على طريقة ساحرات «ماكبث» تظهر والدة صدام حسين، البدينة، العليلة،
ذات الحضور الطاغى، الذى بعث شيئا من الرهبة، حتى بالنسبة لابنها، عقب بزوغ
نجمه واستيلائه على حكم البلاد.. إنه يستمع لها صاغرا، متلاشيا.. وهى،
بخلاف ساحرات شكسبير، لا تتنبأ بقدر ما تصدر أوامر تتعلق بتعيين أقاربه فى
المناصب الرفيعة، وتحديد عرسان بناته.. وبلاد تردد، ينفذ صدام حسين. الأم،
على هذا النحو، حتى وإن كان بعيدا عن الواقع، يعطى المسلسل نكهة أسطورية..
وطوال الحلقات الأربع، يتجه الاهتمام نحو العلاقات الداخلية، المتوافقة
والمتضاربة، بين أعضاء أسرة تعيش لحظات مجد تعقبها ساعات شقاء.. هذا
الاهتمام يأتى على حساب عدم الالتفات إلى ما يجرى من اتفاقات، تقترب من
المؤامرات، فى العواصم البعيدة، وبالتالى يتحاشى «منزل صدام» الخوض فى
القضايا السياسية، ويستبدلها بما يشبه «دراما الأسرة».
خلال «24» عاما، زمن حكم صدام حسين، تندلع أربع حروب: ضد إيران، ثم
الكويت، يعقبها ما أطلق عليه تحرير الكويت أو «عاصفة الصحراء»،، ثم الغزو
الأمريكى للعراق.. لا يتوقف المسلسل عند أسباب هذه الحروب، ولكن يقدمها على
نحو تقريرى، سريع وباهت، وإن حاول التعاطف مع أسباب اجتياح القوات العراقية
للكويت عام 1990، فالعراق، الخارج توا، مجهدا، من حرب الخليج، ضد إيران،
طوال ثمانية أعوام «1980 ــ 1988»، فوجئ بقرار زيادة إنتاج الكويت للبترول،
مما سيهبط بسعره عالميا، وبالتالى سيؤثر سلبا على عائدات العراق، الذى
يحتاج، بشدة، إلى إعادة بناء ما دمرته الحرب.. من جانب آخر، حسب زعم نظام
صدام حسين، والذى يؤكده المسلسل، أن الكويت، عن طريق مواسير مائلة، تنهب
البترول العراقى.. وبعيدا عن أى إشارة إلى الرغبة الأمريكية فى الهيمنة على
منابع البترول، تأتى «عاصفة الصحراء» كدفاع عن دولة صغيرة محتلة.. ثم يبدأ
غزو العراق 2003، كما لو أنه للقضاء على واحدة من عائلات المافيا، لا تتاجر
فى المخدرات، وبالتالى كان على شرطى العالم، بقلبه الطاهر، أن يقضى على هذه
العائلة الشريرة.
صدام حسين، فى المسلسل، حين يجتمع مع أعضاء أسرته، أو رجاله، يبدو
وكأنه «العراب» أو «الأب الروحى»، إرادته تعلو فوق الجميع، يقرر، ويذعن
الآخرين، ولكن يفتقر إلى كياسة وبعد نظر «العراب»، فها هو، بعد ارتباطه
بامرأة أخرى غير زوجته، لا يتوانى عن جرح مشاعر أم أولاده، واصفا صبغة
شعرها بأنه «مبتذل بعض الشىء».. وعلى وجه الممثلة التى أدت هذا الدور،
الإيرانية الأصل، شهيرة أجداسلو، ترتسم كل علامات الألم المعنوى.. ويتعمد
المخرج، أليكس هولمس، أن يقدم صدام حسين مسلطا عليه إضاءة شحيحة تجعل أجزاء
من وجهه غارقة فى الظلام، تأكيدا للعتمة التى تعتمل فى أعماقه.. فى هذه
الأجواء، يتنافس الأتباع على الاقتراب من مركز السلطة، الممسك بالخيوط
جميعا، بقبضة من حديد.
يحقق حسين كامل المجيد، زوج رغدة ــ بأداء متزن من عمرو واكد ــ ما
يطمح له. الوصول إلى أعلى المناصب، والفوز بثقة الرئيس، الأمر الذى يثير
ضغينة عدى صدام حسين، الشاب الأرعن، المنفلت، الذى يؤدى دوره الفرنسى فيليب
أردتى، مؤكدا بنظراته ولفتاته، تلك الوحشية التى تدفعه لاغتصلاب مضيفة فى
إحدى الحفلات، وقتل طباخ والده، والتعامل المستفز مع «عدى»، مما دفعه إلى
الهرب، مع زوجته رغد إلى الأردن، ثم عودته، استجابة لاستدراج صدام، ثم قتله.
فى الحلقة الأخيرة، يتعقب المسلسل هرب صدام حسين وولداه وحفيده، ثم
بحث القوات الأمريكية عنهم، وطبعا، لا نرى شيئا عن المقاومة العراقية، أو
نهب الآثار تحت بصر وسمع الغزاة، ولا يرد ذكر جون بريمر أو المتعاونين
معه.. المسألة هنا تبدو، فى جوهرها، كما لو أنها بحث شرطة عن أعضاء عائلة
مافيا.. هنا، تغييب كامل للشعب العراقى وما يلاقيه من جنود الاحتلال..
بينما يعرض المسلسل المشهد الوثائقى المؤلم، المشكوك فى أمره، للطبيب
المبهم، الذى يفحص أسنان صدام حسين، ويفتش شعر رأسه.. ومع صوت قاض، من خارج
الصورة، يعلن الحكم بإعدامه، جراء جرائمه ضد الإنسانية، بينما يصعد صدام ــ
بأداء الممثل إياه ــ سلما، وقد ارتسم على وجهه شيئا من الانزعاج، وربما
الأسى.. على نحو يختلف مع المشهد الوثائقى المتداول، لحظة إعدامه، حيث بدا
الرجل متماسكا، شجاعا. «منزل صدام»، هو حكاية الأنجلو أمريكان، المبتسرة،
المضللة، عما حدث.. فمتى نحكى الحكاية.. من وجهة نظرنا؟
منزل صدام
كمال رمزي
الأربعاء 19 ديسمبر 2012
فى تصورى، أن المخرج البريطانى، المشارك فى كتابة السيناريو، اليكس
هولمس، انتابته الحيرة، حين كلف بعمل مسلسل عن صدام حسين، فالموضوع شائك من
عدة وجوه: الأحداث قريبة، معروفة للجميع، والشرائط الوثائقية متوافرة،
والشخصيات، من غاب منها ومن على قيد الحياة، كلها، لا تزال عالقة فى
الأذهان..ثم، الموقف من الرئيس المعدوم، بين الناس،
شديد التناقض، فبينما يرى البعض أن مصيره الفاجع يليق بطاغية، يعتقد آخرون
أنه صاحب مشروع كبير، تكالبت قوى شريرة من أجل إجهاضه.. ولأن المسلسل من
إنتاج الـ«بى. بى. سى» البريطانية، بالمشاركة مع الـ«إتش. بى. أون»
الأمريكية، فإنه يصبح على المخرج، كاتب السيناريو، وهو يتظاهر بالتزام
الحيادية، عدم إدانة إنجلترا، وتحاشى غضب العم سام.
