حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

تناول فيلما سبيلبيرغ وتارانتينو الحقائق نفسها برؤيتين مختلفتين

«لينكولن» و«دجانغو غير المقيّد».. الغناء والسخرية

نديم جرجورة

 

النبش في التاريخ الجماعي قاسم مشترك بين فيلمي «لينكولن» لستيفن سبيلبيرغ و«دجانغو غير المقيّد» لكوانتن تارانتينو. النبش في التاريخ الجماعي من خلال الفرد. التشابه بينهما كامنٌ في المادة الدرامية المختارة، المتمثّلة بحقبة مريرة في التاريخ الأميركي. الحقبة نفسها: بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر. الحكاية نفسها: العبودية. الفيلم الأول متعلّق بالصراع الدامي الذي خاضه الرئيس الأميركي السادس عشر أبراهام لينكولن ضد الديموقراطيين، تحت عنوان: «التعديل الـ13»، أي إلغاء العبودية. أحداث الفيلم الثاني سابقة لتلك الفترة. حكاية دجانغو فريمان حدثت في العام 1858، أي قبل عامين اثنين على بداية الحرب الأهلية، أو «حرب الانفصال». أي قبل سبعة أعوام على المواجهة الحامية بين لينكولن والديموقراطيين. تلك المواجهة التي أفضت إلى إقرار «إلغاء العبودية»، وأدّت إلى اغتيال أبراهام لينكولن في 15 نيسان 1865.

طريقان مختلفتان

سواء كانت حكاية دجانغو فريمان (جيمي فوكس) حقيقية أم لا، فإن الوقائع التاريخية تُشير إلى أن أبراهام لينكولن (دانيال داي لويس)، بذكائه السياسي وحنكته ومراوغته، نجح في وضع البذرة الأولى التي أينعت لاحقاً. بذرة تحرير الرجل الأبيض من ثقافة إلغاء الآخر، بتحريره الرجل الأسود من عبودية وإذلال وانتقاص من إنسانيته. دجانغو فريمان خاض، بدوره، صراعاً قاسياً من أجل انتزاع حريته والإقرار بآدميته. لكن الطريقين مختلفتان. وأيضاً أسلوبي المعالجة. لينكولن مقتنع بأن إلغاء العبودية درب إلى إنهاء الحرب الأهلية. مقتنع بأن هذا الإلغاء امتياز يُنقّي البلد والمجتمع من أدران الصراع الدموي العنيف. دجانغو فريمان أراد، في رحلة التطهّر الفظيع التي سلكها برفقة الدكتور كينغ شولتز (كريستوفر والتز)، انتصاراً فردياً، قد يكون تمهيداً للانتصار الجماعي.

الطريقان المعتمدتان في تشريع إلغاء العبودية مختلفتان، بل في مقاربة مسألة الإلغاء تلك، بل في معاينة الحالة الإنسانية العامّة في ظلّ العبودية. ستيفن سبيلبيرغ جدّي في تناوله المسألة. مفتون هو بشخصية الرئيس الأميركي السادس عشر: «في العمق، إنه هوسي الأقدم» (المجلة الأسبوعية الفرنسية «لو بوان»، 24 كانون الثاني 2013). مهووس بجرأته وبراعته واحتياله: «افتتح الإمكانيات كلّها في بلدنا. لديه تلك المقدرة الرؤيوية التي سمحت لأناس بالمشاركة بتنوير بلد، من دون التوقّف عند الأصول أو الطبقات أو اللون» (المجلة الأسبوعية الفرنسية «لو نوفيل أوبسرفاتور»، 24 كانون الثاني 2013). أراد رسم صورة عن حقبة، بمتابعته وقائع حدثت. كوانتن تارانتينو ساخر. مفتون هو بجعل السخرية لعبة سينمائية ممتازة. مهووس بالعنف: «بالنسبة إليّ، يبقى الـ«وسترن» الأقصى أفلام سيرجيو كوربوتشي. أبداً، حتى تلك الفترة، لم نشاهد هذا الكمّ من العنف، من الوحشية، من غير الواقعية أيضاً في بعض الأحيان» (المجلة السينمائية الشهرية الفرنسية «استديو سيني لايف»، كانون الثاني 2013). بارع في التفنّن بتصويره. ساحر بتصميم الكوريغرافيا الخاصّة به. مشاهد العنف عنده مثيرة للضحك أحياناً، لشدّة كاريكاتوريتها. أو لشدّة جمالها البصري. أو لشدّة لاواقعيتها الساحرة. لا أعني أن تارانتينو يسخر من مسألة العبودية. «دجانغو غير المقيّد» دليل على موقف مناهض للعبودية، أو ربما لم يشأ المخرج شيئاً من هذا القبيل. صوّر الرجل الأبيض «حقيراً» في تعاطيه مع الـ«عبد» الأسود. صوّر «عبيداً» سوداً «حقراء» في تعاطيهم مع بعضهم البعض. في قبولهم انسحاقاً أمام الرجل الأبيض. يُمكن القول أيضاً إن كوانتن تارانتينو لم يهتمّ بمسألة العبودية بحدّ ذاتها. لم يتناولها كمسألة سياسية أو قانونية أو اجتماعية، كما فعل ستيفن سبيلبيرغ. يُمكن القول إن تارانتينو تعاطى مع العبودية كمسألة أخلاقية، إلى جانب معالجته مسائل أخرى: صيد الجوائز. الحبّ. السلطة. الخديعة... واضعاً إياها كلّها في إطار أفلام رعاة البقر.

