كانت رفيقتي على مدار أحد عشر يوماً في لجنة التحكيم بمهرجان الجزيرة
الدولي التاسع للأفلام التسجيلية 2013، مما أتاح لي الإقتراب من شخصيتها
ورؤيتها الفنية والعوامل التي تلعب دوراً في تقييمها للعمل السينمائي،
وتجربتها المتميزة مع الوثائقي. إنها إيدا جرون مخرجة "الطفل والمهرج"
والذي حصدت عنه أربع جوائز عالمية خلال عام 2012 من بينها جائزة مهرجان
الجزيرة في الدورة السابقة. طلبت منها نسخة من الفيلم وذات صباح استغرقت
لمدة 51 دقيقة في مشاهدة عمل فني وثائقي رقيق ومؤلم، مشغول بلغة سينمائية
بالغة الرقي والتأثير. إنه عن الأطفال المصابين بالسرطان وكيف يمكن للفكاهة
والبهجة والسخرية والمرح أن تلعب دوراً في تخفيف الألم وفي مقاومة هذا
الداء اللعين، وذلك من خلال مهرج يقيم علاقة صداقة قوية مع الأطفال.
أثبتت الدراسات أن نسبة 80% من الأطفال المصابين بالسرطان يتم شفاؤهم.
لكن في حالة بطل هذا الفيلم واسمه "توبياس" كانت النسبة المتوقعة لشفائه هى
30% فقط، فهل ينجح – إلى جانب مساندة المهرج وإدارة المستشفى والأهل - في
تحصين جهاز المناعة واستنفار المقاومة للانتصار على السرطان؟
ينهض بناء الفيلم على أهمية البهجة في حياة هؤلاء المرضى، ويطرح
تساؤلاً جوهرياً: من الذي يحتاج إلى البهجة أكثر: الأطفال أم أسرهم؟ خصوصاً
أن الأهل عادة ما يكونوا مرآة تنعكس فيها حالة الأبناء، مرآة يقرأ فيها
الأطفال وضعيتهم ومأساتهم مما يشكل خطورة في إصابتهم بانتكاسة. يعترف
المهرج "أنجاس" البطل الشريك في الفيلم: "إنني لا أستطيع أن أُبعد هذا
المرض عن هؤلاء الملائكة لكن يُمكنني تغيير الموقف أو وضعية الأطفال."
بعد مشاهدتي "الطفل والمهرج" كان لابد من التوقف طويلاً مع مخرجته
لمحاولة تصور رحلتها أثناء صناعة هذا العمل المختلف وشديد الأهمية، خصوصاً
أن والدتها كانت هى الآخرى ضحية مرض السرطان مما لعب دوراً في اختيار
الموضوع عندما قرأت في الصحف عن مستشفى الأطفال الذي يعالج بالفكاهة والضحك
والسخرية.
·
أخبرتني أن الفيلم استغرق منك
عام ونصف العام ليكتمل، مما يعني أنك توقفت أثناء التصوير ثم استأنفت العمل
مجددا، فهل وجدت أي صعوبات خصوصاً في استئناف العمل بعد الإنقطاع عنه؟
في النصف الأول من السنة كنت أقضي ثلاثة أو أربعة أيام في المستشفى
باستثناء أجازة امتدت لأسبوعين أو ثلاثة. خلال النصف الثاني من السنة غاب
الطفل توبايس عن المستشفى ولم يحضر إليه إلا مرات قليلة لإجراء مسح
بالسونجرام حتى تتضح نتيجة العلاج الذي خضع له وذلك حتى يستطيع الأطباء
تحديد نتيجته بشكل نهائي. كانت النتائج واعدة وكنا جميعاً نعتقد أنه شفي من
مرضه، لكن بعدها بشهر أو اثنان أصيب بنكسة.
·
وكيف تصرفتِ إزاء ذلك، وهل كان
من الممكن مواصلة تصوير الفيلم؟
تشاورت مع أهله، ومع حكيمة المستشفى، ومع الطبيب ومع شركة الإنتاج،
وجهات آخرى حتى أقرر إذا كان من المناسب أن أواصل التصوير أم لا، لأن
الإنتكاسة التي أُصيب بها كانت تعني أن الموت أصبح احتمالاً حقيقياً. في
النهاية اتفقنا أنا وأمه على الاستمرار في التصوير لأنني كنت قد أصبحت
جزءاً من حياته في المستشفى، وشكلاً آخر من المساندة له، والاهتمام الذي
أصبح له أثر عليه. هكذا أصبح من المتاح لنا أن نرى كيف ستتطور الأمور وأن
نتصرف على أساس ما يحدث يوم بيوم.
في السنة الأولى لم أعاني من أية مشاكل في استئناف العمل على الفيلم.
المسائل جرت بشكل طبيعي حيث كنت على صلة بالمهرج وأسرة الطفل بشكل متواصل
ذلك لأنني كنت أقوم بالعمل من أجل هدف له قيمة والكثيرون من اهالي المرضى
كانوا يعتبرون أنه فيلم مهم يكشف عن الجانب المؤلم والصعب للوجود في
المستشفى وعن المعاناة من مرض خطير، لكن بعد النكسة التي أصابت الطفل كان
استئناف العمل على الفيلم صعب للغاية، لأنني حتى هذه اللحظة – قبل
الانتكاسة - كنت موقنة بأنه مع العلاج سيشفى لكن الآن وفجأة أصبح مريضاً
للغاية، نعم للغاية، فبالقدر الذي كنت أحترم نفسي لوجودي إلى جواره كنت
بنفس القدر أشك أيضاً في مدى صواب قيامي بتصويره. طوال الوقت أخشى من
فقدانه، من أن أجده غائباً في اليوم التالي. كنت أبكي كثيراً عند عودتي
للبيت بعد تصويره. في لحظة من اللحظات سألت والدة توبياس إن كانت تندم على
موافقتها لي بالتصوير؟ لكنها أكدت على الفور أنها لم تندم، وكان هذا جزء
مما كنت أقوم به، كنت شاهدة على الظروف التي يعانون منها. كنت قد اتفقت مع
توبياس أنه يكفي أن يقول لي: "توقفي." حتى أتوقف، إذا قرر أنه لا يريد أن
يتم تصويره، لكن في بعض الأحيان كنت أتوقف لإحساسي أنه لابد من وضع حدود
لما أقوم به. ماذا لو مات توبياس؟ هل كان من الممكن أن نصنع فيلماً يموت
فيه الطفل، حتى لو وقع هذا بالفعل وأصبح حقيقة؟ ستكون حقيقة صعبة للغاية،
حقيقة ليست نموذجية إطلاقاً لأن 80% من الأطفال يتم شفاؤهم اليوم من مرض
السرطان.
·
وماذا لو حدث ذلك؟
لحسن حظ الجميع لم تنته بنا الأمور إلى وضع مثل هذا. لو كان هذا قد
حدث أعتقد أننا كنا ركزنا جهودنا على أطفال آخرين فقد تم شفاؤهم جميعاً.
هذا رغم أنه لا يوجد ضمان أبدي في أن يحدث هذا عند التعامل مع مرض السرطان.
·
وماذا عن الصعوبات التي واجهتك
أثناء التصوير؟
بغض النظر عن ردود فعلي العاطفية أعتقد أن الصعوبة الأساسية جاءت من
أنه كان عليَّ أن أمتلك مجسات حساسة للغاية تقودني في التعامل مع هذا العدد
الكبير من الناس في آن واحد. الأطفال، أسرهم، الممرضات، الأطباء، والمهرج
مع نظرته إليَّ فيما يخصني، ويخص آلة التصوير، وهذا بينما أنا مشغولة
بالتفكير حول القصة، حول الكادرات، وحول مسألة الصوت، فقد كنت وحدي في
العملية كلها.
