعرف المُشاهِد أنّه يُعاني من تروما
عميقة مُنذ الطفولة، تضاعفت مع قِيام إم بتسليمه للأعداء وفقاً لحسابات
رياضية، مُقابِل ترضية وهمية: تضع اسمه في لوحة الشرف! بالطبع، تُزيل إم
اسم سيلفا من لوحة الشرف لأنّه لم يستسلم لحياته أسيراً عند الأعداء، ولم
يمت بهدوء حين تجرع السُم، وهي تقول له إنها ستفعل وكأنها ستحرمه مِن
المعنى الوحيد الذي تُسبِغه على حياته. في الفيلمين السابقين، يُخفِق جيمس
بوند إخفاقات شديدة، لكن إم تصفح عنه وتحميه لأنّ ولاءه لها لا يحيد ولا
يتبدل، بينما يحاول سيلفا أن يخلق لنفسه شخصية مُستقلة بالعمل لحسابه بعض
الأحيان، ولذلك فإنها تُسلمه لمصيرٍ أليم، مُعطية إياه خيار أن يقتل نفسه
بالسُم الذي تزود بِه المُخابرات الجواسيس. تفشل إم فشلاً (بيروقراطي) في
هذه الناحية، فالسُم الذي تُعطيه لسيلفا - سيانيد الهيدروجين - لا يعمل
جيداً، فلا يقتله، وإنما يمسخ وجهه ويُغير لون شعره.
لكن الأُم هي الأم، وربات العذاب سُمن أورستِس سوء العذاب في
الميثولوجيا الإغريقية عندما قتل أمّه كلوتامنيسترا. سيلفا لم يذهب إلى هذا
الحد، فأمّه - مهما كانت قاسية ونائية وشريرة وتعتبره مُجرد بيدق في لُعبة
شطرنج كونية - تبقى أمّه، وهو لا يستطيع قتلها، بل إنّه يتألم بشدة حين
يراها مُصابة، ويسألها بحنان شديد: "هل آذوك؟"
حين سمعت عن اختيار خافيير باردِم لأداء الدور، ورأيت صورته في تريلر
الفيلم، بدا لي إنّه مُجرد استهلاك رديء لدوره في فيلم "ليس هذا بلد
العجائز" (2007)، غير أنّ هذا لم يكُن الحال. مظهر باردِم كان النتيجة
الطبيعية للتسمم بسيانيد الهيدروجين - خصوصاً ما حل بشعره. أمّا تمثيله فقد
كان بارعاً، والكيفية التي تلون بها بتلون حالات سيلفا كان جميلاً. فهو
شرير عبقري وخفيف العقل في البداية، ثُم بذيء يتحرش ببوند - قبل أن يرتعب
حين يقول له بوند: "وما الذي يجعلك تظن أنها المرة الأولى؟"، في عبارة تصلح
أن تكون السطر الإعلاني للفيلم، ثم سادي مجنون يقتل فتاة مكاو، ثم يدخل في
طورٍ تأملي، قبل أن يتصاعد أداءه في كريشندو مسرحي بديع ينتهي بالصورة
المُروعة التي تُعرِض عنها إم عديمة القلب ببساطة. في هذا المشهد بالذات
تضافر حميد بين أداء المُمثِل وأداء المُخرِج، في لحظةٍ تُفرِق بين
المُخرِج الحق، وبين هاوي المُفرقعات.
ثم في النهاية، بين المجنون الذي يفتح النار، وبين العاشق المحموم
الذي يكاد يذوي. يقتضي الأمر براعة شديدة لتحويل مُمثل ذي هيئة مُهيبة،
وعينين واسعتين، ويدين كبيرتين مثل باردِم إلى شبحٍ مُرتعدٍ يذوي وجداً.
واختيار إثنية سيلفا كان موفقاً، فمن الصعب أن يأتي هذا القدر من الفجيعة
من أي شخصية غير لاتينية. في النهاية، يصير سيلفا هو الأيل الأخير الذي
يصطاده بوند في مرتع صباه، آخر أثرٍ من الماضي.
