عند شيوع نبأ رحيله، استعاد كثيرون تحفته السينمائية «أمبراطورية
الحواس». غريبٌ أمر المشاهدين والمهتمين. غريبٌ أمر هؤلاء تحديداً، الذين
تنبّهوا سريعاً إلى فيلمه هـذا، قبـل أي فيلم آخر. نسوا أنه أثار فضائح
بأفلام لا تقلّ أهمية وجمالاً عن هذا. نسوا أنه سليل بيئة اجتماعية وثقافية
خصبة بالمختلف والمحرّض على فهم تلك القوّة الإبداعية في تحطيم أصنام
وتقاليد وثوابت. «أمبراطورية الحوّاس» دروس في فيلم واحد: في السينما والحب
والإحساس والجنس. في ثقافة الجسد وتحريره من ورطة العقل أحياناً. في ابتكار
لغة خاصّة لبوح حميمي موارب. في معنى السلطة المنقلبة من ذكرية إلى نسائية.
«أمبراطورية الحوّاس» (1976) فيلم بديع. لكنه ليس الفيلم الوحيد الذي
وضع مخرجه ناغيسا أوشيما، المتوفّى قبل يومين عن واحد وثمانين عاماً على
خارطة السينما في العالم. «فوريو» (1983) أثار جدلاً واسعاً في الأوساط
السينمائية والثقافية والاجتماعية. منح المغنّي الإنكليزي ديفيد بووي «أجمل
دور سينمائي له». توغّل في مزيج الحرب والاعتقال والجنس والسادومازوشية،
محرّضاً كثيرين عليه، وفاتحاً بؤرة واسعة على مكامن الألم والقهر
والفردانية والمتاهة الذاتية. عنوانه الأصلي: «ميلاد مجيد سيّد لورنس»، قبل
أن يحمل الفيلم تعبيراً أكثر تلاؤماً ومناخه الدرامي. فالكلمة اليابانية «فوريو»
تعني، ببساطة شديدة، «أسير حرب». والفيلم يلتقط تفاصيل الحياة اليومية داخل
معتقل وُضع فيه أسرى حرب، فانفتحت أبواب الجحيم على الجميع: أسرى وآسرين
معاً. انفتحت أبواب الأسئلة كلّها، المتعلّقة بالجسد والروح، كما بالتعذيب
والمثلية الجنسية والوجع الذاتي. بالإضافة إلى هذا كلّه، لم يتردّد ناغيسا
أوشيما، المولود في 31 آذار 1932 في كيوتو، عن طرح مسألة «أكل لحوم البشر»
أيضاً. هذا، وحده، كفيلٌ بشنّ حملة عنيفة ضدّه، انتهت بانتصار السينما،
وبتأكيد المكانة البديعة لمخرج لم يُنجز يوماً المبتذل أو المسطّح. لمخرج
وُصف بأنه: «محطّم التابوات» (الصحيفة الفرنسية اليومية «لو فيغارو»، 15/
1/ 2013).
ابن فترة ما بين الحربين العالميتين، وجد أوشيما نفسه سائراً في طريق
الفن السابع «صدفة»، كما قال مرّة: «من دون رغبة خاصة بصناعة السينما».
«صدفة»؟ ليسوا نادرين أولئك السينمائيون العظماء، بالمعنى الحرْفي لكلمة
«عظماء»، الذين رفعوا شأن الإبداع السينمائي من دون أن يُخطّطوا سابقاً
لهذا. من دون أن يُخطّطوا لمسار سينمائي لهم أصلاً. ابن كيوتو، الذي عاش
طفولته وشبابه مع أمه وشقيقته الصغرى إثر وفاة والده في العام 1938، درس
العلوم السياسية والحقوق، قبل أن «يجد نفسه» في وظيفة «مساعد مخرج» في
استديو «شوشيكو» في «أوفونا» لغاية العام 1959. في مقالته المنشورة في
الصحيفة الفرنسية اليومية «لو موند» قبل يومين، كتب توماس سوتينل انه بفضل
هذه الـ«صدفة»، بل لأنه لم يملك أدنى «رغبة خاصة بالسينما»، وُسِمَ مساره
المهني كلّه بـ«سمة الرغبة». هذا ما جعل أوشيما، بالإضافة إلى كونه «محطّم
التابوهات»، باحثاً سينمائياً دؤوباً في الرغبات، في معانيها وأشكالها
وانفعالاتها وحالاتها وتفاصيلها وعوالمها وأوهامها، في مصائرها، ومصائر
ناسها المقيمين فيها، والمتماهين بها، والساعين إليها. فيلمه الثاني
«حكايات شبابية قاسية» (1960)، الذي جعله «رأس حربة» ما عُرف لاحقاً بكونه
«السينما اليابانية الطليعية» أو «الموجة السينمائية اليابانية الجديدة»،
مليء بهذا الشغف الإنساني والحياتي والانفعالي للرغبة: عن جيل شبابي محطّم
وباحث عن منفذ له للتنصّل من قيود بيئة مقيم فيها.
يستحيل اختزال السيرتين الحياتية والمهنية لناغيسا أوشيما. بل وجب
القول: «السيرة الحياتية المهنية»؟
4
أفلام قصيرة. 25 فيلماً طويلاً. 25 عملاً تلفزيونياً. تاريخ
بلد وتحوّلات واحباطات. مشاركة فعلية في إضفاء كل جديد على تقنية صناعة
الفيلم الياباني. إسراف في تفكيك الموجود، وإعادة بنائه. كشف المخفيّ في
الذات، أو بالأحرى إظهار مكامنه. هذا كلّه جزء من تلك السيرة. هذه دعوة إلى
إعادة مشاهدة إنجازاته البصرية.
كلاكيت
«كارثة»
السينما
نديم جرجورة
قبل عشرين عاماً، أطلق سمير حبشي مساراً سينمائياً لبنانياً، بإنجازه
«الإعصار»، فيلمه الروائي الطويل الأول. كانت بداية مرتبكة لمرحلة جديدة.
كانت نهاية مزعومة لحرب أهلية لبنانية طاحنة. كانت لحظة تحوّل جعلت البلد
وناسه ومجتمعه عند منعطف، كشف لاحقاً، عن خطره المدوّي. عاد سمير حبشي من
روسيا السوفياتية حاملاً معه دراسة أكاديمية في صناعة السينما. معه، بدأ
سياق آخر. معه، تقدّمت صناعة الفيلم اللبناني خطوة إضافية إلى الأمام. أي
انها استعادت حيويتها الموزّعة على مراحل تاريخية ملتبسة وغامضة وشديدة
البهتان، مع انها شهدت لحظات باهرة لا تزال نادرة لغاية اليوم.