الصعوبة الثانية ظهرت بعد مرور خمسة شهور من التصوير عندما ظهر بوستر
لفيلم عن ممرضة شريرة عرف به الموجودون في المستشفى وفجأة أصاب اثنتين من
الممرضات قلق إزاء ما أقوم به. بالإضافة أنهما كانتا تشاهدان أيضاً في
التلفزيون تحقيقات حول ناس يتم ضبطهم وهم يرتكبون فعلاً سيئاً وأعتقد أنهما
قد خشيتا أن أكون متورطة في القيام بهذا تحت ستار ما أفعله علناً أوبشيء من
هذا القبيل. ورغم أنهما كان ينبغي عليهما أن تدركا أنني لست شخصاً من هذا
النوع. فإن كان المهرج هو الشخص "الخير"، البطل الذي ينقذ الأطفال، فمن
ياترى هو الشرير في هذا الفيلم؟ هل من الممكن أن تكون الممرضات اللائي
تسببن الألم للاطفال على الدوام بغرس الإبر غصباً عنهم؟ بالطبع كنت حزينة
لهذا الوضع على الأخص أنني كنت أبذل أقصى جهودي لإظهار الإحترام نحو جميع
الناس. وهذا طوال الوقت لكني أدركت أن مخاوفهن هذه كانت نابعة من تعاطفهن
مع الأطفال وحرصهن عليهم، وأن لا واحدة من بينهن يمكن أن تسبب الآذى لطفل
أوتضره. لم يكن يردن سوى أن يقمن بعملهن على نحو جيد، أن يفهمهن الناس، ألا
يتهمن بأي شيء، فعقدنا أنا والمنتج اجتماعاً مع الممرضات وعرضنا عليهن
أجزاء من الفيلم مصحوبة بشرح لكل شيء كما نقوم به. بعد هذا بدا أن هذه
المجموعة من الممرضات تخلصت من شعورها بالقلق. لكن بالطبع كلنا يدرك أنه
يوجد دائماً من لايرتاح إلى وجود شخص يحمل آلة التصوير في هذا المكان وهذه
مسألة كنت أدركها تماماً.
·
وكيف تعاملت مع التصوير أثناء العمل بالمستشفى، هل كان من السهل أن يتعامل
الأطفال والممرضات مع الكاميرا بشكل تلقائي؟
لم تكن لدي مشكلة عندما كنت أقوم بالتصوير أثناء جريان العمل فقد بذلت
أقصى جهودي حتى لا أكون عنصر عرقلة. بعض الممرضات كن يُظهرن احساساً
بذواتهن مبالغاً فيه نتيجة خشيتهن من ارتكاب أخطاء أمام آلة التصوير، ومن
طريقة ظهورهن وهن مع الأطفال. لكن كان توبياس محاطاً بمجموعة رائعة من
الممرضات اللائي تعودن على وجودي وأصبحن تتصرفن بطريقة تلقائية وطبيعية
أمام الكاميرا. الأطفال كانوا يشكلون مشكلة أقل في هذا الصدد لأنهم يجدون
سهولة في أن يكونوا أنفسهم أمام آلات التصوير. بالطبع كانوا يتصرفون وكأنهم
نجوم صغيرة في البداية، لكن بعد فترة أصبحت أنا جزءاً من حياتهم بسرعة.
·
وهل اخترت أن تصوري طفل واحد فقط على وجه الخصوص حتى تتمكني من متابعة
حالته بعمق وبشكل كامل ومن ثم يكون أمره أكثر تأثيراً؟
نعم، كنت أريد أن أتناول مثالاً محدوداً أكثر من أي شيء آخر حتى أتعمق
وأعكس واقعاً أكثر اتساعاً، مثل حبة الرمل التي تحكي لنا عن العالم في
شموله، في أن يتم متابعة طفل واحد فقط فيسهل على المشاهدين أن يندمجوا معه،
وأن يشعروا أنهم كانوا معه هناك، أدركت بسرعة أن توبياس سيكون الطفل الذي
أريد أن أركز عليه لكني قمت أيضاً بتصوير البنات الثلاث إلى حد ليس بالقليل
لأنه خطر في بالي أنهن سيتخللن مساحة أكبر في القصة. كان سيحدث هذا لو أن
توبياس مات.
·
وهل فاتك شيء من علاج توبياس؟
لا.. فاليوم الذي دخل فيه توبياس إلى المستشفى كان أيضاً اليوم الأول
الذي بدأت فيه التصوير، وقد سمح لي هذا في أن أتتبعه منذ البداية حتى نهاية
العلاج الذي كان يتلقاه، وهو ما كنت أهدف إليه.
·
هل اخترت المهرج أم أنه فُرض
عليك؟
اتصالي بالمهرج كان مسألة حددتها أنا دون تدخل من أحد. قررت أن أتصل
به لأنه واحد من أكثر مهرجي المستشفيات في الدانمارك، وكان يعمل في عنابر
علاج سرطان الأطفال. بدا لي أن القيم النوعية التي يشخصها مهرج المستشفى أي
تلك المتعلقة بالأمل والبهجة والضحك والسحر واللعب.. إلخ، ستكون واضحة هنا
لأن الأطفال يبقون في المستشفى فترات طويلة، وحالتهم جد خطيرة. عندما
التقيت به لأول مرة أحسست أننا نتعامل كأشخاص على نفس المستوى، بدا لي أنه
شخصية طيبة وعطوفة على نحو رائع. دعاني لأتتبعه لمدة يوم في عنبر السرطان،
أن أستخدم هذه الفرصة لكي أشاهد أسلوب تصرفه مع الأطفال، بالطبع كان هذا
بمثابة اختبار استطاع هو منه أن يعرف إن كان سيتيح لي من ناحيته الدخول معه
في هذه التجربة. بعد هذا عقدت جلسة طويلة مع الطبيب ومع رئيسة الممرضات في
العنبر، مما سمح لي بعد بأن أتردد على العنبر، وعندما حدث ذلك كان عليَّ أن
أحصل على موافقة كل فرد من أفراد أهل الأطفال الذين يُعالجون هناك.
·
كيف بنيت العلاقة مع المهرج في محاولة للتأكد من أنه سيتصرف بشكل طبيعي
وليس شخص يقوم بدور؟
أولاً كنا محظوظين لأننا انسجمنا مع بعض منذ البداية. بعد ذلك كنت
أقضي معه كل الوقت الذي يتواجد فيه داخل المستشفى كما كنت أتحدث معه بعد
ساعات العمل، وعلى التليفون. هكذا أصبحنا صديقين ولم يعد وارادا بعد ذلك أن
يتردد كثيراً إزاء وجودي هناك. كان متعاوناً إلى درجة كبيرة وكان سنداً
مهما لي عندما وجدت نفسي "موحولة" في قسوة المرض الذي كان عليماً بكل
أبعاده وتفاصيله. الأسئلة التي وجهتها إليه سمحت له بأن يعيد التركيز فيما
يقول، أن يعيد تقيمه، مما عمق من رؤيته للعمل الذي يقوم به.