أريحية اليكس هولمس قادته نحو موروث جده الثرى، وليم شكسبير،
وبالتحديد إلى «ريتشارد الثالث»، أكثر أبطال التراجيديات إيغالا فى الدم،
وتمسكا بالسلطة، الذى لم يتورع عن قتل ابنى أخيه، الملك إدوارد، كى ينفرد
بالحكم، وجاءت نهايته صريعا، وحيدا.. لم يجد هولمس تشابها بين صدام حسين
و«ريتشارد الثالث» وحسب، بل عثر على أصداء متبادلة بين دسائس قصور ملوك
شكسبير ومؤامرات منزل الرئيس العراقى.. الواضح أن أثر شكسبير يمتد إلى معظم
جوانب الثقافة البريطانية، حتى إن صحيفة «الإندبندنت»، إذ لم تخنى الذاكرة،
كتبت، فى صفحتها الأولى، عنوان مقتل زوجى ابنتى صدام حسين كالتالى: «لير»
على الطريقة الشرقية. الملك يفتك بأسرته، ويظل باقيا على العرش.
«منزل صدام» مكون من أربع حلقات، تستغرق الواحدة ما يقرب من الساعة،
تبدأ بمشاهد مما سبق، أو بما سنراه.. وثمة بعض المشاهد الوثائقية، القليلة،
المعروفة، تتناثر هنا وهناك، كى تدعم الإحساس بصدق المسلسل، وتبين تاريخ
الأحداث، وتطمس الكثير من الحقائق.. مع مدخل الحلقة الأولى، قبل ظهور
العناوين، تطالعنا صورة بوش ــ الابن ــ خلال الشاشة الصغيرة، وهو يلقى
بيانا موجها للشعب العراقى، يقول فيه «المستبد سيرحل قريبا يوم تحرركم أصبح
وشيكا.. صدام وأولاده يجب أن يغادروا العراق خلال 48 ساعة..» وبينما يتواصل
الخطاب، يستمع صدام، مع طارق عزيز وخلصائه، بملامح جامدة، وفورا تأتى لقطة
القنابل الشهيرة، من بعيد، تضىء ليل بغداد.. وهذه اللقطة بالتحديد، تموه ما
تخلفه الغارة من قتلى وجرحى، كما لو أنها تلقى على مدينة بلا بشر، وطوال
المسلسل، يتحاشى «منزل صدام»، الاقتراب من ممارسات الغزاة ضد الناس، اللهم
إلا فى أضيق الحدود، وعلى نحو ناعم، خجول، كما لم يرد ذكر للقوات
البريطانية، أو تونى بلير، وكأنه لا حضور لهما على مسرح الأحداث.. عقب
انفجارات القنابل، تقوم زوجة صدام، وبقية أفراد الأسرة، بالاستعداد
للمغادرة، بينما يقرر صدام، مع ولديه، البقاء فى العراق، لمواصلة القتال،
والمسلسل فى هذا يختصر الوقائع المعروفة عن الحرب، ومسارها، ثم تظهر
العناوين التى تأتى كفاصل بين الحاضر والماضى، فالمسلسل يرتد من عام 2003
إلى صيف 1979، وهنا يتجلى أحد ملامح أسلوب اليكس هولمس، المبنى على إبراز
مفارقات تبين أغوار صدام حسين، من وجهة نظره طبعا، فوسط أجواء مبهجة،
حميمية ودافئة، احتفالا بعيد ميلاد ابنته الصغرى، يأتى الرئيس، البكر،
ويرحب به الجميع، بمن فيهم نائبه ــ صدام ــ الذى ينفرد به فى غرفة داخلية،
مع بعض معاونيه، ليطلب منه، بتهذيب وحسم، ترك الحكم والتقاعد. يدرك البكر
أنه وقع فى مصيدة، وليس أمامه سوى الامتثال.. هكذا يظهر صدام حسين، بأداء
الممثل الإسرائيلى، العراقى الأصل، إيجال ناعوم: رجل مستوحد، غارق داخل
ذاته، جامد الملامح، لا أحد يعرف اتجاه تفكيره، قوى البنية، قد يظهر حنانا
ومحبة فى لحظة، لكن بعدها، بمنتهى الغدر، يودى بأقرب أقاربه، رجاله،
خلصائه، إلى أتعس مصائر، فما إن يتخلص من البكر، بمساعدة وزير الدفاع، حتى
يجرى مذبحة مروعة لرفاق الحزب، ويقوم بنفسه، بإطلاق الرصاص على رأس صديقه
الحميم، عدنان الحمدانى، بعد حضنه وتقبيله.
يؤكد المسلسل، المرة تلو المرة، وحشية صدام حسين، من دون الالتفات إلى
الظروف المحيطة به، والعوامل المتعددة، المركبة، التى ساعدت على إطلاق جحيم
الشراسة داخله.. إنه يبدو، حسب رؤية الكس هولمس، كما لو أننا إزاء قاتل
متسلسل، أتاحت له السلطة فرصة إشباع نزعته الشريرة، فها هو، فى الحلقة
الثانية، بإيعاز منه، يفجر طائرة وزير دفاعه جوا.. وفى الحلقة الثالثة، حسب
أوامره، يتم تصفية زوجى ابنتيه.. ومن المنطقى أن نسأل: أين السياسة،
والظروف التاريخية، وعلاقات الرجل بجيرانه، والولايات المتحدة، ودول
التحالف؟.. والإجابة تستلزم وقفة ثانية.
يارب يا متجلى
كمال رمزي
السبت 15 ديسمبر 2012
تناقلت الأخبار ما قد يجرى مع مسلسل «القرن العظيم» التركى، المعروف
فى بلادنا بعنوان «حريم السلطان». الفنانون الأتراك، ضد منعه، لكن السياسين،
من حزب «العدالة والتنمية» يطالبون بوقفه.. وأصل الحكاية، حسب وكالات
الأنباء، أن رئيس الوزراء أردوغان، فى زيارته الأخير لمصر، فوجئ بعتاب
الرئيس المصرى، محمد مرسى، واستنكاره، للصورة التى أظهرت السلاطين
العثمانيين على نحو ما جاء فى «حريم السلطان»، حيث يقدمهم «داخل قصور فارهة
يتلاعب بهم حريمهم وأبناؤهم»..
وأردف الرئيس المصرى قائلا «إن التاريخ العثمان جزء من تاريخ الأمة
الإسلامية التى يعتز به المسلمون جميعا».
