*ولـد
أندريه أرسينوفج تاركوفسـكي في 4 نيسان من العام 1932 في قرية (زفراشيا)
قرب مدينة (ايفانوفا) شمال شرقي موسـكو. والده هو الشاعر والمترجم المعروف
ارسينيا تاركوفسـكي. والدته مايا ايفانوفنا فيشيناكفا. لكن بعد إنفصال
والديه، عاش اندريه واخته عند امهما التي اخذت تعمل كمصححة في إحدى المطابع.
*في العام 1939 بدأ التعليم في المدرسة الإبتدائية بموسكو، ولكن عند
بداية الحرب قطع دراسته ورجع الى قريته عند امـه، ولكن خلال فترة الحرب
كانت العائـلة مضطرة لإخلاء المكان، فعاشوا عند أقرباء لهم لفترة من الوقت.
وفي العام 1951 بدأ الدراسة في معهـد موسكوللدراسات الشرقية، لكن بسبب
إصابته بإرتجاج في الدماغ قطع دراسته قبل إنهائها، ثم أصبح عاملا في حلقة
للبحث العلمي في معهد الذهب بجمهورية قرغيزيان حيث عمل ما يقارب السنة عند
نهر (كوريكا) في إقليم توروخان. في العام 1954 بدأ دراسته بمعهد السينما
لعموم الإتحاد السوفيتي بموسكو (فـكـيـك)، وتتلمذ على يد المخرج والمنظر
السينمائي الكبير(ميخائيل روم) الذي يُعد أهم معلميه. كما يبدأ في تلك
الفترة بتحليل أفلام المخرج الأسباني السوريالي (لويس بونـويل) والسويدي (إنغمـار
بيـرغمـان)، ويبدا صداقته الأبداعية مع (اندريه ميخائيلكوف-كونجلوفسكي)
الذي هجر الاتحاد السوفيتي الى أميركا فيما بعد، لكنه عاد بعد سقوط النظام
السوفيتي لاحقا، فكتبا معا سيناريوهات سينمائية مشتركة منها: (ملعب التزحلق
والكمان) و(اندريه روبلوف). وفي العام 1959 حقق مع (الكسندر كوردون) فلما
تلفزيونيا هو (اليوم لن تكون إستقالة). في العام 1960 ينهي دراسته بمعهد
السينما ومعه دبلوم في الإخراج، وكان فلم تخرجـه هو (ملعب التزحلق
والكمان)، والذي فاز بالجائزة الأولى في مهرجان الأفلام الطلابية الذي
أُقيم في نيويورك في العام 1961. وفي العام 1962 ياخذ على عاتقه مواصلة
اخراج فيلم (طفـولـة إيفــان) الذي كانت قد بدأته مؤسسة السينما (موسفيلم)
عن قصة للكـاتب (فلاديمير بكومولوف)، وكانت المؤسسة قد أوقفت عمل المخرج (أبالوف)
فيه. فأعـد تاركتوفسكي سيناريو جديد للفيلم، وبعدما أنهاه، اشترك به في
مهرجان البندقـية السينمائي لعام 1962 ففاز بالجائزة الأولى.وكذلك فاز
بجائزة النقاد البولونيةن وفي العام 1963 فاز الفيلم باربعة جوائز عالمية
أخرى. وبعد هذا الفيلم كتب النقاد الغربيون عن تاركوفسكي بأنه أهم مخرج
سينمائي روسي، كما كتب (جان بول سارتر) عن هذا الفيلم دراسة طويلة.
*
في العام 1964 يبدأ تاركوفسكي في تصوير فيلم عن حياة رسـام
الأيقونـات (اندريـه روبلـوف)، والذي استطاع الائه بعد جهد في نهاية
العام 1966 وتجهيزه للعرض، لكن الفيلم تعرض للنقـد الحاد من قبل اللجنة
الرسمية لمؤسسة السينما والتي تضم عادة عددا من المسؤولين الشيوعيين
الحزبيين من السينمائيين، حيث تم الإعتراض على عرض تاركوفسكي لمسار الأحداث
التاريخية، وكذلك على مشاهد العنف فيه، فتقرر حذف مشاهد عديدة منـه، وكرد
فعل يقوم تاركوفسكي بالحذف ويبالغ فيه. ورغم ذلك تعطل عرض الفيلم، فلم يجـد
طريقه للعرض الجماهيري إلا بعد سنوات، فاحتجاجا على الموقف السوفيتي الرسمي
مـن فيلم (اندريه روبلـوف) يعرض في العام 1969 خارج المسابقة الرسمية
بمهرجان (كان)
ويحصل على جائزة النقاد العالمية. وفي العام 1971 فقط
يعرض الفيلم في دور العـرض السوفيتية، وبعد عامين، أي بعد سبع سنوات من
إنجازه، تُقرر الجهات الرسمية إدراجـه ضمن أفلامها للبيع خارج البلاد!!.