مقاربة أخلاقية

المقاربة الأخلاقية لسؤال العبودية مطروحة في «لينكولن» أيضاً. الرئيس الساعي إلى إقرار التعديل الـ13 لم يكن مثالياً في حربه ضد الديموقراطيين الرافضين إلغاء كهذا. الجانب الأخلاقي موجود في طرحه. لكن جوانب أخرى بدت أكثر إلحاحاً عليه: السياسة، بمعناها القذر أيضاً. الصراع على السلطة داخل الحزب الجمهوري. المناكفة. استخدم أبراهام لينكولن أدوات العمل السياسي لبلوغ مقصده. رشا نواباً، بالمال او بإغراء الحصول على مناصب سياسية. مارس الخديعة. أراد إنهاء الحرب الأهلية أيضاً. هذه تُحسب له. أراد إلغاء العبودية في فترة حكمه. هذا امتياز مرتبط باسمه لغاية اليوم. المجلة الأسبوعية الفرنسية «لو نوفيل أوبسرفاتور» (العدد السابق نفسه)، عنونت حواراً أجراه فرانسوا فوريستييه مع سبيلبيرغ بـ«من دون لينكولن لا وجود لأوباما». انبهار سبيلبيرغ بهذه الشخصية لم يمنعه من قول أشياء عديدة مستلّة من حقائق الأمور. أشياء سلبية، لم تقف حائلاً دون اشتغال سينمائي بديع. التصوير من توقيع يانوس كامينسكي، أحد أبدع المصوّرين السينمائيين. مدير التصوير روبرت ريتشاردسون لم يكن أقلّ أهمية في تصويره «دجانغو غير المقيّد». التصوير أساسي في الفيلمين. الرمادي والمعتم يغلبان على «لينكولن». الأصفر أو الفاتح أكثر حضوراً في «دجانغو غير المقيّد». لعلّ النَفَس المعتمد ركيزة اختيار الألوان. النَفَس السينمائي في «لينكولن» متمثّل بالسياسة وحبائلها، وبالعبودية ووحشيتها، وبالحرب ودمويتها. النَفَس المسيطر على «دجانغو غير المقيّد» مائل إلى السخرية وبراعتها، وإلى العنف وجمالياته.

المقارنة النقدية جائزة بين الفيلمين، على مستوى التمثيل أيضاً. تفوّق كريستوفر والتس في تأدية دور الدكتور كينغ شولتز على دانيال داي لويس في ارتدائه جسد أبراهام لينكولن وروحه. بدا والتس «شخصية سينمائية بمفهوم تارانتينو». بدا متمكّناً من قوة السخرية في النص السينمائي لـ«دجانغو غير المقيّد». بدا مساويا لتلك البراعة في امتلاك خاصيّة الرجل المتحرّر من كل حسّ أخلاقي (صائد جوائز)، والممتلك دائماً حسّاً إنسانياً في لحظات مصيرية، وإن دفع حياته ثمناً لهذا. دانيال داي لويس لم يكن في ذروة إبداعه، على نقيض ما جاء في كتابات نقدية فرنسية. بدا ممثلاً رائعاً. هذا طبيعي. لكن، هناك «شي» ناقص. المسار الذي عاشه دانيال بلانفيو (داي لويس) في «ستكون هناك دماء» (2007) لبول توماس أندرسن مثلاً، انتهى في واحد من أقوى أنواع الأداء التمثيلي وأجملها، في لحظة المواجهة الأخيرة مع الكذب الديني. المسار الذي عاشه أبراهام لينكولن بدا مقيّداً بالسياسة ومخاطر الحرب والصراع العقائدي والثقافي والأخلاقي. لكنه لم يُتح لدانيال داي لويس فرصة بلوغ ذروة الأداء في مواجهته معارضيه، وإن قدّم لحظات تجلّى فيها إحساسه العميق بمعنى التمثيل الباهر.

فيلمان من حقبة واحدة تميّزا بتلك الحساسية الإبداعية في صنع جمال الصورة السينمائية.

«لينكولن»: صالات «سينما سيتي» (الدورة) و«أمبير دون» (فردان) و«إسباس» (الزوق) و«غالاكسي» (بولفار كميل شمعون) و«غراند أ ب ث الأشرفية» و«غراند أ ب ث ضبيه» و«سينمول ضبيه» و«ستارغايت» (زحلة)

«دجانغو غير المقيّد»: صالات «سينما سيتي» (الدورة) و«غراند أ ب ث الأشرفية» و«غراند أ ب ث ضبيه» و«غراند كونكورد» (فردان) و«أبراج» (فرن الشباك) و«سينمول» (ضبيه)

كلاكيت

التعديل الـ13

نديم جرجورة

خاض أبراهام لينكولن حرباً طاحنة ضد متزمّتين في السياسة والأخلاق والثقافة، من أجل إقرار التعديل الـ13 (إلغاء العبودية). خاض حرباً ضد إقطاع سياسي، وتخلّف ثقافي، وتحجّر ديني، وتزمّت فكري. هذا كلّه من أجل حرية أناس قهرهم الذلّ في واحد من أبشع فصول التاريخ البشريّ. أراد تحرير الإنسان الأسود من عبوديته للرجل الأبيض. الأسباب كثيرة. هناك الشخصيّ البحت، إلى جانب المشهد العام. لكن ما فعله أبراهام لينكولن شكّل خطوة أساسية في الطريق الطويلة والصعبة والقاسية باتجاه الحرية.

لا أستطيع فصل هذه الصورة عما يحدث في هذا اللبنان البغيض الآن. معركة الزواج المدني وحقّ المرأة بمنح جنسيتها لزوجها الأجنبي ولأولادهما لا تقلّ أهمية وخطورة عن معركة إلغاء العبودية. رفض إقرار الزواج المدني عبودية من نوع آخر، مفروضة على الفرد اللبناني، وحقّه في اختيار شكل الحياة ونمطها. رفض حقّ المرأة بمنح جنسيتها لزوجها الأجنبي ولأولادهما عبودية لا تقلّ خطورة عما عاناه «عبيد» ذاك التاريخ المرير في «الغرب الأميركي المتوحش». الصراع الذي خاضه أبراهام لينكولن يُشبه الصراع الذي خاضه ويخوضه لبنانيون يريدون تحرير الفرد من عبودية أنظمة طائفية مدمِّرة. يريدون تحرير المجتمع من عبودية السطو العقائدي على الحقّ الفرديّ في الاختيار والعيش والتواصل مع الآخر. يريدون الفكاك من سلطة القبيلة الضيّقة.