·
لماذا كان المهرج يتواجد مرتين فقط بالمستشفى؟ هل كان لديه عمل آخر؟ كم
عدد الأطفال الذي من المفترض أن يعتني بهم؟ ومن هم الأطفال الذين يُركز
عليهم؟
كان المهرج يتواجد في المستشفى مرتين أو ثلاثة مرات في الأسبوع، منها
مرة واحدة فقط يقضي اليوم كله في عنبر السرطان، وفي المرات المتبقية يمر
على عنابر الأطفال في المستشفى، بالإضافة كان يعمل يوماً آخر في إحدى
المستشفيات، جمعية المهرجين، وهى جمعية خارجية ممولة عن طريق المساهمات
الفردية ولم يكن في استطاعتها أن تدفع له أجراً أكبر حتى يستطيع العمل عدد
أيام أكبر. يجب أيضاً الوضع في الاعتبار أن طبيعة عمله كانت تستنزفه
عاطفياً. ليس في مقدور أي شخص أن يتلائم مع هذا العمل. إنه أحد أشكال الفن،
يتطلب مهارة حقيقية، ولهذا السبب أعتقد أن الذين يقولون أن عمل المهرج في
المستشفى يجب أن يكون تطوعياً يكشفون عن جهل مطلق بهذا الموضوع. أعذروني
لهذا القول فالمهرجون ناس يتعاملون مع أطفال أصابهم ما هو بمثابة صدمة
عنيفة. في عنبر السرطان كان عليه أن يهتم بعدد من الأطفال يتراوح بين عشرة
وعشرين، أن يستخدم حسه ليُقرر مَنْ فيهم يحتاج إلى عناية خاصة. وهى مسألة
تتغير من يوم إلى يوم. بالنسبة لبعض الأطفال كان يكفي أن يفتح باب غرفتهم
ويغمز لهم بحركة مضحكة من وجهه وذلك لأنه كان قد أقام معهم علاقة خاصة،
ولأن قوة هذه العلاقة كانت تزدهر لمجرد وقوع هذه اللحظة فتؤدي إلى أن
يربطوا بينها وبين صور فكاهية إيجابية اختزنوها في أذهانهم من قبل فيكون
لها أثر إيجابي. في بعض الأوقات كان يقضي اليوم كله مع طفل واحد يحتاج إلى
عناية خاصة وكانت الممرضات تستدعينه أحياناً لكي يسعفهن إن كان الطفل يشعر
بالخوف أو بألم شديد.
·
لماذا ليس هناك مشاهد كثيرة تجمع الأطفال ببعضهم البعض؟ ألم يكن من المحتمل
أن تضيف تلك اللقاءات الاهتمام والتأثير أقوى على الفيلم؟
أغلب الأطفال كانوا يقضون الوقت كله في غرفة بسبب إصابتهم بالغثيان،
أو الألم، أو الإرهاق الناجمين عن العلاج. عندما كانوا في حالة جيدة بالقدر
الكافي كان يُسمح لهم بالعودة إلى البيت. كانوا يلتقون حول مائدة للأطفال
ساعة الغداء كما يتضح بالفيلم، وأحياناً في غرفة اللعب أو المدرسة إذا
كانوا يشعرون بأنهم في حالة طيبة. قمت بتصوير أوضاع مختلفة من هذا القبيل
لكن التركيز في الفيلم كان على العلاقة القائمة بين المهرج والأطفال، وماذا
كانت تعني هذه الشخصية المهرجة للطفل أثناء مروره بهذه الفترة القاسية من
حياته. لذلك انتهينا باسقاط العديد من تلك المواقف والأوضاع. ربما هذا شيء
يصعب إدراكه إلا لمن حضر في غرفة المونتاج. كان لابد أن نركز على جوهر
الفيلم، على قيمة القرب، والدفء، والفكاهة النابعة من شخص وجوده ليس
مرتبطاً بغرس الإبر في جسمك، أو بفرض نظام معين عليك. لذلك فإن التفاعل
المتبادل بين الأطفال لم يتم توضيحه أو تمثيله إلا في مرات قليلة أثناء
الفيلم.
·
لماذا لم تهتمي بمنح مزيد من
المساحة لردود فعل الأبوين؟
أهل توبياس كانوا خجولين للغاية أمام آلة التصوير لكنهم كانوا جيدين
جداً عندما كنت أقوم بتصويرهم. لم يكونوا مرحبين بتوجيه الكاميرا إليهم.
قدرت هذا الموقف لأن جوهر الفيلم كان في العلاقة بين المهرج والطفل. لذلك
اهتممت ببناء علاقة من الثقة بيني وبين أهل توبياس. في منتصف التصوير كنت
مضطرة لعرض جزء من المادة المصورة عليهم فقد بدا وكأن توبياس بلا أهل..
وشرحت لهم أنه من المهم أن يتم تصويرهم مع توبياس أحياناً. وافقوا على إثر
هذا الشرح وسمحوا لي بأن أقوم بتصويرهم أكثر من قبل، رغم أنهم ظلوا قلقين
أمام الكاميرا. لكن كانت علاقتي بهم طيبة وكنت أتحدث إليهم ما بين فترات
التصوير.
·
بدا لي أن المستشفى تنتمي لطبقة
خاصة وتعالج بشكل أساسي أطفال الطبقة الثرية، فهل هذا صحيح؟ وهل هناك
مستشفيات عديدة مثلها تعالج الأطفال المصابين بالسرطان باستخدام أسلوب
المهرج؟ ولو هذا صحيح لماذا اخترتي هذه المستشفى دون غيرها؟
أدهشني هذا السؤال وتساءلت ما الذي جعلك تظنين هذا؟
لا، إطلاقاً، ليست هذه المستشفى خاصة بالأطفال الأغنياء. إنها ثاني أكبر
مستشفى خاصة بالأطفال في الدنمارك وهى تعالج مرضى من مختلف المراتب
الإجتماعية، والثقافات. ليس لدينا مستشفيات خاصة بالأغنياء وإن كان لدينا
مستشفيات خاصة للعلاج السريع الخاص ببعض الأمراض، لكن الدولة تقوم بدفع
تكاليف العلاج التي يتكبدها الناس العاديين الذين يُعالجون فيها إذ كانت
فترات الإنتظار في المستشفيات العامة أطول من اللازم. الأغنياء والفقراء
يعالجون جنباً إلى جنب في هذه المستشفيات. اخترت هذه المستشفى لأن المهرج
أنجاس كان يعمل فيها. لم أكن أعرفه قبل أن أبدأ العمل في الفيلم لكني أدركت
أنه الشخص المناسب.
·
ما هو التأثير الذي تركه المهرج
أنجاس على أسلوب عمل الأطباء والممرضات وبقية فريق العمل في المستشفى؟
أنجاس كان قد قضى عشر سنوات في هذه المستشفى قبل أن أدخل إليها حاملة
الكاميرا. خلال هذه السنوات أقام علاقة جميلة من الثقة والإحترام المتبادل
مع أغلب الممرضات والأطباء، لقد اختبروه وعرفوه بحكم هذه المدة الطويلة في
العديد من المواقف القاسية والمضحكة فأدركوا قيمته لذلك يستدعونه أحياناً
طلباً لمعاونته جميع الأطباء. كان موقفهم منه إيجابياً؟ ربما عدد قليل من
الممرضات بين المجموعة الكبيرة لم تكن قادرات على التعامل معه. لكنه
بالتأكيد كان يخفف من وطأة الظروف المؤلمة المحيطة بالطفل، بالأهل
وبالممرضات. كان يشير إلى الأشياء العبثية في الموقف ويثير ضحك الجميع.
