لولا بعض الملاحظات على المعالجة التى انتهت الى بعض المباشرة، ولولا
بعض الإستطرادات التى جعلت الجرعة زائدة عما يجب، ولولا نهاية باهتة
تقريرية أشبه بحملات التوعية، لكان فيلم "فبراير الأسود" الذى كتبه وأخرجه
محمد أمين من أهم الأفلام الكوميدية الكبيرة فى مسيرة السينما المصرية.
ومع ذلك، نستطيع أن نتحدث عن فيلم هام، يمتلك فكرة كما يقولون بمليون
جنيه، فيه مواقف كوميدية كثيرة جيدة، كتبت بإتقان وبسخرية لاذعة، ولدينا
فريق تشخيص أدى دوره بصورة مُرضية، حتى محمد أمين كمخرج، كان هنا أفضل
وأكثر حضوراً فى خدمة موضوعه، وكل ذلك يجعل العمل جديراً بالمشاهدة رغم
الملاحظات التى سأتعرض لها بالتفصيل.
لابد من الإشارة أيضاً الى أن الفيلم الذى يكشف عن الحالة البائسة
للعلم والعلماء فى مصر، كان مقرراً أن يعرض فى شهر يناير الماضى، ولكن
الإضطرابات التى لم تتوقف، والفشل السياسى المشهود فى إدارة الأزمات، أدّيا
الى تأجيل العرض الى شهر مارس، دون أن يقلل ذلك من سوء التوقيت على
الإطلاق.
قضية الفيلم هامة وخطيرة، والمعالجة مختلفة وطريفة، ولكن الأمر الذى
يشغل بال المصريين فى هذه الأوقات العصيبة ليس مكانة العلم والعلماء، ولكن
مصير الدولة نفسها بكل مؤسساتها وطوائفها، ليس ذنب صنّاع الفيلم بالطبع أنه
عرض فى وقت تتعرض فيه البلد بأكملها للتفكك، ولكن هذا التوقيت يمكن أن يؤثر
بالتأكيد على استقبال المتفرج للفيلم.
فى كل الأحوال، يظل لفيلم "فبراير الأسود" دلالته الخاصة سواء فى
موضوعه ومعالجته، أو فى توقيت عرضه حيث انطبق العنوان على الواقع، بل إنه
يحتمل زاوية أوسع للرؤية، تنطلق من مكانة العلم والعلماء البائسة، الى
انهيار فكرة المساواة والمواطنة فى المجتمعات المصرية والعربية، المكانة
للسلطة والثروة، ولا مكانة لأى فئة أخرى، سواء كانوا من العلماء أو
الموظفين أو غيرهم.
تجارب هامة
محمد أمين مؤلف ومخرج الفيلم له تجارب سابقة هامة فى التأليف
والإخراج، من الفيلم الساخر الذكى "فيلم ثقافى" الذى دفع الى الساحة بثلاثة
من الموهوبين هم فتحى عبد الوهاب وأحمد عيد وأحمد رزق، مروراً بفيلم "ليلة
سقوط بغداد" من بطولة أحمد عيد، وصولاً الى فيلم "بنتين من مصر" الذى يمكن
اعتباره من الأفلام التى توقعت انفجار المجتمع قبل الثورة. الفيلمان الأول
والثانى معالجتهما كوميدية، فى حين جاء الفيلم الثالث مفعماً بالشجن
والحزن، وبينما يبدو "فيلم ثقافى" و" بنتين من مصر" أكثر نضجاً وتكاملاً
وذكاء، فإن "ليلة سقوط بغداد" جاء صاخباً ومباشراً وساذجاً أحياناً، وإن لم
يفتقد مواقف كوميدية متقنة الصنع، وجيدة التأثير.
نحن إذن أمام صاحب رؤية ووجهة نظر، يعمل على أفكار ليست سهلة،
بمعالجات مبتكرة، الفكرة فى "فيلم ثقافى" مثلا ليست فقط عن الكبت الجنسى،
ولكنها عن الكبت والتهميش بكل مستوياته، وصولاً الى عبارة الفيلم الشهيرة"
العيب فى النظام"، وفى فيلم "بنتين من مصر" ننطلق من مشكلة عنوسة البنات
الى مأساة مجتمع عقيم وصل بكل آلياته الى طريق مسدود، تراكم فيه البخار
المحتبس، فوقع الإنفجار.
فى كل أفلام أمين، حتى تلك التى لم يخرجها، وكتب لها السيناريو فقط
مثل "أفريكانو" و"جاءنا البيان التالي"، كان هناك هذا الربط الواضح،
وبدرجات متفاوتة بالطبع، بين الخاص والعام، وبين السياسى والإجتماعى، كانت
المعالجات طريفة، وكثير من المواقف مكتوبة بذكاء وسخرية رائقة، كما كانت
السيناريوهات أكثر تماسكاً مما نشاهد عادة فى الأفلام المصرية.
الظهر والبطن
يقول أحد الأمثال المصرية الشهيرة الموروثة من سنوات القهر والظلم
وغياب المساواة : "من له ظهر لاتستطيع أن تضربه على بطنه"، يعنى هذا المثل
ببساطة، إنه لا يكفى لكى تعيش أن تحمل فقط جنسية بلدك، أو ان تكون مواطناً
يحمل بطاقة هوية، بل لابد أن تكون مسنوداً ممن هم أقوى، أن تستظل بمظلة
السلطة أو الثروة، حتى تعيش أمناً ومطمئناً.
يأخذ محمد أمين هذه النصيحة المصرية الأزلية، وينقلها ببراعة الى أسرة
حسن (خالد صالح) عالم الإجتماع المتفائل، النشيط، عاشق بلده، عندما فاز
أحمد زويل بجائزة نوبل فى الكيمياء، قام حسن برفع العلم المصرى فوق سطح
منزله، وفى كل محاضراته، كان ينصح طلابه اليائسين بأن ينشروا الأمل فى
المجتمع.
ربما تكون أولى الملاحظات أن حسن يعيش مع زوجته وأولاده، وأخيه وزوجته
وأولاده، فى فيلا كبيرة لا نعرف من أين حصل عليها، كما سنشاهده وهو يقود
سيارة غالية الثمن فى الصحراء، وكلها عناصر واضحة تقلل من وجاهة دعوى حسن،
وهى أيضاً قضية الفيلم، بأن العلم لايجد تقديراً مادياً او أدبياً.
ومع ذلك، فلابد أن يلفت نظرك منذ البداية تلك اللمحات الساخرة الظريفة
التى تجعل صلاح (طارق عبد العزيز) شقيق حسن، الحاصل على الدكتوراة يقوم هو
وزوجته، بتحويل معمل الكيمياء بالمنزل الى معمل لصناعة الطرشى (المخللات
المصرية)، على أن يتم تسويقها تحت اسم "طرشى نيوتن"، من باب الحنين للعلم
الضائع.
لكن نقطة التحول فى حياة حسن وأسرته، تحدث فى شهر فبراير،يقرر أن يخرج
الى الواحات مع أسرته، وأسرة أخيه، فى الطريق يتوقف ليلتقى بآخرين يقومون
بنفس المغامرة، تهب عاصفة تدفن الجميع، تظهر فرق الإنقاذ العسكرية، تختار
أن تنقذ أحد ضباط الشرطة وأسرته، وأحد القضاة وأسرته، وتترك حسن وأخيه
وعائلتهما لتنقذهما الذئاب بطريقة غامضة، كانت تستدعى جهداً وخيالاً أكبر
لإقناع المشاهد.
منذ تلك اللحظة يتغير حسن عاشق الوطن، يجمع كل أفراد العائلة الكبيرة،
يخبرهم أنه لا سبيل أمامهم إلا الهجرة، أو العيش فى حماية الفئات المسنودة
(الجيش والشرطة والقضاء أو الأثرياء)، أما العلماء فهم لايساوون شيئاً،
يصبح مسار اللعبة كلها هو محاولة الهروب من وطن لا يقدر جهد علمائه، أو
الإقتراب من أهل السلطة أو الثروة حتى يتحقق العيش فى أمان.
طرافة الفكرة، وبراعة المعالجة، أنها سترسم علاقات القوة بما ينتهى
بنا الى نسف فكرة المواطنة من جذورها، لأن قيمة الشخص لا تتحدد بما يضيفه
فى مجال عمله أو علمه، ولكن بمدى قدرته على أن يكون له ظهر، وإلا فإن عليه
أن يهرب، وفى أحد أقوى مشاهد الكوميديا السوداء، يقوم حسن بتدريب أسرته على
رقصة أجنبية، ويطالبهم بأن يتخلّصوا من تأثرهم بالأغنيات العربية، سيتكرر
ذلك على مدار الفيلم، هروب بالموسيقى من الوطن، وعودة بالغناء إليه.
مواقف ساخرة
تنطلق الأحداث فى اتجاهات متنوعة، ولكن الهدف واحد، هو أن يستعيد حسن
وأسرته الكبيرة شعور الطمأنينة، بعد أن أصابهم ما يقترب من فوبيا الإهانة
والإذلال، يلجأ صلاح الى أحد معارفه الذين يعدّون البرامج الفضائية، لاتبدو
هذه الشخصية الغريبة عن العائلة مناسبة للمهام التى ستقوم بها، ولكنها
اختيرت فيما يبدو لكى يكشف أمين من خلالها فبركة الفضائيات فى البرامج
المختلفة.