وقد جاء في مذكرات تاركوفسكي ان جريدة (اللومانتيه) أجرت في 21 شباط من
العام 1972 لقاء مطولا مع الشاعر الفرنسي (آراغون) بمناسبة عيد ميلاده،
فسئُل عن أحب الافلام لديه، والتي يود مشاهدتها بسرور، فسمى أحد أفـلام
المخرج (غودار)، وفيلم (اندريه روبلوف) لتاركوفسكي. منذ بداية العام 1968
ينشغل تاركوفسكي بالإعداد والتخطيط لفيلم مغامـرات علميـة بالإستناد
للرواية العلمية الخيالية (سولاريس) للكاتب البولوني (ستانيسلاف ليـم). وفي
العام 1971 يبدأ بتصوير فيلم (سولاريس)، كما يبدأ بكتابة يومياته ومذكراته
والتي نشرت بالألمانية قبل الروسية بعد موته!! وفي مذكراته، التي إعتمدنا
عليها ايضا عند كتابة هـذه السيرة الإبداعية، يكتب تاركوفسكي عن هموم العمل
ومعاناته من البيروقراطية السوفيتية، خاصة داخل مؤسسة السينما. وبالرغم من
ان المذكرات جاءت متوترة في بعض صفحاتها وغير منصفة بحق البعض أحيانا،
لكنها رغم ذلك تبقى شهادة قوية ومؤثرة ضد كل هؤلاء عديمي الموهبة وأشباه
المثقفين الذين يحتلون مراكز، ومواقع إدارية وحزبية كبيرة، هؤلاء الذين
يحاولون ان يؤطروا عمل الفنان المبدع ضمن ايديولوجيتهم المادية..! وحينما
ينتهي من العمل في فيلم (سولاريس) يعرض في مهرجان (كان) بصفة رسمية
باعتباره الفيلم السوفيتي الرسمي فيحصل على جائزة النقاد، وكذلك يحصل على
جائزة مهرجان لندن، وجوائز أخرى. منذ بداية السبعينيات يعد تاركوفسكي
الخطط والمشاريع لإخراج أفلام عديدة. وكما كتب في مذكراته بتاريخ7 تشرين
الأول من العام 1970، فأنه يعد لموضوعات عن:
1)
عـالم فيزيائي يتحول الى ديكـتاتـور.
2)
تحويل رواية (يوسف وأخوته) للكاتب الألماني (توماس مان) الى الشاشة.
3)
عمل فيلم عن حياة
(دستويفسكي).
4)
تحويل رواية (الأبـله) لدستويفسكي الى الشاشة.
5)
إنجاز فيلم (اليوم المضيء).
6)
تحويل رواية (الطاعون) لكـامو الى الشاشة. لكنـه لا يستطيع أن يحقق شيئا من
هذه الخطط سوى مشروع فيلم (اليوم المضيء) والى ما اسماه فيما بعد
(المــرآة).