·
وماذا عن التأثير النفسي على
الأطفال؟
أحد الأطباء النفسيين في المستشفى قال لي أنه بعد أن بدأ أنجاس عمله
في المستشفى تغير الجو العام وأصبح أكثر إيجابية. ما رأيته أنا بعد مرور
السنوات العشر لعمله في المستشفى كان وجود ممرضات يتعاطفن كثيراً مع
الأطفال والأهالي. ويُعطين وقتاً للنكات والضحك. مع ذلك في بعض الأحيان لم
يكن متاحاً لأن الواجبات العملية كانت تستغرق الوقت المتاح لهن.. أعتقد أن
أنجاس قادر على تحليل العلاقات من حيث نوعها وقيمتها لكن الممرضات أيضاً
واعيات بهذا الجانب، وقادرات على خلق هذه القيمة. لكن أنجاس وحده فقط هو
القادر على تكريس كل وقته لهذه المهمة، ولذلك أصبح وسيطاً يعلم الممرضات من
الأطباء، عن طريق ملاحظاته الإجتماعية. ليس لديه برنامج محدد مفروض عليه،
ولذلك يستطيع أن يكون في متناول الأطفال. وموضع ثقتهم لكن على نحو مختلف.
إنه قادر على خلق جو من الراحة في الظروف المشحونة بالتوتر وبهذه الوسيلة
يجعل التواصل بين الأطراف جميعاً أفضل وأسهل ويسمح لهم بأن يرفعوا القيود
من على أنفسهم.
·
الموسيقى كان لها تأثير قوي
ورائع في الفيلم.. كيف قمت باختيارها؟
روجر جولا المؤلف الموسيقي كان زميلي في سنين الدراسة وقد عملنا سويا
منذ أيام المدرسة. لذلك أمكنه تأليف الموسيقى أثناء المناقشات التي كانت
تدور بيننا وعلى الأخص في هذا الفيلم. إنه مؤلف موسيقي موهوب وأقول عنه
عادة أنني لا أحتاج سوى أن أعطيه صورة وجملتين حتى يدرك ما يدور في ذهني
وما يحتاج إليه الفيلم، فيُؤلف مقطوعات جميلة بالطبع معتمداً على حريته
الإبداعية والفنية. فيما يتعلق بهذا العمل بالذات أعطيته لوحة مزاجية فيها
صور مختلفة ظننت أنها ستُعطيه الإحساس بالفيلم الذي أريد صنعه، صور للأمير
الصغير والقائد الطائرة (توبياس وأنجاس) فقاعات صابون، البوستر الخاص بفيلم
(مدينة الأطفال الضائعين) كما أرسلت له بعض المطبوعات الموحية. إنه مؤلف
جوهرة.
·
ما المشاكل التي واجهتك أثناء
المونتاج وكيف تغلبت عليها وكم من الوقت استغرق المونتاج؟
بدأنا المونتاج في الوقت الذي ظهرت فيه النتائج الإيجابية للعلاج الذي
يتلقاه توبياس. وظننا أن هذا سيكون نهاية القصة. أثناء الإنتكاسة التي
أصابته توقفنا لبعض الوقت. كنا في حاجة لرؤية ما حدث ثم واصلنا المونتاج
فيما بعد. أعتقد أن المونتاج استغرق في مجموعه ما يقرب من ستة عشر أسبوعاً
لكن كان علينا أيضاً أن نعد نسخة للتليفزيون. المشكلة الأساسية التي
واجهتنا أثناء المونتاج هى أن المادة التي كانت موجودة لدينا كان لها تأثير
سيء من الناحية العاطفية لذلك كانت مهمة خلق توازن بين المواقف المؤلمة
والحرص على احترام الشخصيات المختلفة (أي احترام أحاسيسسهم ومشاعرهم).
وتفادي ما يمكن أن يكون نوعاً من التلصص أو "الإباحية"، مع الحفاظ على
المصداقية بالنسبة للمواقف الصعبة. ذلك التوزان شكل المهمة الأصعب. لم يكن
من الممكن أن نصور توبياس أثناء أقسى اللحظات لأن في هذا عدم تقدير أو
احترام لما يقاسيه هو وأهله. في الوقت نفسه لم يكن من السليم أن نركز
الكاميرا عليه طويلاً أثناء أصعب اللحظات. لذلك طوال الوقت كنا مضطرين
لتقدير ما هو ضروري وما هو زائد عن الحد. لحسن الحظ المونتير الذي عمل معي
كان رجلاً حساساً له خبرة واسعة لذلك أظن أننا وصلنا إلى توزان يمكن الدفاع
عنه. عديد من الناس قالوا أننا تصرفنا مع الشخصيات ومع المواقف بطريقة
مقبولة ومستساغة وأنا سعيدة جداً بذلك.
·
القصة نفسها توبياس وانجاس كانت
تتضمن بداية ووسط ونهاية..
صحيح.. وكنا نود أن نحصل على المزيد من المادة من الأهل منذ البداية،
كنت أطمح في أن تكون المعلومات عن طريق التفاعل بين الشخصيات بدلاً من صوت
المعلق... وهذا يتطلب جهد أكبر بالطبع.. كنا حريصين بألا يطفو المرض
والوقائع المتعلقة به على الفيلم لأن تركيزنا
كان على العلاقة التي قامت بين الطفل والمهرج، وعلى قيمة مهرج المستشفى،
وكل ما كان يمنحه ويُجسده من أمل وفكاهة وقرب.
أمـل:
قمت بأمور عديدة في الفيلم وحدك مع ذلك جاء التصوير جميلاً ونجح في أن
يعكس جو المستشفى جيداً وقام بتغطية معظم المساحات الممرات والغرف والأجهزة
والأنشطة وكافة جوانب الحياة فيها... فقد أخذتني في رحلة إلى المستشفى فعشت
بياضها، ووحدتها، وميكنتها، والخوف من الأماكن المغلقة، وتعايشت مع الأطفال
وهم يلعبون، ويرسمون، عشت لحظات وحدتهم، وكان توظيفك للدمى والأحصنة رائعاً
فقد منحت معنى خاص للمشاهد والمواقف التي ظهرت بها.
إيدا جرون:
أشكرك.
"ميسي
بغداد" الفائز بجائزة أفضل فلم مهرجان الخليج
كسر المألوف والخروج عن الموضوعات السائدة
دبي / عدنان حسين أحمد
كدأب المخرجين العراقيين المشاركين في مهرجان الخليج السينمائي فهم يحصدون
غالبية الجوائز دائماً، بل أهمها وأكبرها في دورات المهرجان الست. ففي
المسابقة الرسمية للأفلام الخليجية القصيرة نال المخرجون العراقيون عن
جدارة ثلاث جوائز وهي جائزة أفضل مخرج للؤي فاضل عن فلمه "قطن" المأخوذ عن
قصة للكاتب العراقي إبراهيم أحمد، و "سيلويت" الذي أُسندت إليه جائزة لجنة
التحكيم الخاصة لكاميران بيتاسي، و "ميسي بغداد" للمخرج سُهيم عمر خليفة
الذي حصل على جائزة أفضل فلم، وهو موضوع بحثنا ودراستنا الحالية. يا تُرى،
ما الذي يميّز هذا الفلم عن بقية الأفلام الفائزة في المسابقة أو الأفلام
الـ "34" الأخرى التي دخلت المنافسة إضافة إلى فلم سُهيم عمر خليفة؟ هل أن
ثيمة هذا الفلم القصير متفردة جداً بحيث لم تجاريها أو تتفوق عليها أي ثيمة
أخرى لبقية المخرجين؟ أم أن سرّ نجاح هذا الفلم يكمن في المعالجة الفنية
للموضوع الحسّاس الذي انتقاه كاتبا السيناريو وهما سُهيم عمر وكوني فان
ستينبيرغ؟ أم في تقنيات التصوير والمؤثرات السمعية والبصرية التي تألق فيها
مخرج الفلم الذي يتوفر على موهبة واضحة للعيان تبشر بولادة مخرج سينمائي
عراقي يعد بالكثير في السنوات القادمة إن هو واصل مشواره بذات الدأب
والمثابرة والنفَس الطويل؟.