صنعة الفيلم
حتى لو حُرِق الفيلم لأي مُشاهِد مشهداً بمشهد، وسطراً بسطر، فإن هذا
لا يُغني عن مُشاهدته. سام مِندِز يُكافئ من يُشاهِد الفيلم بصنعة بصرية
جميلة بشكلٍ نادر في هذا النوع من الأفلام. فيلمي المُفضل لسام مِندِز
واحدٌ من الأفلام الأقل تقديراً في مسيرته الفنية، "الطريق إلى بِردِيشن"
(2002)، وبغض النظر عن حبكة الفيلم وأداء الممثلين - وكل هذا مُمتاز - فإن
الفيلم استعراضٌ بصري لبراعة مِندِز في التعامل مع الضوء والظل،
واستغلالهما لرواية القصة، وحمل الثِقل العاطفي والشعوري والجمالي للفيلم.
في فيلم “سكايفول”، ثمة هذه المُكافأة البصرية التي لا توصف. الطريقة
التي يتلاعب فيها مِندِز بالضوء والظِل. مشهد المعركة في شنغهاي، ومشهد
المعركة النهائية في إسكتلندا. من الصعب إيجاد مُخرِج آخر يهتم بتوازن
الضوء والظل في خِضم مشهد انفجارٍ مُروِع. براعة مِندز تتجلى في أنّه صنع
شيئاً مُثيراً للاهتمام بصرياً من مشاهِد اعتادها كُل مُشاهِد للأفلام:
تفجير، حريق، ألسنة لهب مندلعة، أضواء مدينة ما بعد حداثية عجيبة مثل
شنغهاي، أضواء الكنيسة الصغيرة.
ليس توازن الظِل والضوء إنجاز مِندز الوحيد في الفيلم - الذي يتشارك
فيه مع مُدير تصويره روجر ديكنز، بل امتلأ الفيلم - كذلك - بالرموز البصرية
البديعة. لوحات المُقدمة تنتهي بصورة لوجه جيمس بوند تحت الماء، مع التركيز
على عينيه الزرقاوين. في شنغهاي، تقف فتاة مكاو بجوار لوحة إميديو
موديلياني “بورتريه لونيا شكوسكا ومروحتها” - تُسمى بالإنكليزية: “امرأة
معها مروحة” - وتتناغم خلفية اللوحة مع خلفية المكان، كأن اللوحة نفسها
جُزء من لوحة أكبر، وفتاة مكاو جزء من اللوحة، وهي - مثل نساء موديلياني -
امرأة في محنة، هشة وقابلة للفناء. لا يوجد نذير أكثر وضوحاً من هذا بمصير
الفتاة. انعكاس الأضواء جعل عينّي لوحة موديلياني تبدوان زرقاوين - مع
أنهما في الواقع لطختان رماديتان، فموديلياني لم يكُن يُعطي سيداته أي عيون
- مما يُذكِر بصورة بوند تحت الماء. إنّه الموت الذي يُلاحِق كُل الشخصيات.
ثمة - أيضاً - صورة "سكايفول"الخربة. بيت عزبة كبير يقف وحده وسط
الخراب. لا شيء حوله. طبيعة إسكتلندا الجميلة - عادة - تبدو موحشة،
والمساحة حول البيت قاحلة. حتى السماء يبدو وكأنها قد سقطت فوق البيت - ومن
هُنا اسمه. داخل البيت إشارة أخرى للملكية المُتداعية: في البيت نفق يقود
إلى الكنيسة الصغيرة القريبة - حيث قبور عشيرة بوند - يعود زمن حفره إلى
عهد الإصلاح الديني - في زمن هنري تيودر، أو هنري الثامن - حِين فُرِضت
البروتستانتية على الشعب بالقوة، وكان رجال توماس مور يجوبون بريطانيا
لتدمير كُل الرموز الدينية الكاثوليكية. إسكتلندا - في ذلك الوقت - كانت
كاثوليكية مُحافظة، وكانت نبالتها تهرب من المُطاردة وتدمير الرموز الدينية
عن طريق الأنفاق. كذلك، صاحب زمن الإصلاح فِتن وثورات وقلاقل، ولم يستقر
هذا الجُزء من بريطانيا أبداً.