تتوالى المشاهد المبتكرة والعجيبة: الأسرة ترتدى الملابس الإيطالية
وترقص لإقناع السفير الإيطالى بانتمائهم الى أحفاد الرومان، الأسرة تتحايل
للإيقاع بأحد القضاة الشباب (أحمد زاهر) لخطبة ريم، ابنة حسن، ولكن القاضى
يرفض تزوير الإنتخابات، ويُطرد من عمله، فتضيع الصفقة.
الأسرة تفكر فى إنجاب طفل، على أن يتم ضبط وقت الولادة فوق إحدى الدول
المتقدمة، فيحصل الطفل على الجنسية، ويشعر الجميع بأنهم مسنودون، يتم إجراء
التحاليل، والإتفاق مع الطبيب، وضبط وقت الرحلة، وتسريع وقت الولادة، ولكن
الطائرة تهبط فى دولة إفريقية إضطرارياً، يتورط صلاح وحسن فى إنجاب طفلين
يحملان جنسية تشاد أو النيجر!
يتم السعى لتحويل ابن صلاح المراهق الى لاعب كرة عن طريق مدرب اسمه
نزهى (سليمان عيد)، لاعبو الكرة يستقبلهم الرئيس، ويكسبون الملايين،
ويمكنهم توفير الحماية للعلماء، تقع الأسرة على عريس جديد للجميلة ريم
(ميار الغيطى)، هذه المرة ضابط أمن دولة منتدب لرئاسة الجمهورية، يُفصل
الضابط من عمله، فتضيع الصفقة من جديد.
لعل أعجب ما فى السيناريو، أن حسن يتحوّل من النقيض الى النقيض، بعد
أن فشل العلم فى أن يحقق له الحد الأدنى من الكرامة: يقوم بفسخ خطبة ابنته
من أى عريس غير مسنود، وأولهم خطيبها الأول معتمد (ياسر الطوبجى)، العالم
الذى لا يمتلك إلا مرتبه، وفى أحد أظرف مشاهد الفيلم، يثور على ابنه
المراهق، بعد أن ضبطه وهو يقرأ كتاباً دراسياً، تاركاً الكرة التى أحضرها
له، كأن المشهد محاكاة مقلوبة للمشهد الشهير فى الدراما المصرية، الذى
يُلام فيه الأبناء عادةً بسبب لعب الكرة، وترك الكتاب.
وبينما تذكّرنا الكثير من المواقف الذكية والظريفة ببراعة الأفلام
الكوميدية الإيطالية ذات البساطة والعمق الإجتماعى، فإن محمد أمين انساق
أحياناً وراء بعض الإستطراد والتكرار خصوصاً فى مشاهد مدرب الكرة، كما أن
حكاية ضابط أمن الدولة بدت كما لو كانت تكراراً لحكاية القاضى، ربما احتاج
الأمر الى بعض الخيال لكى تتمايز الحكايتان بشكل أفضل، وجاء استطراد آخر
ساذج بادعاء الشذوذ الجنسى، واللجوء الى سفارة أوروبية، لكى يثقل البناء،
وخصوصاً فى الثلث الأخير من الفيلم.
من الملاحظات أيضاً العودة الى الأسلوب المباشر فى تسمية الشخصيات،
القاضى الشاب النزيه مثلاً اسمه عادل عبد الحق، والمدرب الأصله اسمه نزهى،
لكى يكون "أصلع ونزهى" كما يقول المثل المصرى الشهير، أما النهاية فهى
مباشرة وساذجة، من الواضح أنها كتبت لكى تعيد المتفرج الى أيام الثورة:
أثناء حفل خطبة ريم الى ضابط أمن الدولة الذى عاد الى عمله، تسير مظاهرة
تهتف بسقوط النظام، يؤجل حسن الخطوبة رغم دخول القاضى والعالم معتمد أيضاً
المنافسة من جديد، يقول إنه ينتظر نهاية "الفترة الإنتقالية"، فربما يأتى
نظام يهتم بالعلماء، فيزوجها لأحدهم.
نهاية باهته بائسة ومباشرة وساذجة لفيلم هام ومختلف، كيف من مظاهرة
واحدة عرف حسن أن هناك ثورة وفترة إنتقالية ..إلخ؟!! لم يكن الفيلم فى حاجة
الى هذه الفبركة، أو الى التحذير المباشر بضرورة الإهتمام بالعلماء، وإلا
سنذهب فى ستين داهية، إن فوبيا الإهانة، والهوس الذى يعانيه العالم وأسرته
للبحث عن شخص مسنود، أو الهرب من الوطن، كل ذلك أفضل ألف مرة من أى خطاب
مباشر.
رغم ذلك، أجدنى منحازاً الى التجربة مع وضوح مشاكلها، أرجو ألا ننسى
أن الفكرة صعبة وليست سهلة، فى رصيد الفيلم الإيجابى توظيف أمين الجيد
لأشياء كثيرة استخدمها فى أفلام سابقة، مثل المواقف الكوميدية ذات الرموز
الجنسية (صاروخ الفضاء والتحام السفن الفضائية)، والأغانى الوطنية التى
استخدمت للدخول والخروج من الوطن، فى أحيان كثيرة تشعر أن بعض المواقف تقف
على حافة الفانتازيا بسبب غرابتها، هذا الجو العام يميّز أفلام محمد أمين،
ربما لأنه اكتشف منذ البداية أنه ليس هناك أكثر غرابة من نقل الواقع المصرى
كما هو.
الممثلون جميعاً كانوا فى أدوارهم المناسبة، خالد صالح بدا مستمتعاً
بالشخصية، خرجت منه الإفيهات بطريقة طبيعية وسلسة، لقد أدرك أن الجدية
الشديدة التى يتعامل بها مع الموقف هى مصدر الإضحاك: عالم اجتماع يتحول
بنفس درجة الجدية الى خاطبة أو راقص يرتدى الملابس الإيطالية، الشخصية بدت
كما لو كانت تحت تأثير مخاوف مرضية ملحّة تجعلها تبحث عن الحماية أو
الهرب،طارق عبد العزيز كان أيضاً جيداً ولديه حضور واضح، من أظرف مشاهده
تقمصه لشخصية رجل مسيحى يتصل بالقناة الفضائية ليكذب على الجمهور بشأن
الوحدة الوطنية، ألفت إمام كانت كذلك مميزة فى دور ابنة العم الشرسة التى
تريد أن تخطف العرسان لابنتها.
يستحق المشاهدة
محمد أمين المخرج كان هنا فى حالة أفضل، الكاميرا كانت أكثر حرية فى
الحركة، نجحت المونيرة مها رشدى فى ضبط التأثير الكوميدى فى كثير من
المشاهد، كان هناك توظيف جيد لموسيقى عمرو اسماعيل التى منحت الفيلم مسحة
كاريكاتورية، كانت الملاحظة فى أفلام أمين عموماً أن أفكاره ومعالجاته
محلّقة، ولكن طريقته فى التقطيع وحركة الكاميرا كلاسيكية وتقليدية تماماً،
لو انطلق خيال أمين المخرج ليكون فى مستوى خيال أمين المؤلف، لكنّا أمام
نتيجة أفضل.
"فبراير الأسود" فيلم يستحق المشاهدة والمناقشة، ظلمه توقيت العرض فى
أيام أكثر سواداً من الخيال، ما يجرى فى الواقع لا يقل غرابة عما يحدث فى
الفيلم، نظلم الفيلم كثيراً إذا قلنا إنه عن مأساة العلم والعلماء وكفى،
إنه فيلم عن الغربة داخل الوطن التى قال عنها أبو حيان التوحيدى إنها أقسى
أنواع الغربة، عن سراب المواطنة والمساواة فى العالم الثالث، عن حلم العيش
بكرامة حتى لو كان ذلك فوق القمر.
أحسب أن فيلماً بهذا الثراء كان يستحق نهاية أفضل، لأن النظام السابق
الذى كان يتصارع في ظله الناس على عريس من الشرطة أو القضاء أو رجال
الأعمال، قد انتهى بنا الآن الى نظام فقد فيه كل هؤلاء مكانتهم بسبب
الفوضى، ولم يعد أمام الجميلة ريم سوى انتظار العريس المناسب للنظام
الجديد: شاب بلحية وجلابية وطاقية مهما كان منصبه، ومهما كانت وظيفته!
عين على السينما في
09/03/2013
"وحوش
البرية الجنوبية":
سندانس والفنون الليبرالية وأشياء أخرى!
هند هيثم
مهرجان سندانس للسينما المُستقلة أكبر مهرجان سينمائي في أمريكا
الشمالية، وفي كُل مدينة وحاضرة وبلدة وقرية ودسكرة أمريكية، ثمة صدى
يتردد: "سندانس، سندانس، سندانس!" سندانس (أو صندانص كما يكتبها بعض
المترجمين العرب).
سندانس قِبلةُ كُل صُناع الأفلام الشباب والعجائز، فإليه يحضر نُقاد
هوليوود الكِبار ومنتجوها الأثرياء - وهم الأهم - ومنها يخرج صُناع الأفلام
الجُدد الذين تتلقاهم هوليوود بعقود التوزيع والتمويل. بل إن هناك من
الممثلين الهوليوديين أصلاً من يستخدم سندانس ليُميز نفسه عن "القطيع"
التجاري لهوليوود، أو ليصوغ لنفسه شخصية جديدة.
