أحد الأمور اللافتة في الفيلم التسجيلي الطويل «ليالٍ بلا نوم»
للمخرجة اللبنانية إليان الراهب هويته السينمائية الخالصة. هي هوية تتقدمها
لغة الجسد، بكافة إيماءاته، تلك اللغة القادرة على كشف أعماق الشخصيات وما
يكتنفها من غموض وتيارات تحتية، وعواطف متناقضة عنيفة ومكتومة، رغم محاولات
البعض أن يُراوغ مُدعياً النسيان، ساعياً للهروب من حصار الأسئلة النابشة
في عمق التاريخ والذاكرة.
تمنح «الراهب» شريطها المثير للجدل أسلوباً سينمائياً مدهشاً وأخاذاً،
رغم بساطته. تمزج فيه بين التورط الشخصي العميق في الموضوع وبين الإنفصال
والتباعد الفني والموضوعية في الطرح، وتجعل المتلقي شريكاً متورطاً معها،
وهي ترسم بورتريه شديد التعقيد نفسياً، موسوم بالسحر رغم بشاعته. فأسلوبها
الاستقصائي وقيامها بدور المحقق الذي يلاحق الشخصيات، وحضورها القوي أثناء
المداخلات كان مهماً وجوهرياً إذ تمكنت من أن تكبح جماح الأكاذيب –
التجميلية - التي كان من الممكن أن تتمادى فيها بعض الشخصيات، حتى نجحت
إليان في فتح هذا الثقب الدقيق في الذاكرة الجمعية، وتمكنت من الوصول إلى
اثنتين من المقابر الجماعية التي لم تنجح التحقيقات الرسمية في الوصول
إليها من قبل.
يدور الشريط حول شخصيتين رئيسيتين دراميتين. الأول هو أسعد الشفتري،
55 عاماً، مسؤول الأمن في الاستخبارات اللبنانية أثناء الحرب الأهلية (1975
-1990)، قام بعمليات قتل وخطف وسيارات مفككة وكل شيء يُمكن تخيله. هكذا
يعترف مُقراً بمسئولياته ويعتذر بحق كل من أساء إليهم!. إنه لا ينفي أنه
مذنب، لا يدعي أنه بريء، لكنه أيضاً يُؤكد أنه ليس المسؤول الوحيد عن كل ما
حدث.
الشخصية الدرامية الثانية هي مريم سعيدي الفنانة التشكيلية والأم
المنكوبة التي فقدت ابنها الشيوعي البالغ خمسة عشر ربيعاً عام 1982 في
معركة «كلية العلوم» ولا تعرف مصيره ولا أين دفن ضمن17 ألف مفقود. كان أسعد
قائداً في تلك المعركة التي شارك فيها ابنها. تصوّر إليان الراهب الاثنين
معاً وهما يتأملان الماضي، لكنهما لا يتواصلان في شأن الحاضر، فأسعد غير
قادر على أن يبوح بكل الأسرار، مؤكداً أن ما لديه من معلومات هو جزئي –
مجرد شقفة - لأن هناك شركاء آخرين.
المواجهة
المواجهة القاسية، الصادمة أحياناً، والناعمة في بعض المرات سمة
تُصاحب الحوارات التي تسعى إلى اقتناص لحظة الاعتراف العميق حتى وإن لم تصل
إليه علناً، لكن الكاميرا كانت هناك تدور وتُسجل وتلتقط أدق الخلجات
النفسية عن ما لا تقوله الشخصيات، مثلما حدث مع قائد العمليات العسكرية
بالحزب الشيوعي والذي ظل يدعي أن ماهر لم يكن مقاتلاً في الحزب، وأنه لا
يتذكر شيئاً، مستنكراً إعادة فتح ملفات تلك القضية، بينما هو جالس في مقعده
الوثير بملابسه الراقية وهيئته اللامبالية المتغطرسة معتقداً، وهماً، أنه
يُخبئ أكاذيبه خلف الدخان المتصاعد من سيجاره الكوبي، بينما تُفسر الأم
الموقف بأنه صار حليفاً لجلاد الأمس.
اتخذت المواجهة أشكالاً وأطيافاً لكشف «التناقض» وتمحيص «الأكاذيب»،
لتعميق الأمور وصولاً إلى أكبر مقدار ممكن من الحقيقة، وتقصي جوانب مختلفة
من الصورة. عقدت مواجهة بين الضحية والجلاد، بين الجلاد ونفسه، بينه وبين
زملاء شاركوه جرائمه، أو بينه وبين أسرته، أو بين أقاربه في غيابه. البعض –
من الطرفين ضحايا وجلادين - رفض المواجهة واكتفى بالحديث صوتياً من خارج
الكادر دون أن يظهر. والبعض الآخر اكتفى بوجود ظله على الجدران مُخفياً
ملامحه.
«أنا لا أريد أن أتحدث عن هذا» جملة ترددت مرات على لسان شخصيات عدة،
لكن إليان لم تستسلم وظلت تواصل الاستجواب لإتمام فيلمها الذي نال جائزة
جمعية نقاد السينما المصريين بمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية
والقصيرة السادس عشر 4-9 يونيو.
لعبت الراهب دور المحقق بحرفية. قامت برحلة من الاستكشاف المؤلم
البطيء المراوغ. لم تكن تبدأ المواجهة بالصدام، بل بالحكي عن حياة الناس
البسيطة والحميمة، تورطهم في النوستالجيا فتكسر الحواجز بينها وبينهم.
تُسقط الدروع المشيدة حولهم. في لحظة التخلي عن الدروع تسقط الأقنعة وتنكشف
كثير من الحقائق. تتركهم يبتسمون كالأطفال ثم تنقض عليهم فجأة بسؤال مُربك،
مثلما فعلت مع والدي أسعد، إذ تركت الأب يستعيد حنينه إلى الماضي والأم
تحكي لحظات الفرح عند مولد ابنهما، وكيف كان يُجيد الرقص، وأنها ألحقته
بمدرسة مختلطة مع البنات، وفجأة تسألها الراهب: «رقص، ومدرسة للبنات...
لماذا التحق بالكتائب وأصبح مقاتلاً إذاً؟» هنا يُدوي الصمت، بينما تتصدر
المشهد لغة الجسد الكاشفة، ترتعش الأيدي، تنعقد الأصابع، تتبدل الوجوه،
وتتحول الملامح الطفولية إلى الغضب البالغ حد الكره. يتبادلون النظرات.
أخذتهم على حين غرة.
تنطق الأم: «كان يدافع عن نفسه». ثم يبدأ الابن في ترديد أغنية عن
العلم الملطخ بالدماء من أجل تحقيق الحرية.
بدا جلياً نجاح الراهب في توظيف كل ما يخدم مادتها بصرياً وسمعياً،
باستخدام المُسجل الصوتي والذي تُعيد سماعه أحياناً حتى نرى رد الفعل على
وجوه الأشخاص وهي تنصت لنفسها أو وهي تستمع لآخرين، باستخدام كواليس
التصوير التي لعبت دوراً كاشفاً لعدد من الشخصيات خصوصاً عندما طردوها.
وبتوظيفها المؤثرات الصوتية بمهارة ومنها صوت السلاسل والحلقات المعدنية،
وأغنية نجاة «يا مسافر وحدك».
رمزية
التصوير في «ليالٍ بلا نوم» موشى برمزية بالغة الدلالة، خصوصاً مع تلك
المشاهد في مزارع الصيد، فعلى وقع أصوات طلقات الرصاص المتلاحق والمدوي،
وعلى صوت ضربات الفؤوس تنهال على رؤوس الأرانب لتقطعها ثم الأيدي تسلخها
كان هناك حديث دائر عن مقتولين ومفقودين وماضٍ ملطخ بالوحشية والغليان
الطائفي. كذلك الأمر في ما يتعلق بوضعية أسعد. فتكوين الكادرات وتعدد زوايا
التصوير بتعدد جوانب السرد أو الاعتراف، وتنوع حركة الكاميرا المهتزة
قليلاً أو قليلاً في لحظات المناورة ومحاولة إخفاء حقيقة المشاعر أو
الاختباء داخل حجج وذرائع النسيان، كان متناسقاً مع حالته الجوانية، ومنها
مثلاً عندما نراه يُواجه صورته المنعكسة في المرآة مرتين، فيبدو وكأنه
شخصين، ربما لذلك خصصت له المخرجة فصلاً بعنوان «المهرج» قرب نهاية عملها،
كأنه بوجهين، فهو في رأيها لم يقل الحقيقة كاملة. وكذلك مشهده في معرض
الصور الخاص بالمفقودين إذ نراه محاصراً بين صورة ماهر في الخلفية وجسد
مريم في المقدمة، وكأنه مطارد بالماضي، بينما يقف أمامه الحاضر رافضاً
التصالح معه.