الواضح أن الرئيس التركى، المشغول بتنمية بلاده، وفتح الأسواق أمام
منتجاتها، وتحسين علاقاته ببقية دول العالم، ومحاولة حل مشاكل الأقليات
داخليا، ليس عنده الوقت لمتابعة الشاشة الصغيرة، أو الكبيرة، ولكن كلام
الرئيس المصرى، دغدغ مشاعر أردوغان، المعادى لكمال أتاتورك، الذى ألغى
«الخلافة العثمانية» واعتبرها من كراكيب الماضى المتخلف. وفيما يبدو أن
الرئيس التركى إما أنه شاهد بعض الحلقات، أو قرأ تقريرا عنه، مما جعله
ينزعج، ويهاجمه، وبينما ينظر البرلمان هناك فى شأن إصدار قانون يسمح بوقف
«حريم السلطان» وما على شاكلته، يعبر أردوغان عن طموحه من ناحية، وحنينه
للأيام الخوالى من ناحية أخرى، فيعلن «وظيفتنا.. أن نذهب إلى كل بقعة وصل
أجدادنا إليها على ظهور الخيول».. ولم تعدم صحافة اسطنبول وأنقرة من يكتب:
مصر تصدر لنا النواهى والممنوعات، ونحن نصدر لها السلع المفيدة. أما عن
«الأيام الخوالى»، الحلوة، بالنسبة للعثمانيين الجدد، ومن يتعاطف معها،
للأسف عندنا، فإنها، بالنسبة لنا، لم تكن أكثر من أيام حالكة السواد، فيكفى
أن تفتح واحدة من مئات الصفحات التى كتبها ابن إياس فى «بدائع الزهور فى
وقائع الدهور» عما حل بمصر من مآس وكوارث وعنت وظلم، عقب غزو سليم الأول
للبلاد عام 1517، حيث حرق الغزاة جامع شيخون، والبيوت المجاورة له، وصاروا
«يقطعون رقاب العوام والغلمان»، ونهبوا الغلال والدواب، والأدهى أن جنود
الخليفة العثمانى قاموا باختطاف البنات والصبيان لبيعهم فى أسواق العبيد
بدعوى أنهم من أبناء الكفار.. وعقب ترحيل آلاف العمال المصريين المهرة، فى
كل المجالات، إلى الاستانة، خرجت مصر من التاريخ طوال ثلاثة عقود، ووقع
شعبها فى قبضة من لا يرحم، وبالضرورة، ارتفع دعاء «يا رب يا متجلى.. إهلك
العثمانلى».
كلام الدكتور محمد مرسى عن أن «التاريخ العثمانى جزء من تاريخ الأمة
الإسلامية...» فتح جروحا غائرة فى الذاكرة المصرية، تعود بألمها من جديد،
حين نتذكر، فى اللحظات الحرجة، إبان ثورة عرابى، كيف أعلن الخليفة القاعد
على كرسى الحكم، فى الإمبراطورية المترنحة، أن «الأفعال التى أجراها عرابى
وأعوانه مغايرة لمصالح المسلمين» وبناء عليه يعتبر عرابى ورجاله «عصاة
بغاة».. ولعل من الواجب أن يقال لأردوغان، وهو يتحدث بنشوة عن «كل بقعة وصل
أجدادنا إليها على ظهر خيولنا»، أن سنابك تلك الخيول خاضت فى لحم ودم أبناء
كل مكان اقتحمته، حاملة معها ألوانا من أشد العذابات ألما وابتكارا، تجدها
فى «جسر على نهر درينا» لإيفو أندريتش، وتسمع صداها فى «الزينى بركات»
لجمال الغيطانى.
عمار الشريعى
كمال رمزي
الأربعاء 12 ديسمبر 2012
«الموجة بتجرى ورا الموجة عايزه تطولها».. هذه الشطرة من «فاكر لما
كنت جنبى» ترددها أم كلثوم، عدة مرات، قد تبدو متشابهة، ولكنها، عند عمار
الشريعى متباينة ومختلفة. فى كل مرة، ترسم، بأدائها البديع، صورة لا علاقة
لها بما سبق وما لحق: ثمة موجة متمهلة، تكاد تنتظر، بدلال، الموجة التالية،
وتلك موجة صاخبة، عالية، تحاول الهرب من الموجة التى تطاردها.. وثالثة
غاضبة، تقرر البعاد عن الموجة التى تحاول استرضاءها.. هكذا تتوالى تحليلات
الذواقة، عمار الشريعى، لتنويعات هذه الكلمات القليلة، فتجعلنا نرى الأغنية
بعيوننا، ولا نسمعها بالآذان فقط.
فى برامجه الإذاعية، يأخذك عمار، برهافة، على الأثير، إلى مناطق سمعية
خلابة، تعايشها بانتشاء، سواء كنت تعرفها أو لا تعرفها، وهو فى هذا لا يعد
ناقدا بالمعنى المألوف، يبين العيوب والمزايا، ولكنه فعلا «غواص فى بحر
النغم»، يتوغل فى الأعماق ليستخلص اللآلئ والدرر، ويبين، بأسلوبه البسيط،
الدقيق، النابع من قلبه، وعقله، مناطق الجمال فيما يختاره، فضلا على قيمته
الروحية، فمثلا، فى إحدى حلقاته، يسلط أضواءه على نشيد «اسلمى يا مصر» الذى
كتبه مصطفى صادق الرافعى ولحنه صفر على ــ والذى ظل النشيد الوطنى لمصر من
«1923 إلى 1936» ــ فيتوقف متأملا، معجبا وخاشعا، التزاوج الحميم، بين
الكلمات واللحن، فى «لك يا مصر السلامة وسلاما يا بلادى.. إن رمى الدهر
سهامه أتقيها بفؤادى».. والواضح أن «الفداء» فى سبيل الوطن، من القيم
المقدسة عند عمار، ذلك أنه، بعبارات تقطر دفئا وتوقيرا، يتحدث عن «نشيد
الحرية» الذى كتبه كامل الشناوى ولحنه محمد عبدالوهاب، ويبدى، هيامه بجملة
«أنا يا مصر فداكى.. بدمى أحمى حماكى»، فإلى جانب اليقين الواضح فى اللحن،
ثمة تناغم الحروف بين «فداكى وحماكى»، ويلفت عمار نظرنا إلى أن صوت المغنى
الفردى، يعقبه مباشرة الصوت الجماعى الذى يردد كلمة واحدة، هى «أنا، أنا،
أنا».. تأكيدا على روح الفداء عند المصريين.
عمار الشريعى، المستوعب لتراث الموسيقى الشرقية، المصرية، العارف
بإنجازات طابور أساطينها، دعمت موهبته الكبيرة، المتوافرة أصلا، وبالتالى
انطلقت إبداعاته، فى العديد من المسارات، ربما جاء أكثرها إثارة للانتباه،
ما أنجزه فى مجال مقدمات المسلسلات التليفزيونية، على نحو جعل منها مدرسة
فى قدرتها على تحقيق عدة أهداف فى آن، فهى تمهد المتابع، نفسانيا، لما
سيراه، فضلا على قدرتها التعبيرية عن أجواء المكان والزمان اللذين ستدور
فيهما الأحداث، بالإضافة لتمتعها بجماليات خاصة تجعل منها مقطوعات فريدة،
مستقلة فى حد ذاتها.