وفي مهرجان سندانس هذا العام، تقدم جوزِف غوردون لفت - الممثل
الهوليوودي الشاب - بفيلم من كتابته وإخراجه وبطولته "إدمان دون جون"، كما
قررت داكوتا فاننغ أن تُري هوليوود أنّها قد بلغت سِن الرشد، فاختارت فيلم
"فتيات صغيرات مُهذبات" الذي عُرِض في سندانس هذا العام لتظهر في مشهدٍ
عارٍ.
ولعل هذا يوضح واحدةً من إشكاليات سندانس، فالمهرجان الذي يُفترض أنّه
موجه لدعم صُناع الأفلام المُستقلين لتقديم سينما تختلف عن سينما
الإستوديوهات الكُبرى في هوليوود صار امتداداً لهوليوود، تحكمه الميزانيات
الكبيرة، والأسماء الكبيرة، والاتجاهات الفنية التي يميل إليها المخرجون
ذوو النفوذ في هوليوود، بحيث صار سندانس مكاناً لتزويد هوليوود بمستنسخاتٍ
جديدة لمُخرجيها الحاليين - والموتى - من دون تقديم أي فكرٍ جديد.
وفي كُل دورة من مهرجان سندانس فيلم "ذهبي" يخرج عن المهرجان ويحصل
على عقود توزيع مع شركاتٍ هوليوودية، ويطوف مهرجاناتٍ أجنبية. وقد كان فيلم
سندانس الذهبي العام الفائت "وحوش البرية الجنوبية"، الذي خرج أخيراً إلى
العرض العام في دور سينما محدودة، ووزعته شركة فوكس سيرتشلايت، الذراع
"الفني" لشركة فوكس القرن العشرين، وقد رُشِح لأوسكار أفضل فيلم وأفضل
مُخرج وأفضل ممثلة لبطلته الصغيرة كوينجنافي والِس.
لمن تُقرع الأجراس؟
لكُل فيلم جمهور، وجمهور "وحوش البرية الجنوبية" ليس عامة من يرتادون
السينما، وإنما الفيلم فيلم "أفندية". لكن، حتى مع كون الفيلم موجهاً
للأفندية، فإنّه يُهِم قطاعاً ضيقاً جداً منهم. بالتالي، يعتمد الفيلم -
والأفلام التي على شاكلته - على ترويج النُقاد له، حتى يُشاهده جمهور
"الأفندية"، ولم ينقص "وحوش البرية الجنوبية" المقالات التي تُشيد به، ولو
أن هناك نُقاداً قد وصفوه بالرداءة، بل وحذر بعضهم النقاد الذين مدحوا
الفيلم من أنهم يتسببون في تخفيض قيمة النقد لدى المُتلقى، فكيل المديح
لفيلم فارغ مثل "وحوش البرية الجنوبية" يجعل قُراء المقالات النقدية أكثر
ريبة إزاءها مما هُم عليه في الأصل.
ولم أكن قد قرأت هذه المقالات الناقدة قبل الذهاب لمُشاهدة الفيلم،
فشاهدته وفي ذهني المديح الذي كِيل للفيلم، وشعرتُ بما يُحذِر منه النُقاد
المُعارضون للفيلم: الريبة في ذوق من مدحوه، بل وفي مفهوم السينما عند
نُقادها.
"وحوش البرية الجنوبية"
يدور الفيلم في منطقة في جنوب ولاية لويزيانا الأمريكية تُسمىbathtub أو
حوض الحمام، عبارة عن تجمع سكنٍ عشوائي على أراضٍ منخفضة تُغرقها المياه،
وتقع في الناحية الأخرى من السد الذي بنته ولاية لويزيانا لحماية الولاية
من الأعاصير، بعد كارثة إعصار كاتارينا الذي كاد يُحيل نيو أورليانز أثراً
بعد عين - نيو أورليانز تقع في لويزيانا - مما يُصنِف الفيلم ضمن أفلام
كاتارينا.
وفي الفيلم عناصر واقعية سحرية، من دون أن ينتمي إلى النوع. ويدور حول
فتاة سوداء في الخامسة أو السادسة من عمرها تُسمى هش.بابي (كوينجنافي
والِس)، تعيش في بيت مقطورة لوحدها في الباث تب، ويعيش والدها في البيت
المُقابل. تروي هَش.بابي الفيلم الذي يُفترض أن يحكي عن مُجتمع بريء
ومُعادٍ للاستهلاكية وسحري، وآيل للزوال. وتُستخدم طُعماً لجلب المُشاهدين
إلى الفيلم، وتخديرهم بحيث لا ينتبهون إلى كم العورات التي يمتلئ بها
الفيلم.
الفيلم ليس فيلم "قصة" بالمعنى المُتعارف عليه لأفلام "القصة"، لكن
العامل الرئيسي فيه موت الأب، ومحاولة المُخرج (بِن زايتلِن) ربط موت الأب
بزوال عالم حوض الحمام.
أسلوب الفيلم
الفيلم يتبع هش.بابي طوال الوقت، فلا تغيب لحظةً واحدة عنه، ويفترض أن
الفيلم يدور حولها وحول وعيها بالعالم، لكن هذا يحدث عن طريق شريط الصوت،
وحديث هش.بابي من دون أن تدعمه الكاميرا، فلا يوجد مشهدٌ واحد يُصور فيه
المخرج ما يحدث من وجهة هش.بابي بصرياً، فلا يُخفض الكاميرا لتكون على نفس
خط بصر بطلته أبداً، ولا يُتيح للمشاهد أن يرى بعينيها، وإن كان يسمع صوتها
طوال الوقت. والمشهد الوحيد الذي كانت الكاميرا فيه مُنخفضة، كان يدور من
وجهة نظرِ الأب، الذي يتحدث عن أم هش.بابي المغوية، ولم تظهر فيه الأم غير
من نصفها الأسفل، وهي تقف، وهي تسير فتشتعل النيران وتفور المياه من تلقاء
ذاتها.
الكاميرا مُهتزة طوال الفيلم، وقد حيرني هذا في المشهدين الأولين
للفيلم، فهل يعود الأمر إلى انخفاض ميزانية الفيلم، الأمرُ الذي لم يسمح
للمخرج بشراء - أو استئجار - حامل للكاميرا؟ أم يعود الأمر إلى خيارٍ فني؟
ثم اتضح لي أن ميزانية الفيلم تسمح بشراء حاملٍ للكاميرا، لكن المُخرج
اختار أن تبقى الكاميرا مُهتزة طوال الوقت، ليُضيف قيمة تسجيلية على فيلمه،
وليوحي بأن العالم كُله يهتز حول هش.بابي.
ثمة ولعٌ كذلك باللقطات القريبة والمتوسطة، من دون أن يكون لها تأثير
درامي.
الكاميرا أداء لبناء الفيلم، لكن الكاميرا لا تقول شيئاً في فيلم بِن
زايتلن عن الفيلم نفسه، بل عن صانعه، ومن الثلث الأول للفيلم - حتى قبل أن
أعرف اسم المُخرج أو أي شيء عنه - فإنني قد خمنت بأن مُخرج الفيلم يهودي
نيويوركي شاب لديه خلفية في ما يُعرف بـLibera l Arts أو
الفنون الليبرالية. فالفيلم ينطق بكليشيهيات الفنون اللبرالية، وأكاد أسمع
صوت المُدرس - أو المُدرسة - وهو يشرح للطلاب القيمة "التوثيقية" للكاميرا
المهتزة، وكيف أنها "تهز إدراكنا للحقيقة، وتخلق مكاناً وسيطاًliminal space بين
الواقعي والمُتخيل، وبين الثابت والمتحول". كيف يُناسِب هذا الفيلم؟ هذا لا
يُهِم الفنون اللبرالية.
وبخصوص اللقطات القريبة، فإنني أسمع صوت الشخص نفسه - الذي يُدرس،
أياً كان اسمه أو لونه أو جنسه أو عمره، فهم يصنعونهم بالجملة، بمختلف
المقاسات والألوان - وهو يتحدث عن "حميمية اللقطات القريبة، وربط المشاهدين
بوجه الشخصية الرئيسية".
وبالتأكيد، فإن البطلة السوداء الطفلة، واختيار المكان، هي كُلها من
كليشيهات التعليم الليبرالي الذي لديه تعريفات في الكُتب لما يصنع فيلماً
مُختلفاً، ويتبعها المخرجون بالمللي: بطلة من المهمشين، مجتمع عشوائي، في
منطقة ما بعد الكارثة. وقد قيل بأن لويزيانا ابتُليَت بما هو أمرُ وأنكى من
كاترينا، فبعده اجتاحها طوفان من صُناع الأفلام الليبراليين من نيويورك وما
حولها، ليبحثوا عن "القيمة السردية الحقيقية" للكارثة، وعن "قصص الناس
الحقيقيين العاديين غير المصقولين الذين يختلفون عمّا تُقدمه هوليوود
القبيحة"، وعن "الأبطال الملونين الحقيقيين لأمريكا، وجوهر أمريكا السوداء".