*في العام 1974 ينتهي من فيلم (المــرآة)، وهـو سـيرة ذاتيـة شـديدة
التعقيـد. وقد قُوبل الفيلم بالبرود والسلبية لذاتيته الكثيفة ذات الطابع
الفرويدي، وكذلك لإلغائه الجوانب الدرامية التقليدية، ولغموض الحبكة وغرابة
طريق السرد السينمائي، مما أدى لسوء فهـم كبير ولتفسيرات متشنجة، رغم ان
الفيلم نال جائزتين، ولكن في وقت متاخر (1979، 1980). وقد كتب تاركوفسكي
في مذكراته بأن المخرج الايطالي (ميخائيل أنجلو أنتونيوني) كان في موسكو
بتاريخ 25 تموز من العام 1975 وانه طلب شخصيا مشاهدة فيلم (المـرآة)، فلم
يستجيبوا لطلبه إلا بعد أن هدد بمغادرة المهرجان..!!وقد أعجب الفيلم (أنتونيوني)
جدا فطلب مقابلة تاركوفسكي مباشرة، لكن المسؤولين في المهرجان وفي مؤسسة
السينما عطلوا حصول مثل هذا اللقاء، متحججين بتعذر الآتصال بتاركوفسكي،
لأنه ذهب الى بيته الصيفي ولا يمكن الاتصال به، حتى ولو تليفونيا..!!!! في
العام 76-1977 يبدأ تاركوفسكي إخراج فيلم (ستالكـر) المأخوذ عن قصة (نزهة
على الطـريق الجانبي) للكاتبين الأخوين (أركاديا وبوريس سـتروكاتصي)، وهو
آخـر فيلم له في الاتحاد السوفيتي. وكان قد صوره بمكان قريب من (تشرنوبل)
التي اشـتهرت في العام 1986 بعد إنفجار احد المفاعل النووية في محطتها.،
وحينما عرض الفـيلم فـي مهـرجان (كان) حصل على جائزة إتحاد النقـاد
السنمائيين العالمية (فيبريسي). بعـد هـذا الفيلم يحضر تاركوفسكي لمشاريع
عدة، منها إخراج مسرحية (هاملت) لشكسبير، واخراج رواية (ذئب البراري)
للكاتب الألماني (هيرمان هيسه)، ورواية (المعلم ومارغريـتا) لبولغاكوف،
ورواية (الجريمة والعقاب) لدوستويفسكي فيلم قصير عن حيـاة (كافكـا) وكذلك (أفـلمـه)
حياة وأعمال الكاتب الالماني الكلاسيكي (هوفمـان).. لكنه لا يستطيع ان
يحقق من كل هذه المشاريع سوى إخراجه لمسرحية (هامـلت) على خشبة المسـرح
الفني بموسكو، حيث أدى الادوار الرئيسة فيها الممثل الرائع (أنتـوني
سولونيتـصين)، الذي أدى أدوار البطـولة في فلميه (أندريه روبلـوف) و (ستالكر)،
وكـذلك الممثلـة (مـارغريتـا تـيروخـوفا)، التي أدت دور الأم في فلمـه
(المــرآة).
ويعتبر فيلم (سـتالكـر) إنعطـافة مهمـة وكبيـرة في مسيرة تاركوفسـكي
الإبداعيـة.
فهو يكتب في يومياته بتاريخ 23 كانون الثاني 1978: (هذا
الفيلم جديد نوعا ما بالنسبة لي لأنه بسيط من ناحية الشكل، وكذلك تقليدي من
ناحية ربط الوظائف الفيلميـة. إنه فيلـم عن التجسيد االإلهي في الإنسان..،
عن إنهيار الروحانية بسبب سيطرة العلوم المزيفة..، أنا خائف من المستقبل،..
من الصينيين، من الطوفان.. من قيامة الشؤم والدنس..ياآلهي أمنحني القوة على
الإيمان بالمستقبل)..!!ويكتب ايضا بتاريخ 10 شباط 1979: (ياآلهي..إنني أشعر
بقربك مني..أشعر بيدك الرحيمة تمس رأسي، إنني أريد أن أرى عالمك مثلما
خلقته أنت.. والناس مثلما إبتدعتهم أنت بقدرتك..إنني أُحبك يالهـي،.. أحبك
بلا طمع في شيء، غير ان رذائل غضبي وآثامي، وعتمة روحي الدنيئة، هي التي
تعيقني من أن اكون خادمك الجدير والمقتدر..ياآلهي ساعدني، وأعف عني ياآلهي..)..،
وفي مكان آخر يكتب:( ولكن ما هـو الاختلاف بين توماس مان ودستويفسكي..؟
الإلحـاد؟ ربمـا..إن توماس مان (يفـهـم) تقريبا الكثير عن (اللـه) بيما
دستويفسـكي يريد ذلك لكنه لا يستطيع أن يؤمن باللـه). بهـذا الهاجـس أخـرج
تاركوفسكي فيلم (ستالكـر).