فى مقدمة «رأفت الهجان»، تجسد الموسيقى روح ذلك الشاب الذى عاش حياته
على حافة الخطر، عاملا فى قلب إسرائيل، من أجل وطنه مصر. المقطوعة تبدأ
بداية قوية، حادة، مثل السهم النافذ، المنطلق بسرعة نحو هدف، وعمار فى هذا
يعتمد على النغمات الرفيعة لآلات الكمان، ثم تدخل آلات أخرى، بنغمات تتقاطع
وتتسابق، كما لو أنها فى صراع متلاحق، متصاعد، لا يخلو من مطاردة ومواجهة،
ووسط أجواء توتر تشيعها ألحان متداخلة، تقتحم بعضا بعضها، يعود السهم
الحاد، ليسيطر من جديد.. هنا، تتحول المقطوعة إلى جزء من الذاكرة السمعية
عند المتابعين ما إن تتدفق، بسخونتها، حتى يتراءى للمرء أحداث المسلسل.
فى الكثير من مقدماته، استفاد عمار من الصوت البشرى، مبتعدا تماما عن
التطريب، أو استعراض جمال الصوت، فالهدف عنده، إبراز المغزى العميق للعمل،
والتعبير عن روحه، وتكثيف الإحساس به، وغالبا، تكون الكلمات المضيئة
بالمعانى، للشاعر المصرى حتى النخاع، سيد حجاب.. وآية ذلك ما تجده فى مقدمة
«الأيام» الذى يروى قصة حياة جدنا العظيم، طه حسين.. والملفت أن هذه
الأغنية تتجاوز التعبير عن قوة وعزيمة طفل ضرير، استطاع دحر الظلام، إلى
رؤية للحياة، بمرها وحلوها، بهزائمها وانتصاراتها.. المقدمة تبدأ موحشة،
كما لو أنها آتية من ليل الصعيد الحالك، يقطعها وتر عود أو جيتار، ولكنها
تستمر، ثقيلة، جاثمة على الآذان، إلى أن يتسلل صوت على الحجار، على
استحياء، يشوبه الوهن، مغنيا «أيام ورا أيام ورا أيام»، مع مدات تؤكد
تواليها، ثم ينهض صوته قليلا «لا الجرح يهدى ولا الرجا بينام».. وتتواصل
الأغنية مترعة بالألم تارة، والأمل تارة، إلى أن تقترب من النهاية، فتتكرر
كلمة «أيام»، أكثر من عشر مرات، يتبادلها المعنى، مع كورس، يتعمد عمار أن
يكون كله بأصوات نسائية، تعطى إحساسا شفافا بالخصب والنور الذى يأتى، حتما،
بعد العتمة.
عمار الشريعى، وريث تراثنا الثمين، ترك لنا ثروة أغنى مما ورثه، ليتنا
نحافظ عليها، ونحميها من غربان لا تطيق سماع الموسيقى، حتى لو كانت من أعذب
الألحان.
مملكة النمل
كمال رمزي
السبت 8 ديسمبر 2012
عقب عرض مسلسل «نابليون والمحروسة»، راهنا على مخرجه الموهوب،
المتمكن، شوقى الماجرى، وانتظرنا، بثقة وأمل، عمله السينمائى الأول، الذى
سبقته حملة دعاية واسعة، مكثفة..
لكن الماجرى خذلنا، وجعلنا نخسر الرهان، إلا قليلا.. «مملكة النمل»،
يعتمد على فكرتين لامعتين، ثريتين، من الناحية النظرية..الفلسطينيون، على
أرضهم المحتلة، يعيشون حياة قاسية، يتهددها الاعتقال والإزاحة والموت، ومع
هذا فإنهم تماما، فى صمودهم وعزيمتهم، مثل النمل، أشد الكائنات الحية قدرة
على المقاومة والتمسك بالبقاء، مهما كانت الظروف قاسية، فالنملة يمكنها أن
تبقى ثلاثة أيام تحت الماء، وثمانية أيام من دون هواء، وعاما كاملا بلا
طعام، وعدة ساعات بدون رأس، وتتحمل الحرارة التى تصل إلى المائة درجة،
والتى تنخفض تحت الصفر. المملكة، تجيد الدفاع عن نفسها، سواء بطريقة جماعية
أو فردية، فثمة النملة الفدائية، التى تفجر نفسها لتطلق من جوفها سما يودى
بحياة خصمها.. أضف إلى ذلك قدرة المملكة على التكاثر، مما يجعلها باقية على
قيد الحياة.
أما الفكرة الثانية، فإنها مأخوذة، وليس مسروقة، من الفيلم البارع «سيبرياد»
الذى حققه الروسى الكبير، أندريه ميخالكوف 1979، والمتعلقة بشخصية «الجد»
الأسطورية، العجوز، بإدراكه العميق، الشامل، لمجريات الأمور، ويشيع،
برسوخه، وآفاق رؤيته الواسعة، جوا شاعريا يحلق فوق الواقع. يعيش طويلا فى «سيبرياد»،
جيلا بعد جيل، ولا يموت فى «مملكة «الرمل».
الأفكار النظرية، أو الأهداف شىء، والعمل الفنى شىء آخر، والمعايير
النقدية تهتم بتقييم كيفية تحويل وتجسيد تلك الأفكار والأهداف إلى مواقف
وأحداث وشخصيات وعلاقات وحوارات وانفعالات، ومدة قوة إقناعها وتأثيرها فى
المتلقى.. وهنا، فى «مملكة النمل»، مع المشاهد الأولى، تقتحم قوة إسرائيلية
بيت «جليلة»، بأداء صبا مبارك، التى تسكن مع جدتها، وبينما ينجح خطيبها
«طارق» المقاوم، بأداء منذر ريحان، فى الهرب من باب خلفى، تواجه الشابة
الموقف بشجاعة، وتشتم الضابط، المغتاظ، يقوم بدوره عابد فهد، الذى يجز على
أسنانه.. وهذا الفاصل من الشتائم، المرضية شعبويا، تتوالى طوال الفيلم،
بينما تطالعنا طائرة مروحية للعدو، بين الحين والحين، وهى تقصف البيوت
والمدارس والشوارع.
داخل مغارة، تحت الأرض، يعيش فيها الجد «أبوالنمل»، بأداء جميل عواد،
الذى يجسد الذاكرة الفلسطينية ويحكى، فى مشهد مقبض، وهو يحمل جمجمة، عن
صاحبها الشهيد، وكيف قطع الأعداء أصابعه.. ويشير استكمالا لكآبة الحالة،
إلى بقايا هياكل عظمية، كانت لفلسطينيين.. ومثل هذه المشاهد القاتمة، تنتشر
فى الفيلم، بلا ضرورة، وعلى نحو تشوبه الفجاجة، كمشهد الحصان المقتول،
الممدد أمام الكاميرا، بالدم المتخثر حول عنقه.. وها هى «جليلة» تضع الحناء
على رأسه.