كليشيهات
يُقال إن الأفلام التي تُنتج بعد حدثٍ مُعين تكون ركيكة ومليئة
بالكليشيهات، وإنّه يُفترض أن ينتظر المرء حتى تنضج التجربة أكثر. لكن هذه
ليست قاعدة أبداً، وفيلم "وحوش البرية الجنوبية" لم يستفد من السنين التي
تفصلنا عن كاترينا ليصنع تجربة ناضجة تخلو من الكليشيهات، بل إنّه كان
تلميذاً نجيباً للفنون الليبرالية، فأخرج كُل الكليشيهات البلهاء التي
تُعيدها هوليوود الآن إلى الواجهة، بعد أن ظن المرء أن فهم الناس للفنون قد
تطور. كذلك، فإن الفيلم يستفيد من الهجرة الجنوبية في هوليوود حالياً
("جانغو طليقاً" و"مخلوقات جميلة" مثلاً).
وإذن، فالفيلم يجتر العديد من المقولات العُنصرية، ويُعيد الكثير من
الكليشيهات البصرية والسردية. وأكبرها، كليشيه المتوحش النبيلNoble
Savage فهش بابي وأبوها وقومها متوحشون نُبلاء تزحف
عليهم الحضارة من الناحية الأخرى للسد، فتدمرهم، مع أنحياتهم الأصلية
سعيدة، ومُكتفية ذاتياً، فهم يقضون النهار في صيد السلطعون والجمبري بوفرة،
والليل في الاحتفال وعمل المهرجانات. (مع أن صيد السلطعون والجمبري يحتاج
إلى مُعدات صيد ومراكب صيد أكثر قوة ومتانة مما يُظهره الفيلم، ويحتاج إلى
الخروج إلى عرض البحر، لا الصيد قريباً من حوض الحمام.
ويصور الفيلم مسؤولي لويزيانا على أنهم الأشرار من الناحية الأخرى
للسد الذين يُريدون تدمير مُجتمع حوض الحمام، مع أنّه لا يوضح كيف هُم
أشرار؟ فهم يُقدمون العلاج لأبي هش.بابي، ويلبسون هش بابي ورفاقها ثياباً
معقولة. ويبدو أن الفيلم يعترض على أن مسؤولي لويزيانا "الأشرار" لا يريدون
لمُجتمع حوض الحمام أن يبقى حيث تموت الحيوانات وتتعفن، وينطلق الأطفال في
الطبيعة من دون أن يعتني بهم أحد، ومن دون أن يكون لهم مُستقبل في عالمٍ
ستُزيله أي عاصفة مُزمجرة.
والفيلم يُصور عاصفة بالفعل، تتسبب في تدمير المُجتمع أكثر، لكنها
ليست عاصفة استوائية من العواصف الكُبرى التي تضرب لويزيانا، وكانت لتمحق
حوض الحمام وما وراء السد. ويُصور رجال حوض الحمام يُدمرون السد برفقة
هش.بابي، لأنّه يُغرِق مساكنهم بالمياه - من دون أن يكون واضحاً كيف يفعل
ذلك، فالسد يحجز الرياح.
كما أنّه يصور مشهداً عجيباً، يُمسِك فيه أبو هش.بابي بسمكةcatfish
- نوع من سمك القرموط - بيدٍ واحدة، بمجرد أن يغطس ساعده في الماء -
وليس ذراعه بأكملها - ويصور هش.بابي تمزق السلطعون النيء بيديها وتأكله، من
ضمن مشاهِد عديدة تصرخ: "أنا نيويوركي مُرفه مُغامرة حياتي الكُبرى شراء
طعامٍ صيني من تشايناتاون، ولا أستطيع أن أتوقف عن الانبهار بهؤلاء السافج
الذين يأكلون الزلط!".
مشاهد الوحوش - وحوش البرية الجنوبية - تُذكِر بفيلم "حيث تعيش
الأشياء البرية" Where the Wild Things Are
من دون أي تجديد أو ابتكار، وتعمل وفق نموذج المعادل الموضوعي: عاصفة ضربت
المكان وحوض الحمام يتداعى؟ صور مجموعة من الخنازير البرية العملاقة تُدمر
المنطقة. الأب سيموت وهش.بابي تشعر بالذنب لأنها ضربت صدره؟ صور خنازير
برية تأكل آباءها.
هش.بابي تارة تضرب أباها وتُسقطه أرضاً فيوشك على الموت - وحينئذٍ
يُصوِر المُخرج انهياراً جليدياً، وهذا تصوير معقول لتأثير سقوط الأب على
الفتاة. إن العالم ينهار، لكن موقف هش.بابي من الموت موقفٌ "تقدمي" نسبياً،
فإذا مات أبوها، فإنّه سيصير جزءاً من الطبيعة، من دورة الكون، وهي أيضاً
ستموت وستصير جزءاً من طبيعة الكون. ثُم تُحذِر الخنازير البرية بحمائية من
أن البشر ليسوا كالخنازير البرية التي تأكل أباءها.
مع ذلك، يبقى ميتافور الفيلم مهزوزاً، فهو يحاول أن يخلق تأثيراً
مشوشاً شبيهاً بالحُلم عندما يختفي الأب ويعود، باستمرار، لكنّ الإيقاع
يختل، فهل مات الأب وتحول إلى جزء من البرية؟ لا، لم يمت، مع أن مشاهد ركض
هش.بابي لتأتي بالعلاج وتعود إليه كانت توحي بذلك. والفيلم يلعب هذه اللعبة
طوال الوقت: هل مات الأب؟ "خلاويص؟ لسه. خلاويص؟ لسه."
وهو يحاول أن يربط موت الأب بانهيار حوض الحمام، لكنّه لا يُفلح في
ذلك لا عن طريق الإيقاع، ولا عن طريق التصوير، ويبقى مهزوزاً ما بين أن
يُقدم مشاهد تبدو "شاعرية" بمفردها، وما بين أن يعيد ربطها بسياق الفيلم،
فيخرج بشيء شبيه بمبدأ سُلطان السكري في مسرحية "العيال كِبرت": "هي سليمة،
بس كل حاجة لوحدها". ويبقى استخلاص العلاقة بين موت الأب وبين ما يحدث
خاضعاً لمدى معرفة المشاهد بالعقلية التي يعمل عن طريقها خريجو الفنون
الليبرالية، أو لممعرفته بالربط الكليشيهاتي بين موت الأب وانهيار العالم
عموماً.
المشهد الذي يحكي فيه الأب لهَش.بابي - وكل مواطني حوض الحمام تقريباً
- عن كيف حملت أمها بها، يُنبئ بأن هوليوود قد وجدت مُخرجها البرفرت
الجديد pervert،
وهو برفرت كليشيهاتي، فهل هناك ما هو أكثر كليشهاتية من السروال التحتي
الأبيض وقطرات الدم - من التمساح المقتول - عليه وعلى فخذي المرأة؟ وهل
هناك ما هو أكثر كليشهاتية من دماء وسبطانة بُندقية للإغواء؟ إذا كان لا
بُد لهوليوود من مُخرج برفِرت، فإن عليها أن توسع خيالها أكثر، ومداركها
أكثر، وتكف عن الكليشيهات.
وغير أن الفيلم يُقدم عقلية برفرت، ويبعث كليشيهاتٍ قد علاها التراب،
وبعضها عُنصري مثل ميتافور المتوحش النبيل، فإنّه يخلط مفاهيمه بشكلٍ لا
يخلو من عنصرية ومن ميزوجينية معاً:
اسم الفتاةHushpuppy
إسمٌ لوجبةٍ أمريكية شائعة في الجنوب تُصنع من خُبز الذرة، وتسمية الفتاة
على اسم الأكلة لا يعني شيئاً في الفيلم، ولا علاقة له إطلاقاً بالحكاية
التي يحكيها الأب عن الحمل بهش.بابي وميلادها. غير أن المخرج - بسبب
الميتافور المهزوز لديه - يحاول أن يربط كُل شيء في النهاية، فيجعل هش.بابي
تذهب إلى ماخور بحري اسمهCatfish -
إشارة للسمكة التي أمسكها الأب، لكن كلمة "كاتفِش" في أمريكا لديها معانٍ
كثيرة مُتناقضة، والمشهد كُله إشارة ميزوجينية وكليشهاتية في الوقت نفسه -
وتجد هناك طاهية سوداء تطهو لها لحم تمساح - قصة الأم - مع هش.بابي، وحين
تعود إلى حوض الحمام، فإنها تُطعِم أباها المُحتضِر الهَش.بابي.
ما معنى هذا؟ خصوصاً، مع مونولوغ "نحن لا نأكل آباءنا مثلما تفعلون".
هل يعني هذا أن فصيلة البشر تأكل أبناءها؟ ولا هذا أيضاً. ميتافور الفيلم
مهزوز، مثل التعليم الليبرالي الذي ينطلق منه، فهو يأخذ ظواهر الأشياء من
دون تفكير حقيقي.
أشياء جيدة
بالرغم من أن الفيلم رديء في بنائه، وفارغ من الدلالة، فإنّه لا يخلو
من نقاطٍ جيدة. تمثيل الممثلين في الفيلم جيد. وثمة مشهد جميل في الفيلم،
حين تسير هش.بابي وخلفها وحوش البرية الجنوبية وقد دانت لها. ولمحبي
المشاعر الفياضة، فإن الفيلم - آخر الأمر - عن موت الأب، مما يضيف حمل
مشاعر إلى الفيلم، وهواة البكاء في السينما سيجدون فرصة جيدة فيه.