عشرون عاماً. رقم يدفع المرء إلى إقامة احتفال ما. إلى استعادة ما
لحقبة لم تستطع، على الرغم من جهود فردية عديدة، أن تحيل إنجاز الفيلم إلى
صناعة سينمائية. الفرد اللبناني وحيد في مواجهته قدراً وواقعاً. هذا ليس
جيداً دائماً. هذا مُتعِب وقاهر. في شؤون الاقتصاد والتجارة والصناعات
الأخرى، كما في الثقافة والإعلام وغيرهما، شكّلت «المبادرة الفردية» نواة
جوهرية لإنشاء أعمال ومؤسّسات. في السينما، كانت «المبادرة الفردية» حافزاً
وحيداً لإنجاز أفلام متنوّعة، تحتاج إلى غربلة نقدية جدّية لتبيان معالمها
وأشكالها ومدى تلبيتها شروط الإبداع السينمائي. المتابعة كفيلة بالتنبّه
إلى المآزق الجمّة. مآزق تبدأ من العمل نفسه. من فعل الكتابة، قبل بلوغ
مرحلة الإخراج. مآزق تعكس بهتاناً قاسياً. تكشف عجزاً فادحاً عن تحويل
الدراسة إلى اختبار ميداني. عن تحويل الاختبار الميداني إلى حرفة. عن جعل
الحرفة بناء سينمائياً ذا «منازل كثيرة». المتابعة تكشف انعدام المخيّلة،
وخلل التنفيذ، وفداحة الأعمال.
هذا ليس تحليلاً شاملاً. لا يطاول كل شيء. الشمولية قاتلة لأي نقاش
نقدي. المحاولات الجدّية قليلة. لكنها محاولات جدّية سعى أصحابها إلى بلورة
مشاريعهم الخاصّة، الجمالية والدرامية والفنية والتقنية، وفقاً لأهواء
وأمزجة وثقافات ورغبات. القلّة مهمّة. ركيزة بناء يُفترض بالجميع العمل على
تشييده. الكثرة مفيدة أيضاً، لأنها تتيح الغربلة المؤدّية إلى البناء على
الجيد والأفضل والأهم. التنويع ضرورة. ما شهده البلد منذ النهاية المزعومة
للحرب الأهلية دليلٌ على تنويع فاق التصوّر. لكنه تنويع طغت عليه كثرة
السلبيّ. أي أن الغالبية الساحقة من الأعمال المنجزة منذ تلك الفترة لم
تخرج من رتابة وادّعاءات وفراغات وفوضى. لم تخرج من انحطاط أساء إلى عاملين
جديين، يواجهون أقسى التحدّيات الممكنة لإنجاز ما يريدون. وما يريدونه بدا
سينمائياً بامتياز.
هذا منسحبٌ على الأنواع كلّها. أفلام وثائقية عديدة مالت إلى الشق
التلفزيوني البحت. الروائي القصير شقّ طريقه بروية. توصّل إلى إثبات مكانة
ما في المشهد العام. الأفلام الطويلة «كارثة». معظمها محتاج إلى إعادة
اشتغال. الوثائقي الحديث أمتن وأجمل وأقوى سينمائياً.
هذا يطرح سؤالاً جوهرياً: لماذا هذا البهتان الفظيع كلّه؟ لماذا هذه
الفوضى في الاشتغالات السينمائية؟
تظاهرة أفلام ألان رينيه في بيروت.. و«لم تشاهدوا شيئاً بعد»
نديم جرجورة
تستدعي المناسبة احتفالاً يليق بالمحتفى به. الاحتفال اللائق به مستَمدّ من
عمله. المناسبة؟ بلوغ المخرج السينمائي الفرنسي آلان رينيه التسعين من
عمره، علماً انه ولد في الثالث من حزيران 1922. «المعهد الفرنسي في لبنان»
و«جمعية متروبوليس» تعاونتا في تنظيم تظاهرة سينمائية ممتدة على أحد عشر
يوماً، بين 20 و30 كانون الثاني 2013، لعرض عشرة أفلام له، بالإضافة إلى
فيلم «الشمس المشرقة الأبدية للعقل الناصع» (2004، 108 د. بالألوان، باللغة
الإنكليزية المرفقة بترجمة إلى الفرنسية، الثامنة مساء 30 كانون الثاني
2013)، لكونه مستوحى من أحد أفلامه «أحبك، أحبك».
الأهمّ من ذلك، أن آلان رينيه مستمرّ في رفد السينما الفرنسية اولاً،
والدولية ثانياً، بما يمتلكه من حُسن الصناعة. سيرته المديدة تأكيد على
براعة استثنائية في تحقيق الأفلام. آخر نتاجاته، الذي يفتتح هذه التظاهرة،
حمل عنواناً أثار تعليقات نقدية شتّى: «لم تشاهدوا شيئاً بعد». ليس العنوان
فقط، بل المضمون الدرامي أيضاً. المخرج التسعيني أعلن بصراحة مطلقة أن هناك
دائماً «أشياء كثيرة يُمكن للمرء أن يقولها» (بالإذن من عمر أميرالاي).
أعلن أن النبض السينمائي لا يتوقف أبداً. ان هذا العالم غنيّ بما يُحرّض
على القول. اختار رينيه شخصية كاتب مسرحي مشهور يُدعى أنطوان دانتاك، يواجه
الموت. فإذا به يدعو كل من مثّل في عمله «أوريديس» إلى مشاهدة إنجاز فرقة
مسرحية شابّة. لكن العمق الدرامي مفتوح على الحب والحياة والموت. على الحب
بعد الموت أيضاً. فهل هناك «مكان» لهذه العناوين على خشبة المسرح؟ في
الحياة؟
تسعة أفلام إذاً، بالإضافة إلى فيلمين قصيرين، يُعرضان الثامنة مساء
الثلاثاء المقبل، هما: «التماثيل تموت أيضاً» (1953، 29 د.، بالأسود
والأبيض، بالفرنسية المرفقة بترجمة إلى الإنكليزية) و«ليل وضباب» (1956، 32
د.، بالأسود والأبيض، بالفرنسية). الأول أخرجه رينيه بالتعاون مع كريس
ماركر، انطلاقاً من سؤال الموت: موت الرجال يُدخلهم إلى التاريخ، لكن موت
التماثيل يُدخلها إلى الفن. الفيلم بحثٌ في العلاقة القائمة بين الفنون
والموت. بل بين «الغرب، وفن يُدمّر من دون أن ينتبه إلى فعله هذا»، كما
وُصف هذا الفيلم، الذي مُنع من العرض التجاري الفرنسي لثمانية أعوام.
الثاني أخرجه رينيه منفرداً. نواته الدرامية: الحرب وفظاعاتها. الحرب
العالمية الثانية تحديداً، الجريمة النازية، المدن المهجورة، الموتى. هنا
أيضاً يُطرح سؤال الموت وفضاءاته الإنسانية. هنا أيضاً يتجلّى الموت بصفته
رافداً ثقافياً للبحث في معنى الحياة.