تتزوج «جليلة» من «طارق»، فى المغارة، وبينما اختفى الزوج، تضع
«جليلة» وليدها، داخل زنزانة سجن، وتجأر بالصراخ، حيث يأتى ضابط السجن، هو
نفسه، عابد فهد، وكأنه الضابط الوحيد فى الجيش الإسرائيلى، بذات الأبعاد
النمطية المسطحة لضباط العدو: الصلف والكراهية والتأنق فى النظرات واللفتات..
ولا يفوت «جليلة» أن تطلق وابلا من الشتائم للضابط الأوحد.
صحيح، فى «مملكة النمل» لحظات إبداعية ذات شأن، منها، فى البداية،
كتابة عنوان الفيلم وصناعة على الجدار العازل، وحيوية الحركة إبان غارة
تخلف قتلى وجرحى تلاميذ مدرسة، وأمهات ملأهن الغضب والجزع على فلذات
أكبادهم، وزغرودة «جليلة» عقب انتهاء غارة على موكب عرس، لم يصب فيه أحد..
ووسط الصمت تنطلق الزغرودة وكأنها إعلان تشبث بالحياة والفرح، رغم إصرار
العدو على نشر الموت والحزن.. لكن هذه الشذرات الجمالية المتناثرة، لا تنقذ
الفيلم المترهل من مغبة التكرار، والدوران حول النفس، فهنا،، لا يتدفق
العمل للأمام، ويكاد يكون محلك سر، مع أداء بطابع خطابى، وجنوح نحو
ميلودرامية زاعقة، لعل أكثرها فجاجة تلك الأغنية الخائية التى يرددها كل
أبطال الفيلم، فى مشهد المفترض أن يكون مبهجا، مبشرا بالأمل، ذلك أن
كلماتها البائسة تقول «صبرنا صبر الخشب تحت المناشير».. لقد خذلنا شوقى
الماجرى.
التائب
كمال رمزي
الأربعاء 5 ديسمبر 2012
من هو هذا الشاب الملتحى، المنهك، بأنفاسه اللاهثة، الذى يجرى فوق أرض
وعرة، مغطاة بالثلوج وأفرع شجرة جافة؟.. الإجابة الملتبسة، عن عمد، تأتيك
طوال الفيلم.
إنه رشيد، بأداء نبيل العسلى، هارب من جماعات الإرهاب، أو الجهاديين
إن شئت، استجابة واستفادة من قانون «العفو العام والوئام الوطنى» الذى
أصدرته الحكومة الجزائرية إثر «العشرية السوداء»، عقب مقتل واختفاء
الآلاف.. وفورا، فى مشاهد قوية، قليلة، يعبر المخرج المخضرم، مرزاق علوش،
عن واقع شديد القسوة، يتجلى فى بيوت فقيرة، مبنية بحجارة مهشمة، نوافذها من
صفيح صدئ. رشيد، يطرق بابا، ومثل كل الأمهات، تستقبله والدته العجوز
بالأحضان والسعادة والدموع. موقف إنسانى يزداد تأثيره حين يسترد والده شيئا
من صحته بمجرد أن يرى ابنه الغائب.. فجأة، يتجمع رجال أمام البيت، يطالبون
بالقصاص من الوافد لأن سبعة من زملائه الإرهابيين ذبحوا جارهم الشاب الذى
غادرهم، وترك الجبل، وأعلن توبته. بصعوبة، يُنقذ رشيد. يقرر ترك قريته
المنسية والذهاب إلى المدينة، بحثا عن عمل، والإعلان، فى قسم الشرطة، عن
توبته.
فى «وهران»، تتحرك الكاميرا المحمولة على يد المصور الماهر، محمد طيب
لاجونى، مع بطل الفيلم، على نحو يوحى بمدينة قلقة، مرتبكة المرور، تكتظ
بالعاطلين.. وأمام ضابط، يرتدى زيا مدنيا، يسلم رشيد مسدسه.. يعلن توبته..
وطبعا، يطلب منه الضابط أن يتعاون معه مقابل إلحاقه بعمل.. وفعلا، يعمل
رشيد فى مقهى صغير، يشترط عليه صاحبه أن يحلق لحيته درءا للشبهات، ويبدو
وجه رشيد، بعد التخلص من شعر ذقنه، على درجة كبيرة من الوداعة، لكن صاحب
المقهى العجوز، يتشكك فى الشاب، ويلمحه، بخبرته فى الحياة، وهو يلتهم
بنظراته البنات العابرات أمام المقهى، ويظل السؤال عن حقيقة رشيد معلقا.
على طريقة الأفلام البوليسية، يتحدث رشيد، تليفونيا، مع صاحب صيدلية،
حديثا غامضا، عن موضوع يعلمه الصيدلى، ويخصه، ولا نعرف عنه شيئا.. الصيدلى،
الرجل الخمسينى، بأداء خالد بن عيسى،
يعيش وحيدا. يعبر الفيلم عن وحدته وتعاسته بانغماسه فى شرب الخمر، ومشاهدته
لقناة تليفزيونية صينية لا يفقه كلمة منها.. وحتى، بعد عودة زوجته المنفصلة
عنه وهجرتها للخارج طوال خمس سنوات، لا يستجيب للمسة أصابعها على ظهر كفه،
ذلك أنه محبط وزاهد.. الفيلم يجيد الاختزال والتكثيف.
غموض مكالمات رشيد للصيدلى تتكشف: ابنة الصيدلى، جرى خطفها وقتلها من
قبل الإرهابيين، أو المجاهدين كما يطلقون عن أنفسهم. السبب، أنه توقف عن
مدهم بالأدوية. ولأن والدتها لم تتحمل البقاء فى وطن قام بعض ابنائه بوأد
وحيدتها، سافرت إلى بلاد بعيدة، وما عودتها، بناء على دعوة زوجها، إلا لأن
«رشيد» يعرف مكان دفن الابنة، وعلى استعداد أن يدلهم عليه.. نظير مبلغ من
المال.
موقف مرزاق علوش المبهم، حسب تقييم نقاد عدة، يتجلى هنا إلى حد ما،
وإن جاء ملتبسا بسبب تحاشيه الكشف بوضوح عن دوافع بطله، فهل هو مجرد مخلب
من مخالب جماعات خارج القانون، كلفته بعملية ابتزاز من أجل النقود، وهذا ما
يصب فى طاحونة الاعتراض على قانون «الوئام الوطن» الذى أدى إلى نجاة القتلة
وتحصينهم من الملاحقة القضائية، الأمر الذى لا يحدث إلا فى دولة فاشلة، دب
الوهن فى مفاصلها.. وهذا التفسير أثار حفيظة الصحافة الرسمية فى الجزائر،
فشنت حملة على الفيلم ووصفته بأنه يسىء إلى سمعة البلاد وكرامتها.. ومن
الممكن تفسير ما فعله «رشيد» إلى أنه من معتادى الإجرام، نفذ خطته لحسابه
الشخصى.. وربما ــ وهذا أضعف الإيمان ــ ثمة من يرجع مسلك الشاب إلى رفض
المجتمع له من ناحية، واحتياجه الشديد للمال من ناحية ثانية.