القيمة الإنتاجية للفيلم عالية، لكن الفيلم تكلف مليوناً وثمانمائة
ألف دولار، لذلك فإن هذه ليست مفاجأة حقاً. ثمة أفلامٌ كثيرة تُنتج
بـ"ملاليم"، ولديها قيمة إنتاج مُشابهة.
وعلى الرغم من أن هش.بابي ليس لديها أفكارٌ خاصة بها، وطوال الفيلم
فإنها تُردد ما يُعلمها إياه أبوها ومجتمع حوض الحمام، إلا أن استماعها
لدقات قلب الحيوانات، ومن ثم دقات قلب أبيها كان مناسباً للشخصية.
لمن تُقرع الأجراس؟
مليون وثمانمائة دولار "ملاليم" بمقاييس هوليوود، التي تدفع مئات
الملايين ليُحقق مُخرجٌ شيخ فانتازيا عن صانع أفلامٍ يصنع رجلاً آلياً لا
يفعل غير إعادة رسم رسوماته إلى ما لا نهاية، أو ليُحقق مُخرج شائخ آخر
فيلماً عن طفل وكلب زومبي يعود به إلى بداياته هو.
لكن مليون وثمانمائة دولار مبلغٌ طائل بمقاييس العالم الحقيقي -
المُصطلح الذي سيعترض عليه خريجو الفنون الليبرالية - وبمقاييس السينما
المُستقلة التي يُفترض أنّه يأتي منها، وسينمائيو نيويورك المستقلون عادة
يضطرون لخوض مفاوضات طويلة للحصول على ألف دولار، أو معونة تأجير معدات،
أو.... هذا، وهم أثرى - نسبياً - من صُناع الأفلام في المُدن الأخرى.
الأمرُ الذي يبعث على التساؤل حول تمويل الفيلم وتسويقه والمقصود به.
وسيلة معقولة لقياس صورة الفيلم في هوليوود معرفة أكثر الكلمات
تكراراً في وصف الفيلم في المُراجعات التي تمدحه، بعيداً عن المُصطلحات
العامة مثل: "عظيم"، و"مذهل"، و"مؤلم". ثمة مُصطلح يظهر في كُل مقالةٍ مدحت
الفيلم وصلتُ إليها.
poetic ومعناها
"شعري"، وهذا من أسوأ الأوصاف التي خرج بها النُقاد والسينمائيون
الأمريكان، إن لم يكُن الأسوأ، وأكثر المُصطلحات التي تُستخدم لوصف الأفلام
عبثية. ما معنى أن يكون الفيلم "شِعري"؟ بِل نيكولز واحدٌ من أشهر من
حاولوا إيجاد تعريف للأفلام الشعرية، لكنّه يعجز عن إيصال معنى منطقي لما
هو شعري في الفيلم. وما يخلص إليه إلى أن الفيلم الشعري يتشارك مع الفيلم
الطليعي"avant-garde" في أنّه لا يهتم بالوحدات المنطقية للدراما. كما أنّه يُشير بوضوح
إلى أن الفيلم الشعري لا يكترث بالمُجتمع وما يجري فيه بل بتصوير المكان
بالدرجة الأولى.
وتُستخدم هذه الكلمة بكثرة بوصفها كلمة هروبية عندما يعجز الناقد - أو
صانع الفيلم نفسه - عن إيجاد كلمة يصف بها الفيلم. مثلاً، فيلم "شجرة
الحياة" لتيرانس ماليك مليء بالتكوينات البصرية التي تحاول الإيحاء بفكرة
الخلق، ولا يعرف الناقد ماذا يستنتج منها بالضبط؟ ليسمها "تكوينات شعرية".
فيلم مايكل هانكه الأخير، "الحُب"، فيلم ثقيل الوطأة وإيقاعه ساكن وفيه
بطلان مُسنان ويتحدث عن حبٍ قديم لكنّك لا تعرف كيف تصف إيقاعه؟ سمه
"الشِعر الخشن" - وهذه ليست من عندي، بل قرأتها فعلاً. ومن باب الاحتياط،
صِف أفلام هانكه وماليك جميعاً بأنها "شعرية".
لكن "شعري" لها معنى آخر لا يرتاح إليه المرء، ولعل أصوله تعود إلى
فيلم روبرت فلاهرتي، "رجل آران" (1934)، الذي وُصِف بأنّه "شِعري"، بسبب
طبيعته التي لم يُقصَد أن تكون وثائقية، وفي الوقت نفسه ليست خيالية. مُنذ
ذلك الحين، صارت كلمة "شعري" شيفرة في الكتابات الأمريكية تعني: الفيلم
الذي يدور حول شخصياتٍ تعيش في فقرٍ مُدقع، تحت رحمة الطبيعة، ولا تكاد
تملك شيئاً، لكن الفيلم يُراقبها بشكلٍ مُحايد، ويحاول أن يُظهِر أن حياتها
البائسة تجسيد للصمود البشري في مواجهة الطبيعة، مُتجنباً تقديم أي شكلٍ من
النقد للنظام القائم الذي تسبب في وجود هذا النوع من الفقر، ومُخففاً عن
ضمير مُشاهديه الذين يعيشونفي منازل مليئة بأسباب الراحة والترفيه، وفي
مُدن مليئة بالمُنشآت الصحية والتعليمية والترفيهية، بأن هؤلاء المحرومين
يعيشون حياة مُدهشة وغنية روحياً، وإن لم يكونوا يملكون شيئاً.
وفيلم "وحوش البرية الجنوبية" فيلم شعري بهذه المقاييس، فهو مُصمم
لمُنتجي هوليوود الذين يبحثون عن أصواتٍ جديدة للدراما الاجتماعية تُناسِب
الليبراليين مِن حيث حديثها عن المهمشين، وجلبها أبطالاً ملونين إلى بؤرة
الفيلم، وذمها للحياة التي فيها أسبابٌ للراحة. وفي الوقت نفسه، فإن هذه
الأصوات لا تُقلق المُحافظين بالحديث عن الإفقار المنهجي، والانفصال بين
طبقات المُجتمع. بل إنها تدعم أفكار المحافظين الذين يرون إنّه ليس على
الحكومة أن تتدخل لمحاولة تحسين حياة الأفراد، وإن كُل امرئ لنفسه.
وجمهور "وحوش البرية الجنوبية" هم طبقة المثقفين المدنيين - سُكان
المدينة - ذوي الميول المنفتحة اجتماعياً - من البيض تحديداً - الخارجين
حديثاً إلى سلك العمل أو في مُنتصف حياتهم المهنية. هذه شريحة جمهور الفيلم
التي يُخاطِبها مُستخدماً كُل كليشيهات الفنون اللبرالية، وهذه نفسها
الشريحة التي تُهلل له.
سواء حصل الفيلم على أوسكار أم لم يحصل، فإن المُستقبل في هوليوود
واعد بالمزيد من الكليشيهات، الميزوجينية، والعنصرية.
عين على السينما في
09/03/2013
مخاوف من عدم نجاح أفلام السينما المصرية في موسم الصيف
خالد صالح للفنانين: لابد أن نهتم بعملنا وندع التوترات
السياسية جانباً
القاهرة - مروة عبد الفضيل
تستعد دور العرض السينمائية قريبا للدخول في معترك سينمائي جديد، وهو
موسم الصيف الذي يعد الأكثر أهمية لدى المنتجين والفنانين، ويأتي هذا
الموسم خليطا بين أفلام النجوم القائمة على الإنتاج الضخم، وبين أفلام نجوم
الصف الثاني والوجوه الجديدة، حيث يدخل الاثنان صراعا على البقاء، خاصة في
ظل ما تعانيه السينما من ركود.
أول الأفلام التي انتهى تصويرها تماما فيلم "الحرامي والعبيط" ، الذي
يعد الأول من نوعه، الذي يجمع بين كل من النجمين خالد صالح وخالد الصاوي،
مع أنهما التقيا من قبل على المسرح، عند ما كانا هاويين، قبل أن يصلا
لمرحلة الاحتراف.
وعن مدى تخوف خالد صالح من الدخول في هذا الموسم في ظل الاعتصامات
والأحداث التي تشهدها مصر، قال إنه لو فكر بهذا المنطق سيجلس في بيته ليس
هو فقط، بل وكل صناع السينما الآخرين، لكن لابد وأن يعمل الجميع.
وتحدث صالح عن دوره قائلاً: إنه يجسد من خلال الفيلم شخصية (العبيط)
وإنه سيظهر ببشرة سمراء قاتمة قد تخيف الجمهور، أما خالد الصاوي فيجسد
شخصية الحرامي.
فيلم "الحرامي والعبيط" تشارك في بطولته روبي، وعايدة عبد العزيز،
وضياء الميرغني. والقصة من تأليف أحمد عبد الله، وإخراج محمد مصطفى.