الإقامة في ظلّ أنظمة الطوائف اللبنانية عبودية تسحق الفرد، محوّلة إياه إلى رقم في قطيع. مواجهة هذه العبودية محتاجة إلى قادة تاريخيين يُشبهون أبراهام لينكولن على مستوى السياسة. مواجهة هذه العبودية فعل حاصل في بلد نخره السوس والعفن. التزمّت «الديموقراطي» في زمن أبراهام لينكولن هو نفسه التزمّت المسيطر على مؤسّسات دولة منهارة، وطوائف خاضعة لمصالحها الضيّقة، أو لمصالح بعض أسيادها. العنف المستخدَم في مساعي «ديموقراطيي» زمن أبراهام لينكولن إلى منع إلغاء العبودية، مُساو للعنف الكلامي الخطر، المستخدَم في التعاطي مع مسألتي الزواج المدني وحقّ المرأة بمنح جنسيتها لزوجها الأجنبي ولأولادهما. في زمن أبراهام لينكولن، فشل الـ«ديموقراطيون» في منع إقرار التعديل الـ13، و«نجحوا»(!) في تأخير تحقيقه نحو مئة عام. لكن، في ذاك الزمن، كان هناك رجلٌ يُدعى أبراهام لينكولن. وضع بذرة أثمرت، وإن بعد حين طويل. في بلد بغيض اسمه لبنان، التقت مصالح الأطراف المتناحرة ضد بعضها البعض في رفض كل ما يُحرّر البلد وناسه من عبودية الطغيان الطائفي والسياسي والثقافي. لكن، في بلد بغيض اسمه لبنان، لا وجود لأبراهام لينكولن، وإن تنطّح بعضٌ قليل من سياسييه مدافعاً، بلغة مبهمة وملتبسة، عن الزواج المدني. في المقابل، هناك وجود حقيقي لأناس مدركين أن لا فرار من «درب جلجلة»، وأن نهاية هذا الدرب قيامة حقّ، وإن طال الزمن.

شيء من المثالية؟ ربما. لكن المعركة تتبلور، شيئاً فشيئاً، في اتجاهها الصحيح.

المهرجان الوطني في طنجة للفيلم المغربي

علي البزّاز (طنجة) 

يقترن «المهرجان الوطني» في طنجة بالفيلم المغربي حصرياً، الطويل والقصير، ويقوم بجردة سنوية للمنجز السينمائي، الذي يشهد تطوّراً من ناحية التقنيات والتيمات، تناقش أحياناً المجتمع بوصفه معطىً ثقافياً يجمع الجيد والرديء، القدامة والحداثة. يُعرض الجهد السينمائي المغربي أمام الجمهور والمعنيين في فترة زمنية وجيزة، لكنها تُلخّص نتاجَ عام كامل، ما يساهم في تكوين فكرة شاملة وموضوعية حول صناعة السينما، بالإضافة إلى تشجيع نقاشات وتغطيات صحافية أثناء المهرجان. يشترك في الدورة الـ14 (1 ـ 8 شباط 2013) 35 فيلماً: 21 طويلاً، و14 قصيراً. لا يمثّل العدد هذا إلاّ ما هو منجز وصالح للعرض، إذ تشكلّت لجنة برئاسة المخرجة نرجس النجّار لانتقاء الأفلام القصيرة الـ14 من بين 50 فيلماً. الأفلام غير المنجزة قبل موعد المهرجان كثيرة، لذا يتعذّر عرضها أو خوضها مرحلة التصفيات. الأمر الذي يشهد على ضخامة المنجز السينمائي المغربي، مقارنة بالعديد من الدول العربية والأفريقية. يكرِّم المهرجان، بحسب نشرته، فن التمثيل، فيحتفل بالممثّلة عائشة ماه ماه والممثّلَين محمد بنبراهيم وعبد الله العمراني، ويتذكّر بعض الأسماء التي رحلت. هكذا، تُعرض يوم الافتتاح مشاهد من فيلم وثائقي لا يزال في مرحلة الإنجاز للمخرج علي الصافي، يتناول حياة الفقيدين الشاعر والمخرج أحمد البوعناني وزوجته نعيمة سعودي.

اللافت للانتباه أن التكريم حاضرٌ في جُلّ المهرجانات المغربية، السينمائية أو الشعرية أو السردية. للمرّة الثانية، ينتهز مهرجان الـ«فيسباكو» (من أشهر المهرجانات السينمائية الأفريقية، التي تُقام مرّة واحدة في كلّ سنتين، وهو تأسّس في العام 1969) فرصة انطلاق الدورة الـ14 هذه، ليعلن عن بدء فعالياته في شهر شباط نفسه. تجدر الإشارة إلى أن الدورة الـ14 للمهرجان الوطني تأجّلت أسبوعاً كاملاً بسبب الاحتفال بعيد المولد النبوي، ما كان سيُعيق دعوة عدد كبير من الضيوف، بحسب ما ذكرته إدارة المهرجان، في حال تنظيمه في موعده السابق.

يُذكر أن لجنتي تحكيم الفيلم الطويل والقصير مؤلّفة من مغاربة وعرب وأجانب: السيناريست والمخرج والمنتج الفرنسي جاك دورفمان يترأس لجنة تحكيم الأفلام الطويلة، التي تضمّ لالي هوفمان (صحافية وناقدة سينمائية) وغيثة الخياط (كاتبة وفنانة) وتانيا خالي (مسؤولة البرامج في مجموعة «فرانس تلفزيون») والمخرجين عبد القادر لقطع وناصر القطاري والكاتب رشيد ابن الزين. أما لجنة تحكيم الأفلام القصيرة، فيترأّسها أحمد خشيش (وزير سابق)، وتضمّ سالي شافتو (مؤرّخة وناقدة سينمائية) والممثلة لطيفة أحرار والمخرجة مريم التوزاني والباحث الجامعي خالد السلمي.

السفير اللبنانية في

31/01/2013

 

لينكولن يحرر أميركا ويسقط في كآبة سبيلبرغ

هوفيك حبشيان  

قد يبقى المشاهد مسكوناً بـ"لينكولن" ساعات طويلة بعد خروجه من الصالة. فنحن أمام فيلم استثنائي يعيد ترتيب مكانة ستيفن سبيلبرغ في كنف السينما الأميركية، وهي مكانة كان قد خسرها أحياناً جراء خوضه مغامرات لم تدفع بمساره الى الأمام. فسبيلبرغ قاصٌّ كبير يعانق التاريخ والانسانية والعواطف الكبيرة في لقطة واحدة. ودائماً في خلفية الصورة طيف جبابرة مثل جون فورد وسيسيل ب دوميل. مع هذه الملحمة، يدق مسماراً عميقاً في نعش الرجل ــ الاسطورة، ابراهام لينكولن (دانيال داي لويس)، الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة. "لينكولن" اقتباس حرّ جداً لـ"فريق من الخصوم" للمؤرخة الأميركية دوريس كيرنز غوودوين.