الحياة اللندنية في
14/06/2013
ليس ثمة شيء من إيران
باريس - ندى الأزهري
باستثناء وجبة اللحم والخضار الإيرانية الشهية، «القورمه سبزي»، لم
يكن ثمة شيء من إيران في الفيلم! علقت صديقة إيرانية بعد مشاهدة «الماضي»
لمواطنها أصغر فرهادي الذي عرض في المسابقة الرسمية لمهرجان «كان».
قد يأمل المرء حين رؤية أفلام مخرج ما، ولو في اللاوعي، بتلمس ما
يعبّر عن بلد صانع العمل للوقوع على أجواء يميل إليها أو لإكمال صورة في
الخيال، أو التعرف على ملامح ثقافة... للسينما هذا الدور لدى الناس عامة،
وأحيانا يكون مع الحكاية الوحيد عند بعضهم بعيداً من الغرض الجمالي أو
الفني. يقوى هذا الشعور حين ينتمي المخرج إلى بلد من الأطراف، ويتعمق بشدة
حين تدخل السياسة في الموضوع. فكم من فيلم لقي اهتمام الناس (وبعضهم من
المثقفين!) لمجرد كونه يتطرق إلى حالة سياسية أو إلى بلد جاذب سياسياً
(فلسطين، إيران... ومن سنوات العراق والآن سورية...)؟ اهتمام أو أمل كهذا
لا يدخل في حسبان مشاهد أفلام لمخرجين غربيين، فحين يخرج أميركي فيلماً
فرنسياً لا يُنتظر منه حشر بلده في عمله. إنما لنعترف بأن هذه النظرة ما
زالت تفرض نفسها عند مشاهدة أعمال لمخرجين شرقيين، وهنا إيرانيين تحديداً،
ولعل الرغبة بالتعرف إلى المجتمع الإيراني من خلال سينماهم هي المحرك لشعور
كهذا. ما يهم هنا أن من سيبحث عن إيران في الفيلم الفرنسي الأول للإيراني
فرهادي -»الماضي» الفائز بجائزة أفضل ممثلة لبيرينيس بيجو في «كان» قبل
عروضه الباريسية- سيخرج خائباً، مدركاً أنه كان عليه مشاهدة العمل بغض
النظر عن جنسية صانعه، وهو هنا مخرج «كبير»، ليس لأنه نال الدب الألماني،
والأوسكار الأميركي أو السيزار الفرنسي (أفضل فيلم أجنبي)، بل لأن صاحب
«احتفالات الأربعاء (جهار شنبه سوري)» يستحق تماماً النظر إليه كمخرج
«عالمي» يرصد الإنسان أينما كان موطنه.
ولعل المخرج سعى لهذا في فيلمه الأخير وأراد إبعاد الصبغة الإيرانية
عنه، فليــس المجتمع الإيراني ما سنكــتشفه ونستمــتع باكتـــشافه كما
عودنا في أفلامه السابقة.
متاهة من الحدس
يتيح كل حدث في «الماضي»، فسحة لاحتمالات متعددة. أحمد(علي مصفَا)
يعود من إيران إلى فرنسا لإتمام إجراءات الطلاق من زوجته الفرنسية ماري
(برينيس بيجو). كان قد هجرها عائداً إلى بلده لصعوبة تأقلمه، أشير إلى ذلك
بجملة عابرة مختصرة دون الدخول في التفاصيل (ويمكن القول للأسف). وبانتظار
انتهاء المعاملة، يقيم معها في بيتها الواقع في ضاحية باريسية بناء على
رغبتها. ماري تسكن مع ابنتيها من زواج سابق ويشاركهم الإقامة أحياناً صديق
ماري الجديد سمير( طاهر رحيم) وابنه.
تواجد كل هذه الشخصيات في مكان واحد يؤجج الصراعات بينها، ليضيع
المشاهد في متاهة من الحدس حول أسرار سلوكها: عنف الصبي، توتر العلاقة بين
الابنة الكبرى وأمها، ارتباك سمير ومكوث زوجته في المستشفى غائبة عن الوعي،
عصبية ماري... قضايا تغذي طوال مدة الفيلم افتراضاتِ كلِّ شخصية على حدة،
وفق رؤيتها الخاصة ونزعاتها ونواياها، فتتراوح الصلة بين الشخصيات بين غموض
وكشف، في حبك مكثف مدروس يضيق الخناق على كل عفوية ممكنة لأي شخصية، سواء
بالقول أو الفعل. الثرثرة المحببة في أفلام فرهادي تضيع هنا المشاهد في
متاهاتها. ولعبة صاحب «انفصال» المفضلة في البحث عن الحقيقة تتجسد في
«الماضي» بأقوى صورها، فهو يسعى باستمرار لإقناع متابعه بأنها صعبة التحديد
غامضة الملامح، والأهم متعددة الوجوه. في «انفصال» مثلاً، كان لدى كل شخصية
الحق في رؤيتها الخاصة، وكان تقديم وجهة نظر كل منها على أنها الحقيقة،
مقنعاً. هنا ثمة أمور بقيت غامضة (انتحار الزوجة) وترك بعضها معلقاً
ومفتوحاً من دون تبرير درامي (علاقة الصديق مثلاً بالمستخدمة، إصرار ماري
على بقاء أحمد عندها: أهو تعلق مازال ماثلاً؟ أم محاولة لدفع أحمد للانغماس
في مشاكل العائلة؟ أم الاثنان معاً؟...).
الشخصيات كانت تتحرك في أمكنة محدودة، فالمكان لم يكن يوماً بطلاً في
أفلام فرهادي، وهو هنا لم يصور من باريس شيئاً، بل اكتفى بضاحية منها.
وصاحب «عن إيلي» لا يصور من المكان إلا بقدر ما يخدم موضوعه الرئيس، فلا
يفلت أي مشهد تزييني، لكنه بدا هنا بعدسة محمود كالاري بارداً حزيناً، بل
خانقاً طغت عليه إضاءة قاتمة..
وكون التصوير جرى في فرنـــسا وبممثلين فرنسيين، «استمتع» المخرج
الإيراني بحرية دفعت بشخصياته للتعبير عن مشاعرها بأسلوب يتجاوز الكلمة
والنظرة إلى اللمسة، وإن ظلت محتشمة! وذكرت بيجو في حوار أن فرهادي أصر على
تغيير تسريحتها، في سعي منه لإبعاد أي شبه بين شخـــصيات أفلامه وبين أدوار
سابقة لعبتها. يبدو هذا مثيراً في وقت لا يستطيع فيه بإيران التحكم حقاً
بالشكل الخارجي للممثلة، فهي تظهر على نفس الشكل مهما حاولت التغيير، كما
اشتكت لنا مرة في مقابلة الممثلة الشهيرة (إيرانياً على الأقل) ليلا حاتمي.