صحيح أن المخرج سُهيم عمر لم يبتعد كثيراً عن الموضوعات السائدة في
السينما العراقية كالحرب، والتفجيرات اليومية، والبؤس الذي تعيشه شرائح
واسعة من المجتمع العراقي، ولكنه، مع ذلك، خرج قليلاً عن السائد والمألوف
حينما اختار لعبة كرة القدم ثيمة رئيسة له، فالأطفال والشباب العراقيون
وحتى الكبار منهم يعشقون كرة القدم ويتابعونها بمحبة وشوق كبيرين، فكان هذا
الخروج أشبه بحبل الخلاص الذي سحبه من الموضوعات السائدة والمكررة، لكنه
عاد ووقع فيها حينما أرجعنا إلى مناخ التفجيرات شبه اليومية التي نراها على
أرض الواقع أو من خلال شاشات الفضائيات. لقد انتقى سُهيم عمر موضوعاً
مُحبباً لغالبية الناس وهو كرة القدم التي تعتبر اللعبة الأكثر شعبية في
العالم، بل أضفى على الفلم مسحة معبِّرة ومؤثرة جداً حينما اختار طفلاً
مبتور الساق بطلاً لهذا الفلم "الكروي" إن صحّ التعبير. وربما تكون نقطة
قوته الوحيدة أن بقية أعضاء الفريق يشاهدون المباريات الدولية على وجه
التحديد في بيته، لكن تلفازه يتعطل الأمر الذي يجبر والده تحت ضغوط الابن
والزوجة أن يأخذ التلفاز كي يصلحه في المدينة، خصوصاً بعد أن تمّ طرد حمودي
من الفريق وإهانته ووصفه بأن لا يصلح أن يكون لاعباً في الفريق، وإنما
بائعاً للطماطم في "بسطة" أبيه. وحينما يشرعان في رحلتهما إلى المدينة
نفاجأ بآثار الدمار والخراب الذي خلّفته العديد من التفجيرات، بل أن المخرج
ذهب أبعد من ذلك حينما صوّر لنا خطورة الاقتتال الدائر هناك حيث تعرّض الأب
إلى طلق ناري في صدره فطلب من ابنه حمودي أن يأخذ التلفاز ويعود إلى البيت
لكي يستمتع بمشاهدة المباراة النهائية بين فريقي برشلونة ومانشستر يونايتد
عام 2009، أو بالمعنى الأدق بين "ميسي" و "كريستيانو رونالدو"، وبالفعل
يحقق "ميسي" هدفاً، لكن حمودي ينخرط في البكاء، ولم يستمتع بالمباراة، ولا
بالهدف الذي حققه "ميسي" اللاعب المثالي بالنسبة إليه، وحينما تنتبه أمه
إليه يقول لها بأنه يجب أن يذهبا لجلب جثه والده الذي فارق الحياة بسبب
تعرضه لطلق ناري بسبب القتال الذي كان دائراً في المدينة.
لا شك في أن المتلقين يتعاطفون مع حمودي لأنه طفل مبتور الساق، كما
يزداد هذا التعاطف حينما يفقد والده بسبب ذهابه إلى المدينة لإصلاح التلفاز
المعطوب، فلقد ضحّى هذا الوالد بحياته من أجل ابنه الذي يعشق كرة القدم
ويجد نفسه فيها، لذلك يظل الابن الصغير في حالة مؤلمة من تأنيب الضمير،
إضافة إلى حالة اليتم التي زادت الأمر تعقيدا.
غِبَّ الانتهاء من عرض الفلم دار نقاش بين مخرج الفلم والجمهور الذي
حضر العرض واستمتع به. وقد سأله أحدهم عن سبب اختيار كرة القدم موضوعاً
لفلمه فأجاب: "إنني شخصياً كنت أحب كرة القدم، فهي هوايتي المفضلة، بل أنها
أحلى شيئ بالنسبة لي، وكان من الممكن أن أكون لاعباً محترفاً، لكن عندما
انتقلت إلى بلجيكا صار وقتي محدوداً وضيقاً جداً، لذلك قررت أن أصنع فلماً
عن كرة القدم بعيون الأطفال". ورداً على سؤال آخر يتعلق بخروجه عن
الموضوعات السائدة قال: "إن العديد من المخرجين العراقيين يركزون على
موضوعات العبوات والأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة التي تتفجر في بغداد
والعديد من المدن العراقية، وهذه هي صورة بغداد حتى في عيون الأوروبيين
الآن، لكنني أردت أن أخرج من هذا الخانق لذلك اخترت كرة القدم كي تكون
موضوعاً لفلمي الذي أسميته بـ "ميسي بغداد". جدير ذكره أن سهيم عمر من
مواليد كردستان العراق عام 1980، حاصل على ماجستير في العلوم والتصميم من
جامعة "سانت لوكاس". نال فلمه الأول "أرض الأبطال" جائزة خاصة ضمن مسابقة
"أجيال" في مهرجان برلين السينمائي عام 2011، كما فاز بالجائزة الثانية في
مسابقة المهر العربي للأفلام القصيرة عام 2011 أيضا.
الجزيرة الوثائقية في
29/05/2013
إعادة اكتشاف بينوكيو.. عندما يكون المؤلف مجهولاً..
محمود قاسم*
فى مكتبات كل منا، توجد كتب قيمة، تعلوها الآن كمية من الأتربة،
وعندما نبدأ فى ازالة التراب عنها، سوف نكتشف كنوزاً عظيمة، نفض التراب هنا
يعنى إما قراءتها لأول مرة بنصها الكامل، أو إعادة قراءتها من جديد، أو
الكتابة عنها.
ومن بين الكلمات المأثورة التى لا تنسى عن عباس العقاد أنه أشار أن
قراءة كتاب مرتين أفضل بكثير من قراءة كتابين، لأننا عند القراءة الثانية
لنفس الكتاب فإننا نكتشف جوانب جديدة لم ننتبه إليها فى القراءة الأولى.
لم أكن أتصور أن الرواية بينوكيو للكاتب الايطالى ماركو كولودى (1826
– 1890) تحمل هذا الكم من التخيل، والفانتازيا، والأهمية، إلا عند القراءة
الجديدة لهذه الرواية المكتوبة للأطفال، التى وضعت صاحبها فى دائرة الشهرة
طوال القرن العشرين، وصار الأراجوز الخشبى بينوكيو هو واحد من أشهر
الشخصيات الأدبية التى عاشت فى القرن العشرين تجدد نفسها، ويتجدد وجودها
بتحويلها إلى روايات، ومسرحيات، ومسلسلات تليفزيونية وأعمال إذاعية،
وأغنيات، ومن أبرز هذه الشخصيات هناك دراكيولا، وفرانكشتاين، والدكتور جيكل،
والسيد هايد.
اكتب هذا، وأنا أقرأ أيضا، فى الوقت نفسه الأعمال الكاملة للكاتب
الدانمركى هانس كرستيان اندرسن، الذى يعتبره النقاد أفضل من كتب للأطفال،
وهناك جائزة أدبية سنوية تمنح باسمه تعرف باسم “نوبل الصغير” نتمنى أن يحصل
أحد كتابنا عليها والكثيرون منهم تجاوز سن الثمانين.