الأفلام الأخرى معروفة. مساء كل يوم، عند الساعة الثامنة، يُعرض أحد
هذه الأفلام المختارة لتظاهرة «الذاكرة والمتخيّل». البداية مع آخر فيلم
لرينيه «لم تُشاهدوا شيئاً بعد» (2012، 115 د.، بالألوان، مترجم إلى
الإنكليزية). هناك أيضاً: «هيروشيما مع حبّي» (1959، 91 د.، بالأسود
والأبيض، مترجم إلى الإنكليزية)، و«العام الماضي في مارياباند» (1961، 93
د.، بالأسود والأبيض، بالفرنسية من دون ترجمة)، و«أحبك، أحبك» (1968، 89
د.، بالألوان، مترجم إلى الإنكليزية)، و«ستافيسكي» (1974، 115 د.،
بالألوان، مترجم إلى الإنكليزية)، و«عمّي من أميركا» (1980، 125 د.،
بالألوان، مترجم إلى الإنكليزية)، و«ميلو» (1986، 112 د.، بالألوان، مترجم
إلى الإنكليزية)، و«نعرف الأغنية» (1997، 120 د.، بالألوان، مترجم إلى
الإنكليزية)، و«قلوب» (2006، 123 د.، بالألوان، مترجم إلى الإنكليزية).
فيلم بن أفلك حصد جائزتي «غولدن غلوب»
في «أرغو» الهوليوودي «الإيرانيون لا يعرفون مكانهم»
زياد الخزاعي
(لندن)
«الإيرانـيون لا يعرفـون مـكانهم». تشـكّل هذه الجـملة أساس
التمويه السينمائي وتكراره، الذي يعدّ الثيمة العامة في جديد المخرج بن
أفلك «أرغو» (جائزتا «غولدن غلوب» أفضل فيلم وأفضل إخراج)، ليكون محطّ
الأنظار حتى 24 شباط 2013، كي يحسم «الهَوَس الإيراني» في هوليوود أمره مع
سبع جوائز «أوسكار» رُشِّح لها.
تعتقد قيادة الأزمات في «وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية» ان
«الفرار البطولي» لستة دبلوماسيين ولجوءهم إلى منزل السفير الكندي في
طهران، إثر اقتحام السفارة مع بداية ثورة الخميني في العام 1979، هما معضلة
أكثر من كونهما ضمان أنفس. ذلك أن تهريبهم إلى الخارج شبه مستحيل، إذ لا
يمكن تخفّيهم كمعلمين، لأن المدارس مغلقة منذ أشهر، ولا تنكّرهم كمغيثي
أطفال مجاعة، لأن «دعايات الأميركيين تحمل صُوَر أطفال سود» لا يشبهون
الفرس، كما يتهكّم أحدهم.
قبل هذا، صرف أفلك الدقائق العشر من بداية فيلمه لتوثيق اجتياح
السفارة الأميركية. صوَّر «استغلال» موظّفيها مواطنين إيرانيين من طالبي
التأشيرات، واستخدامهم غطاءً للالتفاف على فوضى الموالين لآيات الله،
والوصول إلى قلب المأمن الغربي.
اشتغال أفلك شديد التراتب، تقليدي النبرة، مع هوس بمقارنة الأمكنة
والملابس والأجواء والطباع. الخارج لا يمكن تمويهه، لأن الغرض الأهم إبراز
قوّة الدهاء الغربي الذي لا يزوّر السحن والأسماء وحسب، بل إن إقدامه
وشجاعته يجعلان من خدعة سفيهة تنطلي بيسر على «معتوهي» ثورة العمائم
ومسؤوليها البـائسين، الذين لن يمسكوا فوارق اللكنة بين اللسانين الأميركي
والكندي. هكذا تكون السينما في «أرغو» وسيلة غدر سياسي، وتعيير مخابراتي
لثورويين انطلت عليهم «فقرة تمثيلية» و«جلسات مكياج»، مهّدت لعبور الهاربين
منافذ مطار طهران بشوارب عساكره ولحاهم الكثّة (تأكيد مظهري لعدوانيتهم
الشرقية) إلى «حرياتهم»، وكـتب المذكرات اللاحـقة التـي يوردون فيها مرارات
الأسابيـع الطـويلة، ورعب التصفيات والدم، بعدما أنقذهم العميل السري
الكتوم توني مينديز (بن أفلك)، البارع في «تسريب الأميركيين من براثن
الأعداء».
قاد المقدام مانديز رعيّته الصالحة من دون عصا موسى، بل بتذاكر طـيران
صـفراء اللون، أصدرها «مركز لانغلي» بعد صراع إداري مرير كاد يطيح رؤوسهم،
لولا عناد العميل واعتداده بحنكته الاستخباراتية.
لن يُخبرنا أفلك شيئاً عن تورّط هذه الرعية في «عمليات قذرة» أو
«مهمات جاسوسية» في إيران، بل يُصوّرهم قطيعاً خدمياً صغيراً، انفـصل،
لحـسن حظهم، عمّن احتجزوا في المبنى الضخم لـ444 يوماً. يصبح أمر تهريبهم
رمزاً للعزّة الوطنـية الأميركيـة، وامتحاناً لعسر الأمّة وصبرها. نجاح
مهـمة «أرغو» تكريم مشع لبنائي الـ«سي. آي. أي.» الأوائل، الذين حيّاهم
السينمائي روبرت دي نيرو في عمله الملحمي «الراعي الطّيب» (2006)، وتحديداً
شخصية إدوارد ويلسن المرعب بتكـتّمه وإصراره وقـسوته، التي تتـماهى إلى حدٍ
مدهش مع ما لدى نظيره مانديز الحقيقي.
العملية وفكرتها حقيقيتان. أقنع مانديز منتجاً (ألن أركن) وماكييراً
(جون غودمان) في هوليوود بتأسيس شركة بمال الوكالة، لإنتاج فيلم خيال علمي
عنوانه: «أرغو»، وهو اسم السفينة في الحكاية الأسطورية «جيسن والعمالقة».
جاءه إلهام الخطة من متابعته «معركة كوكب القرود» (1973) مع ابنه. تجتاز
الحيلة امتحانها. يسير مانديز بشجاعة نادرة، وبقامة مديدة لأمبريالي لا
يهاب الموت في بازار العاصمة، بحجّة معاينة مواقع تصوير، وفي جيبه ستة
جوازات سفر كندية، مخترقاً طهران كلّها إلى مطارها، ثم إلى الحرية التي
يرمز لها بفجاجة إعلان مضيفة الخطوط السويسرية: «تقديم الكحول بات مسموحاً
على الطائرة».
تمويه السينما وإغواءاتهـا رمزان لهـما دلالات سياسية بيّنة، عندما
يختتم أفلك ومعه شريكه في الإنتاج جورج كلوني عملهما بدمى أشرطة خيال علمي
شهيرة، كـ«حروب النجمة» و«ستار ترك» و«كوكب القرود» وغيرها، تتناسخ إلى
تحيات لأفـضالها في إتمـام خدعة سينمائية أنقذت سـتة أفراد، بينـما تخلّت
بلؤم عن ملايين الإيرانيين يعانون العسف وظلام الجُبب.
السفير اللبنانية في
17/01/2013
"دجانغو
المحرَّر" يفخخ ذاكرة العبودية في أميركا!
هوفيك حبشيان
من مصادفات البرمجة ان يحلّ في بيروت خلال شهر واحد فيلمان عن فصل
قاتم من التاريخ الأميركي: زمن استغلال البيض للسود، وزمن الرقّ الذي يبدو
ان السينما تعود اليه اليوم، ليس من دون ان تولّد هذه العودة سجالاً،
محمّلاً العتب والملامة بين الأميركيين.