لا يكتفي سبيلبرغ بإعداد درس في التاريخ يرتقي به الى مصاف الكلاسيكيين الكبار (مشهد المونتاج الموازي والقفزات بين التصويت على التعديل الدستوري ولينكولن في مكتبه)، ومنهم فورد الذي سبق أن صوّر لينكولن في مرحلة عمرية أخرى في "مستر لينكولن اليافع" (1939). اذاً، لا يكتفي بقول كلمته في التاريخ انطلاقاً من ايقونة صنعت جزءاً من عصرنا الحالي، انما يأتينا بدرس في كيف يمكن المخرج أن يقتصد في الموارد السينمائية كافة ليشيد أولوياته على قاعدة التكثيف، غارقاً في المنمنمات وتفاصيل آلية الحكم، ومهملاً كل ما ليس على علاقة مباشرة بالقضية التي ينبشها. هذا أكثر ما يثير الاعجاب في الفيلم: النحو المقتصد الذي يعمل به سبيلبرغ، فلا يلجأ الى التفخيم والتنقيح البصري وضخ العواطف (الا نادراً). محض دراسة موثقة لاجراءات التغيير، وتفاصيل المعركة الطاحنة التي قادها لينكولن لتحرير بلاده من العبودية ودخول القرن العشرين والتحول الى رمز وطني شامل، حاول أكثر من رئيس أميركي الامتثال به وبمبادئه.

يقول سبيلبرغ من جملة ما يقوله، إن التغيير لا يأتي الا بالتمرد على الطاعة، وكسر الثبات والتحلي بإرادة عظيمة تجعلنا نقف امام مجرى التاريخ. فالانتهاك وفق نظرته لا يجعل الانسان اقل انسانية. ولا يغفل الفيلم ايضاً ان الأساليب ليست دائماً ارثوذكسية في الصراع نحو التحرر. كما ان اللجوء الى الرشوة والابتزاز ضروري احياناً. الأهم ان هذا كله ينسجم مع السياق الفكري الذي وضع فيه سبيلبرغ معظم افلامه: ماذا لو كان لينكولن، الأب الغائب وغير القادر (تيمة سبيلبرغية) اي تي التاريخ الأميركي؟ الاستثناء السياسي؟ الرئيس الضال؟ نسأل هذا اذ نجهل تماماً وجهة النظر التي يعتمدها سبيلبرغ في تصويره للأشهر الأربعة الأخيرة للينكولن قبل اغتياله. اليكم فيلماً لا يرفع الشخصية الى مصاف الآلهة والأساطير، بل يفاجئنا برجل يكاد يتماهى مع الديكور والشخصيات والظروف التي من حوله. يسعى لهدف ويصل اليه.

ديفيد ورك غريفيث ليس غائباً ايضاً عن أرض المعركة، خصوصاً في لقطات الحرب الأهلية. لقطات اختار سبيلبرغ أن تكون مقتضبة وسريعة، أيٌّ منها غير مرشحة ان تبقى عالقة في الذاكرة، نظراً لأهمية القضية المطروحة، والعودة الدائمة والمكررة الى الدواخل، حيث الحوارات والتشنجات والمتاريس السياسية التي ترتفع بين الديموقراطيين والجمهوريين، في حين طبول الحرب الأهلية (1861 ــ 1865)، تقرع بعيداً من البيت الأبيض. وسط هذه الأجواء المشحونة بالحقد على الأفارقة الأميركيين، وفي ظل صعود التوتر بين المعسكرين السياسيين، يتعهد لينكولن اسقاط الرقّ. لكن، من أجل الوصول الى هذا، عليه وعلى فريقه المناصر له، أن يقنعا الجمهوريين المترددين والديموقراطيين المتمسكين بالعبودية. وينبغي له تالياً، جمع ثلثي الأصوات لالغاء الرقّ من الدستور الأميركي. الشريط برمته هو الصراع الذي حمل الكونغرس الأميركي الى التصويت على التعديل الثالث عشر الذي جعل التحرر من العبودية شاملاً ودائماً. لينكولن وحّد أميركا وسارع في وقف نزيف الحرب الأهلية.

لعل الكآبة التي تسيطر على بعض مفاصل الشريط متأتية من كون سبيلبرغ يعرف أن ما يصوره ليس فعلاً مكتملاً. الدليل، التصفية الجسدية التي يتعرض لها لينكولن (خارج اطار الشاشة) في نهاية رحلته. ولولا تركته العظيمة، او انجازه الذي دفع ثمنه من لحمه الحيّ، لكان من الممكن القول ان كلمته خسرت أمام كلمة السلاح.

غريبٌ أمر سبيلبرغ في هذا الفيلم: فهو مخلص لتاريخه السينمائي ولبعض من أجوائه وموسيقاه (وماذا سبيلبرغ من دون المؤلف جون وليامز؟)، لكنه في الوقت نفسه لا يسمح للغنائية بأن تكون صنو الفيلم. علماً ان هناك عناصر عدة على أتم استعداد أو جهوزية لذلك. نادراً ما نرى قلة الايمان بالبطولة تتربع على عرش فيلم هوليوودي. صحيح ان سبيلبرغ لا يزال يصوّر العلم المرصع بالنجوم بامتنان عالٍ، لكن منذ "انقاذ الجندي راين" أشياء كثيرة تغيرت في عمق نظرته الى هذا العلم، أشياء لا نعرف كيف نصفها، وربما لا تحتاج الى وصف. لكن "الحلم الأميركي" لم يعد ملك القلب فقط، بل هجره الى العقل. واذا قال سكورسيزي في اميركا ذات مرة انها ولدت في الشوارع (في اشارة الى العصابات المتناحرة في نيويورك)، فأميركا سبيلبرغ مخاضها ليس أكثر عذوبة: فهذا المخاض يحتاج الى الكثير من الايمان. والايمان عنفٌ.

لم يكن من الممكن انجاز "لينكولن"، من دون هذا الذي اسمه دانيال داي لويس. يقولها سبيلبرغ بصراحة أمام العلن. داي لويس يتجاوز نفسه هنا. تمثيله نوع من انتفاضة على فعل التجسيد الكلاسيكي للشخصية. تكفي رؤيته وهو يتنقل في اروقة البيت الابيض، بالمشية التي تميزه عن الف رجل آخر، وهو في معظم وقته، منحني الظهر قليلاً صوب الأمام. سبيلبرغ يضيّق عليه المساحات. احساس بالضيق يخرج من الفيلم، كأن المكان لا يتسع له. الأهم ان داي لويس ينسينا مَن هو، وينسلّ تماماً في جلد لينكولن، كأنه لم يكن يوماً الجزّار المخبول في "عصابات نيويورك". نحن هنا أمام رجل هادئ، ذي غضب مدروس، يفعل المستحيل كي يستخرج من خصمه ما لا يتوقعه احد. الى جانب داي لويس، دعونا لا ننسى ايضاً طومي لي جونز في دور الجمهوري ستيفانز، وسالي فيلد في دور زوجة لينكولن، الشخصية الأكثر شكسبيرية في الفيلم.