هذه القراءة المزدوجة لكل من كولودى، واندرسن، تجعلنى أجزم أنه أيضا
فى عالم الكتابة فإن كاتباً تخطف إليه الشهرة، والمجد، أكثر من كاتب آخر
يستحقها، ففى رواية بينوكيو يوجد كم مبهر، عدداً ونوعاً، من التخيل، يعادل
كافة ما كتب زميله الدانماركى، الذى سبقه فى الحياة، وذلك باعتبار أن النص
المكتوب يقع فى 238 صفحة، فإن كولودى ابتكر قرابة مائتى خيال جامح متدفق،
مجنون غير مألوف.
إذن، ليس بعدد الكتب، ولا بالاسم الرنان للكاتب، ولكن ببراعة المؤلف،
ولا أعرف لماذا صار بينوكيو أكثر شهرة من صانعه، ولماذا لم يمنحه لمعان
الاسم مثلما حدث مع سربانتس مؤلف رواية “دون كيخوته”.
الكتاب بالعربية يتيم المؤلف والمترجم
ليست كتابتنا هنا تعنى التقليل من مكانة اندرسن، ولكننا نقصد اعلاء
اسم كولودى، فللأسف الشديد، أن أشهر طبعة عربية لهذه الرواية صدرت منذ
سنوات عن سلسلة “ولادنا” بدار المعارف، وليست هناك أى اشارة بالمرة لاسم
المؤلف، وبالمرة تم حذف اسم المترجم عادل الغضبان، فبدا الكتاب كأنه مولود
يتيم المؤلف والمترجم، رغم أن كل هذا التخيل المتدفق الساحر، وهذه الترجمة
البديعة، قد أعطيا نكهة خاصة للكتاب.
أندرسن هو أحد الكتاب الأدبيين بالإضافة إلى مؤلف (أو مؤلفو) ألف ليلة
وليلة الذى حصر أبطال قصصه فى طائفة الملوك والحكام، وذلك باعتبارهم صفوة
الناس، يحب عامة الشعب التعرف عليهم، والعيش معهم فى القصور من خلال
الابداع، رغم الحياة الفقيرة البائسة التى عاشها اندرسن فى أغلب سنوات
حياته.
أما كولودى، فقد بدأ روايته الفريدة، التى لا نكاد نعرف له أسماء
مؤلفات أخرى على النحو التالى:
“يحكى أن….
“سيقول قرائى الصغار: “يحكى أن ملكا…… لا يا أصدقائى، يحكى أن قطعة من
الخشب لم تكن أحسن الخشب، بل من الخشب العادى، الذى نستعمله فى الافران
والمدافىء، لايقاد النار وتدفئة الغرف فى الشتاء….
لقد أخذ الميؤلف قارئه المباشر إلى الغابة، حيث يعيش الفقراء،
والمحتاجين، والبطل الرئيسى هو نجار عجوز اسمه انطونيو، وان كان الناس
جميعا يسمونه السيد “كريزة” لأن طرف أنفه كان دائماً أحمر لامعاً، مثل
الكريزة الناضجة تماما.
كولودى، مثل اندرسن، هناك تشابه بين مؤلفاته، أو درجة التأثير عليه،
وبين الكاتب الفرنسى شارل بيرو، تدور أعماله فى الغابة، وهو من مواليد
فلورنسا، وكولودى هو اسم عائلة أمه، سيرة حياته لا تجذب الاهتمام كثيرا،
حيث عمل صحفيا، وهو أحد الذين انضموا إلى الدفاع عن وحدة واستقلال ايطاليا
تحت قيادة جاريبالدى، فلما توحد وطنه، وكتب بعض الروايات والمسرحيات، لم
تلق منها أى نجاح، مثل الذى حققته رواية “بينوكيو” الذى يتضح من سطورها
الأولى أنه كتبها خصيصا للأطفال، وقد بدأ نشر هذه الرواية مسلسلة فى إحدى
الجرائد الشعبية، واستغرق نشرها قرابة العامين، من 1881 وحتى عام 1883.
ومن الواضح أن الكاتب قد وضع فى هذه الرواية، كل ما لديه من تخيل،
وباستثناء “ألف ليلة وليلة”، ثم روايات الكاتب تولكن، فإن التخيل الذى
رأيناه فى بقية الأعمال، يعتبر عاديا، قياسا إلى ما رأيناه عند الكاتبين،
إلا أن كتابات تولكن تبدو بالغة المفردات على الكبار بمفرداتها، وأسماء
الأبطال، والأماكن، والحوادث المتداخلة، كى تبقى لكولودى الصدارة، والتفرد
فى التكابة للأطفال.
لكن هناك مأساة ملحوظة فى أدب الأطفال، تتمثل فى أن الطفل القارىء لا
يعطى لاسم المؤلف أهمية أسوة بما يحدث فى أدب الكبار، وقليلون هم أصحاب
الأسماء التى تلتصق بأذهان القارىء، وفى مصر، فإن هناك أسماء بعينها يذكرها
القراء الصغار، ومنهم كامل كيلانى، ثم نبيل فاروق الذى لم يعتبر نفسه
أبداً، حسبما قال لى يوماً، إنه كاتب للأطفال، بل للشباب.
فى عام 1981، وبمناسبة الاحتفال بمرور قرن كامل على نشر رواية
بينوكيو، كتب الروائى الايطالى ايطالكالفينو: “من الطبيعى أن نتصرف على أن
بينوكيو موجود دوماً بيننا، ولا يمكن أن نتخيل عالماً بدون بينوكيو”.
بينوكيو ثاني الكتب الأكثر مبيعا فى ايطاليا خلال 100 سنة
وحسب الاحصاءات المنشورة فى موقع ويكبيديا، فإن “بينوكيو” هو الكتاب
الذى حقق المبيعات رقم اثنين فى ايطاليا طوال القرن الماضى، حيث بيع منه
قرابة عشرة ملايين نسخة، أما الكاتب الأول الذى حقق أعلى المبيعات “اثنا
عشر مليون نسخة”، هو “الكوميديا الإلهية” لدانتى الليجيرى.
وقد امتلأت شاشات السينما دوماً بقصص الأراجوز الخشبى، سواء فى
ايطاليا وغيرها، وترجمت الرواية إلى أغلب لغات العالم، وتبارت شركات أفلام
التحريك “الرسوم المتحركة” على تقديمه، مثل فيلم “مغامرات بينوكيو” عام
1936، اخراج الايطالى امبرتوسبانو، وبعد أربع سنوات قدمه والت ديزنى فى
فيلم تحريك مشهور، وفى عام 1957، تم تقديمه من جديد فى فيلم من اخراج جانتو
جار دونه، وقدم فى روسيا عام 1959، وعاد إلى الولايات المتحدة عام 1965،
باسم “بينوكيو فى الفضاء” اخراج راى جوسنس، وفى عام 1972، قدمه المخرج
الايطالى المشهور ماريو كومنشينى فى مسلسل تليفزيونى، ثم قدمه المخرج
الأمريكى ستيف بارون عام 1976، ومن الواضح ان الأمريكيين هم أكثر الناس
احتفاء بالأراجوز الخشبى، حيث قدموه مجدداً فى “انتقام بينوكيو” 1997،
و”بينوكيو وجابيتو” عام 2000 .
وقد أدهشنا الممثل الكوميدى روبرتو بنينى، عندما جسد الشخصية فى فيلم
من اخراجه عام 2002، وفى عام 2004، تم تقديم بينوكيو كروبوت، وفى العام
الحالى، عاد بينوكيو مرة أخرى لنراه فى فيلم تحريك من اخراج دانتسودالو.