ثمة إشارة تاريخية طريفة في تحديد زمن بناء النفق مِن قِبل عشيرة
بوند: إليزابِث تيودر - ابنة هنري - قطعت رأس ماري ملكة الإسكتلنديين،
وربَت ولدها وولي عهدها - جيمس الأول مِن ملوك إنكلترا وإيرلندا، والسادس
من ملوك إسكتلندا - على المذهب البروتستانتي بالجبر، فلا يعتلي عرش
بريطانيا كاثوليكي (الطريف أن ذُرية جيمس كانوا كاثوليك في السر دوماً،
وبعضهم تكثلك علانية، وقارع البرلمان مثل جيمس الثاني، الأمر الذي حدا
بالبرلمان البريطاني إلى تعديل قانون العرش، وإبطال ولاية أي كاثوليكي أو
مُتكثلِك، وإلى استيراد ويليام الأورانجي من هولندا ليحكم بريطانيا بوصفه
أول ملك كونسورت - بالمصاهرة - مع ماري ابنة جيمس، بينما حُرِم فيليب
ماونتباتن، زوج الملكة الحالية، من مرتبة ملك كونسورت، وفقاً لترتيبات
تشرشل، وُحرِم كذلك من حق توريث اسمه لأولاده، فكُلهم يُعرفون بأبناء
وِندسُر - إلا إذا اختار من ليسوا على خط ولاية العرش المُباشرة منهم أن
يُعرَفوا باسم وِندسُر-ماونتباتن.
هذه الإشارات والإحالات جاءت بتحالف خِبرة كاتب النُسخة الأخيرة من
السيناريو، جون لوغن، مع رغبة سام مِندِز في تقديم فيلم بريطاني كُلياً،
وبعيدٍ عن أي تأثير أمريكي - ومن ذلك التخلص من شخصية عميل السي. آي. إيه
الذي يتحالف مع بوند من الفيلمين السابقين. من الصعب تحديد مدى إسهام لوغن
في بريطانية النص بهذا الشكل، خصوصاً وأن سيناريوهات فيلميه
الأخيرين "هيوغو"(2011) و"كريولانس" (2011)كانت رديئة. غير أنّه الشخص
الوحيد - بِخلاف مِندِز - الذي يُمكِن أن تُنسَب إليه هذه اللمسات الأصيلة
التي حولت فيلم بوند الأخير إلى قصة عن العرش البريطاني، فهو كاتب النُسخة
النهائية من السيناريو، كما أن الكاتبين الذين كتبا المسودة، نيل بورفيس
وروبرت ويد، يكتبان أفلام بوند مُنذ ثلاثة عشر عاماً، ولم تظهر في أيها هذه
الثيمات.
ثُلاثي مِندِز، لوغَن، وديكنز يدلُ على رغبة مُنتجي أفلام بوند في
دخول مرحلةٍ جديدة أكثر نُضجاً. حتى الآن، فقد أُسنِد للوغِن سيناريو
الفيلمين القادمين من السلسلة، ويعتمد بقاء مُدير التصوير من عدمه على هوية
من سيُخرج الفيلم القادم، فالمُخرِج من يختار مُدير التصوير - في العادة -
وديكنز عَمِل مع مِندِز من قبل في “جارهيد” (2005). ومع إحلال مالوري
(فاينز) محل إم، والمجيء بفتاة سوداء لتلعب دور إيف مونيبيني -سكرتيرة رئيس
المُخابرات التي تُغازِل بوند دائماً - في إشارة لتغير التركيبة العرقية
لبريطانيا، فإن بإمكان السلسلة أن تتحول تحولاً جميلاً، خصوصاً وأنها تملك
أفضل جيمس بوند حتى الساعة: دانييل كريغ.