غاب الاختلاف
فرهادي الذي يهتم إلى أقصى حد بإدارة ممثليه وتكرار تصوير المشاهد على
نحو متعب ليحصل على ما يرغبه بالضبط، لم يضف شيئاً في إدارة الفرنسي من أصل
جزائري «طاهر رحيم»، الذي بدا مهمشاً رغم دوره في مسار الأحداث، وكان هذا
لصالح برينيس بيجو (جائزة أفضل ممثلة عن هذا الدور)، كما المخرج والممثل
الإيراني علي مصفا (زوج ليلا حاتمي في الحياة). كان من المتوقع أن يبرز
الدور الذي أسند لمصفَا كشخصية جاءت من إيران، شيئاً من اختلاف ثقافي ما
بين الزوجين، بيد أن هذا لم يحصل. كان يمكن له أن يكون قادماً من أي مكان،
بمعنى أن مكونات الشخصية الثقافية والفكرية والحضارية التي قد تكون هي
موضوع الفراق لم يكن لها أي دور في مسار الأحداث. اللهم سوى كونها الشخصية
الأكثر قرباً للمشاهد والأكثر عقلانية بين مجموعة العصابيين في الفيلم!
واليوم ها نحن ننتظر آراء الإيرانيين في الفيلم بعد أن أعلن وزير الثقافة
ضمانته إعطاء إجازة بعرضه في إيران.
الحياة اللندنية في
14/06/2013
توفيق فروخ: لنخرج من دخان الحروب
بيروت - محمد غندور
يتحدّث الموسيقي وعازف الساكسفون اللبناني توفيق فروخ، عن هموم
السينما ومشاكلها، كأنه من أهل بيتها. يتابع بنهم إنتاجات الفن السابع،
محلياً وعربياً وعالمياً، وهو عاتب على استمرار غرق بعض المخرجين
اللبنانيين في وحول الحرب الأهلية، وعدم تخلصهم منها، وعدم انفتاحهم على
تجارب وأفكار جديدة.
ويتساءل: «هل لا توجد أفكار إلا عن الحرب، وماذا عن فن الكوميديا في
لبنان؟». سجّل الموسيقى التصويرية لأحدث أفلام المخرج السوري محمد ملص
«السلم الى دمشق»، من دون قراءة السيناريو، عبر مراسلات طويلة مع الأخير.
يقول فروخ في حوار مع «الحياة»، انه إذا خيِّر، بين السينما وأشياء
أخرى، سيختار الأولى «على رغم ما فيها من صعوبات وتقشُّف»، فهو يعتبرها
«المحرك الأول بالنسبة إليه من حيث الأفكار والاتجاهات». ويشير إلى أنه حين
يتسلم سيناريو ما لكتابة موسيقى تصويرية له، يتخيل فيلماً في رأسه، لكنه
حين يشاهد العمل يتبين أنه غير متطابق مع ما تصوّره.
ويوضح الفنان المقيم في باريس، أن الموســيقى التصويرية تخدم الفكرة
والنص، و «حرية التعبير فيها تبقى محدودة ضمن توجيهات المخرج، خصوصاً اذا
كان يعرف ماذا يريد، فثمة مخرجون يستعملون الموسيقى في شكل ثانوي، فيما
يعتبرها آخرون شخصية من شخصيات الفيلم».
قاسم مشترك
كتب فروخ الموسيقى التصويرية لأفلام «فلافل» لميشيل كمون و«أرض
مجهولة» لغسان سلهب، و«بيني وبينك» و«الخادمة» لديما الجندي، و«آن الاوان»
و«انسان شريف» لجان كلود قدسي، و«المهد» و«السلم الى دمشق» لمحمد ملص.
وعن كيفية التعامل مع هؤلاء المخرجين، وما يميز الموسيقى التي كتبها
لهم، يوضح صاحب «سينما بيروت»: «الى حد ما، يختلف كل مخرج عن الآخر من حيث
منهجية العمل، ولكن القاسم المشترك بينهم، عدم القدرة على الانتاج وهذا
طبيعي، لكن ما ليس طبيعياً أن يكون التقشف دائماً عند الوصول الى كتابة
الموسيقى».
ويضيف: «أحاول العمل قدر الامكان من دون أن أخون الفكرة التأليفية
الخاصة بي، لكن الشروط لا تكون دائماً متوافرة، ولهذا السبب رفضت اصدار أي
من الأعمال التي كتبتها للسينما على أقراص مدمجة، لأن الانتاج لم يكن
كافياً، وبما انني أحببت كثيراً ما كتبته للشاشة، فقد أعدت صوغه ووحدته من
خلال الاوركسترا السينمائية، لأن كل فيلم كان مختلفاً عن الآخر، وأصدرته في
ألبوم سينما بيروت».
وعن علاقته مع المخرجين، يشير فروخ الى أن لكل منهم طريقة مختلفة في
استعمال الموسيقى، او تصوره لها بالنسبة الى الصورة.
ويقول عازف الساكسفون إن صعوبة العمل تكمن في ايجاد الفكرة الأساسية
له، ومن ثم تصبح الأمور أسهل وفقاً لتوجيهات المخرج، «فمنهم من يبالغ مثلاً
في استعمال الموسيقى، فتجدها في كل مكان في الفيلم، فيما لا يستعمل البعض
الا دقيقة من أصل عشر دقائق مؤلفة، وهذا عائد الى مزاجية المخرج».
وقبل الحديث عن الموسيقى، يرى فروخ أن ثمة مشاكل أكبر في السينما،
تكمن في الانتاج في شكل أساسي، والنص والحوارات واختيار الممثلين. ولماذا
يشعر أن دور الموسيقى في الانتاج دائماً ثانوي، يجيب: «هذا واقع وليس
شعوراً، فحين تتطلب الفكرة الموسيقية مبلغاً من المال، ويعرض عليك أقل مما
طلبته بكثير، لن تستطيع تقديم أفضل ما لديك».
ويوضــح فروخ أن «الشعور يختلف حين أرى الفيلم وليس حين أسمع
الموسيقى، فأنا صنعتها وسجلتها وأشرفت عليها».
واستنتاجاً مما تقدم، هل خذل بعض المخرجين فروخ؟ يشير الى أنه يفضّل
عدم التواجد على الميكساج النهائي، لأنها من مهمات المخرج، علماً ان الثقة
الممنوحة للمخرج في بعض الأوقات لا تكون بمستوى تصوره، «فتكون الموسيقى
أحياناً مرتفعة كثيراً، وفي اوقات كأنها ليست موجودة، مسؤوليتي ايصال
الفكرة التي يبحث عنها المخرج، وإضافة النواقص الى العمل. طبعاً لا استطيع
اضافة المستحيل، ولكنني أعمل ما يكفي الجو العام او الفكرة او المشهد
وديناميكيته».
ويقول صاحب ألبوم «توتيا» إن السينما تطورت كثيراً في السنوات العشر
الأخيرة في المنطقة، بعد دخول الديجيتال، ما قلص الموازنات. ومن بين
الأسماء التي عمل معها وهي ليست تجارية، لا يوجد من خان موسيقاه، بل على
العكس، احتضنوها وأحبوا طريقة تقديمها، «على رغم ان الانتاج اختلف بين عمل
وآخر».
يقول المؤلف اللبناني، إنه للبدء في كتابة الموسيقى التصويرية، عليه
قراءة السيناريو أولاً، لكن في فيلم محمد ملص الجديد، لم يحدث ذلك، اذ
تواصل الاثنان عبر الرسائل الالكترونية، و «كان المخرج السوري يبحث عن
الخوف وعن نوع من السوريالية، وأنا كنت ابحث عن خيط اساسه بين الصراخ
والأنين، ووصلنا اليه بقليل من الفذلكة». ويضيف: «كان هاجسنا، هل نضيف ما
هو غير مرئي، أو نكرس ما تنقله الصورة، وهذا أخذ وقتاً حتى تفاهمنا عليه».
وتدور أحداث الفيلم بين دمشق واللاذقية، متناولاً الجو العام الموجود
اليوم في سورية، مع اختلاف اساسي بأننا لا نرى الحرب ابداً، ولكننا نسمعها
ونشعر بها.