استعادة التاريخ تلهب تأويلات، أظهر مجمل ما حصل من أخذ ورد كلاميين
في الأسابيع الماضية، أنها لا تنال بركة أصحاب البشرة السمراء، الفئة
العرقية التي وقعت ضحية الرقّ في أميركا ما قبل حقبة التمدن. نبش الذاكرة
موجع دائماً، وأن يكن للتصالح مع الذي فات. فكيف اذا وجد ذوو البشرة
الداكنة أنفسهم قبالة فيلم تتكرر فيه كلمة "نيغر" مئات المرات؟
فيلمان اذاً، الأول هو "دجانغو المحرَّر" لكوانتن تارانتينو ــ في
صالاتنا بدءاً من اليوم. أما الثاني فهو "لينكولن" لستيفن سبيلبرغ (31
الجاري). الغريب أن كلاًّ من الفيلمين يكمل الآخر، من دون ان يكون هناك
اتفاق مسبق بينهما. ذلك ان تارانتينو ينهي فيلمه في المكان الذي يباشر منه
سبيلبرغ طرح رؤيته لتاريخ بلاده. والتاريخ، في جوانبه الغامضة والسجالية،
لا يُمكن الا ان يكون مادة سينمائية ملهمة يجد فيها مخرجون من امثال
تارانتينو وسبيلبرغ ضالتهما. عبر نكء هذا الجرح في الجسد الأميركي السقيم،
شرّع تارانتينو وسبيلبرغ النقاش، مع امكان ان يساهم هذا في إشهار الأسئلة
المثيرة المتعلقة بالحقبة تلك، حقبة قال عنها المخرج الأسود سبايك لي،
مستهجناً: "... كانت عبارة عن هولوكوست وليس فيلم وسترن". طبعاً، كلّ الغضب
الذي ينهال على تارانتينو اليوم يشير الى حجم التابو الذي اسقطه.
"دجانغو المحرَّر" يبدأ في تكساس، جنوب أميركا، قبل سنتين من
اندلاع الحرب الأهلية. صياد الجوائز الدكتور شولتز (كريستوفر والتس) يشتري
الأسير الزنجي دجانغو (جيمي فوكس) من اصحابه، في حركة مسرحية تفتتح الفيلم
الثامن لصاحب "اقتل بيل". مقابل تحريره من اغلاله، يتعين على دجانغو أن
يساعد معلّمه الجديد الرحوم في قتل ثلاثة أشقاء من قطّاع الطرق يطاردهم
شولتز، طمعاً بالمال الذي تدفعه السلطات لمن يأتيها برؤوسهم. بيد أن في بال
دجانغو همّاً آخر: البحث عن حبيبته برومهيلدا (كاري واشنطن) التي اضطر
للانفصال عنها، وكل احلامه تدور مذذاك في فلكها. شولتز ودجانغو سيشكلان
معاً الثنائي الذي يحتاجه تارانتينو لينطلق في "وسترن" غرائبي، صعوداً
ونزولاً على امتداد اراضي الجنوب الشاسعة والقاحلة. وسترن فيه توقٌ إلى
الحرية وبحث عن العدالة وفق المفهوم الانتقامي للكلمة. بعد النازية في
اربعينات القرن الماضي في "سفلة مجهولون"، هاكم الاستعباد في اميركا القرن
التاسع عشر!
لا حاجة للقول ان كل شيء سيكون وفق ذائقة تارانتينو، عاشق الأفلام
المشغولة بعجل. هذا الذي يؤلّه سيرجيو ليوني، والـ"سلاشرز"، والسينما
المعروفة بـ"استغلال السود" وأفلام الحركة والكونغ فو. نعم، كل شيء عنده
عالق في ذلك الهاجس الذي لا يقهر، فيلماً بعد فيلم، عاماً بعد عام. عبر
استعارة قليل من كل شيء، انجز تارانتينو فيلماً هجيناً، يقفز فيه الشريط
الصوتي من انيو موريكوني الى موسيقى الهيب هوب فلحن "فريدوم" لريتشي هافنز،
حدّ اننا نكاد ننسى ان المسألة هي واحدة من أكثر المسائل جدية: العبودية في
الولايات المتحدة. هذه الجدية ستبقى حكراً على دجانغو. مع التذكير بأنه لا
يمكن الاعتماد على نظرة تارانتينو كرواية رسمية للعبودية في اميركا. نحن
هنا في عمق الباروديا.
الطرافة التارانتينية في الجزء الأول من الفيلم يعود فيها الفضل الى
اداء كريستوفر والتس في دور شولتز. فلنقلها من دون تردد: والتس حضورٌ
أوروبيّ ثقافويّ في مواجهة زمرة من البرابرة الأميركيين والهمج الجنوبيين.
شولتز رجل أنيق يدرك مَن هو موزار ويعرف ان ثمة دماًَ أسود يجري في عروق
الكاتب ألكسندر دوما (صاحب أشهر رواية انتقام ــ "مونتي كريستو"). نمسوية
والتس تخرج من مسامات جلده واطراف شاربيه وبؤبؤ عينيه، خصوصاً في كل لحظة
يشدّ فيها على الحرف الأخير من كل كلمة، بعد لحظة تلكؤ ما. هذا الممثل يحمل
الفيلم على كتفيه، يعقمه ويجعل منه مادة قابلة للاستهلاك. انه سيناريست
الفيلم ومخرجه، والشخصية التي تتأبط ما كان يسمّيه هيتشكوك بالـ"ماك غوفين".
اذ ان دجانغو، هذا العبد الذي سيمتطي حصاناً ليرافق شولتز، سرعان ما سيكون
محلّ استغراب عند الأميركيين البيض، ليتجسد، في نهاية الجولة، السؤال كله
في الآتي: ماذا يريد شولتز من هذا الزنجي ليضعه في مرتبة الرجل الحرّ؟
المهمومون بهذا السؤال لا يعرفون ما نعرفه كمشاهدين او ما نريد أن نقتنع به:
شولتز معحب بدجانغو مذ عرف ان حبيبته تتكلم الألمانية. سنراه في ما بعد،
يشيّد أسطورة حول الجرمانية تلك. فجأة يعود الينا بالزيّ الوهمي للنازي
الذي اضطلع بدوره في "سفلة مجهولون"...
كنا نتوقع فيلماً تحية لسرجيو ليوني، فوجدنا أنفسنا امام عمل أقرب الى
اسلوب فرانكو نيرو وسام بكينباه وكلاسيكيته البديعة (الحكاية تتبع سرداً
خطياً لدى تارانتينو هذه المرة) مع احالات سينيفيلية على نوعية درجت في
السبعينات. هناك مشهدية مؤسلبة، عنف يصبح جزءاً من ادبيات الصورة
وجمالياتها، نصّ بصري يعمل وفق منطق الاحتقان/ التفريغ الى حين وصولنا الى
الانفجار الشامل. طوال الفيلم، سيتعامل تارانتينو مع شخصياته بجدية منقوصة،
جاعلاً منها ابطال الحكايات المتسلسلة (BD).