Lincoln ـــ يُعرض حالياً في الصالات اللبنانية (التفاصيل في الصفحة ما قبل الأخيرة). نال نحو 25 جائزة الى الآن، وهو مرشح لـ12 جائزة "أوسكار"، منها أفضل فيلم، ومخرج، وممثل (داي لويس، جونز، فيلد). تعلن النتائج في 24 شباط المقبل.

hauvick.habechian@annahar.com.lb

برونو دومون في المركز الثقافي الفرنسي

يبدأ اليوم في صالة "مونتين" (المركز الثقافي الفرنسي) الساعة السابعة مساء، عرض أول فيلم من اصل ثلاثة عروض مهداة إلى المخرج الفرنسي الاشكالي برونو دومون (1958)، في اطار النشاط الشهري الذي ينظمه المخرج جورج هاشم بالتعاون مع جامعة الانطونية. تنطلق هذه السلسلة بـ"حياة المسيح" (1997): شريط راديكالي يمضي بنا الى الشر العادي المتغلغل في كائن عنصري. يواجه دومون الشخصية التي يصورها بقلق وجودي عميق، مسقطاً عنها كل الأقنعة، لكن من دون ان يمنحها ولو للحظة أسباباً تخفيفية. هنا ثلاثة أسئلة وجهتها "النهار" لدومون يوم التقته.

·        ¶ تصور دائماً خارج باريس، تحبّ ان تضع كاميراتك في القرى والضواحي...

- نعم. في هذه الأمكنة، أجد الأرض الخصبة لحكاياتي. هذه امكنة فيها الكثير من الاسلام والعرب. الذين يتعذبون اليوم في فرنسا ليسوا البيض، بل الذين على هامش المجتمع الفرنسي. افلامي استعارات. لا تنطوي على اي مضمون سوسيولوجي. أفلامي خاطئة وسوريالية من البداية حتى النهاية. هذا يعني ان لا معنى لها من وجهة نظر اجتماعية. هناك دعوة الى حقيقة روحانية ما. لكن كدراسة اجتماعية، أفلامي لا تساوي شيئاً. لذا لا ادعي أنني انقل بأمانة عالية وبدقة واقع الضواحي او القرى التي أصورها. السينما التي أصنعها قائمة على الرموز. لا اصنع سينما أفكار، بل سينما حسية تصلك من خلال حضور الطبيعة والأجساد والأصوات. هذا يوصل المُشاهد حتماً الى ان تتكون عنده أفكار معينة. لكن يجب الا يعتمد عليَّ لأقول له تلك الأفكار.

·     ¶ غالباً ما تختار الممثلين من غير المحترفين. هل ترتاح في العمل وأياهم أكثر مما تفعله مع غيرهم؟

- أحبّ أن أستعين بممثل "نكرة" وأعمل معه. الجانب الاعتيادي للممثلين الذين اختارهم هو الذي يعزز الشخصية التي يلعبونها ويوصلونها الى الجمهور. يتحول الممثل العادي عندي شخصية مميزة، وامتيازه يدين المطلق. اختياري لممثلين غير محترفين يتناسب مع رفضي للمثالية. لا أبني شخصياتي بناء نهائياً. لا بل أبقى منفتحاً أمام كل جديد يحرّف طبعهم خلال التصوير وطبع من يضطلع بالدور. لذا، اعتبر أن كل تغيير يطالني ايضاً. أقول دائماً ان الممثل هو اللون، لكن أنا من احدد درجة قتامة هذا اللون.

·        ¶ الأصولية الدينية تغضبك. وهي شيء تريه في معظم أفلامك وإن تلميحاً...

- ليس في افلامي مطالبة بأي ايمان ما عدا الايمان بالسينما. لأن السينما تتيح لما يخرج عن المألوف أن يقتحم العادي، وتتيح لنا ايضاً ان نلمس الجانب الالهي للانسان. ما يجعل السينما قريبة من الصوفية، هو الآتي: الصوفية تقول لك "انظر الى الأرض لترى السماء". لكن السينما تستطيع فعل ذلك بأدواتها الخاصة وهي ليست بحاجة الى ديانة، أياً تكن تلك الديانة. المثقفون المتعصبون ينجحون في اعطاء تعصبهم دلالات ثقافية وسلسة، لكن أكثر ما يثير خوفي هو تزمت الطبقات الفقيرة والمهمشة والبسطاء من الناس الذين يمكن التلاعب بعقولهم بسهولة. يعتقد الناس ان كلمة قدسية مرتبطة بالدين، لكن هذا غير صحيح. القدسية هي الكمال المعنوي للانسان. هذه مصطلحات حرصت الأديان المنظمة على امتلاكها، والآن حان الوقت كي نسترجعها من جديد (...). الحياة الروحية يمكن أن تتبلور في الاطار الفكري أو الثقافي أو الفني. النعمة يمكن العثور عليها في السينما والأدب والشعر. الروحانية هي محرك الانسان.

فضيحة تهزّ الوسط السينمائي في ألمانيا:

الوحش كلاوس كينسكي لم يمت!

هـ. ح.

اسطورة كبيرة تتهاوى هذه الأيام في ألمانيا، مُحدثةً احراجاً جماعياً في الذاكرة الألمانية وصافعةً الأوساط الثقافية. بولا كينسكي، ابنة الممثل كلاوس كينسكي (1926 ــ 1991) وقد صارت سيدة في الحادية والستين، صرحت في مقابلة مع مجلة "شتيرن" الألمانية بأن والدها داوم على التحرش بها واغتصابها طوال عقد ونصف عقد من الزمن، مذ كانت فتاة صغيرة في سنّ الرابعة الى ان بلغت التاسعة عشرة من العمر. تصريحات بولا التي نُشرت في كتابها الأوتوبيوغرافي "من فم الأطفال" (271 صفحة ــ طُبع منه 50 ألف نسخة)، تلقي بظلالها على سجل كينسكي المشبع بكل أنواع الجنون والممارسات والأعمال الفاحشة. شخصية مستبدة، غضب عارم، تحقير للكبير والصغير، عينان تخرجان من محجريهما. هذا ما كان عليه كينسكي، فنان تسلق سلالم المجد وعاش الفسق والمجون بمختلف أنواعهما.