ويعتمد فروخ في تأليف موسيقاه التصويرية، على توجه المخرج وما يريده
تحديداً، ما قد يوحي له أحياناً بالفكرة الأساسية، اضافة الى الأداء
التمثيلي او الحبكة وأداء الممثلين. فإذا كان الفيلم مبنياً مثلاً على
الصراع، لا يستطيع صاحب «أسرار صغيرة»، كتابة موسيقى لها علاقة بالهمّ
الاجتماعي او السياسي او قصة حب، «المهم عدم الوقوع في الوصفات الجاهزة،
وهنا تكمن صعوبة العمل مع البعض، اذ يأتيك مخرج بأفكار جاهزة يريد تنفيذها
موسيقياً، ما يدفعني الى الاعتذار عن العمل معه» كما يقول.
ومن الأعمال التي يحبها فروخ، ما قدّمه المؤلف الايطالي نينو روتا
الذي اشتغل كثيراً مع فيلليني.
ويضيف: «ثمة موجة جديدة رائجة من عشر سنوات تقريباً وهي تركيب موسيقى
من اسطوانات عدة وتسمى موسيقى الفيلم، ويشتهر بذلك المخرج كوينتن تارنتينو،
ولكنني أفضل الموسيقى التي تبتكر من أجل الافلام».
ويشير فروخ الى وجود مشاكل عدّة في الموسيقى التصويرية في مصر ولبنان
وسورية، فيما هي أكثر تطوراً في المغرب العربي لتماسها مع الثقافة
الأوروبية، وتقليد ما يستعمل في الافلام الفرنسية تحديداً، فيما تحافظ على
تقليديتها في إيران.
الخروج من الحرب!
يتابع فروخ الانتاج السينمائي المحلي، ويتفهم «أننا لا نســـتطيع
الخروج من الحرب بسهولة، لكن ألسنا قادرين على صنع فيلم إلا عن الحرب؟ أو
مشهد يتكرر دائماً لأشــخاص يتنزهون على الكورنيش؟».
ويضيف: «لسنا مضطرين للتذكير دائماً بمشاكل البلد كالطائفية. لمَ لا
نقدّم فيلماً بوليسياً مثلاً، او عملاً عن رجل قتل امرأة او العكس. في مطلع
السبعينات من القرن العشرين كانت هناك افلام كوميدية درجة رابعة، لكنها
اليوم باتت شبه منقرضة. يجب ان نصنع شيئاً يخرجنا من دخان الحروب».
ويرى أن من الطبيــعي أن يــغرق خريجو السينما الجدد بأسئلة الانتماء
والهوية واستعادة الحرب، ويجب عليهم التغيير أكثر من الجيل المخضرم، كما
انه تفاجأ ببعــض التجارب الجــديدة من الناحية الجمالية او التقنيات
المستعملة، لكن بعض الافكار يشوبها الملل وكثرة السرد.
ويشير فروخ الى تكرار بعض الوجوه التمثيلية، وعدم البحث عن مواهب
جديدة.
وعما اذا كان لتنقله بين مدن متوترة أو هادئة أي أثر على الموسيقى
التصويرية التي يكتبها، يوضح فروخ: «من الطبيعي ان تؤثر الأماكن
في الموسيقى، فباريس مدينة متوترة اقله ليس أمنياً ولكنها ليست المدينة
الفاضلة، انت تبحث عن المكان وتفعل ما تريد من دون تبجح، الاكيد أن ذاكرة
المكان الذي تأتي منه تحملها اينما ذهبت مثل لون العينين او الشعر. الأماكن
لديها روائحها وأصواتها وهذا تراه في الفيلم، حين شاهدت «ارض مجهولة» لغسان
سلهب قلت ما هذا الفيلم الاسود، وحدث ذلك قبل عام 2005 وكانت فترة رخاء في
لبنان، ولكن الأحداث اثبتت في ما بعد أن الفيلم كثير التفاؤل، وأن بيروت
تمر في مرحلة ضبابية».
الحياة اللندنية في
14/06/2013
«قلب واحد ووطنان» إشكالية الهوية والانتماء بين لبنانيين في ديار
الإغتراب
مونتريال - «الحياة»
يعرض على قناة «اومني» العائدة للمجموعات الاتنو-ثقافية في انتاريو
فيلم سينمائي وثائقي بعنوان» قلب واحد ووطنان». مدته 60 دقيقة وناطق بثلاث
لغات العربية والإنكليزية والفارسية. ويتابع عرضه قريباً على شاشات السينما
الكندية.
كتب السيناريو للفيلم الكندي السوري احمد معروف وأخرجه غابي اندراوس،
وهو كندي لبناني مسؤول عن برنامج «أمنيات» في القــسم العربي لقناة «اومني»
التلفزيونية. في رصيده السينمائي أفلام وثائقية عدة تتناول جوانب مختلفة من
حياة الجاليات المهاجرة العربية وغير العربية. يسلط الفيلم الضوء على قضية
الهوية والانتماء وتحولها من جيل الى جيل وتباين رؤية كل منهم ومدى تمسكه
بها وتفاعله معها في المجتمع الكندي. وهي لا تزال تستأثر باهتمام شريحة
واسعة من المهاجرين، وتشغل حيزاً كبيراً من تفكيرهم وعاطفتهم، وتشكل ربما
احدى اهم التحديات التي يواجهونها.
من هذا المنطلق يعالج الفيلم هذه المسألة من خلال خمسة مهاجرين كنديين
من اصول لبنانية. وينتمون الى ثلاثة اجيال متعاقبة وأعمار متفاوتة. ويستهل
العرض بالنشيدين الكندي واللبناني، ويتخلله عزف على الناي والعود، ومشاهد
من تنوع وتعدد الجاليات الكندية. ومن ثم ينطلق من طرح سؤال بسيط «من أين
قدمت» وذلك كمدخل لفهم اشكالية انتمائهم الى وطنين لا يجمع بينهما اية
قواسم مشتركة. فالسيناتور بيار دبانة (77 سنة نائب ووزير وديبلوماسي سابق)،
وصلاح بشير(63 سنة متعهد وراعي فنون ورئيس شركة «سينيبليكس» التي تغطي
حوالى 96 في المئة من الإعلانات السينمائية الكندية)، وكلاهما ولد من أبوين
لبنانيين وعاش جزءاً يسيراً من طفولته في الربوع اللبنانية. وهما يتماثلان
في ما تختزن ذاكرتهما الى اليوم من مشاعر الماضي والحاضر. انهما لا يتنكران
لجذورهما اللبنانية. وذاكرتهما العاطفية لاتزال تضج بذكريات الطفولة في
القرية والمدرسة. والتواصل مع وطن الآباء والأجداد يترجمه دبانة على اكثر
من صعيد. فهو يفخر بأنه اول نائب من اصول عربية يصل الى مجلس العموم
الكندي. وأسس علاقات كندية لبنانية مميزة داعمة لاستقلال لبنان وسيادته.
ويعتز بصداقة الكثير من الزعماء اللبنانيين. وفي الداخل الكندي فهو من اهم
اصدقاء الجالية اللبنانية التي لا يتوانى عن اللقاء بها ودعمها في شتى
المناسبات السياسية والدينية والوطنية والثقافية، وينوه بدور النخبة من
المهاجرين اللبنانيين وكفاءتهم المهنية والعلمية.
اما صلاح بشير فلم يكن اقل حنيناً او تواصلاً مع لبنان. فهو يزور
قريته بين الحين والآخر لا سيما في مواسم قطاف الزيتون حيث يشحن كميات من
محصول الزيت الى كندا. ويتباهى بمذاقه اللبناني امام اصدقائه الكنديين،
ويقدمه هدايا لهم كبديل من الخمر.
كما يقوم من خلال جمعيته الخيرية «ولدي» بتقديم معونات مالية ومادية
الى العديد من المؤسسات والمدارس اللبنانية. ويحرص على التمسك بروابطه
العائلية التي تجمعه بأمه وإخوته وأقربائه وأبنائهم خلافاً لتفكك العلاقات
الأسرية الكندية.
وعلى الرغم من مشاعر الحنين والعاطفة والعطاء التي تستوطن ذاكرة
المهاجرين، تبقى كندا لدى العديد من امثالهم هي القلب والوجدان والهوية
والانتماء الى كل ما يمت بصلة الى قيمها وثقافتها ولغاتها وطريقة عيشها.