أيا كان الأمر، فإن الفيلم يتابع رحلة شخصياته الثلاث، الصيدلى وزوجته
ورشيد، بالسيارة، إلى مكان دفن المغدورة، أثناء المشوار المفعم بالانفعالات
الحادة، المتضاربة، يروى رشيد، فى نوبة اعترافات قاسية، بما شاهده من
عمليات قتل، مما يدفع زوجة الصيدلى، بأداء عديلة بن ديمراد، إلى إصابتها
بما يشبه الهستيريا.. أخيرا، يصل الموكب إلى منطقة أحراش موحشة فى الجبل.
يشير لهما بمكان الجثمان. وعلى طريقة الميلودرامات الفجة، تصرخ الزوجة،
وتلقى بنفسها على الأرض، وتنبش التراب. إنه أضعف مشاهد الفليلم وأكثرها
افتعالا.
مرزاق علوش، صاحب الرؤية المركبة، المهم، المثير للجدل، ينهى فيلمه
بالصوت وليس بالصورة، فعقب رصد الكاميرا، من بين النباتات الشائكة، لأقدام
تقترب من المكان، تدوى طلقات رصاص منهمر من مسدسات ومدفع رشاش، وكأن
المخرج، كاتب السيناريو، وهو يفتح جروح «العشرية الدامية»، يحذرنا.. من
احتمال عودتها.
سحر السلطة وغواية الاستبداد
كمال رمزي
السبت 1 ديسمبر 2012
لأنه حكيم، عارف ببواطن الأمور، ومسارها، ونتائجها، لذا أصبح وليم
شكسبير «1564 ــ 1616»، معاصرا، بالنسبة لكل الأجيال التى جاءت بعده، ذلك
أن رؤيته لا تتوقف عند الظواهر، ولكن تنفذ، ببصيرتها، إلى القوانين التى
أدت إليها، وبالتالى تجاوزت مسرحياته حدود بريطانيا، لتعدو أعمالا سينمائية
فى معظم بقاع الدنيا، ولعل مصابيح الشاعر العظيم، فيما يتعلق بغواية
السلطة، ومتعة الاستبداد، وعواقبهما، تلقى ضوءا ساطعا على ما يعتمل فى
وطننا، الآن.
«ماكبث»، الفارس الشجاع، القائد المنتصر، يحظى بمكانة مرموقة فى
المملكة، لكن ما إن يداعب خياله كرسى العرش، حتى تبدأ خصاله النبيلة فى
الخفوت، ثم التلاشى، لتحل مكانها الطباع الوحشية، معززة بالغدر والخسة..
يتردد فى اغتيال الملك «دنكان» الطيب، الذى يحبه ويحترمه ويأمن له. يحاول
ماكبث التغلب على طمعه فى السلطة، لكن شريكة حياته، الليدى، الشرهة للقوة
والنفوذ، تنخسه ــ حسب تعبير أحد مفسرى شكسبير، فتطلق طاقات الشر بداخله،
فيقدم على اقتراف ثلاث جرائم دفعة واحدة: بعد قتل الملك، ينهال بسيفه على
الحارسين المكلفين بحراسة «دنكان»، ضيف ماكبث، والأفظع، أنه يقتل الثلاثة
نياما.. ولأن الجريمة لا تؤدى إلا إلى جريمة، فإن «ماكبث» الذى فسدت روحه
تماما، يغدو مستبدا ظالما، يتآمر ضد خصومة، لا يتوانى عن إزهاق أرواحهم،
وحين تأتى لحظة تصفية الحساب، ينفض من حوله الجميع، وبينما يتعمد المخرج
البولندى الأصل، رومان بولانسكى، فى مشهد النهاية الطويل، المصير الفاجع
لماكبث، حيث تقطع رقبته بضربة سيف.. يطلق اليابانى، كوروساوا، عنوانا عميق
المغزى على فيلمه «عروش الدم».
عند شكسبير، ثمة أحداث تدور خارج خشبة المسرح، وقبل بداية المسرحية.
فى «هاملت» لا نرى مصرع الملك الأب. فقط يتراءى لنا، ولابنه، شبحه الذى
يتجول ليلا طالبا القصاص من أخيه «كلوديوس» الذى دفعته الرغبة العاتية فى
السلطة إلى دس السم فى اذن شقيقه.. وبعيدا عن التفسيرات المتعددة لتردد
«هاملت» فى الثأر لوالده، ينجح المخرج البريطانى، كينيث برانا، فى طرح
قراءة جديدة، من قلب النص الشكسبيرى، ترجع تردد هاملت إلى إدراكه أن الفساد
«ضرب أطنابه فى جذور المملكة»، وأن قتل العمل المغتصب لن يغير شيئا.. جدير
بالذكر، أن وجهة نظر «كلوديوس»، القاتل، فى شقيقه القتيل، لا تخلو من
وجاهة، فالملك المغدور، كان مستبدا غاشما، وقر فى ضميره الفاسد أن المملكة
خلقت له، وباستخفافه، سار بها نحو الهاوية، حتى إنه لعب القمار مراهنا على
نصف البلاد.
الشعب، أو الجماهير الغائبة، أو المغيبة ــ بحكم واقعها فى القرنين
السادس والسابع عشر ــ يجسدها ببراعة. ودقة، المخرج الروسى، كورنتسيف، فى
«الملك لير»: جموع بائسة، تعيسة، تسير حافية، وسط الأوحال، بملابس مهلهلة،
بالقرب من قصر «لير»، الملك، الذى أُخذت حكايته على أنها تعبر عن عقوق
الأبناء وتنكرهم للأب الطيب، بعد تناوله لهم عما يملكه.. لكن حكايته عن
كورنتسيف، تختلف فى معناها تماما.. «لير» هنا، مارس السلطة طويلا، محصنا
بحاسية منافقة، فاسدة، صدق بسببها أنه معصوم من الخطأ، وأصبح، موغلا فى
الاستبداد والرعونة، وتعمد كورنتسيف أن يجعل بطله العجوز، مندفعا، فى
مشيته، وانفعالاته، وقراراته.. ولأنه مطلق الصلاحيات، ويظن أن نفوذه لن
يهتز أبدا، يوزع، منتشيا، البلاد، على بناته.. طوال الفيلم، نشهد مغبة
«التوريث» التى اتبعها معتوه استجابة لغواية الاستبداد، فجاءت النتيجة كما
نراها على الشاشة: منازعات ومؤامرات واغتيالات وحروب، مزيد من القتلى
والجوعى، مصير تعس للملك لير، شأن ماكبث، وهاملت الأب، والابن أىضا،
وكلوديوس المغتصب، وغيرهم.. فمن يتعلم؟
الشروق المصرية في
01/12/2012
صمت وزير الإعلام
خالد محمود
الجمعة 21 ديسمبر 2012
اذا كان ما تردد بأن وزير الإعلام يقوم سرا بإعداد قائمة سوداء
لمجموعة من الفنانين المعارضين لسياسة تيار الإخوان لعدم التعامل معهم فى
الأعمال الفنية الجديدة التى تنتجها الشركات الحكومية، فهذا يعد مسمارا
جديدا فى نعش الدراما المصرية التى تواجه تحديات كبيرة منها المناخ غير
المناسب للإنتاج والتصوير وأزمة التسويق والتمويل والأجور، وسعى القنوات
العربية وراء الدراما التركية واللاتينية المنافسة، والتى بدون شك أخذت من
فرص الدرما المصرية الكثير.