يكفي ان ندرج اسمه في موقع "يوتيوب"، حتى نبحر في عشرات اللحظات الهستيرية والمشحونة بالغضب التي كان يعرف كينسكي كيف يصنعها، مستقياً اياها من عمق شخصيته الفصامية وغير المتوازنة. شخصية حملت عذابات الحرب العالمية الثانية التي التحق بها جندياً في صفوف الفرماخت، فخرج منها وفي عقله ندوب واضرار جانبية لا تمحى، فحاول الانتحار ثلاث مرات. في مداخلاته، مرة نراه ينسحب من برنامج حواري واصفاً المذيع بأحطّ النعوت، مرة ثانية يعقد مؤتمراً صحافياً في كانّ يتحول الى هرج ومرج واتهامات وهيصات وفوضى. في احد البرامج التلفزيونية، يصارح الجميع بأنه لا يفهم "كيف ان ألمانيا تجرّم اغتصاب القاصرات، فيما فتيات في الحادية عشرة يتزوجن في الشرق الاوسط"! عام 1975، نشر كينسكي مذكراته. روى فيها شغفه بالقاصرات، وممارسته الجنس مع ألف امرأة. حتى امه لم يعف عنها. الى حكايات أخرى تدور على الاغتصاب والاشباع الجسدي بين افخاذ فتيات لم يبلغن الرابعة عشرة. ألمانيا لم تصفِّ حسابها معه يوماً: تفضل التفرج على "ابنها الرهيب" من أن تعاقبه.

لكن اعترافات بولا، التي بدورها خاضت تجربة التمثيل، لا تستطيع ألمانيا ان تغض الطرف عنها. انها قضية رأي عام. فكينسكي من هذه القامات الكبيرة التي رافقت أجيالاً عدة وصاغت ملامح ألمانيا التاريخية والمعاصرة في عشرات الأفلام. هذا الذي كان نجماً في السبعينات، شارك في أكثر من 130 فيلماً (خمسة منها في ادارة صديقه اللدود فيرنير هيرتزوغ)، يؤنب اليوم، بعد مرور 22 سنة على وفاته، ضمير الذين رفعوه الى مصاف العباقرة. كينسكي اربك بلاده مراراً وهو حيّ، وها انه يربكه مجدداً في مماته. كيف تتعامل ألمانيا مع هذا الرمز الذي لم يوفر أحداً من شرّه، أمام الكاميرا وفي الحياة. هل ترفع عنه الحصانة الفنية، فيما العاصمة الألمانية تحتضن بعد اسبوع من الآن مهرجانها السنوي الشهير: البرليناله.

طوال 15 عاماً، اقنع كينسكي ابنته بولا بأن ما يدور بينهما من علاقات جنسية أمرٌ طبيعي يحصل بين كل اب وابنته. المرة الاولى التي اغتصبها والدها كانت في التاسعة من عمرها وكانت ترتدي اللباس الأبيض الخاص بالمناولة الاولى. حجز كينسكي جناحاً فخماً في احد فنادق ميونيخ لهذا الغرض. كان يغمرها بالهدايا ويصطحبها معه الى الأمكنة التي يدعونه اليها؛ مدريد وروما فباريس. كان يطلب منها الا تخبر الآخرين بـ"سرّهما"، خوفاً من أن يُزجّ به في السجن. لم يكن في يد بولا حيلةٌ: حاولت مراراً أن تخبر الكاهن الذي يستمع الى اعترافاتها، لكن خجلها لم يسمح لها بذلك. تعترف اليوم انها كانت تشعر بالقرف في كل مرة يقترب منها أحدهم ليعبر عن اعجابها بوالدها. في التاسعة عشرة، هربت منه وأخبرت أمها عن كل شيء. لكن الأخيرة اختارت الصمت.

ناستازيا كينسكي، الشقيقة الثانية (من أم مختلفة) والأكثر شهرة (51 عاماً)، هي الأخرى كانت ضحية تحرش جنسي من والدها. لكنها كانت أكثر ذكاء اذا كانت تقاومه في كل مرة كان يسندها الى الحائط ويحاول تقبيلها. "كنت اعرف ان هذا أمر غير طبيعي"، تقول الحسناء التي اضطلعت بدور تيس في رائعة رومان بولانسكي، متهم آخر بالتحرش بقاصر. ذهلت ناستازيا عندما قرأت كتاب شقيقتها، وبكت طويلاً على مصيرها. لم تخفِ مشاعرها: "لو كان لا يزال على قيد الحياة، لفعلت المستحيل كي يُزجّ به في السجن. أنا سعيدة لأنه مات".

تروي ناستازيا ايضاً كم كان الجوّ مرعباً في المنزل، اذ لا احد كان يعرف متى ينفجر بركان الغضب الذي في داخل كينسكي، هذا الأب الذي تصفه بالطاغية، المغتصب الذي لا تندم أنه غاب عن هذا العالم ذات شتاء من عام 1991 في كاليفورنيا، جراء سكتة قلبية. الشقيقتان لم تتحملا يوماً رؤية الوحش على الشاشة، لا بل شككتا في عبقريته، كونه "كان يتصرف على الشاشة مثلما كان يتصرف في الحياة".

تقول بولا انها عندما تفكر في والدها، تجتاحها رغبة في التقيؤ. فكيف تكون حال السينيفيلي، قارئ هذه السطور، عندما يشاهد كينسكي بعد الآن، وهو يحاول رفع سفينة على ظهر جبل في "فيتسكارالدو"؟ هل يظل بطلاً في نظره؟

"كليرمون فيران" يقاوم ولبنانية تصوّر زواج المتعة

"النهار" - كليرمون فيران

"كليرمون فيران" ينطلق غداً في فرنسا. المخرج الكندي تيودور أوشيف صمم ملصق هذه الدورة الـ35 التي تستمر الى التاسع من شباط. أوشيف اعتبر المهرجان فعل مقاومة. وهو كذلك: فهذا الحدث الذي يُعتبر بمثابة "مهرجان كانّ للفيلم القصير"، يأتي بمئات السينمائيين والسينيفيليين والمهمومين بالفيلم القصير الى مدينة معروفة بيساريتها ذات الغالبية من الشباب. منذ الساعة العاشرة صباحاً، تبدأ العروض وتتواصل حتى منتصف الليل. الصالات دوماً مكتظة. الجو حميميّ في مقر المهرجان. الطقس بارد في هذه المرحلة من السنة، ما يدفع الناس الى الاحتماء بالأفلام وشراراتها. "النهار" غطّت المهرجان منذ عام 2008، ما اتاح لنا أن نكتشف جواهر صغيرة توازي أهم الأفلام الطويلة فناً ورقياً، إن لم تتجاوزها في احايين كثيرة.