وهذه المشاعر تنسحب أيضاً على ابناء الجيل الثالث مثال الشاب الكاتب
والفنان عمر المعلم المولود في كندا والذي يفخر بانتمائه الى هذا البلد
الذي تربى في احضانه وجعل منه واحداً من مشاهير الراب على مسارحه. الا ان
ولاءه الى كندا لا يحول دون تعاطفه مع موطن اهله الذي، لكثرة ما حدثوه عن
جماله وسحره وتاريخه وحضارته، زاره مرات عدة وخصّه بأغنية وطنية تدين
العدوان الإسرائيلي عام 2006. ومع ان عمر يحرص على توقيع البوماته الغنائية
باسم
« AOK»، الا انه في المقابل يوقّع مقالاته باسمه الحقيقي
وباللغة العربية التي لا يجيد منها سوى بعض الكلمات والعبارات القليلة
المتداولة.
اما الجيل الثاني من المهاجرين اللبنانيين فيتمثل برجل الأعمال
والمدير التنفيذي لشبكة مطاعم «بارامونت» في كندا محمد الفقيه (من قرية
طيردبا الجنوب-هاجر من ايطاليا منذ عشرين سنة) والإعلامية في راديو كندا
الدولي - القسم العربي مي أبو صعب (من دير القمر- الشوف). وكلاهما يتمتع
بمؤهلات مهنية ولغات اجنبية ساهمت باندماجه ونجاحه السريع في المجتمع وسوق
العمل الكندي. اما اشكالية الهوية والانتماء، فتبدو على غرار العديد من
امثالهما المهاجرين، متأرجحة بين الوطن الأصيل والوطن البديل.
ازاء هذه الثنائية من الانتماء لكلا الوطنين يترك الفيلم للمشاهد حسم
هذه الجدلية التي يعجز عن حلها ربما آلاف المهاجرين اللبنانيين وغير
اللبنانيين.
ومهما يكن من امر فوقائع الفيلم توحي ان نظام الهجرة يتمتع بقدر كبير
من القوة والمرونة لاستيعاب المهاجرين وتسهيل اندماجهم الطوعي في النسيج
الكندي، وتحويلهم مع الوقت، دون اي سعي ممنهج لتذويبهم، الى مواطنين
يتمتعون بكامل حقوق المواطنة. فالمهم كما تؤكد ادبيات الهجرة ان «يكون قلب
المهاجر كندياً» ينشأ على فضائل الحرية والانفتاح والتسامح والتعدد والتنوع
والتعايش الحضاري والإنساني.
الحياة اللندنية في
14/06/2013
كتاب - «قراءات خاصة في مرئيات السينما» وسيلة للوصول إلى أسرار
المشاهدة
القاهرة - إسراء إمام
لا يختلف اثنان على كون السينما فناً راقياً، ولكن الأرقى دوماً أن
تكون معنياً بمشاهدتها كما ينبغي.
بنسب متفاوتة تتعدد مستويات المشاهدة من شخص إلى آخر حتى ولو كانت عن
وعي ودراية وإلمام بهذا الفن الراقي. ومن هنا أهمية ما يصل إليه الدكتور
ناجي فوزي في كتابه «قراءات خاصة في مرئيات السينما» من محاولة تقديم ذروة
التلقي والنموذج الأقرب إلى الكمال في مشاهدة فيلم.
أفلام كثيرة تُجبرك على الإصغاء إلى صورتها.. تُحتم عليك التنصت إلى
ما تُسرّه إليك وتدفعك لأن تشعر به لأنها الوسيلة التي اختارت أن تصل إلى
ما يقرب من استبدال الكلمات واختزالها في تكوينات مرئية تشي بمعانٍ معينة.
لكن الباحث المصري الدكتور ناجي فوزي اختار في كتابه مجموعة من الأفلام
التي لم تثر بصرية المتلقي فتجبره على الانتباه لها، وإنما عنت بتفاصيل
صورتها من دون أن تضعها، أي التفاصيل، تحت بقعة الضوء وإنما أبقتها عنصراً
يتوسط باقي العناصر الأهم التي في الأغلب تُلهي المشاهد عنها. فآثر ناجي
التقاطها وقراءتها بشكل لافت يعيد حسابات تقييمك للفيلم.
تحليل الكادر
يستهل الباحث كتابه بتدقيقات مرئية تخص فيلم «بداية ونهاية» في مقالة
يمكن اعتبارها من أفضل ما في الكتاب، فبداية من اللقطة الأولى التي تعاطى
معها الدكتور ناجي بوعي ويظهر فيها حسنين (عمر الشريف) على مبعدة بين براثن
المطرقة والحديد الذي تدكه حيث استشف منها مضمونية مكثفة أراد صلاح أبو سيف
أن يختزلها في مكون مرئي فعال مفاده التعبير عن هضم المجتمع حقوق هذه
الطبقة المعدومة التي ينتمي إليها حسنين بشكل عام، وفي الوقت ذاته يدلل على
المصير الذي ينتظر حسنين في نهاية الفيلم رغم كل طموحاته وتطلعاته
المستميتة طوال أحداثه.
وجاءت المقالة الخاصة بفيلم «العصفور» بأكملها تقريباً تحليلاً
لمكونات الكادر واتجاهات شخصياته، حيث عبر الكاتب عن اتجاه يمين الكادر
الذي اتخذه فنان الفيلم رمزاً لكل شيء يراه إيجابياً وعلى العكس اتجاه
اليسار الذي كان وجهة الشخصيات والأحداث السلبية.
بعد ذلك تناول الكاتب بعض المشاهد تفصيلياً من جهة الصورة في فيلم
«الشوارع الخلفية» حيث يتعرض الكاتب للحادثة الأهم التي تقع لعائلة داود
أفندي والتي تضبط فيها عديلة (سناء جميل) زوجها خارجاً من المطبخ بعد
مضاجعته الخادمة، وفي الوقت ذاته نجد ابنها سعد (نور الشريف) وهو يتلمس
طريقه إلى المكان نفسه للقيام بالفعل نفسه. يصف الكاتب المشهد بالتفصيل
وينسبه إلى أسلوب الإخراج من العمق، ويقول: «داوود في يمين الصورة يوازنه
الابن سعد في يسارها، الاثنان يحملان نفس الغرض للخادمة (كلاهما يحمل دورق
المياه) وإن كان الأول قد نال وطره منها (هناك مياه في دورقه). وتظهر
الخادمة في أقصى عمق الصورة في مركز الاهتمام. وعديلة تتقدم عنها بوقوفها
كالحارس أمام باب المطبخ بما يؤكد سيطرتها الفعلية على الموقف». ويرفق ناجي
في آخر المقال رسماً «كروكياً» يوضح موقع الشخصيات الثلاث بما يدلل على
المضمونية التي قصدها المخرج كمال عطية. ويتجلى الكاتب في تعاطيه مع المشهد
التالي للواقعة ذاتها حيث يتناوله بالاهتمام نفسه منحّياً كل جزء فيه على
حدة، راصداً حركة الأم عديلة التي استشرت خلال المشهد بأكمله في مدلول ينم
عن قدرتها على احتواء الموقف والتعامل معه قهراً. فهي التي تقدم الطعام
لولديها، بما يفيد أنها تخلصت من الخادمة قبل قدوم النهار وتقوم بالنفخ في
شعلة فتيل ماكينة القهوة التركي ومن ثم تغطيها في تفصيلة وصّفها الكاتب
رمزاً يشير إلى إطفائها آخر رمق في رجولة زوجها وحياته الجنسية بشكل عام.