لكُل مُتابعِ للسلسلة جيمس بونده المُفضل: ثمة من يُفضل شون كونري،
ومن يقول إن روجر مور هو جيمس بوند ولا أحد سواه. لم أسمع بمن يُفضِل بيرس
بروسنن حتى الآن، لكنني أعتقد أن هُناك من يراه الأفضل. بالنسبة لي، دانييل
كريغ هو أفضل جيمس بوند. في البداية، حين أُعلِن عن اختياره، بدا غريباً
ومُنفراً، فهو أشقر أزرق العينين له مظهر قاتل مُحترف، ويختلف عن بروسنن
الإيرلندي - ياللمفارقة! - اختلافاً تاماً. كذلك، فإنّه ليس خفيف الدم،
وليس ظريفاً مثل شون كونري، وليس من أبناء الأرستقراطية المُدللين مثل روجر
مور.
مع ذلك، فإن كريغ مُناسِب تماماً لدور جاسوس عديم القلب، يقتل العشرات
ولا يُبالي، يتيم ولديه مشاكِل في التأقلم، ويكره إم ويحبها في الوقت نفسه،
ولديه ولاء واحد لا يتبدل. دانييل كريغ يُزيل الغشاوة الظريفة التي كانت
تُحيط بجيمس بوند من قبله، ويُظهِره كما هو حقاً، من دون أي أوهام. إنّه
مُجرِم بريطاني لديه رُخصة ليقتل، وهو يفعل ذلك خدمة لمؤسسة عتيقة وراسخة
جندته واحتضنته وجعلته من هو عليه، بدل أن يكون طِفل شوارِع ينشأ مُدمناً
وينتهي مقتولاً في زقاقٍ خلفي. من دون هذه المؤسسة، لن يكون بوند أكثر مِن
قاتل بالأجرة، فليس لديه طموح أعلى من أن يخدم المؤسسة التي أعطته مكانه في
العالم. في الفيلم، تُهديه إم تُحفة قبيحة لكلب بولدوغ مُغطى بالعلم
البريطاني. إنّ كلب البولدوغ هذا هو بوند نفسه، ومن دون العلم البريطاني
الذي يُغطيه فإنّه ليس شيئاً.
ومِن ذلك مشهد "ما الذي يجعلك تظن أنها المرة الأولى؟"الشهير - بحلول
الآن. تُحيرني ردود الفعل المُستاءة من المشهد، فما الذي يتوقعه المرء من
جاسوس قضى عُمره كُله في أسفل بقاع العالم؟ جيمس بوند الستينيات
والسبعينيات بأشراره الأثرياء المُهذبين، وظُرفه وجاذبيته الخارقة التي
تُطيح بالنساء حوله بشكلٍ هزلي لم تعد تصلح لهذا العصر. ما يُقدمه الفيلم،
ودانييل كريغ هو جيمس بوند بلا أوهام، جيمس بوند كما هو حقاً، لا كما يظهر
في مُلصقات العالم الحُر الملونة التي كانت تُرمى وراء الستار الحديدي.
تبويس شوارب
ألتراس نولن - والتعبير ليس من عندي - يشنُ حملة شديدة على
فيلم "سكايفول"بدعوى أنّه مسروق من فيلم "فارس الظلام"(2008) لكريستوفر
نولَن. مُستندات الدعوى: سيلفا. ألتراس نولن يرى أن أي شرير مُشوه بتسريحة
شعرٍ غريبة يتنكر في زي ضابط شُرطة مأخوذ بالضرورة من الجوكر، وفي هذا قِصر
نظرٍ غير مسبوق. لقد كانوا يُنتجون الأفلام قبل نولَن، وسيستمرون في
إنتاجها بعده. حبكة الشرير الذي يلبس ملابس الشرطة موجودة في الكثير من
الأفلام، وأقرب مثالٍ لها فيلم “كازينو رويال” الذي يقتحم فيه الشرير مطار
ميامي مُرتدياً زي رجال شُرطة ميامي. كما
أن السينما مليئة بالأشرار المشوهين ذوي التسريحات العجائبية مُنذ بدايتها.