المسابقات في المهرجان لم تلد كلها منذ الدورة الاولى. فالمسابقة المخصصة للأفلام الوطنية (الفيلم القصير الفرنسي) عمرها من عمر المهرجان. في حين ادرجت المسابقة الدولية الى المهرجان قبل 25 عاماً، أي بعد عشر سنين من انطلاق المهرجان بإمكانات متواضعة جداً. هناك ايضاً ما بات يُعرف بـ"اللابو" (خانة الأفلام التجريبية)، الذي يبلغ في هذه الدورة عامه الثاني عشر.

هذه السنة، تلقت ادارة المهرجان 7737 فيلماً من 123 بلداً. معدل طول الأفلام التي ارسلت بلغ 13 دقيقة، 60 في المئة منها هي افلام روائية، وفقط 11 في المئة تجريبية. اللافت ان خمسة في المئة فقط من الأفلام هذه صُوّرت بشريط سينمائي تقليدي، في حين ان 95 في المئة منها، اي السواد الأعظم، التُقطت مشاهدها بالفيديو. في النهاية، استقر خيار المهرجان على 240 فيلماً (77 في المسابقة الدولية، 30 في اللابو، 63 في القسم الوطني، و70 في مختلف الأقسام). أما سوق الفيلم فاستقبلت هذا العام 7321 فيلماً.

هناك أفلام من ألمانيا وبلجيكا والبرازيل وكوريا الجنوبية، واسرائيل، وكينيا، وأوكرانيا وتركيا، الخ. من المنطقة العربية، هناك ثلاثة أفلام: "يوم عادي" لبهية علواش (الجزائر) وهي ابنة المخرج الجزائري المعروف مرزاق علواش. "مركب ورق" لحلمي نوح (مصر) و"وهبتك المتعة" لفرح شاعر (لبنان). وشاعر، متخرجة من الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت. انها المخرجة اللبنانية الوحيدة التي تشارك في هذا المهرجان. في 14 دقيقة، يتطرق الفيلم الى قضية زواج المتعة، من خلال شخصية امرأة توظف هذا التقليد المتبع لدى الشيعة لكسب المال. شريط عن تسليع المرأة في مجتمع لبناني يتأرجح بين الحداثة وقوانين تعود الى عصور مضت. سبق ان عرض "وهبتك المتعة" في مهرجان بوسان السينمائي، وسيجتاز بعد ايام قليلة "امتحان" الجمهور الفرنسي، قبل أن يحط رحاله في بيروت.

النهار اللبنانية في

31/01/2013

 

في ظل أفلام الإنسان والكرامة

«اللون القرمزي».. للحرية لون واحد

علا الشيخ - دبي 

السينما هي الإنسان، وهذا ما لمسناه في محفلين أقيما أخيراً، الأول في مهرجان دبي السينمائي في دورته التاسعة، عندما سحبت إدارته مشاركة أفلام سورية لمخرجين لأن المهرجان «لا يستطيع الفصل بين الأداء الفني والمواقف الحياتية» لهؤلاد المخرجين والمحفل الثاني في «الغولدن غلوب» التي رشحت ومنحت جوائزها الى أفلام انحازت للعدالة والانسانية، مثل فيلم «لينكولين»، و«تحرير جانجو»، و«البؤساء» و«حياة باي»، وغيرها»، وهي العناوين نفسها المرشحة لنيل جوائز «الاوسكار»، الشهر المقبل. إضافة إلى خبر صغير يمر عبر الشريط الاخباري مرور الكرام على شاشات التلفاز يقدم ردة فعل والدة الفتاة الهندية التي فجرت موجة غضب عارمة في الشارع الهندي، بعد ان تعرضت للاغتصاب على يد مجموعة من الشبان وعادت الى بيتها جثة هامدة، صرحت الأم فيه، لأول مرة، بعد صمت كاد ان يقتلها حزناً: «كانت جثتها مسالمة وآمنة، مثل لحظة وضع رأسها على صدري يوم ولادتها». يعيدنا هذا التصريح إلى أفلام تناولت حالة الاغتصاب كحالة إنسانية يجب العمل على وقفها والتصدي لها، خصوصاً أننا نسمع في كل يوم تقريبا عن حالات مماثلة كنتيجة مجتمعية أو سياسية مثل التي تحدث في الحروب، ولا شك في أن السينما الأميركية كانت أجرأ في طرح هذه الموضوعات، فكان لفيلم ستيفن سبيلبيرغ «اللون القرمزي» الذي انتج عام 1985 حضوره في هذا الحدث، فالمخرج يحكي هذه القصص التي تمس الانسان سينمائياً كفيلمه الجديد «لينكولين» الفائز بجائزة افضل ممثل ذهبت لصالح «دانييل داي لوس» في «الغولدن غلوب» والمرشح لخمس جوائز أوسكار، ويحكي معركة الرئيس الأميركي الـ16 في تحرير العبودية دستورياً.