التقاط تفاصيل
ويأتي نصيب الأسد من هذه الملاحظات فيما يخص فيلم «بداية ونهاية»
مثلا، حيث نجد ان من أهم ما قدمه فيما يخص ذلك حديثه عن السلم الذي يودي
إلى بيت حسن (فريد شوقي) وحرص صلاح أبو سيف على أن يبرزه في مشهدين ذهب
فيهما أخواه ليطلبا منه استدانة بعض النقود، فتُظهر الكاميرا هبوطهما
الملحوظ إلى الدور الأرضي، بينما تتفادى ظهوره في مشهد زار فيه حسنين،
بعدما دخل كلية الشرطة، أخاه حسن في إشارة إلى التغير الذي طرأ في نفس
حسنين إثر رؤيته لذاته وهو يرتدي البذلة العسكرية ويناديه الآخرون بلقب
الضابط. ومن أقوى ما تناوله الكاتب أيضاً عن الفيلم نفسه اللافتات المكتوبة
التي استخدمها أبو سيف لزاماً لظهور بعض الشخصيات أو اجتماعها في كادر واحد
مثلاً لافتة «اتق شر من أحسنت إليه» التي اعتلت الحائط متوسطة نفيسة (سناء
جميل) وأخيها حسنين ورامية إلى طبيعة العلاقة بينهما والنهاية التي
ستبلغها، ولافتة «الصبر مفتاح الفرج» التي اجتنبت المرآة الموجودة في غرفة
نفيسة فضلاً عن كلمات إعلان المأذون الشرعي المرسومة على الحائط بين نفيسة
والبقال (سلمان) صلاح منصور في المشهد الذي كانت تطالبه فيه بأن يتزوجها
كما وعدها.
ويستحوذ فيلم «ليل وقضبان» على قدر ليس بهين من هذه التفاصيل حيث
يلاحظ الكاتب ملازمة النور والنار لظهور الزوجة سميرة (سميرة أحمد) في
رمزية لعاطفتها المتأججة. ويدلل على ذلك في المشهد الذي تُحرك فيه سميرة
أخشاب المدفأة لتتزايد ألسنة النار مُعبرة عن اشتعال رغبتها، فتتقلب بعدها
على فراشها بأرق. كما يرصد أيضاً المقاعد التي فصلت بين الزوج والزوجة على
مائدة الإفطار في رمزية لتعالي الحواجز التي تقف بينهما خصوصاً بعد دخول
أحمد (محمود ياسين) حياة الزوجة. وتأتي التفصيلة الأهم في نفس الفيلم عندما
يلتقط الكاتب ملازمة توسط بندول الساعة بحركته المتوترة بين توفيق (محمود
مرسي) والشلقاني (توفيق الدقن)، بعدما يخبره الشلقاني أن زوجته تخونه ويصبح
ملزماً تجاهه بأن يقدم له الدليل ليأتي بندول الساعة رمزاً معبراً للانتظار
ومؤشراً لتوتر الموقف بأكمله.
في بعض مواطن الكتاب قد تختلف مع الدكتور ناجي فوزي في تأويله بين بعض
المرئيات وأخرى فيراودك إحساس باستغراقه في تناول بعض التفاصيل الأكاديمية
التي عبر عنها بشكل قد يُربك القارئ أحياناً، وفي أخرى ستعترف بضعف بعض
مقالات الكتاب مثل المقالتين الخاصتين بفيلمي «المومياء» و «شفيقة ومتولي»
لكنك، في شكل إجمالي ستظل منبهراً بتلك العين السينمائية المتفردة.
المشهد الثقافي المرتبك في مصر يؤجل المهرجان القومي للسينما
على رغم توقف المهرجان لمدة عامين، وبعد آمال كبيرة في عودته هذا
العام، تقرر تأجيل إقامة الدورة الـ17 للمهرجان القومي للسينما الذي كان
مقرراً إقامته نهاية حزيران (يونيو) الجاري. رئيس المهرجان الدكتور سمير
سيف أوضح أن المهرجان تم تأجيله فقط ولم يتم إلغاؤه، نظراً لما تشهده أروقة
وزارة الثقافة من عدم استقرار، فضلاً عن المشهد السياسي المقلق في مصر. كما
أكد سمير سيف الانتهاء من كل التحضيرات اللازمة للمهرجان، إذ تم طبع
الكتالوغات والكتب وتصميم الأفيش واستقبال الأفلام المشاركة وكل الأمور
الفنية المختلفة، وقد تنطلق فعاليات المهرجان في شهر أيلول (سبتمبر) المقبل.
تأجيل المهرجان جاء عقب اجتماع رئيس صندوق التنمية الثقافية محمد
أبوسعدة مع سمير سيف. وخلال اللقاء تم التشديد على ان التأجيل سيعوّض بأن
تعرض في المهرجان أفلام إنتاج عامي 2010-2011 معاً في هذه الدورة. وتأتي
أهمية المهرجان القومي من كونه يهدف الى دفع عملية تطوير السينما المصرية
كجزء من عملية التنمية الثقافية الشاملة، وتأكيداً لقيم الاحترام والتميز
في مجال السينما من خلال المنافسة لأصحاب التجارب السينمائية المتميزة.
وتقام ضمن فعالياته عادة مسابقتان، الأولى للأفلام الطويلة والثانية
للأفلام التسجيلية والقصيرة. الدورة الأولى للمهرجان أقيمت عام 1991، وكان
مخصصاً للأفلام الروائية فقط إلى أن رأت إدارة المهرجان ضم الأفلام
الروائية القصيرة وأفلام الرسوم المتحركة والأفلام التسجيلية للمهرجان.
الحياة اللندنية في
14/06/2013
وحيد حامد ... شيئاً فشيئاً يتصالح مع المرحلة
محمد عبد الرحمن/ القاهرة
بعد صمت طويل، عاد السيناريست المصري البارز وحيد حامد (1944) إلى
الساحة الإعلامية. مؤلف مسلسل «الجماعة» (إخراج محمد ياسين وبطولة إياد
نصار وحسن الرداد)، كان قد أبدى مخاوفه من مستقبل مصر بعد سقوط مبارك، ما
دفع كثيرين إلى الهجوم عليه والتأكيد بأنّ أعماله كانت تخرج إلى النور
برعاية جهاز أمن الدولة. الخائف من تبعات الثورة مستفيد حتماً من النظام:
كانت تلك القاعدة في الأسابيع الأولى لمصر بعد تنحّي «الفرعون»، لكنّ صمت
السيناريست طوال الفترة الماضية لم يبعده عن الصورة. مع زيادة الغضب على
الإخوان، عاد المصريون لتأمّل أعماله من جديد، وخصوصاً فيلم «طيور الظلام»
ومسلسل «الجماعة». رأى البعض أن حامد لم يكن يبالغ في عدائه الفني للإخوان،
فتفاصيل عدّة وردت في أفلامه تحوّلت إلى أمر واقع. مع ذلك، ظل ملتزماً
الصمت، معلناً أن مشروع إنتاج أجزاء جديدة من «الجماعة» ما زال قائماً، لكن
الوقت لم يحن بعد.
غير أن اقتراب اليوم الذي يراه معظم المصريين حاسماً (تظاهرات 30
يونيو) ودعت إليه حركة «تمرّد» (16/5/2013)، دفع حامد إلى الظهور الإعلامي
مجدداً، والكتابة بانتظام في جريدة «المصري اليوم» أسبوعياً. وقبل أيام،
أجرى مداخلة مع الإعلامي عمرو أديب على قناة «اليوم». في تلك الإطلالة،
وصفَ حامد الأمين السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى بأنّه «يلعب
بالبيضة والحجر»، وأنّ السياسي أيمن نور شخصية «لا مؤاخذة» بعدما توسّط
لعقد لقاء مع الإخوانجي خيرت الشاطر. واعتبر حامد أنّ هناك أشخاصاً مهمتهم
إلقاء ألواح الثلج في الماء الساخن في إشارة إلى غضب المصريين المتزايد على
النظام الحاكم. ومنذ يومين أيضاً، عاود مؤلف «الإرهاب والكباب» جلد الجماعة
بسوط تصريحاته ضمن برنامج «البيت بيتك» الذي يقدّمه الإعلامي خيري رمضان
عبر قناة cbc.