حيناً يغيظنا فنشعر بالخزي، وحيناً آخر نخدر العاطفة لننجرف في سيل
اللقطات المتعاقبة تعاقباً جهنمياً.
ثم هناك الاخراج الذي يكاد يكون ممسرحاً في بعض فصول فيلم يبسط سلطته
على 164 دقيقة. لا شيء يأتي دفعة واحدة، بل ينبغي لنا الانتظار كثيراً في
بعض الأحايين للوصول الى لحظة نشوة، لذا يعمل السيناريو وفق نظام تصاعدي
يتبلور ضمن حلقة ايقاعية تتباطأ وتتسارع، بحسب رغبات المخرج، وهي رغبات لها
منطقها الخاص.
هذا فيلم يؤمن بالكلام الأنيق وينتصر للحرية، ولكنه يذعن ايضاً لحقيقة
العالم، الذي لا ضرر من كشفها: كل شيء يولد من العنف، من الوحشية. وهذه
النزعة الى العنف البهيمي لدى تارانتينو، الذي استوعب أفلامه كلها، يجد هنا
حضناً دافئاً، ولكن لا يجد البُعد الطريف الذي كان يلقاه سابقاً. تعرض
العنف لدى تارانتينو الى لطشة شيخوخة وفقد معها ظرافته الأصلية. "دجانغو"
هو عن الحاضر بقدر ما هو عن الماضي. هنا اهميته وهنا جانبه المفخخ. لطشة
الشيخوخة جعلت واحداً من أكثر السينمائيين تأثيراً في الوعي الشبابي أكثر
نضجاً ولكن اقل براءة. أخاله يراقب المشهد الخلاصي في آخر الفيلم وهو ينتظر
من يفكّ قيوده من طموحاته التي لا تتسع لها كل هذه السينما المتوحشة.
hauvick.habechian@annahar.com.lb
¶ Django Unchained
ــ يُعرض حالياً في الصالات اللبنانية (التفاصيل في الصفحة ما قبل
الأخيرة). نال جائزة أفضل سيناريو (تارانتينو) وافضل ممثل في دور ثانوي
(والتس) في حفل "الكرة الذهبية"، وهو مرشح لخمس جوائز "أوسكار". ستعلن
النتائج في 24 شباط المقبل.
...
وسكت غضب ناغيسا أوشيما
غاب الثلثاء الماضي واحد من أشهر السينمائيين في اليابان، إن لم يكن
الأشهر بعد كوروساوا. انه ناغيسا أوشيما الذي مضى بعد اصابته بالتهاب رئوي
وهو في الحادية والثمانين. هذا الرجل الممتلئ غضباً صار رمزاً للموجة
اليابانية الجديدة في الستينات بعدما اتمّ فيلم "حكايات الشباب القاسية"
(1960)، على الرغم من انه، "تبرأ" منها حباً بالاستقلالية. وأياً تكن
الأفلام التي صنعها بعد ذلك، ظل دائماً مخرج "أمبرطورية الحواس"، الشريط
الذي صفع سينما السبعينات، لكونه اقترب الى البورنوغرافيا من دون ان يكون
منها.
ابصرت سينماه في بلد ميزوغوشي وأوزو، لكن المعلّمين لم يمارسا عليه
أيّ تأثير يُذكر. فهو كان أكثر قرباً من التيارات السينمائية الناشئة في
أوروبا. من باريس الى فرصوفيا، دافع عن البعض منها عندما أمسك بالقلم ليكتب
النقد. أما كوروساوا، فكان من المعجبين به، لكن لم يقتفِ خطاه. كان يحتقر
الشيوعية ويعتبر كلّ اشكال التعبير الفني سياسية. يتيم الأب هذا، جاء الى
السينما مصادفةً، بعدما درس الحقوق. فيلمه الأول: "مدينة حبّ وأمل" عن صبي
يموت والده فيضطر الى اعالة افراد اسرته. أوشيما لم يكن بلغ الثلاثين عندما
وقف خلف الكاميرا للمرة الاولى. بعد "حكايات"، أنجز "ليل وضباب في اليابان"
(كتحية الى الآن رينه) عن الغليان في الوسط الطالبي، لكنّ اثر خلاف مع
استديوهات "شوشيكو" المنتجة للفيلم، اضطر اوشيما للانفصال عنها.
انتظر الغرب والعالم السبعينات كي يكتشف اوشيما وأفلامه المعقودة على
اليأس الذي ضرب المجتمع الياباني في مرحلة من المراحل. نتكلم عن افلام من
نوعية "متع الجنس"، الذي يتطرق الى انحلال القيم العائلية والأبوية، أو
"الاحتفال" الذي يباشر من خلاله تعرية راديكالية لبيئة اجتماعية تطغى عليها
سلطة الاسرة. . ولم يتوقف البتة عن مقاربة المجتمع الياباني بعين ناقدة
وغير رحومة أحياناً، خلافاً للتقليد الياباني الذي كان يرتكز دائماً على ان
يلبس المخرج كفاً من مخمل عند معالجة القضايا الكبرى، نظراً إلى القيم
المحافظة السائدة في البلاد. أوشيما لم يبالِ بهذا كله: فكره نيهيليّ، ثوري
تكسرت أحلامه. انه ببساطة، ضد النظم القائمة، اجتماعياً وسياسياً
وأخلاقياً، لكنه لا يعرف سبيلاً للتغيير، الا عبر رسم الاقدار الخائبة
بكاميراه، حيث يشكل الجنس والجريمة عنصري انتقام.
ثم كانت تحفته الخالدة "أمبرطورية الحواس" الذي عُرض في كانّ عام
1976. فيلم بات يقدسه السينيفيليون، وخصوصاً من أجل تلك اللقطات الايروسية
الساحرة التي تنتهي كلها في الاثم والدمّ. من حادث عرضي حصل في الثلاثينات
بطلته خادمة غيشا تخصي عشيقها، يستقي أوشيما قصيدة لن تلقى ترحيب الصالات
الغربية، باستثناء فرنسا، ذلك ان منتج الفيلم أناتول دومان كان فرنسيّ
الجنسية. فرنسا التي سيعود اليها أوشيما بعد عشر سنين، ايّ في عام 1986،
ليصوّر فيها "ماكس حبيبي" مع شارلوت رامبلينغ، عن سيدة بورجوازية وعشيقها
القرد. فيلم "مرفوض" يكلَّل بفشل جماهيري سيترك اثاراً سلبية في نفس
المخرج. بين هذين العملين، يعرج أوشيما في بداية الثمانينات على اندونيسيا
خلال الحرب العالمية الثانية، مقتبساً كتابين اوتوبيوغرافيين للورنس فان
دير بوست، فينتج من هذه العودة الى التاريخ شريط "أسير حرب" ("فوريو")،
وفيه يمنح مغني الروك ديفيد بووي افضل دور له على الشاشة. هذا الفيلم الذي
يصور مجابهة بين سجّان ياباني (الروكستار الياباني ريوشي ساكاماتو) وضابط
بريطاني، يشهد ايضاً بدايات تاكيشي كيتانو في دور الرقيب القاسي.