بطولة نسائية

نعود إلى فيلم اللون القرمزي الذي نال فيه سبيلبيرغ جائزة الأوسكار كأفضل مخرج عام 1986، والذي اقتبس احداثه من رواية حملت العنوان نفسه للكاتبة «آليس وولكر» المناهضة دوماً للمواقف العنصرية، وعلى رأسها «اسرائيل»، وأدى دور البطولة فيه «ديسرت جاكسون، اوكوشيا بوسيا، هوبي جولدبيرج واوبرا وينفري»، فلا يمكن ومنذ المشهد الأول يشعر المشاهد برغبة في البكاء، وكيف لا وهو يشاهد حكاية«سيلي» الفتاة التي تتعرض للاغتصاب على يد زوج والدتها بشكل دائم، وتنجب منه طفلين لم يسمح لها بمشاهدتهما. البطولة في هذا الفيلم نسائية، وهي حالة مقصودة، فنحن أمام حالة السود في القرن 19 ومحاولتهم الاندماج مع المجتمع الأبيض، لكنهم يتعرضون للذل والهوان من ذويهم ومن قبل البيض، خصوصاً النساء منهم، الذين لم ينفكوا معاملتهم عبيداً من كلا الطرفين. في الفيلم محاور كثيرة اجتماعية وسياسية وحقوقية، تتمثل في أربع شخصيات رئيسة، «سيلي» الفتاة المعذبة لا صوت لها ولا قرار، المغتصبة من قبل زوج والدتها المريضة والتي حملت بطفلين نتيجة هذا الاغتصاب، وهي لم تتجاوز الـ15 عاماً من عمرها، لتنتهي في بيت رجل أرمل لديه اطفال جاء بها خادمةً أكثر منها زوجةً، «نيتي» شقيقة «سيلي»، والقريبة الى قلبها وروحها، تظهر شخصيتها وقت قرارها الهروب من منزل زوج والدتها، بعد ان حاول تكرار ما فعله مع «سيلي»، فتهرب الى بيتها لتلقى المصير نفسه من قبل زوج شقيقتها، فيقرر التفريق بينهما بمشهد مؤثر للغاية، ووعد من قبل «نيتي» بإرسال الرسائل لـ«سيلي» طوال عمرها. وتدخل في الأحداث مُغنية الملاهي الليلية «شوج افاري»، ابنة أحد كُهان الكنيسة وعشيقة السيَّد آلبرت زوج «سيلي»، إضافة إلى صوفيا زوجة ابن السيد آلبرت، التي تمثل في الفيلم رمز التحدي والصلابة والتوق الى التحرر.

الحكاية

المشاهد الأولى من الفيلم تسلط الضوء على اختين مراهقتين «سيلي ونيتي»، وأمهما المريضة المتزوجة بآخر بعد وفاة والد ابنتيها، هذا المرض الذي اقعد الأم خلق تبريراً في قلب الزوج كي يغتصب ابنتها الكبرى «سيلي» تعويضاً عن عدم تلبية الزوجة متطلبات زوجها، مشاهد مؤلمة وانت ترى رجلاً كبيراً في السن ينتهك جسد طفلة صغيرة مازالت تربط شعرها كجديلتين، في عيونها رضوخ وانتهاء مرحلة طفولة كانت تنظرها بين الحقول، هذا الاغتصاب المتكرر يجعل سيلي أماً مرتين دون أن تشم رائحة أبنائها الذين يقرر زوج الأم بيعهما كي لا يفتضح أمره. في هذه الاثناء لا تصب «سيلي» همها الا على كيفية حماية شقيقتها «نيتي». من أنياب زوج زالتهما، تمر الأحداث المملوءة بالقهر والألم، الى أن يطرق بابهم السيد «البرت» الذي فقد زوجته، أخيراً، ويريد الزواج بالصغرى، لكن زوج الأم يرفض ويعرض عليه «سيلي»، فهي في نظره اصبحت بلا فائدة، قائلاً له: «خُذ سيلي، إنها ليستْ بكراً، لقد أنجبت طفلين، لكنها لن تستطيع الإنجاب الآن، وهذا سيُريحك من عناء طفل آخر»، بهذه الجملة قرر هذا الجشع أن يبيعها، لا بل ويحرمها ايضا من شعور الأمومة طوال حياتها، ونال من كرامتها فعاشت ذليلة بزوج السيد «ألبرت» كخادمة له ولأولاده تتلقى الضرب والاهانة، كل لحظة، دون أن ترفع رأسها.

تمضي الأيام وتهرب أختها «نيتي» إليها، بعد أن حاول زوج والدتها اغتصابها هي ايضاً، يوافق السيد آلبرت على بقائها في البيت، لأنه يريد أن يغتصبها هو الآخر، في هذه الاثناء تعيش سيلي أجمل لحظاتها مع شقيقتها التي تعلمها الكتابة والقراءة، وينغص هذه السعادة محاولة السيد «البرت» اغتصاب «نيتي»، فترفض ويقرر التفريق بين الشقيقتين في مشهد مؤلم جداً يكون اتفاقهما الأخير أنْ يتواصلا عبر الرسائل البريدية التي لم تصل لمدة 40 عاماً كاملة، لأن السيد «البرت» كان يخبئها.

المنحى الإنساني

في هذه الـ40 عاماً، ومع كل الانتهاكات التي تتعرض لها كرامة «سيلي» والتي لم تتوقف في جلب السيد «البرت» عشيقته إلى المنزل كي تخدمها، تتحول العلاقة بين العشيقة و «سيلي» الى صداقة عميقة ، بل تشجعها على استجماع كل قوتها كي تنتصر الى كرامتها المهدورة طوال هذه السنوات، خصوصاً بعد ان وجدت رسائل شقيقتها المخبأة تحت أرضية غرفته، تستشيط غضباً، حتى انها ترفع السكين في وجهه، لولا تهدئة العشيقة وصوفيا لها بأنها ستدخل السجن لأجل رجل لا يساوي شيئاً. تقرر الرحيل فيصرح بها بكل عبارات الاهانة «يا سوداء ن يا قبيحة يا خادمة..»، لكنها تصر على المضي فروحها تحررت أخيراً مع أنها لم تسمع كلمة «شكراً» في حياتها.

نهاية روحانية

تدخل القدرة الإلهية في المشهدين الاخيرين من الفيلم، الاقتراب من الروحانيات هو مخرج «سيلي»، اخيراً، تمشي بين الحقول شمسيتها فوق راسها بخطوات غير متعثرة رأسها مرفوع الى السماء، تلفحها الشمس حيناً وتغطي السنابل جزءاً من جسدها حيناً، وكأن الطبيعة هي التي قررت حمايتها من كل مكروه، ليلحقه المشهد الأخير الذي تظهر فيه شقيقتها «نيتي» تقدم لها مفاجأة أنها عثرت على ابنتها وابنتها وربتهما حتى أن ابنها متزوج، لكنهم لا يتحدثون الانجليزية، بل لغتهم الافريقية، مشهدان تلتقي فيه كل الأرواح، تماماً مثل ألم المخاض الذي ينسى بمجرد حضن الأم لوليدها الذي خرج الى النور للتو، فبالنهاية كما قال مارتن لوثر كينغ محرر العبيد: «لا يستطيع أحد ركوب ظهرك، إلا إذا انحنيت».

لمشاهدة تفاصيل أوفر عن الموضوع يرجي الضغط هذا الرابط.

الإمارات اليوم في

31/01/2013

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)