*فـي هذا العام نفسه يسافر الى ايطاليا للإتفاق على إخراج فيلم (رحلة
الى ايطاليا)، والذي غير أسمه الى (الحنيـن - نوستالجيا). وهناك يلتقي
أنتـونيوني، فليـني، وروزي. وهناك يبدأ تصوير المشاهد الخارجية من الفيلم.
يكتب في يومياته بتاريخ 22 تشرين الأول 1979: (أشعر أنني وحيـد، وهدا
الشعور يكون مرعبا حينما تعـي بأنك وحيد، وأن هده الوحدة تعني المـوت..إن
الجميع خانوني أو يخونونني، إنني وحيد كليا..لا أود أن أعيش.. إنني خـائف..
أصبحت الحياة بالنسبة لي لا تطـاق..!).
*
في العام 82-1983 ينهي إخراج فيلمـه (الحنـين، نوستالجيا) الذي
كان قد قرر في بداية الأمر منح دور البطولة فيه للممثل (سـولونيتصين)، إلا
ان يموت بداء السـرطان فيضطر الى منح دور البطولة الى الممثل (أوليك
يانكـوفسكي)، ومنذ ذلك الحين يستقر تاركوفسكي في منفاه الإختياري، إذ قرر
عدم العودة الى الاتحاد السوفيتي. وكان إتخـاذ مثل هذا القرار منطقيا، لا
سيما حينما يتعرف المرء على طبيعة الحياة القاسية التي كان يعيشهـا مع
عائلته، سواء من الناحية المادية، أو بسبب المضايقات التي كان يتلقاها من
قبل المسؤولين الذين كانوا يسعون دائما الى إعاقة عمله الإبداعـي. وقـد دون
فـي يومياته تفاصيل مؤثرة عن حياته وهمومه.
*إلا ان تاركوفسكي سرعان ما يغير منفاه متنقلا ما بين ايطاليا وفرنسا
والسويد. وفي لندن يتمكن من إخراج أوبرا (بوريس غودنوف)، وهي مسرحية شعرية
ل(بوشـكين)، وضع الموسيقى لها (موسورسكي). وقد كتب في يومياته بتاريخ 25
حزيران 1983 ما يـلي: (خـوف..إنني ضـائع..إنني لا أستطيع العيش في
روسيا..ولكن هنـا لا أستطيع أيضا..). وحينما يعرض فيلم (الحنين، نوستالجيا)
يحصل على جوائز عالمية عديدة، يتفق بعدها مع جهات فرنسية وسويدية على
إخراج مشروع قديم له باسـم (الساحرة)، والذي يغير الـى (التضحية) أو
(القربان). وفي العام 1985 يحصل على منحتة من الاكاديمية الألمانية للشؤون
الأجنبية(DAAD)
ويحل ضيفا على (دار تعليم الفن) في برلين. وفي هذه الفترة تظهر عليه علامات
السرطان، لكنـه لا يدرك ذلك فيبدا عمله في فيلمه الأخير (التضحية) او
(القربان). فيغادر برلين سريعا، ويكتب في يومياته بتاريخ 8 آذار 1985 ما
يلي: (إن برلين مدينة مرعبة لا تطاق.. يجب أن أغادرها باسرع وقت). وفي نفس
العام يصدر كتابه (الزمـن المطبـوع) بالألمانية قبل ان ينشر بالروسية، وهو
تأملات حول الفن وحول جماليات السينما، من خلال تجربتـه الشخصية.
يعرض الفيلم الاخير له في مهرجان (كان) السينمائي ويحصل على جائزة
اتحاد النقاد العالمي، فيكتب في يومياته: (إنني تعبان..لا أستطيع العيش
بدون إبني (اندريوشا)، ليست لي رغبـة في الحياة). ويكتب بتاريخ 10 تشرين
الثاني من نفس العام: (لقد وصلتني أخـبار سيئة مـن موسكو..إنه ليوم
مرعب..سنة مرعبة..ياآلهي قـف الى جانبي).