بعد تعرضه لسكتة دماغية، انقطع أوشيما عن السينما، ليعود بعد عقد ونصف
عقد مع "تابو" (1999)، آخر افلامه. الطبع يغلب التطبع: مرة أخرى يقدم
أوشيما مرافعة استفزازية، اذا غصنا معه في أكاديمية مخصصة للساموراي، أواخر
القرن الماضي، متطرقاً الى المثلية الجنسية المنتشرة لدى هؤلاء. لأوشيما
نحو 23 فيلماً روائياً طويلاً. عن سينماه القاتمة التي شغتله طوال نصف قرن،
قال ذات يوم: "الموضوع الرئيس الذي يتطرق اليه عملي، هو هذا العالم الذي لا
يمكن ان نعيش فيه من دون ان نتحول شخصاً آخر، حيث الحياة ليست ممكنة الا
اذا اصبحنا غير ما نحنا عليه".
"متروبوليس"
يستعيد ألان رينه:
تسعيني في ذروة العطاء والتجريب
هـ. ح.
من 20 الى 30 الجاري، يحتضن مجمع "متروبوليس" استعادة لتسعة من أفلام
الان رينه الروائية الطويلة واثنين من أفلامه الوثائقية، في نشاط يندرج تحت
عنوان "الذاكرة والخيال"، الكلمتين اللتين تختصران السجل الفنيّ للمعلّم
الفرنسي، الذي بلغ الحادية والتسعين.
"يصنع الأفلام لأنه لا يجرؤ على عدم فعل شيء"، قالت مارغريت
دوراس عن ألان رينه ذات يوم. واكب ثلاثة أجيال من السينمائيين الفرنسيين.
تحوّل الى الاخراج من خلال حلم اعتلاء خشبة المسرح. في سنّ مبكرة، ظهرت
عنده رغبتان: مطالعة القصص المصورة ومتابعة السينما. هذا القارئ النهم
والسينفيلي الأكول باشر اتمام أفلام صغيرة بالـ8 ملم، مذ كان في الثالثة
عشرة. منذ بداية مساره، كان رينه يولي اهتماماً خاصاً بالتفاصيل، وكان
موسوساً بها. لا يترك المرء وشأنه الا بعد أن يأخذ منه ما يريد. سيد حرفة
ممتاز، يضع المعرفة التقنية في سبيل صوغ نمط اسلوبي لا يشبه النمط الذي
تبناه أسلافه ولا ذلك الذي تبناه أحفاده.
بعد تجارب غير مرضية في تقمص الأدوار، انجز رينه مجموعة افلام
انطلاقاً من تجارب التشكيليين الكبار: فان غوغ، بيكاسو، غوغان والفنّ
الافريقي الذي عالجه في "التماثيل تموت أيضاً" (الثلثاء 22)، الذي اشترك في
اخراجه مع كريس ماركر. منذ البداية، ظهر عنده ميل واضح للأدب، في مرحلة
كانت الاقتباسات الأدبية سائدة. بعد هذه الرائعة، التي أنبأت بموهبة
استثنائية عند مخرجنا الثلاثيني، خاض رينه تجربة الفيلم الروائي الطويل.
"هيروشيما حبي" (الاثنين 21)، سيأتي في اللحظة التي سيتحول فيها مسار
السينما الفرنسية. في العام نفسه الذي شهد ولادة "الموجة الجديدة"، أي عام
1959، قدّم رينه هذا الفيلم الذي أعدت له السيناريو مارغريت دوراس.
جاء الفيلم مزيجاً من الواقع والخيال وحاز اعترافاً دولياً كبيراً. في
الجزء الأول، هناك لقاء، من خلال توليفة مميزة، بين لقطات توثيقية ومشاهد
اخبارية وتعليق موسيقي وصوتي. كل هذا ينطلق من تيمة "لا، لم تشاهد شيئاً من
هيروشيما". عبر مصير امرأة احبت جندياً مات أمام اعينها، صوّر رينه أشياء
كثيرة: بارات، علب ليل، مطاعم، شقق ومحطة. ثم كرّت سبحة أفلام كبيرة في
الستينات: "السنة الماضية في ماريينباد" (الاربعاء 23)، "مورييل أو زمن
العودة"، "الحرب انتهت"، "بعيداً من فيتنام"، "أحبك أحبك". في "السنة
الماضية..."، استعان بنصّ كبير لأمير "الرواية الجديدة" ألان روب غرييه. في
قصر من القصور ذات الهندسة الباروكية، يجزم رجل بأنه التقى العام الماضي
امرأة متزوجة من رجل "مقلق". أين الحقيقة وأين الوهم في هذا الفيلم
الاستثنائي الذي قلما أنجز مثله في تاريخ السينما؟
على مدار كل هذه السنوات، أبدى رينه اهتماماً كبيراً بتيمة الذاكرة
وتماسك العدائية في المجتمعات. هذه العدائية تقودنا عنده الى نوع من تدمير
ذاتي وانتحار. وتتخذ عنده أشكالاً "اجتماعية": الحرب النووية في
"هيروشيما..." والحرب "العادية" في "مورييل"، من خلال الصراع الجزائري ــ
الفرنسي. هذا كله جعل سينما رينه متفوقة فكرياً وثقافياً على سينما كثر من
معاصريه، هواجسها الحرية وعلم النفس والظروف الثقافية الاجتماعية التي تؤثر
في خيارات الفرد.
لم تبقَ تجربة التعاون بين رينه وسمبرون يتيمة، اذ تولّى الثاني تأليف
"ستافيسكي" عام 1974 (الجمعة 25)، واحد من أفضل أفلامه، مع بلموندو بطلاً.
تطرق نصّ سمبرون الى شخصية المغامر ستافيسكي وتعمق في ابعادها النفسية، ولم
يتوان عن فتح خط مواز بينها وبين إقامة تروتسكي في المرحلة ذاتها في فرنسا
قبل أن يتعرض للطرد. ثم فجأة، عام 1980، قرر رينه المنحى الاختباري المتطرف
في واحد من أكثر افلامه تجريباً: "عمي الأميركي" (السبت 26) مع جيرار
دوبارديو. من خلال الغوص في نظريات لابوري في السلوك البشري، يسعى رينه الى
اثارة الضحك. لابوري يَعتبر الكائن الحيّ "ذاكرة حية"، وقد أجرى تجارب
مختبرية على حيوانات ليثبت اطروحته في ميكانيزمات العدائية. بالنسبة إليه،
سبب الوجود الوحيد هو الوجود نفسه.
عدد المرات الذي ترشح لـ"سيزار" أفضل مخرج بلغ الـ8، نال منها مرتين.
مرة عام 1978 عن "عناية إلهية" ومرة أخرى عام 1994 عن "تدخين/ لا تدخين".
على رغم بلوغه التسعين، لا يهدأ له بال. احزروا ماذا عنون فيلمه الجديد؟:
"لم تشاهدوا شيئاً بعد".