أى أن بينوكيو لم يكن فقط كتابا يباع بملايين النسخ، بل ذهب ملايين
البشر لمتابعته فى الأفلام، والمسرحيات، والمسلسلات الإذاعية،
والتليفزيونية، والغريب أن النقاد لم يربطوا بين “بينوكيو” و”بيجماليون”
فكلتاهما عن شخص يصنع كيانا، ويقع فى حبه، ثم تدب فيه الحياة، ففى أسطورة
بيجماليون، قام مثال بنحت تمثال ضخم جميل، تجلت فيه روعة الابتكار، وما لبث
أن وقع فى غرام هذه التحفة، وذهب إلى الغابة، وتوسل إلى الآلهة أن تمنح
للتمثال الحياة، وعندما عاد إلى البيت، وجد الحياة تدب هناك فيما نحته.
أما النجار العجوز كريزه، فإنه يحصل على قطعة من الخشب، ففرك كفيه
فرحا، واستعد لنزع القشرة وتسويتها كما يريد، لكنه عندما رفع يده بالقدوم
لينزل على الخشبة بالضربة الأولى، توقفت يده فى الهواء، لأنه سمع صوتاً
رفيعا، يقول له محذرا:
“لا تضربنى بشدة”..
هذا أول تخيل من الخيالات الجامحة التى تقابل القارىء فى الصفحة
الأولى من الرواية، باعتبار أننا لاحظنا أن كل صفحة من الرواية تتضمن تخيلا
واحدا على الأقل، أو أكثر، كأننا فى أرض متاهات للتخيل، قام الكاتب بحرثها،
وبذرها، بكل هذا القدر من الخيال الجامح الأرضى، بما يعنى أننا لسنا أمام
أجواء غيبية، ولكن القصة بأكملها بما بها من شطحات متخيلة قد ارتبطت بالأرض
التى يعيش عليها بينوكيو.
التخيل الأول أن قطعة الخشب التى ينوى النجار أن يحولها إلى “رجل”
لمائدة الصغيرة، قد صارت تتكلم، تدب فيها الحياة، ويعترف النجار أنه رجل
صاحب خيال، أسوة بالمؤلف “لابد أن خيالى قد صور لى أننى أسمع هذا الصوت،
فمادام الأمر كذلك، فلنشتغل إذن”، أى أن التخيل هو مفتاح الدخول إلى العمل،
والمغامرة، فعندما ينزل القدوم على قطعة الخشب، تتألم، وتردد: “آى، إنك
تجعنى!”.
ومن هنا يبدأ سيل من التشبيهات والتخيلات، صور سينمائية مكتوبة فى
رواية، قبل ابتكار السينما بعقدين من الزمن تقريبا.. مثل قول النجار:
“أيمكن أن تكون قطعة الخشب هذه قد تعلمت البكاء والشكوى كما يبكى الأطفال
ويشتكون”.
الصفحات الأولى مليئة بالدهشة بالنسبة للنجار، على غرار ما يحدث لعلاء
الدين حين يقوم بحك المصباح السحرى القديم، فيخرج له الجنى، ويتكلم إليه.
وفى الفصل الثانى، تبدو موهبة كولودى الفكاهية، فهو يخبرنا أن اسم
الرجل الذى سوف يتبنى بينوكيوة “جابيتو” اسمه “عصيدة” وعندما يدخل عصيدة
بيت النجار، يراه جالسا فوق الأرض، فلما يسأله عن سبب ذلك يأتيه الجواب
“اعلم النحل القراءة”.
وفى الحوار الذى يدور بين جابيتو، والنجار، تبدو درجة التخيل عند
النجار عندما يقول انه يود صناعة أراجوز خشبى لطيف، أراجوز مدهش، يرقص،
ويبارز ويتقلب فى الهواء، يدور به حول العالم، كى يكسب بفضله قوت يومه.
وعلى الفور فإن صوتا ينطلق من داخل قطعة الخشب، تنادى جابيتو، باسمه
الذى يغضب لو أن أحداً ناداه به، انه اسم “عصيدة” ويدور حوار طريف بين
الرجلين، عصيدة، والنجار يتضاربان اثناءه،ويتبادلان الصفع والعض، وإحداث
الخدوش.
الفصل الثالث يبدأ بعودة جابيتو إلى غرفته الصغيرة تحت السلم، ليس
فيها من الأثاث سوى مقعد لا يكاد يقوى على الوقوف، وسرير كسيح ومائدة تكاد
تقع، وهناك ينحت الرجل أراجوزه، ويطلق عليه اسمه “بينوكيو” وتبدأ ملامحه فى
الظهور، خاصة أنفه، التى كانت أول شىء ظهرت فى الأراجوز، هذا الفم له
شخصية، مثل الأنف فى أقصوصة “الأنف” لجوجول، وقد توقف الكاتب عند تفاصيل
ابتكار الأراجوز الخشبى، حتى إذاتمت صناعة اليدين، قامت هذه بالعمل لتوها،
فخطفت “قراعة” النحات، وغطى بها بينوكيو رأسه.
وهناك تتجلى عبقرية التخيل، فكلما انتهى جابيتو من عمل جزء فى جسم
بينوكيو، قام الجزء باثبات وجوده، كان تقوم القدمان برفس صانعه، ثم اخذ
يجرى خارج الدار، وعجز جابيتو عن اللحاق به، وهنا تبدأ حالة من اللهاث غير
المتوقف لدى بينوكيو، يريد أن يسبق العالم والزمن.
ومن المهم أن نقتبس من الحين والآخر جملا قصيرة تدل على جمال النص،
وعبقرية التخيل لدى كولودى، لكن الناس لما رأوا الأراجوز الخشبى يجرى
منطلقا كأنه حصان السباق، حملقوا فيه مدهوشين متعجبين، ثم ضحكوا وضحكوا حتى
وجعتهم جنوبهم.
الرحلة الى ما لا جدوى
أهم ما فى رواية “بينوكيو” هو الرحلة الى ما لا جدوى التى يقوم بها
الأراجوز، بعد أن تم الامساك بابيه وادخاله السجن، ووجد “بينوكيو” نفسه فى
حالة هروب، وبحث عن أبيه، الذى لم يجتمع به من قبل ولا من بعد، دقائق
متكاملة، انها رحلة نحو اللاجدوى، لا يتحقق منها شىء، يلتقى خلالها بينوكيو
بأشخاص لم يتوقع أن يقابلهم، ويذهب إلى أماكن تتداعى أمامه، وهو يحاول
العودة إلى أبيه.
أول ما التقاه بينوكيو هو الصرصور المتكلم الذى يزحف على الحائط..
الذى عاش فى الغرفة مائة عام، والذى يحذر بينوكيو قائلا “ويل للأطفال الذين
يعصون آبائهم، ويهربون من بيوتهم، انهم لن يروا السعادة فى هذه الدنيا
أبداً”.
هذا الصرصور، يتكلم، ويغنى، ويسدى النصيحة، وهو أيضا نقاق، يصفه
كولودى أنه صبور، لا يغضب، يستمر فى اسداء النصائح، وهو يحاول أن يعلم
الأراجوز حرفة كى يتمكن من كسب قوته، هذا الصرصور لن يلبث أن يختفى من مسرح
الأحداث، فيموت إثر ضربة من قدوم بينوكيو، وانتهى به الأمر أن تمدد يابسا
على الحائط وبقى مشتبكا به.