أتمنى أن تكون تصريحات المصادر التى رفضت ذكر اسمها بأن وزير الإعلام
أعطى تعليمات لشركات الإنتاج التى تتبع الحكومة (صوت القاهرة ــ مدينة
الإنتاج الإعلامى ــ قطاع الإنتاج) بألا يستعينوا بنجوم مصر الذين لهم آراء
منتقدة للتيار الذى ينتمى إليه، مهما كانت مكانة هذه الأسماء، ودورها
وتاريخها الرائد فى مجال الدراما التليفزيونية.
حتى اللحظة لا أملك سوى صدق المصادر، وصدق ما يتردد، حتى يقوم الوزير
صلاح عبدالمقصود بنفيها وتأكيد حسن النوايا بأن قطاعات الإنتاج الحكومية
المصرية لا تأخذ موقفا فى إنتاجها الدرامى الجديد من نجوم ميدان التحرير،
ومن معارضى الاتحادية والإعلان الدستورى ومشروع الدستور الجديد.
وأتساءل ومعى كثيرون: لماذا يصمت الوزير تجاه ما يحدث ويشاع ويتردد
سواء فى أروقة ماسبيرو أو خارجه؟.. لماذا لم يدل برأيه فى حصار مدينة
الإنتاج الإعلامى وهو يتربع على عرش وزارة الإعلام فى مصر وهو المشهد الذى
انتقده العالم، لماذا لم يقل شيئا فى المواد المتعلقة بحرية الإعلام فى
الدستور الجديد، بدلا من الاكتفاء بإطلاق العنان لأسماء ووجوه من حزب
الحرية والعدالة غير معنية بالشأن لتدلى برأيها المدروس والممنهج والمحفوظ
عن ظهر قلب فى تلك المسألة.. لماذا لم يرد الوزير على ما يقال من إعداد
قوائم سوداء وأخرى بيضاء لمبنى ماسبيرو وبرامجه التليفزيونية والإذاعية على
حد سواء؟.. لماذا لم يبرر الوزير استقالات رئيس التليفزيون ونظيره بالقنوات
المتخصصة؟.. لماذا لم يظهر الوزير ليبدد مخاوف إعلاميى ماسبيرو الذين
تطاردهم الآن سمعة الرضوخ لسياسة الانحياز لتيار الإخوان المسلمين دون
حيادية أو الوقوع فى فخ الرسالة الدعائية للاسلام السياسى؟.. ولماذا لم
يعلن الوزير حتى الآن عن خريطة الإنتاج الدرامى الجديد؟ وما هى طبيعة تلك
الأعمال وأبطالها؟.. وهل سيقبل أعمالا درامية من إنتاج القطاع الخاص؟ وما
نوعية ما يقبل عرضه؟.. هناك ترقب كبير من المنتجين ليعرفوا موقف ماسبيرو من
أعمالهم.. ولا تزال الرؤية غامضة.
مطاردة الفنانين تصل مدينة النور
خالد محمود
الخميس 20 ديسمبر 2012
يبدو أن مطاردة الإبداع والمبدعين والموهوبين لم تعد مسألة قاصرة على
أوطان دون غيرها، لم تعد تخص فقط دول تحكمها سياسات الظلام والتخلف
واستبداد الرؤى والأفكار وتقليص الأحلام واجنحة الخيال، بل إن مطاردة الفن
انتقلت إلى مجتمعات مستنيرة وأوطان النور مع اختلاف الأسباب.
النجم الفرنسى الكبير جيرار دى بارديو قرر التخلى عن جواز سفره
الفرنسى والرحيل إلى بلجيكا.. قال ديبارديو: «سأرحل لأنكم تعاقبون النجاح
والإبداع والموهبة وأى شىء مختلف». كلمات النجم الذى عشقته فى إدوار «سيرانودو
بيرجيراك، والبطاقة الخضراء، والمترو الأخير»، كانت بمثابة صدمة لى
ولعشاقه، فـ«دى بارديو» ممثل رائع، كما أنه كان ورقة اليانصيب الكبرى التى
صدرتها فرنسا لاستوديوهات هوليوود، كان ولا يزال فخرا للسينما الفرنسية،
فهو الحاصل على جائزة سيزار مرتين والجولدن جلوب ووسام فارس وجوفة الشرف،
اليوم يقرر الرحيل والعيش فى بلجيكا معللا ذلك بأن النجاح والإبداع
والموهبة باتت أشياء ممنوعة فى وطنه.. فى باريس مدينة النور والفكر.
الحكومة الفرنسية اتهمت فنانها بالهروب من دفع الضرائب، حتى رئيس
الوزراء جان مارك ايرولت وصف سعى دى بارديو ــ 63 عاما ــ للإقامة خارج
فرنسا بعد زيادات ضريبية استثنائية أقرها الرئيس الفرنسى فرانسوا هولاند،
بأنه تصرف «مثير للشفقة» وغير وطنى. وقال رئيس الوزراء إن زيادة الضرائب
تهدف إلى تقليص الدين القومى المتراكم، وهنا ــ حسب تقارير بى بى سى ــ
اقترح عضو فى البرلمان الفرنسى إجبار النجم على التخلى عن جنسيته إذا تهرب
من دفع الضرائب.
دى بارديو قام بعد هذه الحرب الكلامية بشراء منزل بإحدى القرى
البلجيكية القريبة من الوطن وطرح منزله الفخم فى باريس للبيع، وقال وقلبه
يملؤه الحسرة «لم يعد ثمة سبب لإقامتى فى باريس.. سأظل أحب الشعب الفرنسى
والجمهور الذى تبادلت معه مشاعر كثيرة».
كانت صدمة الجمهور كبيرة بقرار دى بارديو، الذى أقر أنه دفع ضرائب
قدرها 145 مليون يورو منذ بداية رحلته الفنية وهو فى بداية الرابعة عشرة من
العمر.
الأمر أصبح بحق مثيرا للدهشة، بل وصادما عندما تتورط الحكومات بكوارث
إثر سياساتها الاقتصادية والاجتماعية الخاطئة، وتلقى بهمومها كاملة على
المواطنين أيا كانوا ليتحملوا وحدهم أعباء ونتائج فشلهم فى إدارة الأمور.
وعندما يقدر نجم بحجم دى بارديو ــ تميمة فرنسا فى السينما العالمية ــ
إلقاء جنسيته وراء ظهره وبطاقه ضمانه الاجتماعى وتركه المدينة التى شهدت
تألقه وجمهوره الذى وقف معه خطوة خطوة، فهى تعد بمثابة صرخة ضد فشل حكومات
تحاول أن تضع مواطنيها أمام ازمات من صناعتها، وتجبرهم على دفع الثمن..