¶
كلّ العروض تجري الساعة 20.00. للمزيد عن جدول
العروض:
www.metropoliscinema.net
"لم
تشاهدوا شيئاً بعد"، سيقول رينه في الافتتاح
انطوان دانتاك يبعث برسالة الى كل الممثلين الذين لعبوا في مسرحيته "أوريديس"
(تأليف جان أنوي) لحضور عرض مصور للمسرحية هذه من تمثيل فرقة "كولومب"
المؤلفة حصرياً من الشباب المبتدئين. مات الرجل، لكن يريد من هؤلاء نوعاً
من وقفة تضامنية معه، من دون ان يعلم أين تذهب به هذه التجربة. هنا، نقطة
اللقاء بين دانتاك ورينه، اذ يبدو ان العملاق الفرنسي لا يعرف تماماً اين
يذهب في اختباراته السينمائية برغم بلوغه الـ91، مستمداً عظمته من العلاقة
التي نسجها طوال مساره بين الكادر والخشبة. طبعاً، نحن أمام واقع ممسرح الى
اقصى حدّ، وفي قلب نص أدبي مزخرف ومتفخم (اسطورة اورفيه وأوريديس سبق أن
ألهمت جان كوكتو)، لكن هذا ليس بالجديد على مخرج "الحرب انتهت". الجديد هنا
يكمن في انه لا يزال على عطشه المزمن في ضرب القديم بالحديث، أو ما يبدو له
أنه حديث. لذلك، أمام كل ابداعاته الكبيرة ولمساتة الصغيرة في نفخ الحياة
داخل عناصر معلبة، ارى ان رينه هو أكثر السينمائيين شباباً في العالم. "لم
تشاهدوا شيئاً بعد"، آخر أفلامه، عُرض في الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ.
النهار اللبنانية في
17/01/2013
أحمد عبد المنعم رمضان*:
أغنية بؤساء غاضبين
كانت ليلة دافئة بشهر يونيو, عندما بات الثوار خلف ما بنوه من سد
يحتمون به بعدما أخترقوا جنازة الجنرال لامارك فى مجموعات , كل من عشرين
شخصا, حيث لا يسمح القانون الفرنسى بحينها باحتشاد أكثر من عشرين شخصا,
اخترقوا الجموع وانتظموا فى صفوف خاضت معارك دامية مع الجنود الفرنسيين,
باتوا ليلتهم خلف المتاريس المقامة من حطام المنازل وبقاياها, وعندما انسدل
ستار الليل ,نام بعضهم وبات البعض منتظرا المد الشعبى . بدأت الشمس فى
السطوع , فوقف أحد قادتهم خافضا سلاحه منهزما وقال لهم بلهجة منكسرة "
الشعب لم يستجب لنا, علينا أن نعود , لقد هزمنا."
أجابه آخر بأن عليهم إكمال ما بدأوه , أن يستمروا بالرحلة لآخرها, لعل
كفاحهم أو موتهم يبثوا فى الشعب من روحهم روح الثورة, تقدم الطفل الأشقر
أمام المتاريس وقادهم لغناء نفس الأغنية التى رددوها فى البار أثناء
تخططيهم ورسمهم لأخر خطوط حلمهم "
Do
you hear the people sing , singing the song of the angry men "...
"هل تسمع غناء الشعب وهو يشدو أغنية الغاضبين؟ هو صوت الشعب الذى لن
يصبح عبدا من جديد. عندما تتناغم ضربات قلبك مع دقات الطبول. ستبدأ حياة
أخرى عندما يأتى الغد الجديد ".
انتهت تلك الانتفاضة التى قادها شباب العمال وأصحاب المحال كسلسلة من
الانتفاضات المستمرة لسنين, انتهت بين ليلة وضحاها –حرفيا- , بعدما شهدت
مواجهة دامية بين ثلاثة آلاف ثائر, وثلاثين ألفا من الجنود.
كانت من عادات فيكتور هوجو, كاتب رواية البؤساء, أن يذهب إلى الحدائق
الباريسية , يحتضن ألوانها الزاهية بينما يكتب أعماله المخلدة , وكذلك كان
بهذا اليوم, الخامس من يونيو 1832, عندما سمع أصوات طلقات الرصاص بسماء
باريس, تسلل خارج الحديقة واندس بين الاشتباكات, أختبأ بأحد الأزقة متابعا
تبادل النيران ومحتميا من الرصاص حتى عاد إلى بيته مع مطلع الفجر بهزيمة
الثوار. كان ذلك قبل أن ينشر روايته عن أحداث هذا اليوم وليلته بعد مايزيد
عن ثلاثين عاما.
عاد العالم بصباح يوم 6 يونيو كما كان عليه بالخامس من يونيو بعدما
سقط 93 قتيلا من الثوار و73 من صفوف الجنود, أنطفأت نيران الغضب بعد هذا
اليوم لستة عشر عاما وعادت باريس إلى هدوء طويل قبل انطلاق ما سمى لاحقا
بالربيع الأوروبى, وشارك فيها فيكتور هوجو نفسه بشكل أكثر فاعلية, وانتهت
انتفاضة 48 فى فرنسا بتتويج نابليون الثالث رئيسا للجمهورية بعد أن حظى
بتأييد شعبى حقيقى وكبير, فأسس نابليون الثالث الجمهورية الفرنسية الثانية
قبل أن ينقلب عليها ويعلن نفسه امبراطورا للبلاد بعد ثلاثة أعوام, استمرت
امبراطورية نابليون الثالث ثمانية عشر عاما حتى سقطت وقامت الجمهورية
الفرنسية الثالثة.
الغريب بالأمر أن انتفاضات الربيع الأوروبى ب 1848 انتهت جميعا
بالفشل.
فيلم (البؤساء )المنقول عن النص المسرحى لرواية فيكتور هوجو يستمر فى
سرد أحداثه باخلاص كبيرإلى النص الروائى الطويل الذى كتب فى 365 فصلا بعدد
أيام السنة, على مدار عما يزيد عن الساعتين والنصف ننتقل فيهم عبر أزمان
وشخصيات وجيلين مختلفين.
يبدأ الفيلم مثله فى ذلك مثل الرواية بمشهد خروج جان فالجان من السجن
بعد تسعة عشر عاما عقوبة اتهامه بسرقة كسرة خبز, حيث يغنى السجناء أثناء
تأديتهم لأعمالهم الشاقة تحت أعين الضابط خافير بنظراته الجامدة, يغنون
بأصواتهم الغاضبة منشدين " أنظر لأسفل وشاهد الشحاذين عند قدميك, أنظر
لأسفل وأظهر بعض الرحمة لو كان بمقدورك, أنظر لأسفل على رفيقك الانسان."