ولأول مرة سينمائيا يلتقي النجمان أحمد مكي واللبنانية نيكول سابا في
تجربة فيلم "سمير أبو النيل"، للمؤلف أيمن بهجت قمر، وإخراج عمرو عرفة،
وإنتاج محمد السبكي، الذي قال إنه غير متخوف على الإطلاق على فيلمه، وإنه
من أكثر المنتجين الذين يغامرون، مشيراً إلى أن السبكية تعد الشركة الوحيدة
تقريبا، التي أنتجت سينما في ظل ظروف صعبة للغاية، حيث خشي الكثيرون على
أموالهم، إلا أن استمرار الصناعة شيء نحرص عليه.
أفلام بتكلفة قليلة
وبعيدا عن أفلام النجوم، سيخوض موسم الصيف السينمائي عدد من الممثلين
الشبان والوجوه الجديدة، وهي أفلام تعتمد على التكلفة الأقل، مثل فيلم
"هيصة" للممثلة الشابة راندا البحيري التي تخوض السباق أيضا بفيلمها "بوسي
كات" والذي يعد أول بطولة سينمائية مطلقة لها.
وفيلم "بوسي كات" تأليف وإخراج علاء الشريف، ويشارك في بطولته مع
البحيري كل من انتصار، وهالة فاخر، وسامي مغاوري، وعلاء مرسي، وعادل عبد
الرازق، ونور وبسيم، وهالة السعيد وصوفيا ومنير مكرم.
أخيرا يشارك فيلم "زجزاج" وهو أول بطولة سينمائية لمحمد نجاتي، وريم
البارودي، في هذا السباق وقد أعربت ريم عن سعادتها بهذه التجربة، خاصة وأن
المنتج شاب يسعى للحفاظ على استمرارية السينما المصرية ولم يخش أن يغامر
بأمواله مثل الكثيرين.
وعن الشخصية التي تقدمها قالت ريم إنها تجسد شخصية سيدة مطلقة، وترصد
من خلال قصتها نظرة المجتمع لمن تمر بنفس ظروفها.
زجزاج بطولة ميرنا المهندس، وعايدة رياض، وسعيد طرابيك، وصبري عبد
المنعم، وناهد ماهر، وإخراج أسامة عمر.
العربية نت في
09/03/2013
الفنانون بين العفريتة والاسموكن!
كتب : طارق الشناوي
سألت يوماً المخرج الكبير الراحل هنرى بركات: لماذا تخرج أفلاماً
متواضعة لا تتناسب مع تاريخك كصانع لأفلام عظيمة مثل «دعاء الكروان»، «فى
بيتنا رجل»، «الباب المفتوح»، حيث كان فى سنواته الأخيرة يقدم أفلاماً دون
المستوى مثل «نوارة والوحش»، «أرملة رجل حى»، «لعنة الأشرار»، «العسكرى
شبراوى»؟!.. قال لى: أنا أنفذ وصية الشاعر والكاتب الكبير بديع خيرى عندما
وجدنى أعتذر عن العديد من الأفلام لأنها لا تحقق طموحى الفنى نصحنى قائلا:
يا هنرى أنت فنان نعم ولكنك أيضاً حرفى صاحب مهنة.. إذا وجدت سيناريو
عظيماً مثل «دعاء الكروان» ارتدِ «الأسموكن» واذهب إلى الاستوديو وإذا لم
تجد سوى «العسكرى شبراوى» ارتد «العفريتة» واذهب إلى الاستوديو وأنقذتنى
نصيحة «بديع» من أن أقعد فى البيت أعد النجوم وأنتظر أن تنقذنى السماء
بسيناريو «بديع»!
هل صحيح أن نجومنا ينفذون تلك الحكمة التى تعنى أن يتماشى الفنان بقدر
من المرونة مع ما هو متاح أمامه وفى نفس الوقت يظل فى أعماقه ينتظر أن يأتى
له العمل الفنى الذى يرضى غروره؟ أتصور أن أغلب فنانينا لا ينتظرون سوى
الأجر الذى يتقاضونه وأغلب أحاديث الفنانين حتى تلك التى يغلفونها أحياناً
بالندم على عمل فنى ما لا أصدقهم لأنهم يكررون الأخطاء، بل يمعنون فيها
أكثر وأكثر طالما ازدادت أرقام عقودهم أكثر فأكثر.. دستورهم الوحيد «أبجنى
تجدنى»!
إن الدفاع عن الأجر هو الذى يحيل نجومنا إلى قنابل موقوتة تدمر من
يقترب.. فجأة تكتشف أن لهم مخالب وأنياباً تجرح وتقتل لأن الأمر يتحول إلى
صفقة بالملايين ويعتقدون خطأ أن كلمات النقاد سوف تمنع عنهم تلك الصفقات.
متى يلبس الفنان العفريتة؟.. لا يوجد فنان لم يرتد العفريتة يوماً ما
مهما بلغ التزامه هناك دائماً ظرف قاهر.. مثلاً قال لى المخرج «سعيد مرزوق»
إنه كان فى مطلع التسعينيات فى احتياج للنقود بعد أن دخلت أمه المستشفى
للعلاج إثر إصابتها بفشل كلوى يحتاج إلى دفع بضعة آلاف من الجنيهات كل
أسبوع ولهذا وافق على أن يخرج فيلم «الدكتورة منال ترقص» ولم يرض أبداً عن
هذا الفيلم، لكنه على حد قوله حاول أن يحتفظ بالحد الأدنى.. الفنان الكبير
«محمود مرسى» فى آخر مسلسل له «بنات أفكارى» 2002 قال لى إنه لم يقتنع أن
يقع فى حب إلهام شاهين وهو فى هذا العمر إلا أنه كان فى احتياج مادى وحاول
أيضاً رغم ذلك أن يتعايش مع الدور.
الدرس هو أنه حتى لو اضطر الفنان إلى ممارسة حرفته عليه أن يجيد
تفاصيلها.. وهذا هو ما فعله كل من سعيد مرزوق ومحمود مرسى وكان هذا هو
بالضبط ما قصده الكاتب الكبير «بديع خيرى» فى نصيحته إلى هنرى بركات.. كان
«بديع» يرى أنه ينبغى أن نبدع حتى فى الحرفة فإذا لم نعمل ما نحب فعلينا أن
نحب ما نعمل.. وأتصور مع الأسف أن عدداً لا بأس به من نجومنا تحولوا إلى
«آلاتية» حتى وهم يخلعون «العفريتة» ويرتدون «الاسموكن»!
مغامرات «الشاطر حسن» فى فبراير الأسود
كتب : طارق مرسي
نهضة مصر لن تتحقق إلا بترسيخ دولة العلم ورفع الظلم والحصار على
علمائها.. هكذا يقول فيلم «فبراير الأسود» والرسالة هنا واضحة ومباشرة،
لتجميع أبناء هذا الوطن المنقسم إلى تيارات وأحزاب وشعارات «فالعلم هو
الحل»،
رغم أن الفيلم لا يحمل رسائل مباشرة للنظام الحالى أو يتضمن وجهة نظر
حول أداء الإدارة السياسية الآن فإنه يوجه إنذارًا أخيرًا حول الأوضاع
السائدة الملتهبة لتصحيح الصورة العبثية، قبل فوات الأوان.. فما وصلنا إليه
الآن هو نتاج عهد ساقط تصدرت فيه منظومات محددة المشهد العام وما عداها
يلعن الظلام والجهل والاستبداد.
يتحدث «فبراير الأسود» عن المثلث القيمى للمجتمع فترة العهد الماضى
والتى يتصدرها الجهات السيادية المتمثلة فى أمن الدولة ورجال القضاء ورجال
الأعمال وسطوة كل جهة منها على المجتمع واحتكار امتيازاته والتلميح بأن
المنظومة الثالثة «رجال الأعمال» كانت مؤهلة لابتلاع كل شىء والسيطرة على
كل المنظومات، أما رجال العلم والفكر فهم المهمشون فى الأرض.
هكذا كشف المشهد الأول من الفيلم من خلال بطله الدكتور حسن «خالد
صالح» أستاذ علم الاجتماع والذى يدعو طلابه المصابين بالاكتئاب إلى التفاؤل
والقيام بدور فى مجتمع متحجر فى نهاية التيرم الأول من العام الدراسى،
بينما هو يذهب مع أسرته فى رحلة «سفارى» وهناك تغرق الأسرة فى جبال الرمال
المتحركة وعندما يظهر لهم منقذ فى صورة رجال قوات المسلحة «وهنا الإشارة
متعمدة من المؤلف والمخرج»، تفاجأ الأسرة بأنهم يتحركون لإنقاذ أحد قيادات
أمن الدولة أولاً ثم مستشار قضائى ورجل أعمال بينما يبقون فى انتظار مصير
مجهول ولا يجدون فى النهاية سوى كلاب تنقذهم من الموت.