هذه المُقارنات العبثية لا تُدرِك الفرق الجوهري بين الفيلمين،
والمؤسستين التين يُعبر عنهما كلٌ من الفيلمين. جيمس بوند رجل أمن دولة،
وابن المؤسسة الحقيقي. فيما باتمان (فيجيلانتي) من المليشيات.
(Vigilante تعني الأفراد أو الجماعات التي تُطبق القانون من
دون أن يكون لها صفة قانونية). الدولة البريطانية أعمق تاريخياً،
ومُخابراتها أقدم عُمراً من أمريكا نفسها، وبوند يخدم العرش البريطاني ككلب
مُخْلِص في النهاية، مِن دون أن يعتقد أنّه هو المُخَلِّص - الجِناس مقصود.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الشريرين مُختلفين. سيلفا ابن المؤسسة
البريطانية، وابن إم المنبوذ الذي يعود لمُطاردتها كأنّه الموت، بينما
الجوكر يرمز للفوضوية التي يُمقِتها اليمين الأمريكي. الاستمرار في نفي
المُقارنة العبثية عبثٌ في حد ذاته، فحبكات سلسلة "فارس الظلام"كُلها غير
أصيلة، والحديث عن احتكار نولَن لها مُضحك، مِثل قول شركة آبل الأمريكية
إنها تملك براءة اختراع لتقليب الصفحات في الكُتب الإلكترونية! غير أن
الحديث عن نولَن ضروري، طالما أن سام مِندِز تحدّث عنه.
مُنذ أخذ نولَن يشتهر، وهو يُعبِر عن رغبته باستمرار في إخراج فيلم من
سلسلة جيمس بوند، ولسببٍ ما، فقد تجاهلته الشركة المُنتجة للفيلم. (قد يعود
ذلك لأجره الخيالي، فحتى أجر مِندِز لم تقدر مترو غولدوين ماير عليه،
فوظفته مُستشاراً للفيلم لفترة حتى جمعت تمويلاً كافياً لتعيينه مُخرجاً
له). ولئلا يكون بين الاثنين (دم)، خصوصاً مع النفوذ الشديد لنولن في
هوليوود، فقد قدم مِندِز تحية له، قائلاً إن سلسلة "فارس الظلام"قد قدمت
الكثير للمُخرجين الذين يحاولون إنتاج قصصٍ لعالم ما بعد الحادي عشر من
سبتمبر. مِندِز أمريكي، ومن المفهوم أن يستخدم هذا الرمز - الذي يستخدمه
البريطانيون أنفسهم، فجيه. كيه. رولنغ مؤلفة سلسلة "هاري بوتر"تقول إن
الظلام في قصصها عائد لعالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر!
غير أن قيمة كلام مِندِز بالنسبة لسلسلة جيمس بوند لا يتعدى كونه
إيماءة تقدير لنولن - البريطاني الذي أخرج فيلماً عن قلب الفِكر الأمريكي،
كما أخرج مِندِز فيلماً عن قلب الخلافة البريطانية - فعالم ما بعد الحادي
عشر من سبتمبر لم يُغير شيئاً بالنسبة لجيمس بوند. في المُقابِل، يظهر عالم
ما بعد الحادي عشر من سبتمبر بوضوح في أفلام نولن، بحديثه عن قانون
الوطنيةPatriot
Act ، وفي اتجاهه للأشرار العسكريين الذين ينوون تدمير الولايات المتحدة
الأمريكية، وفي تصويره للحرب في قلب المدينة، وللضربات الجوية.
غير أن عالم بوند مُختلف كُلية، ولا يُمكِن لمِندِز - أو أي مُزايد
آخر - أن يقول إنّه قد تأثر بالحادي عشر من سبتمبر من قريب أو بعيد. مُنذ
البداية، فإن عالم بوند قائم على مُحاربة الإرهابيين المُستقلين - الإصبع
الذهبي، مثلاً. هؤلاء الإرهابيون يُديرون مُنظمات مُستقلة خاصة بهم، وعالم
بوند لم يختلف عن ذلك أبداً. التغيير العالمي الذي مس سلسلة بوند كان
انتهاء الحرب الباردة، وبالتالي، انتهاء فُرص تقديم حبكاتٍ حول جاسوساتٍ
روسيات حسناوات، وأشرارٍ روسٍ غِلاظ جِلاف. لم تعد المُخابرات السوفيتيية
خصماً مُعتبراً، وحتى الصينيون ليسوا خصوماً بالمعنى الحقيقي للكلمة. بذلك،
يبقى لبوند أشراره المُعتادون: المخابيل، الإرهابيون، العصابات العابرة
للقارات، و.... العُملاء السابقون العائدون للانتقام من المؤسسة. الأم تأكل
أبناءها في الفيلم، ولا علاقة لهذا بأي حدث عالمي.