الفيلم الموسيقى الغنائى يتنقل بنا بين عوالم الرومانسية والنضال
والبؤس, دون جملة حوارية واحدة. انتابات بعض الممثلين مبالغات مسرحية فى
الأداء كسمانثا باركس (فى دور ايبونين) أو راسل كرو (خافير) فى مشهد
انتحاره الذى أمتد أكثر مما تحتمل حساسية المشهد. ولكن رغم مسرحية أدائهم,
لم يهرب ايقاع الفيلم من بين يدى المخرج فى ظل أداء متقن بأغلب الأحيان,
وكان المخرج الشاب الفائز بأوسكار 2011 عن فيلمه الرائع (خطاب الملك), توم
هوبر, يتبع بفيلمه الثالث أسلوبا غير معتاد فى تصوير الأفلام الغنائية ,
حيث اعتمد على الغناء الحى للممثلين أثناء التصوير ولم يلجأ لل
playback
كما يحدث بأغلب الأفلام الموسيقية. وكان غرضه أن يتفرغ الممثلين لأداء
دورهم باتقان وأن يندمجوا فى بث احاسيسهم دون انشغال بتحريك شفاهم. كان
الممثلين يضعون سماعات صغيرة بآذانهم كى يتابعوا الموسيقى أثناء غنائهم,
وكذلك قام هوبر بتصوير بعض المشاهد بهاندى كام ( كاميرا محمولة) تاركا
للممثلين حرية الحركة ليعبروا عن احاسيسهم بطلاقة وعفوية, وقد أتت محاولاته
بثمارها, وتألق الممثلين بأدوارهم وبالخصوص هيو جاكمان فى دور جان فالجان,
الذى أبدع غناء وتمثيلا وشكلا, حيث بدا عجوزا منهكا بآخر مشاهد الفيلم. صام
جاكمان ,الذى فقد ما يزيد عن العشر كيلوهات من وزنه من أجل أداء الدور, صام
36 ساعة عن الشرب والسوائل لتبدو عليه علامات العجز والاعياء وقاموا بتصوير
مشاهد موته بأجواء سقيع شديدة مما أرهق صوته وحشرجه أثناء غنائه أغنية
الموت.
مشاهدة فيلم بهذا القدر من الجودة والاتقان والشاعرية هو فعل انسانى
جدا, ومتابعة رحلة أبطاله تبث فى النفس روحا من ثوريتهم . قد ترهقك كثرة
الأغانى ولكنك ستجد نفسك متورطا فى الاستمتاع بها, باستثناء الدقائق الخمسة
عشر الأخيرة التى أتسمت بالمبالغة والإطالة , تمهيدا لمشهد النهاية الكبير,
عندما يتجمع الثوار وموتاهم, وجان فالجان وفانتين بعد موتهما متصدرين
الحشود , ويغنون جميعا بصوت جمعى هادر ببهجة ووهج المنتصرين رغما عن
هزيمتهم أغنيتهم المتكررة عن الشعب الغاضب "
Do
you hear the people sing
? "حاملين أعلام بلادهم والأعلام الحمراء خلف المتاريس التى تسترخى عند
سفحها جثث الجنود, يبشروننا من مثواهم بعالم أفضل قادم وبآمالهم وأحلامهم
التى ستتحقق.
قد تدمع عيناك أثناء هذا المشهد أو ذاك لأنك سترى علاء عبد الهادى
واقفا يغنى معهم, سترى الشيخ عماد عفت فى القسيس الذى يستقبل الشهداء
ويرشدهم إلى الجنة, سترى جيكا واقفا خلف المتاريس, سترى الألتراس فى حماسهم
ومحمد محمود فى جرأتهم, سترى نفسك وانت تختبئ خلف الأسوار, سترى فصلا أصيلا
من حياتك يجسد فى أراض وأزمان مختلفة, وسترى هزيمتهم واستبشارهم بالنصر,
وستحزن وتتفائل بآن واحد.
* روائى مصرى
أسامة الشاذلي يكتب عن فيلم ( أرجوو ) :
تخلى عن
قناعاتك لبعض الوقت
هل تستطيع السينما تغيير قناعات المشاهد الشخصية؟.. سؤال مهم وإجابته
: نعم هي تستطيع ولو حتى لبعض الوقت.
هذا تماماً ما يفعله فيلم ارجوو (
Argo ) في مشاهديه الذين يكرهون السياسة الخارجية
للولايات المتحدة، ويعتبرون وكالة الاستخبارات الأمريكية سي أي إيه أعتى
منظمة داعمة للإرهاب في العالم، كذلك هؤلاء الذين يرفضون استضافة طغاة
العالم الثالث في أي دولة، ويطالبون بتسليمهم لشعوبهم.
يجبرك الفيلم على أن تتعاطف مع المخابرات الأمريكية وعمليتها لتحرير
ستة رهائن فروا من السفارة لمنزل السفير الكندي وظلوا بداخله لمدة 10
اسابيع، قبل أن تقرر وزارة الخارجية بمعاونة المخابرات تنفيذ العملية
"أرجو" لإخراجهم من طهران ومن ثم إيران.
وعلى عكس تلك الأفلام التي تعمل على تمجيد الرموز الأمريكية يعالج
الفيلم موضوعا شديد الإنسانية بناء على قصة واقعية أعطت للفيلم مصداقية
عالية.
*****
يقدم الفيلم بن أفليك كمخرج من طراز خاص، نجح في تقديم القصة بطريقة
معبرة للغاية بداية من الرسوم المتحركة التي تشرح التاريخ الإيراني في
القرن العشرين ثم الانتقال للغضب العارم عند اقتحام السفارة الأمريكية
بواسطة الثوار الغاضبين من استضافة الشاه، من خلال صورة مشوشة ولقطات سريعة
متحركة توحي بالارتباك.
ومن خلال السيناريو الذي كتبه كريس تريو والتي كانت شخصيات المختطفين
سطحية للغاية، نجح طاقم العمل على تجنيب الكراهية للغطرسة الأمريكية، من
خلال تعاطف المشاهد مع مجموعة هاربة من القهر وخائفة من الإعدام، مع حرص
هائل على بث العديد من التفاصيل التاريخية الدقيقة، والتي استعرضها الفيلم
في تتره الختامي مقارنة بالتفاصيل الحقيقية ليؤكد تفوقه - ويستعرض عضلاته
-.
ليعطي بن افليك درساً إخراجيا في كيفية تقديم الأفلام التاريخية
والحرص على ابسط التفاصيل من ملابس وديكورات وحتى ذلك المكياج الرائع الذي
جعل المخطوفين يتشابهون تماما مع الشخصيات الحقيقية، وهو ما لن يؤثر على
المشاهد، لكن سيضع طاقم العمل في حالة تفاعلية تزيد فيها المصداقية.
*****
نعم تعاطفت مع المخابرات الأمريكية لمدة ساعتين هي عمر الفيلم، وصرخت
سعيداً بعبور الطائرة التي تحمل الرهائن الستة المجال الجوي الإيراني، من
خلال فيلم رائع يستحق الفوز بجائزة الجولدن جلوب، لكني أعود فوراً إلى
قناعاتي بعد النهاية، منتظراً الفيلم الذي قررت فيه إيران الرد على هذا
العمل، سعيداً بكشف التعاون الخفي ما بين هوليوود والـ سي أي إيه خلال
أحداث الفيلم.
البداية المصرية في
17/01/2013 |