وليست هروبا من حق وطن.
لماذا يخشون الإبداع وأهله؟
خالد محمود
الثلاثاء 18 ديسمبر 2012
تأتى حادثة الاعتداء على المخرج خالد يوسف ممن يتجمهرون أمام مدينة
الإنتاج الإعلامى لتضع مؤشرا خطيرا وهو تجاوز مسألة ترهيب وتخويف المبدعين
من مجرد تصريحات إلى فعل على أرض الواقع، فقد انقضوا عليه ليكون عبرة لغيره
ممن يدلون بآرائهم وشهاداتهم المعارضة لبعض السياسات والأحداث التى تجرى
على أرض الوطن وتحدد مصيره، وفى مقدمتها الدستور الجديد.
ويبدو احتمال تكرار هذا الحادث قويا، مع إصرار أنصار الاعتداء على
سياسة تهديد المبدعين، بل والتحريض على إيذائهم بعد وصفهم بأبشع الأوصاف.
السؤال الذى يبدو منطقيا: هل سيتحقق الاستقرار المراد الذى يحقق مصلحة
تلك الفئة الحاكمة ـ التى اتهمها خالد يوسف وقدم بلاغا ضدها ـ بمحاولات
الاعتداء الجسدى وخرس ألسنة المعارضة، وتشويه السمعة، وقذف المحصنات؟!..
بالقطع لا، فصوت الحرية هو ما يبقى وصوت الحقيقة هو الأعلى، حتى لو كان
مجرد أنين. وكما قالت شريهان: «لن تستطيعوا قتل أو ذبح أو خنق صوت خالد
يوسف وغيره من أصحاب قضية أسسها المواطن المصرى.. ما تفعلونه يزيدهم إصرارا
وصمودا، لن يرهبهم حصار أو سلاح أو سلطة زائفة.. فصوتهم صوت ضمير».
وحسنا فعلت جبهة إنقاذ الإبداع فى بيانها عندما أهابت بكل أعضائها من
جميع مكونات الحياة الإبداعية (قوة مصر الناعمة) بألا ترهبهم مثل هذه
الأفعال والاجراءات أو تحول دون أن يظل صاحب الرأى فى مصر قادرا على إيصال
رأيه والتعبير عنه دون أن يرهبه أحد أو سلطة.
واقع الأمر أن هناك كثيرا من الرؤى طرحتها الأعمال الفنية وكانت
بمثابة شهادات تاريخية واجتماعية عظيمة فى صدقها وواقعيتها وصورتها، ويصل
درجة تأثيرها على الجمهور بأنها تحرضه على عدم الاستسلام لمن يتلاعب بمصيره
وحياته ومستقبله، سواء كان مصدر التلاعب هذا شخص أم قانون.. فرد أم جماعة.
على المبدعين والفنانين مواصلة طرح هذه الرؤى فى أعمالهم الجديدة دون
الخوف من شىء، فالصورة أقوى من الكلمة وستتعاقب على مشاهدتها الأجيال، حتى
إذا حاولت الجهات المناهضة لحرية الإبداع منع عرض تلك الأعمال فى الوسائل
المألوفة، فهناك وسائل أخرى متعددة بفضل تطور وسائل البث الحديثة، وستصل
إلى الجمهور ولن يستطيع أحد اعتراض طريقها للمشاهد.
وأعود لأسأل: لماذا يخشى هؤلاء الذين ينتمون لفئة الهجوم على خالد
يوسف من المبدعين؟؟.. عليهم أن يعوا أن تأثير الإبداع سيبقى هو الأطول عمرا
من تأثير لغة خطاب التهديد والوعيد حتى لو كان مدعوما بستار دينى.
واقعية أنسى أبوسيف
خالد محمود
الخميس 6 ديسمبر 2012
يأتى اعتذار مهندس الديكور الفنان الكبير أنسى أبويوسف عن تكريمه فى
مهرجان القاهرة السينمائى ومن وزير ثقافة ينتمى لحكومة الإخوان وينفذ
سياستها التى تحيد عن منطق الديمقراطية والعدالة، ليؤكد أن ثمة صداما
حضاريا بين صناع الفن وتلك الحكومة.. بين من يؤمنون بالحرية ومن يحاولون
تقيدها وتكبيلها تحت ادعاء «حتمية الاستقرار».
قرار اعتذار أنسى أبويوسف جاء شديد الواقعية مثل ديكورات أفلامه التى
اشتهر بها وقدمت النماذج الإنسانية بأوجاعها وبهجتها بلا رتوش.
فهو يرى أنه لا يستطيع أن يتسلم جائزة التكريم من وزير ثقافة انحاز
للإعلان الدستورى ومعه حق فهو إعلان بائس، ويدعو لليأس ولحياة رمادية
المستقبل، وهى مشاعر ضد تركيبة الفنان والمبدع.
رفض انسى لحظة ينتظرها أى فنان.. لحظة انجاز عمر جاءت أيضا لإصدار
وزير الثقافة أمرا بطبع مسودة الدستور المعروضة للاستفتاء يوم 15 على نفقة
الوزارة، وهو يعلم حجم العوار القائم عليه هذا الدستور والموجود ببعض بنوده.
واقعية قرار أبوسيف جاءت متسقة مع آراء جموع فنانين ومثقفى مصر
والنقابات الفنية وجبهة الإبداع الرافضة لهذا الإعلان ومسرحية طبخ الدستور
المصرى.
أبويوسف الذى ساهم فى صنع مجموعة من أهم الأعمال السينمائية التى كشفت
ظلما واستبدادا «حب فى الزنزانة»، وخداعا وتامر «أرض الخوف»، وأوهام وايهام
بالغيبوبة والأحلام الضائعة «الكيت كات»، وتأثير الخداع السياسى على نمط
حياة «مواطن ومخبر وحرامى»، وكشف حقائق تاريخية لرموز «السادات» و«حليم» ــ
شعر أن مشهد تسلمه الجائزة من مهرجان يتبع وزارة ثقافة تنتمى لحكم الإخوان
الراعى لإعلان ديكتاتورى ودستور معيب سيكون مشهدا خانقا مكبلا لأحلامه
قابضا على جناحيه الذى يرفرف بهما فى عالمه الإبداعى.
نقابة السينمائيين التى قدمت بيانا كتحية تقدير لأنسى أبويوسف على
موقفه، أهابت ودعت باقى الفنانين لضرورة إعلان موقفهم من الإعلان الدستورى
والدستور فى حفل ختام المهرجان، وأنا أهيب وأدعو وزير الثقافة أن يغير
موقفه المعلن وأن يفرج عن رغبة المثقف والمبدع بداخله برفضه لأى إعلان أو
دستور أو قيد أو قانون حياة يفرض بالقوة على المجتمع.
الشروق المصرية في
06/12/2012 |