في شكل سيلفا المشوه إلماعٌ إلى لوحات غويا، صاحب اللوحة
الشهيرة "زُحَل يأكل ولده"، مع شحوب نماذج موديلياني، وهذه مُكافأة بصرية
أخرى لمُشاهدة الفيلم.
غير أن مِندِز يجب أن يتملق ألتراس نولَن بأي طريقة، وإلا ناله الويل
والثبور، فرغم أنّه هو نفسه مُخرج جيد، إلا أنّه لا يملك الوزن نفسه في
شُباك التذاكر، وليس ثمة ألتراس مِندِز يُدافِع عنه. يستمر التملق على
جبهات عديدة، ومنه ما يلجأ إليه الفيلم الأخير من إدراج العديد من
المُنتجات في مشاهده بصورة مُكثفة غير مسبوقة في السلسلة التي تكتفي براعٍ
أو اثنين عادة، وبعضها أحنق جمهور بوند المُخلِص، مِثل بيرة هاينكن
الألمانية التي يرونها تقليلاً من مكانة بوند الذي لا يشرب إلا مارتيني
الفودكا المهزوز بشدة. (وفاقم ظهور دانييل كريغ في إعلان بيرة هاينكن من
غضب الجمهور). يدافع كريغ عن هذه القرارات بالقول إن أفلام بوند تحتاج إلى
مبالغ طائلة لإنتاجها، ومترو-غولدوين- ماير شِبه مُفلِسة - كذلك، إيون،
الشركة المالكة لحقوق أفلام بوند. الأمر الذي يجعل الفيلم حفلة إعلانات:
ساعات أوميغا، هواتف إكسربيا - لحُسن الحظ، ليست آيفونات، سيارات آستون
مارتِن، بيرة هاينكن، شامبانيا بولنييه، ملابس توم فورد، طيران فِرجِن
أتلانتِك، وكثيرٌ غيرها، بالإضافة إلى تشاركه مع حملة أولمبياد
لندن 2012والفيلم القصير الذي مثله دانييل كريغ مع ملكة بريطانيا الحقيقية،
إليزابِث وِندسُر ذاتها. (وشكل اعتراف الملكية البريطانية ببنوة بوند لها.
موقف كريغ يُحتَرَم في هذه الأزمة، ويُشبه موقف بوند نفسه: إنّه يفعل
ما عليه فِعله لتأمين تمويل الفيلم. وهذه واحدة من مُفارقات الرأسمالية
الطريفة: السلسلة الأكثر إمبريالية في التاريخ تُعاني من ضعف التمويل،
وتضطر للخضوع للإعلانات من أجل توفير المال للتصوير. أفلام بوند مُكلفة
جداً بالمقاييس البريطانية، لكنها ليست مِثل الأفلام الأمريكية ذات الإنتاج
الضخم - التي لا تضطر لتسول المال بهذا الشكل.
غير أن مقالِب الرأسمالية لا تنتهي، ولو كانت بريطانيا اشتراكية، لدفع
كُل مواطِن بريطاني راغب في المُساهِمة مبلغاً ما لتمويل الفيلم وِفقاً
لنموذج شركة مُساهمة مفتتوحة للاكتتاب الفردي العام، وكان هذا خيراً له.
رُبما كانوا ليسموا صندوق ائتمان الفيلم: صندوق الحفاظ على ثياب سهرة جيمس
بوند. وكان شعار حملته ليكون: "تبرعوا من أجل مارتيني لبوند".