من هذا المشهد المأساوى لا يقرر د.«حسن» الاستقالة وهجر العلم وترك
دوره التنويرى فقط بل إنه يتراجع لتلاميذه عن دعوته لهم بإصلاح المجتمع
والمساهمة فيه ويدعو أسرته المحبة للعلم والعلماء وباعتباره عميدهم إلى عقد
اجتماع طارئ للبحث عن بدائل والخروج من المجتمع الذى يحتقر أبناءه أو هجره
نهائيًا وبأى وسيلة ممكنة رغم عشقه لتراب الوطن وانتمائه له وحلمه فى رفع
علمه خفاقًا عاليا وهذا المعنى هو الذى نقله على طريقة «الرواة» فى بداية
الفيلم من أن أسرته ورثت حب العلم ومتخذا هو شخصيًا من أسطورة د.أحمد زويل
بعد فوزه بجائزة نوبل قدوة له وأفراد عائلته وهم د.صلاح «طارق عبدالعزيز»
الحاصل على دكتواره فى الكيمياء ولكنه يؤسس معملاً «للطرشى» هو وزوجته فى
مقابل ابنة عمه الطبيبة «ألفت إمام» والتى تعانى هى الأخرى من العجز عن حل
مشاكلها رغم درجتها العلمية.. كل هؤلاء يتفقون على هدف واحد هو إعلان
التمرد على «السلم القيمى» لهذا المجتمع الذى لا يعترف بقوة وتأثير رجاله
من العلماء، فيلجأون أولاً إلى استخدام علمهم وذكائهم للذوبان وسط
المنظومات الاجتماعية صاحبة السيادة باستخدام الكوميديا السوداء التى هى
منهج مؤلفه ومخرجه المتميز «محمد أمين» وهى نفسها السلاح الذى أشهره فى
تجاربه السينمائية الأربع المختلفة «فيلم ثقافى» و«ليلة سقوط بغداد»
و«بنتين من مصر»، ثم «فبراير الأسود».
فى أحداث محقونة بالكوميديا يتحول د.حسن إلى «الشاطر حسن» الذى يستخدم
هنا المبدأ الميكافيللى من أن كل شىء مباح مادامت هناك قوة لازمة لتحقيقه.
محمد أمين يلجأ هنا إلى نفس فلسفته فى أفلامه السابقة وهى «الهجرة»
وأوجاع المثقفين والشباب والكبت الجنسى وهواجس الهروب والتمرد وكأنه يرسخ
لمنهجه السينمائى لكن هذه المرة يستخدم «الشاطر حسن» ولا يفوت «أمين» فى
استعراض أفكاره فى التلميح لأمراض المجتمع الذى تحول فيه نجم الكرة إلى
قدوة ومشروع اقتصادى مربح ومريح للأسر المغلوبة على أمرها، كاشفًا عن عناصر
إدارة هذه اللعبة الجماهيرية من «مدرب كرة» «سليمان عيد» بينما يقدم نفسه
كناشط «جنسى» أو المدير الفنى الذى يغير أراءه تحت ضغط السلطة، صناعة كرة
القدم ورجال القضاء وأمن الدولة هم الحلول السرية لتأمين نفسه وأسرته من
الهلاك، بما أن «العلم لا يكيل بالبذنجان» ووسط كل هذه الإسقاطات لا يترك
«أمين» الحجاب والنقاب، وفى الفيلم يستخدمهما باعتبارهما أداة للنصب وليس
كعلامة للإيمان، وهى رسالة تحمل دلالة واضحة ومباشرة لأصحاب الدعوة للعودة
لعصور الظلام.
ولأنه لا مكان للشرفاء فى أرض الوطن تصطدم أحداث «فبراير الأسود»
والشاطر حسن بنماذج ضابط أمن الدولة «إدوارد» والقاضى «أحمد زاهر» وقبلهم
الدكتور والباحث «ياسر الطوبجى» باعتبارهم شخصيات مناسبة للزواج من ابنته
الجميلة «ميار الغيطى»، وتحقيق الأمن والأمان لأسرته ولكنه يتركهم جميعًا
بعد خروجهم من الخدمة على مذبحة الفضيلة الغائبة، فى ذكاء واضح يحسب للمؤلف
والمخرج محمد أمين لأنه ليس كل ضباط أمن الدولة مزورين وخدامًا للسلطة
وأيضا القضاة، وأن ما نحكم به على الجزء لا يمكن أن نحكم به على الكل وفقا
للمربع الأرسطى الشهير.
أحداث ومواقف الشاطر حسن تنتقلنا أيضا إلى وقائع مهمة وخطيرة لعل
أبرزها البرامج التليفزيونية وفلسفة تلفيق الأحداث وضبطها على مؤشر النظام
وأهدافه فى قضايا تخص الوحدة الوطنية ومشاكل البسطاء وآلامهم فى المستشفيات
الحكومية وهى نماذج تحدثت عن نفسها قبل وبعد الثورة أيضا، الأولى لخدمة
النظام، أما الثانية فبعضها لاستثمار الفوضى، وما يستحق أيضا الإشارة هو
النموذج الذى قدمه الفيلم لكشف هذه البرامج من خلال «المعد» التليفزيونى أو
«ترزى» الفقرات وأنه الأعلى نفوذًا واختراقًا بشبكة علاقاته الواسعة
والأكثر فاعلية من «المعد» المهنى أو «الصحفى» ممثلاً السلطة الرابعة.
نهاية مغامرات «الشاطر حسن» تنتهى عند خيار «ابنه» الذى يتحول إلى نجم
كروى مرموق ومقرب من السلطة والنظام مثلما حدث فى عهد منتخب الفراعنة،
بينما تقترب ابنته من الزواج من ضابط أمن الدولة صاحب الحصانة تندلع ثورة
يناير فيعود د.«حسن» إلى خطيب ابنته الأول «رجل العلم» باعتبار أن مصر لن
تقوم لها قائمة إلا بدولة «العلماء»، وأن زويل ورجاله هم الحل وليس دولة
«الدعاة» والمعنى هنا واضح.
فبراير الأسود ملحمة سينمائية ووثيقة تاريخية تلخص أوجاع الوطن
وأمراضه رغم طول مدة عرضه فإن أحداثه تأخذك للتعايش معه وعدم الانفصال عن
أحداثه التى كتبها بمهارة وأخرجها «محمد أمين» وهو أحد نجوم الجيل الثالث
من المخرجين المؤلفين فى تاريخ السينما فهو «يخرج بما صنعت يداه من
أفكار».. بعد الراحل الفذ يوسف شاهين والعبقرى المبدع داود عبدالسيد إنه
امتداد طبيعى لهما لكن بتكنولوجيا 3D ثلاثية الأبعاد وهى نفس التكنولوجيا التى أرهص بها المخرجان «شاهين
وداود» وكانا سابقين لعصرهما، ويحسب هنا لمنتجة الفيلم «إسعاد يونس» تحمسها
لهذه النوعية من الأعمال التى تقدم شهادات حية عن المجتمع تعيش فى الأرشيف
السينمائى ومغامرتها بالفيلم فى وسط هذه الأجواء اللاهبة وعدم المبالغة فى
عدم طرحه فى التوقيت الأصلى له خلال شهر فبراير مع أن أحداثه شاهدة على
الفترة والذى اختاره المخرج بذكاء باعتباره شهر نذير شؤم وشاهدًا أيضا على
التفاصيل التى حشدها فيه، يحسب أيضا لإسعاد إيمانها بموهبة «أمين» بعد أن
قدمته فى «ليلة سقوط بغداد» وفيلم «بنتين من مصر» أيضا تأكيدا على أصالة
مشروعه السينمائى.
محمد أمين وإسعاد فى هذه الرحلة السينمائية والفصل الرابع من مشروع
الكوميديا السوداء فى صحبة وحش الشاشة الجديد «خالد صالح» ويقدم نفسه هنا
ككوميديان رائع وممثل قدير، وفى الوقت نفسه يعيد اكتشاف مواهب مدفونة مثل
«أمل رزق» والتى يمثل الفيلم انطلاقة جديدة لها ومعها أيضا ألفت إمام،
وعودة موفقة لأحمد زاهر بـ«نيولوك» جديد استرد فيه لياقته السينمائية كممثل
متميز، أما «ميار الغيطى» فهى موهبة واعدة وعليها بعد هذا الفيلم التركيز
فى الشاشة الكبيرة والتقليل من حضورها التليفزيونى بعد أن فتحت لها السينما
ذراعيها وهى بملامحها البريئة جديرة بفرص أخرى لتأصيل موهبتها، في حين يسير
إدوارد وسليمان عيد فى نفس الخط المؤدى إلى حضور أكثر بريقًا.. أما «نبيل
الهجرسى» فى مشاهد أظنها الأخيرة له على الشرط السينمائى فى رحلة الوادع،
وهذا ما يحسب لإسعاد تحديدا وأيضا للمخرج.
«فبراير
الأسود» صرخة أخيرة لعودة دولة العلم لبلد العلماء والحضارة
إحباط «ليلى علوى» و أوجاع «الفخرانى»
وصلوات الأب «بطرس» فى مهرجان المركز الكاثوليكى
كتب : حسام عبد الهادي
افتقادها لروح البهجة وألق الحياة هو الشعور الذى أصبح مسيطرا على
«ليلى علوى» بشكل ملحوظ انعكس على ملامحها وحيويتها، وهو الإحساس الذى
صدرته إلى الحاضرين فى حفل توزيع جوائز مهرجان «المركز الكاثوليكى المصرى
للسينما» فى دورته الحادية والستين خلال كلمتها التى عبرت فيها عن حزنها
العميق ولقلقها الشديد على ما يحدث فى مصر الآن بأحداثها الدامية المتلاحقة
على مختلف الأصعدة فيما يشبه الفتنة.