وقد توقع حامد أن يغادر كبار قادة الإخوان وأولادهم مصر إذا جاءت التظاهرات
ضدهم حاشدة. ووصف السيناريست يوم 30 حزيران بأنّه فاصل، «فإما العبودية
التامة للشعب المصري لسنوات طويلة، أو الكبرياء والكرامة، ولا يوجد سيناريو
ثالث». وتابع: «كل من تضرّر من الإخوان، عليه الخروج هذا اليوم سلمياً»،
وتوقع دوراً أكبر لقائد الجيش عبد الفتاح السيسي في المرحلة المقبلة، وطالب
بإعادة الاعتبار للمرشح الرئاسي الخاسر أحمد شفيق. في المقابل، كشف أنه
نادم لانتخاب عمرو موسى في المرحلة الأولى من الانتخابات الرئاسية، واصفاً
محمد البرادعي بأنه رومانسي، ومطالباً القيادي الناصري حمدين صباحي
بالتوجّه للتمثيل. وهاجم الكاتب تصريحات القيادي الإخوان عصام العريان
المعادية لاعتصام المثقفين، وطالبه بأن «لا يكون أكثر عرياً من ذلك». وتوقع
أن تستمر أميركا في دعمها للإخوان، مضيفاً إن النظام الحالي جاء ليغلق ملف
القضية الفلسطينية. ولفت إلى أن إسرائيل تعتدي على المسجد الأقصى بشكل
مستمر والإخوان لا يتحركون لفعل شيء، في وقت رفعوا فيه شعار «على القدس
رايحين شهداء بالملايين. الأميركان يتعاملون مع مصر بالمثل القائل «جوع
كلبك يتبعك»، من خلال سيطرتهم بالمعونات التي يرسلونها إلينا».
الحياة اللندنية في
15/06/2013
الباليه في الشارع
ماجدة موريس
هل يحتاج المشاهد اليوم لمعرفة «أخبار الأمس» من خلال استعادة برامج
التلفزيون لما تكتبه الصحف؟
السؤال قفز إلى ذهني مساء الاثنين الماضي وصباح الثلثاء حين نقلت قناة
«الحياة» على الهواء مباشرة عرضاً للباليه أقيم في الشارع، أمام وزارة
الثقافة المصرية بمقرها على ناصية التقاء شارعي النيل وشجرة الدر. كان
مثيراً أن يتزاحم جمهور الشارع بلا ضجيج لرؤية جزء من باليه «سبارتكوس»
بأداء الراقص الأول للفرقة هاني حسن وعدد من زملائه، وأن يتجاوز الجمهور
مسألة الديكورات والملابس الخاصة بالمسرح لأن هناك ما هو أهم، وهو أن
الباليه جاء إلى الناس بدلاً من أن يذهبوا إليه، وأنهم منزعجون جداً من
دعوة نائب سلفي لإلغاء الباليه، وبالتالي إغلاق فرقة باليه القاهرة التي
أنشئت في الستينات ومسرح الأوبرا الذي تعرض عليه (المركز الثقافي القومي)
منذ السبعينات، وتسريح مئات الراقصين والراقصات والعازفين والفنيين إلخ...
جاء وزير الثقافة الجديد ليقيل رئيسة الأوبرا وكل قيادات الثقافة
ومؤسساتها، لذلك خرج راقصو الأوبرا وفنانوها، ربما للمرة الأولى، رافعين
اللافتات رافضين ما يحدث. وحتى حين أوقفوا العرض الأخير من موسم أوبرا
«عايدة» تضامن معهم الجمهور الذي ملأ القاعة ورفض استرداد ثمن التذاكر،
وبعضه جاء في الأيام التالية ليحمل لافتات الرفض لما يحدث. كل هذا رأيناه
من خلال الشاشات من لحظة إلى أخرى، وفي شكل سريع لا تستطيع الصحف الورقية
ملاحقته، سوى من خلال مواقعها الإلكترونية.
واليوم، حين نرى البث البرامجي الحي لحصار مقر وزارة الثقافة، ثم
«البرنامج» الذي تفتق عنه ذهن المحاصرين من تقديم العروض الفنية في الشارع
بحي الزمالك الراقي، أمام مبنى الوزارة الذي لم يذهب إليه الوزير طبعاً
وإنما يمارس مهمته من مسجد، وحين نتابع من برنامج الى آخر، ومن قناة الى
أخرى ما يحــدث في عملية الصراع على الثقافة المصرية ومحاولات إخلاء
ســـاحاتها من كل قياداتها، بدعوى الفساد، وآخر ساحة كانت «دار الكتب
المصرية» التي أقيل رئيسها السبت الماضي، ثم ظهور قيادات ومثقفين في مواقع
على الشاشات الفضائية يطالبون الجيش بحصار دار الكتب حتى لا تنهب وثائقها
الثمينة، وحوار رئيسها السابق عبدالناصر حسن مع قناة «أون» في ما يخص طلبات
وزير الثقــافة علاء عبدالعزيز بإقصاء كل قيادات الدار وهو ما رفضه رئيسها
فأقصي، كل هذا يعني أن الصراع الدائر الآن حول الثقافة المصرية في أوجهها
كافة لا تمكن ملاحقته صحافياً من خلال عداد الأيام، وإنما الـــساعات
والدقائق وهو ما لا تقدر عليه الصحف الورقية، وإنما برامج التلفزيون
والمواقع الإلكترونية فقط.
وعلى رغم كل الانفعال والغضب قد يتلقى المشاهد مفاجآت سارة من نوع
مشاهدة عرض للباليه في الشارع يعبّر عن موهبة وبراعة، بلا ديكورات ولا ضجيج
الاستعدادات... إنه جوهر الفن.
الحياة اللندنية في
15/06/2013
«موروكو» لفون سترنبرغ:
الشاشة المفتونة أفرغت البلاد من أهلها
ابراهيم العريس
في تلك الأزمان المبكرة من عمر السينما، كانت هناك أفلام كثيرة تحمل
أسماء شرقية، أو مستمدة من «ألف ليلة وليلة». وكان عدد من هذه الأفلام يحمل
اسماء مدن أو مناطق، غالباً ما كان لها سحرها الخاص ووقعها الغريب على
أذهان الجمهور العريض، حتى من قبل أن يكون للسينما دخل في الأمر. إذ ان ذلك
الجمهور، المنتشر في شتى أنحاء العالم، ولكن بخاصة في الغرب، كان منذ ما
قبل ذلك بقرنين من الزمن وأكثر، قد بدأ يعبّر عن انبهاره وافتتانه بذلك
المكان الساحر - الغامض - البعيد - القريب، الذي يكاد ألا يوجد جغرافياً،
بل في الأذهان والحنين لا أكثر. كان شرقاً اخترعته، أو أعادت اختراعه،
أعمال فنية وأدبية ليحل في المخيّلات مكان الشرق الحقيقي الذي ما كان، هو،
ليرضي تلك المخيّلات. والسينما ورثت هذا، ولا سيما في عقود حياتها الأولى:
اخترعت شرقاً فاتناً غريباً. وهو ظل فاتناً وغريباً حتى حين راحت كاميرا
السينما تصوره في أماكنه الطبيعية. لكنها قبل أن تصوّره، أفرغته من حياته
الحقيقية، من أهله، من تاريخه الخاص، واستخدمته ديكوراً حمّلته ما شاءت هي
أن تحمله من غرائب وأجواء لا علاقة لها بواقعه، ثم أتت - غالباً - بأناس من
خارجه وضعتهم في ذلك الديكور... لتساهم السينما، عبر ذلك، في ترسيخ تلك
الصورة لشرق متخيّل، ليس فيه من الشرق الحقيقي أي قبس.
>
من الصعب حقاً احصاء كل الأفلام التي كان هذا هو خيار أصحابها.