خاتمة
عدا عن مشهد المُطاردة الافتتاحي فوق سقوف السوق الكبير - أو سوق
السُلطان أحمد - في إسطنبول، فالفيلم مُمتاز في صنعته. (ويبدو لي إن
الغربيين لا يعرفون في تُركيا غير إسنطبول، ولا يعرفون في إسطنبول - مدينة
إيان فلمِنغ المُفضلة - غير البازار الكبير ومسجد أيا صوفيا). وثمة الكثير
مما ينبغي الحديث عنه فيه. الفيلمُ يمُثِل نُقطة تحول في تاريخ السلسلة،
بوصفه أول فيلم فيها يتعامل مع عُقدة الأم في التاريخ البريطاني، ويتحدث عن
أخطاء المؤسسة، وعن حتمية موت الملكة، وتنصيب ملك جديد.
يُشبِه فيلم بوند الأخير، "سكايفول"، فيلم "تِنكر تايلر سولجر سباي"
في أنّ المرء لا يستطيع إلا أن يُمسِك بمفاتيحه الرئيسية فحسب، فيما تبقى
الكثير من إيحاءاته وإحالاته ومبانيه ومعانيه عصية على أن يُلَم بِها
جميعاً في مُراجعة واحدة. طبعاً، فيلم بوند أكثر حركة من فيلم "تِنكر تايلر
سولجر سباي"، وأكثر امتلاء بالأصوات، مما يجعله جاذباً لجمهور أعرض، وهذا
أمرٌ جيد، إذ رُبما تُغني الأرباح إيون ومِترو غولدوين ماير عن ابتذال
دانييل كريغ من جديد.
بقيت مُلاحظة واحدة عن القصيدة التي تقرأ "إم"مقطعاً منها. القصيدة
تُسمى "يوليسيز"، لألفرِد لورد تِنسُن، شاعر البلاط الإنكليزي الأشهر في
العهد الفكتوري - الذي كانت نهايته بداية القرن العشرين في بريطانيا،
المقطع الذي تقرأه إم - المتزوجة من شخصٍ مُهتمٍ بالأدب، على ما يظهر في
الفيلم - هو مقطعها الأخير ويقول: "لم نعد الآن القوة التي في الأيام
الغابرة/حركت الأرض والسماء. ما نحن عليه، نحن عليه./ قلوب أبطالٍ من ذات
المعدِن الصلب،/أضعفه الزمن والقدر، غير أن إرادته قوية/ ليسعى، ليبحث،
ليجد، ولئلا يستسلم". القصيدة تبدأ بالقول: "قل نفعي ملكاً عاطلاً/ أجلس
بجوار مدفأة ساكنة، وسط هذه النقوش العقيمة/ مُقترناً بزوجة شائخة، أحكم
وأطُبِق/ قوانين غير متساوية على عرقٍ همجي،/ يكنز، وينام، ويعتلف،
ويجهلني".
وتجري القصيدة على لسان ملك إيثاكا العائد من رحلة ميثولوجية،
أوديسيوس، الذي يرفض فيها البقاء في قاعته الملكية، ويُفضِل الخروج مع
بحارته لمُجابهة البحر وأهواله من جديد، رغم الشيخوخة، ورغم الزمن. إم هي
أوديسيوس الذي يُقِر بالشيخوخة لكنّه يرفض أن يبقى ساكناً، راضخاً للبطالة،
وصوتها يجهر بختام القصيدة آخر تحدٍ تنطقه مؤسسة مُتهالكة ترفض أن تستسلم،
على شِفا تغيير كُلي "ييخلي (فيه)النظام القديم الطريق للنظام الجديد"-
بحسب تعبير لورد تنيسُن نفسه - وحركة بديعة للتعبير عن روح المملكة من دون
عزف "حفِظ الله جلالة الملكة". ولو لم يكُن له من فضلِ غير هذا فحسب،
لاستحق فيلم جيمس بوند الأخير، "سكايفول"، من أجله إيماءة تقدير واحترام.
عين على السينما في
11/12/2012 |