وتتوالى التخيلات، فعندما يحس الاراجوز بالجوع الشديد، يجرى إلى
المرجل الذى يغلى لكن المرجل لم يكن إلا رسما على الحائط، فراح يفتح فمه
حتى وصل الفم إلى ما وراء أذنيه، فلما انتهى من تثاؤبه، بصق وكان لم تكن له
معدة على الاطلاق، حيث أن المؤلف أكسب الأراجوز سمات انسانية، منها الاحساس
بالجوع، والطموح، والبكاء، والشعور بالندم، والتردد، فهو لا يستقر على
قرار، أو حال، فعندما يعثر على بيضة، يقوم بكسرها فى الماء المغلى ويضع فى
المقلاه ماء بدلا من الزبد، فلما غلى الماء.. طك! كسر البيضة وأمسكها فوق
المقلاة.
“انتظر خروج صغارها وبياضها لكنه رأى بدلا منها كتكوتا صغيرا يخرج من
البيضة طائرا، ثم ينحنى له انحناءة مؤدبة، ويشكره لأنه وفر له مجهودا كان
عليه أن يبذله فى كسر القشرة، ويفرد “الكتكوت” جناحيه، ويخرج طائرا من
النافذة المفتوحة ويغيب عن الأنظار.
وتتوالى صور التخيل فى عالم بينوكيو، انه كما أشرنا عالم أرضى، قد
يقابله طفل صغير، أو أراجوز متخيل، ينطلق إلى القرية، بشوارعها الخالية،
بحثا عن طعام، فيلتقى بنماذج من البشر، وتحترق قدماه المبتلتان الموحلتان
عندما يضعهما على الكانون الدافىء، ويروح فى نوم عميق.
عندما تحترق قدما بينوكيو، يحدث لقاء جديد مع أبيه جابيتو الذى يصنع
له قدمين جديدين من الخشب، وما إن تعود إليه قدماه حتى يطلب من الأب “بذلة”
من الورق المنقوش وحذاء مقشر الشجر، وطاقية مصنوعة من لباب الخبز.
وليدخل القارىء معى فى تصور شكل “بينوكيو” الجديد، بهذه الملابس حيث
يرى أنه صار أشبه بعظماء الرجال، ويقرر بينوكيو الذهاب إلى المدرسة، وفى
طريقه يقابل شريرا يقنعه بعدم الذهاب إلى المدرسة، ويذهب إلى مسرح
الأراجوزات العظيم ليستكمل رحلاته نحو اللاجدوى، فهو لا يستمع إلى نصائح
الكبار، خاصة أبيه، ويؤدى ذلك إلى ارتكاب المزيد من الحماقات، والوقوع فى
أخطاء جديدة.
يصور الكاتب بطله رعنا، يمكنه أن يبيع كتابات الذى يتعلم منه، وإن
اضطر اكثر فيمكنه ان يبيع ملابسه، ويدخل إلى مسرح الأراجوزات ليشارك فى
أداء نمرة ترفيهية، حتى يظهر له صاحب المسرح الذى يصفه المؤلف أنه رجل طويل
جدا، عريض الكتفين، قبيح المنظر، يفزع الانسان اذا نظر اليه، له لحية كأنها
لطعة الحبر الاسود، أما فمه فواسع كأنه الفرق الكبير، واما عيناه فكأنهما
مصباحان احمران، وكان يبدو كرباح سميك طويل مصنوع من اذيال الذئاب، ملفوف
بعضها فوق بعض، هذا الرجل، بما وصفه المؤلف، هو نموذج للمخلوقات التى
يقابلها بينوكيو فى رحلته.
هذا الرجل، هو الشخصية الأولى التى يفصل المؤلف فى وصفها ويعطيه اسم
“آكل النار” هو فى ظاهره رجل مخيف، لكنه فى حقيقة الأمر طيب القلب، وكان
إذا أحس بالحزن من أجل أحد عطس عطسة شديدة، وهو يأمر رجاله أن يأخذوا
الفنان هارلكان، وأن يربطاه ثم يرمياه فى النار، لأن خروفه يجب أن يتم شيه.
وفى رحلته يقابل بينوكيو العديد من الشخصيات المتخيلة، مثل الثعلب
الأعرج، والقط الأعمى، يمشيان معا، يتكآن على بعضهما، ويحتالان معا على
بينوكيو ليأخذا منه الجنيهات الخمس التى منحه اياها “آكل النار” ويذهب
الثلاثة حتى يصلوا قرب المساء إلى فندق “أبو جلمبو الأحمر”، املا فى
استكمال الطريق للوصول إلى “غيط المعجزات” عند شروق الشمس، هذا القط التهم
فقط خمسة وثلاثين سمكة مطبوخة بصلصة الطماطم وأربعة أطباق من الكرش، فوقها
كثير من مسحوق الجبنة الرومى، لكنه لما وجد أن الكرش غير متقن الصنع طلب
ثلاث مرات زبدا وجبنا مفروما.
“أما الثعلب، وكان فى العادة يأكل كل شىء، فإنه المسكين – لما كان
الطبيب قد أمره بالاقتصاد فى الأكل – قد اكتفى بأرنب كبير فى الصلصلة يحيط
به عدد من فراح الربيع السمينة، ثم طلب بعد هذا الصحن – لكى يفتح شهيته –
طبقا من الديك الرومى والبلبول والضفادع، وعنب الجنة، فلما فرغ من أكلها
جميعا، رفض أن يأكل بعد ذلك شيئا”.
ونحن نسهب فى الرجوع إلى النصوص لنؤكد على ما بالرواية من شخصيات
تخيلية وعلى تفصيلات الوصف كما كتبها المؤلف، فنحن لم نعرض سوى أقل من ربع
صفحات الرواية المزدحمة بالتخيل، والشخصيات، والأماكن، من أبرزها الطفل
الميتة التى تنتظر مجىء عربة الموت لتحملها، انها ذات شعر أزرق جميل، وايضا
اللصان اللذان قاما بتعليق بينوكيو فى فرع الشجرة حتى كادت أنفاسه أن
تتوقف، كى يظهر صقر كبير جاء من طرف ذات الشعر الازرق، التى تظهر فى
الأحداث مرة أخرى وبصحبتها كلب ضخم جميل، يمشى واقفا على قدميه الخلفيتين،
كأنه رجل ويلبث ثوبا من الثياب المزخرفة التى يلبسها الحوزى فى الحفلات.
وجدت نفسى أنقل السطور التى أدهشتنى فى قراءة هذه الطبعة من “بينوكيو”
وما أجمل ما بها من صفحات، وقد كان من السهل أن أظل أكتب متأثراً بما سحرنى
به كتاب قرأه ملايين القراء ويعرفون اسم بطله أكثر من مؤلفه، وقد تم
استلهام هذه الشخصيات فى أعمال أدبية وسينمائية عديدة بالإضافة إلى الافلام
المأخوذة مباشرة عن هذه الرواية، فلاشك أن اسحاق آزيموف كان فى ذهنه أن
يقدم بينوكيو آليا فى أقصوصة “رجل القرنين” المكتوبة فى ستينيات القرن
الماضى، لقد صار الروبوت بشراً يكبر فى السن، ويشيخ، كما أن حفار الخشب فى
الدراما الأمريكية هو صورة من بينوكيو، وقد انتشر بينوكيو فى المسرح، وفى
القصص المصورة، ورغم ذلك فإنك إذا سألت أغلب من أحبوا هذه الشخصية، عن
صانعها، يتردد قليلاً، ولعله يعرف أولاً….
*ناقد وروائي من مصر، رائد في أدب الأطفال، تولى مسئوليات صحفية عديدة
في مؤسسة دار الهلال، كتب عشرات الموسوعات السينمائية والأدبية، فضلا عن
ترجمته لعدد من روائع الأدب الفرنسي.
شبكة آسيا إن في
29/05/2013 |