وبعض هذه الأفلام اندثر أو أنه أصبح في مهب النسيان في أزماننا هذه. لكن من
بين هذه الأفلام ما لا يزال حياً. ويكاد، مثلاً، فيلم «كازابلانكا» لمايكل
كورتيس (من بطولة انغريد برغمان وهمفري بوغارت) ان يكون خير - وأجمل - مثال
على هذا النوع... حيث نعرف ان هذا الفيلم الذي تدور أحداثه خلال الحرب
العالمية الثانية في المغرب، يكاد يقدم لنا المغرب من دون أهله، أو يقدمهم
ككومبارس يملأون المكان مثل الأثاث والاكسسوارات الأخرى. وفي هذا السياق،
قبل الوصول الى «كازابلانكا» قد يكون من الأمور الأكثر دلالة التوقف عند
سابق له، لا يقل عنه «استشراقية» وإن كان يقل عنه شهرة وجمالاً، على رغم ان
بطليه كانا بدورهما، من أكبر نجوم السينما: غاري كوبر ومارلين ديتريش. بل
ان هذا الفيلم. كان أول فيلم أميركي مثّلته الفاتنة الألمانية بعد انتقالها
الى هوليوود إثر النجاح الكبير الذي حققه آخر أفلامها الألمانية في ذلك
الحين «الملاك الأزرق»...
>
الفيلم هو «موروكو» أي «مراكش» وهو الاسم الذي كان يطلق يومها
على مدينة مراكش ولكن أيضاً على البلد الذي يعرف الآن باسم «المغرب». وهو
كان من اخراج جوزف فون سترنبرغ النمسوي الأصل الذي كان يعيش فتنة مزدوجة:
مارلين من ناحية والسينما من ناحية ثانية. ومن هنا كان طبيعياً منه حين قرر
ان يتوجّه الى هوليوود ليتابع مساره السينمائي بعد نجاحاته الأوروبية، أن
يصطحب معه فاتنته مارلين، لهذا، لم يمكن غريباً أنه في ذلك الفيلم حرص على
أن يقدم عملاً يأتي على مقاس مارلين ديتريش تماماً. ومهما يكن من أمر، فإن
مارلين كانت هي التي اكتشفت تلك الرواية الغرامية الصغيرة المعنونة «آمي
جولي» التي منها اقتُبس «موروكو». والحال ان الفيلم وفّر لمارلين فرصة
رائعة لتثبيت قدميها في هوليوود، إذ ان الجمهور ما إن ظهرت في اللقطة
الأولى من الفيلم، حتى صرخ مهللاً جاعلاً منها على الفور فاتنته ونجمته
الأولى. وهنا، في هذا الإطار، لم يكن جوزف فون سترنبرغ ومارلين ديتريش
رابحي الرهان الوحيدين، بل كان ثمة رابح آخر أساسي: شركة بارامونت التي
كانت راغبة أصلاً في العثور على نجمة تنافس بها غريتا غاربو، نجمة «مترو
غولدوين ماير» في ذلك الحين. إذاً، كان المشروع مربحاً للجميع، ولكن ربما
ليس لشعب المغرب، الذي كان مجرد ديكور وأكسسوار، حتى وإن كان المغرب نفسه
بمناظره الطبيعية وسحره، سينمائيّاً، قد تمكن من لفت الأنظار، ليتحول بعد
الفيلم - تدريجاً - الى بلد سياحي من الدرجة الأولى... وكذلك الى بلد يصلح
لأن تصور فيه الأفلام السينمائية. ولا بد من الإشارة في هذا السياق نفسه
الى أن اورسون ويلز صوّر، أوائل الخمسينات من القرن الماضي، فيلمه الكبير «عطيل»
في مدينة الصويرة المغربية، ثم عاد وعرضه باسم المغرب في دورة العام 1951
لمهرجان «كان»، ففاز الفيلم ليكون الفوز فوزاً للمغرب بصفته أول بلد عربي
«يفوز» فيلم له بجائزة «السعفة الذهبية». غير أن هذا أتى لاحقاً على «موروكو»،
إذ إن هذا الأخير حقق العام 1930، يوم لم يكن أحد يعبأ بالمغرب كوطن... بل
كصورة لا أكثر.
>
إذاً، ضمن اطار هذه الصورة الجميلة، يحكي لنا «موروكو» حكاية
غرام بين مغنية راقصة هي آمي جولي، وجندي في «الفرقة الأجنبية» يدعى توم
براون، وانتصار هذا الحب على كل العقبات... أما الانتصار فإنه يصوّر عند
نهاية الفيلم بصورة غريبة بعض الشيء: ان البطلة، بعدما عاشت تعقيدات عاطفية
ومهنية عدة، ينتهي بها الأمر الى ان تنضم الى مجموعة من النساء المغربيات
النكرات تماماً، واللواتي لا يتجمعن عند نهاية الفيلم إلا لكي يلحقن جماعةً
بعشاقهن من جنود الفرقة الأجنبية إذ ينقلون من موقع الى موقع. وهكذا، على
مذبح الحب، تتحول البطلة الى امرأة تتحرك تبعاً لعواطفها كالمنومة
مغناطيسياً... وهذا الذوبان في الجماعة هو بداية سعادتها العاطفية. حسناً،
ربما كانت الأمور تدور على هذا النحو في بعض الأوساط في ذلك الحين، غير ان
التعميم الذي يطغى على الفيلم، في جانبه هذا على الأقل، يبدو لنا اليوم
خارج التصديق، أو خارج كل عقل.
>
لكن هذا النوع من السينما، ما كان يسعى الى أي صدقية ولا أي
عقل: كان همّه أن يغوص في الغرابة أكثر وأكثر، ويصل بالحب الى أعلى ذراه.
ويقيناً انه نجح في هذا، الى درجة ان مارلين ديتريش، التي بدت عند نهاية
الفيلم مقلّدة لتصرف «نساء المغرب» أمام هيامهن العاطفي، صارت هي من يقلَّد
من جانب الجمهور العريض بالطبع.
>
أما أحداث الفيلم، فإنها تبدأ على متن باخرة تقصد الشواطئ
المغربية، حيث يلتقي ثري محترم هو السيد لاباسيار بالمغنية الفاتنة آمي
ويعرض عليها أن يساعدها على الإقامة في المغرب، لكن آمي ترفض. ثم نراها في
ملهى محلي في موغادور تغني أغنيتها الشهيرة «من يشتري التفاح مني؟». ويتقدم
المجند الشاب توم ليشتري منها تفاحة بعدما اقترض ثمن التفاحة من رفاقه.
وهكذا تبدأ بين آمي وتوم حكاية غرام هادئ، تتناقض مع شخصية توم الذي اعتاد
ان يكون ساحراً للنساء مغوياً لهن. وذات لحظة يخبر توم آمي بأنهما كانا
التقيا بالفعل قبل عشر سنوات. لاحقاً يلتقي توم بالسيدة كايسر التي كانت
عشيقته، وإذ تكشف هذه علاقته بآمي، تدفع بعض الشحاذين (المحليين) الى
الاعتداء عليها، وينتهي الأمر بآمي وتوم الى التواجد في الغد في مكتب
المحقق كايسر، زوج تلك السيدة، الذي كان أصلاً يشتبه في أن ثمة علاقة بين
زوجته وتوم. لكن آمي تنفي ذلك في الوقت الذي يعود الثري لاباسيار، لانقاذ
آمي وحمايتها. وإذ تتعقد علاقتها بتوم الذي يقرر أولاً ترك الفرقة الأجنبية
من أجلها، ثم يغير رأيه، ينتهي الأمر بآمي الى الانضمام الى النساء
العاشقات واللحاق بحبيبها مضحية من أجله بكل شيء.
>
والحال ان هذه النهاية هي ما جعلت فيلم «موروكو» نوعاً من
«حكاية حب خالدة» عابقة بالعواطف التي من المؤكد ان غرائبية الصورة
المغربية في الفيلم زادت من حدّتها، لتجعل من مارلين أروع عاشقة سينمائية
في ذلك الزمن. وإذا كان فون سترنبرغ قد فاز في رهانه، فما هذا إلا لأنه هو
نفسه، كان عاشقاً لفاتنته، أعاد اختراع شخصيته كلها من أجلها، وحقق بعض
أجمل الأفلام التي أوصلتها الى القمة الهوليوودية والعالمية مثل: «المشينة»
و «شانغهاي اكسبرس» و «فينوس الشقراء» و «الامبراطورة القرمزية» و «الشيطان
امرأة»...
alariss@alhayat.com
الحياة اللندنية في
15/06/2013 |