«علوى» التى حصلت على جائزة أحسن ممثلة عن دورها فى مسلسل
«نابليون والمحروسة» أكدت أنها كانت ستخسر الكثير لو لم يصادفها مثل هذا
الدور فى حياتها، وأن الدور ملىء بالوطنية التى مصر الآن فى أمس الحاجة
إليها، وعلى أنغام موسيقى تيتر المسلسل التى صاحبت استلامها للجائزة والذى
كتب كلماته «أحمد فؤاد نجم» ومن ألحان «الشيخ إمام» ظلت تردد هى وجموع
الحاضرين «مصر يا أما يا بهية.. يا أم طرحة وجلابية.. الزمن شاب وأنت شابة
يا مصر هو رايح وأنت جاية».
أما «يحيى الفخرانى» : فبنبرة حزينة قال : «بحمد ربنا أن فيه مناسبات
زى ديه بتخلينى أنزل من بيتى رغم الظروف المأساوية اللى إحنا بنعيشها واللى
بتخلى الواحد مالوش نفس يعمل أى حاجة، وتساءل : عارفين ليه أنا عن نفسى
بأتشعلق فى مناسبات زى ديه ؟ علشان أتونس بيكم.. فعلا إحنا النهاردة ما
بنصدق نتونس بحد بنحبه ويحبنا وده إللى إحنا بقينا مفتقدينه، «الفخرانى»
الذى حصل على جائزة أحسن ممثل عن دوره فى مسلسل «الخواجة عبدالقادر» فى
نهاية كلمته تمنى قائلا : يا ريت نفضل نتونس ببعض دايما.
توزيع جوائز عن الأعمال الدرامية التليفزيونية - رغم أن المهرجان
سينمائى - هو تقليد اتبعه «المركز الكاثوليكى للسينما» منذ عدة أعوام
للاحتفاء بالنجوم الذين أثروا الشاشة وتميزوا بأعمالهم فيها على مدار العام
إلى جانب الاحتفاء بأصحاب الليلة الأصليين من أصحاب الأعمال الدرامية
السينمائية، وهم جميعا أسرة واحدة يصبون فى نهر إبداعى واحد رغم اختلاف
روافده، فنجوم تليفزيون اليوم هم نجوم السينما الأمس وربما الغد، ونجوم
سينما اليوم هم نجوم تليفزيون الأمس وربما الغد.
«أحمد
بدير» الذى حصل على جائزة أحسن ممثل عن دوره فى فيلم «ساعة ونص» مشاركة مع
كل من «محمد عادل إمام» و«ماجد الكدوانى» عن دوريهما فى نفس الفيلم قال فى
كلمته : «أنا لما كان حد بيسألنى إيه آخر جايزة خدتها كنت باأقول له «جايزتى
هى الجمهور» كحجة لعدم حصولى على جوائز من فترة طويلة»، وهو ما يجعل
سعادتى لا توصف وأنا أحصل على هذه الجائزة اليوم التى كنت أتمنى أن أحصل
عليها فى ظروف أفضل من التى نعيشها الآن وفى وقت لا أرى فيه الأخ بيموت
برصاص أخيه فى شوارع الوطن الذى احتضننا جميعا وجعلنا أسرة واحدة.. الآن لا
أقول أنى أخشى على هذه الأسرة من التفكك لأنها تفككت بالفعل بل أتمنى أن
نستطيع أن نلم شملها من جديد وفى أسرع وقت وإلا ضعنا !!
أن نهيئ أنفسنا للنظر إلى بعضنا البعض من خلال حوار جاد وفعال، هذا
ما تمناه الأب «بطرس دانيال» رئيس المركز الكاثوليكى ورئيس المهرجان وطالب
بأن تكون المحبة هى طريقنا فى الحياة، وأن تكون هى عنوان الأخوة بيننا
والتى تتطلب سماع كل منا للآخر وإبعاد المصالح الشخصية، كما طالب بالصلاة
والدعاء - سواء كان مسلما أو مسيحيا - لتعبر مصر أزمتها، وختم كلامه قائلا
: الفن يسلبنا هموم الحياة ليمنحنا لحظات السعادة، ولو لم يفعل غير ذلك
لكفاه، فبرغم الظروف العصيبة التى تمر بها مصرنا الغالية، إلا أن السينما
المصرية كانت وستظل لها قدرتها على الاستمرار فى الإبداع والعطاء، فهى ملاذ
الجمهور للهروب من اليأس والإحباط.
المهرجان كرم هذا العام كلا من المطرب الكبير هانى شاكر لغنائه فى
الحفل متبرعا وأيضاً «محمود ياسين» و«نادية لطفى» التى تسلمتها حفيدتها، و«حمدى
أحمد» و«أحمد راتب» الذى تسلمتها ابنته وأعلنت إصابته بأزمة صحية دخل على
أثرها مستشفى «الصفوة» بالسادس من أكتوبر - بجوار مقر إقامته و«يوسف فوزى»
الذى قال : فوجئت أثناء دخولى من باب المركز بشاب يأتينى مسرعا، وعلى وجهه
علامات السعادة وقال لى : حضرتك نجمى المفضل.. مش برضه حضرتك أستاذ
«يوسف».. «يوسف».. فقلت له : «يوسف بك وهبى».. قاللى : أيوه «يوسف بك وهبى»،
وتعالت الضحكات داخل القاعة، وختم كلامه قائلا : أن تأتيك نصف جائزة من
مكان يقدرك خير من تأتيك جائزة كاملة من مكان لا يقدرك.
مجلة روز اليوسف في
09/03/2013
هاني جرجس فوزى:
أتحدى الجميع بغادة عبدالرازق في «الجرسونيرة»
محمد السيد
ثلاثة أبطال فى مكان واحد تسلط عليهم الكاميرا، لأكثر من ساعة ونصف
الساعة، لا يغيرون المكان ويبذلون مجهودا مضاعفا، حتى لا يصاب الجمهور
بالملل، ذلك هو التحدي الأكبر للمخرج هاني جرجس فوزى، الذى أنهاه مؤخرا فى
فيلم «الجرسونيرة» الذي تقوم ببطولته غادة عبدالرازق ومنذر رياحنة ونضال
الشافعى.
الفيلم الذى يقوم هاني بمونتاجه الآن، يرى أنه سوف يكون مفاجأة
للجميع، وفى تصريحات خاصة لـ«الشروق» يقول عن الجرسونيرة: «من البداية وأنا
أشعر بتحدٍ غريب يدفعني لتقديم هذا العمل المختلف كلية عن أى شيء شاهدناه
من قبل، وكنت أسأل نفسى عن الكيفية التي سوف أقدم بها الفيلم دون أن يشعر
المشاهد بالملل من فكرة عدم خروج الكاميرا لمكان آخر، وعندما بدأت التصوير
كنت أضع يدى على قلبي لكن مع مرور الوقت أدركت أن التجربة سوف تكون مختلفة
وجيدة، والحمد لله أشعر الآن بالفخر وأنا اقوم بعمل المونتاج للفيلم
فالنتيجة لم أكن أتوقعها أنا شخصيا وسوف ترون أبطال الفيلم كما لم تروهم من
قبل».
وأضاف هانى: «الفيلم لا ينتمى إلى نوعية محددة ولكن هناك صراعا نفسيا
وإنسانيا بين الأبطال جميعا وهذا الصراع سوف يخلق نوعا من أنواع الإثارة
التى سوف تجبر المشاهد على متابعة الفيلم وهى الأحداث التى سوف تجعله لا
يشعر بأى ملل وأنا سعيد بهذه التجربة جدا وأتمنى أن تنال حظها عند العرض
لأنى اعتبرها بداية مختلفة لى ولكل العاملين فى الفيلم الذى اعتبره حالة
فريدة لم تحدث فى السينما المصرية من قبل».
«الجرسونيرة» من تأليف حازم متولى ومن بطولة غادة عبدالرازق التى يقول
عنها مخرج الفيلم: «غادة ممثلة رائعة ولديها إمكانات فنية كبيرة وفى هذا
الفيلم أراهن بها وبأدائها الذى سوف يكون علامة مختلفة فى مشوارها الفنى»،
ويقول أيضا: «سوف ترون منذر رياحنة مختلف وكذلك نضال الشافعى والحقيقة أن
الحب والإيمان بالعمل وبالفكرة من كل ابطال الفيلم والعاملين فيه هو الذى
ساعدنى على تقديم هذه النتيجة التى ارضى عنها تماما والحمد لله»، الفيلم
تكلف إنتاجه 7 ملايين جنيه رغم عدم وجود أماكن تصوير كثيرة وهو شيء يحسب
لشركة الانتاج، على حد قول هانى الذى يضيف: «لم تبخل للأمانة شركة الانتاج
ولم تقصر وكل الذى أردته وانا مخرج نفذته الشركة وهو شى اقدره تماما لأنى
منتج وأفهم معنى ان يوفر الانتاج كل شىء للمخرج».
هانى يرى، أن عرض الفيلم ربما يكون فى الصيف ويقول: «لا أعرف تحديدا
ميعاد عرضه ولكنى اتمنى ان يحظى بميعاد جيد فالناس تعلم جيدا الأزمات التي
عاشتها السينما فى العامين الماضيين ونتمنى ان تنتفض بسرعة حتى لا تكون
هناك ازمة فى الصناعة التي يعمل بها ملايين».
الشروق المصرية في
09/03/2013 |