وفي العام 1986 يشـتد به المرض، فيتنقل بين المستشفيات، ما بين (اوشل
برون) في جنوب المانيا، ومستشـفى السرطان فـي باريس. فيكتب بتاريخ 5 كانون
الأول من العام 1986: (أحـس بالفـزع..لا أستطيع مغادرة سريري، بل لا استطيع
الجلوس في الفراش..آلآم في العمود الفقـري والظهـر..كذلك الأعصاب..لا
استطيع تحريك أطرافي..ذراعي تؤلماني أيضا..إنني ضعيف جدا..سـوف أمـوت..؟؟
هاملت، ليست لدي القوة لعمل أي شيء..). وقبل وفاته بأسبوعين كتب: (هاملت..،
كل شيء على الفراش..سـوف أمـوت..لا أستطيع أن اعمل شيئا..هنـا
المشكـلة..؟!). وفي 29 كانون الأول من العام 1986 يقضي تاركـوفسـكي نحبـه
بـداء السرطان في المستشفى بباريس، ويدفن هنـاك.
بعد وفاته تُصـدر الجهات السوفيتية نعيا رسميا عنه، وتخصص مجلة (فـن
السينمـا) عددا عنه، ويرفع المنع عن أفلامه، إذ ان السلطات السوفيتية، بعد
طلبه اللجوء في ايطاليا في العام 1983، سحبت افلامه والغيت من الدراسة في
معهد السينما بموسكو.(وكنت حينها طالبا في السنة الثالثة، واردتُ أن اكتب
دراسة عن إشكالية الزمان في أفلام تاركوفسكي،وطلبت مـن إدارة المعهد مشاهدة
فلمـي (المرآة) و(سولاريس)، فاعتبرت ذلك مشاكسة مني لكنـي بعد أخذ ورد،
وبمساعدة مشغلي ماكنة العرض، استطعت مشاهدة جميع افلامه خفية، وكـنت قبل
رحيله قد التقيته لمرتين في إستوديوهات (موسفيلم)، المرة الأولى في العام
1980، وكان لقاء عابرا، أما المرة الثانية فكان في العام 1982، حينها تقدمت
منه وقدمت له نفسي باعتباري من طلاب معهد السينما في موسكو، ومن المعجبين
بافلامه، فسألني عن السينما في البلاد العربية والشرق عموما، وأذكر إنني
سالته عن تأثير دستويفسكي وتولستوي عليـه، فسر بالسؤال، وأجاب بكثافة
وتركيز عن ذلك.
*
خلال حياته تزوج أندريه تاركـوفسـكي لمرتين، المرة الأولى من
الممثلة (ارما راوش) التي مثلت في فيلم (طفولة إيفـان) دور الأم، وفي فيلم
(أندريه روبـلوف) بدور المجنونة، وقد أنجبت له صبيا. وفي المرة الثانية
تزوج من (لاريسا بافلوفنـا) والتي إستمرت معه الى آخر لحظات حياته، وقد
انجبت له إبنا أيضا، وكانت زوجته الثانية قد عملت معه كمساعدة في أفلامه
(المرآة)، (سولاريس)، و(الحنين، نوستالجيا)، كما أشرفت على إصدار يومياته
بالألمانية، والتي أعتمدتُ عليها هنا في هذه الدراسة.
*
مثل تاركوفسكي أثناء حياته أدوارا قصيرة في السينما حيث ادى
دورا قصيرا كضيف في فيلم (عمري عشرون عاما) لمارلين خوتسيف في العام 1964،
وفي فيلم (سيرجي لازو) للمخرج الكسندر كودرون في العام 1967، كما عمل
مونتيرا لعدد من الأفلام.
عـــالـــم تـاركـوفـســـكـي
قـال مكسيم غـوركي ذات مرة: (إن الأدب الروسي هـو أدب السؤالين: مـن
المسؤول؟ ومـا العمـل؟؟. هذه الدقة النادرة والنظرة الثاقبة لواحـد من
أعمـدة الأدب الروسي هـل ستساعدنا عند تلمسنا للأسئلة التي تطرحها افلام
تاركوفسـكي.. ربمـا!!. في كتاب (اندريه تاركوفسكي) الصادر عن منشورات (هانزر
- سلسلة الأفلام) والمرقم 39 لعام 87-1988، وفي محاولة لتفسير أفلام
تاركوفسكي، كتب بعض النقاد الالمان، وبشكل رائع عن المرجعيات الأدبية
لتاركوفسكي، مستندين الى إرث الأدب الروسي (أخص هنا مقال هانس.ي. شليغل،
ودراسة ايفا مارياشميت)، وتوقفوا عند الرمزية الروسية بالذات والتحديد. إلا
ان الإشكال، في رأيي، يكمن في أن التوقف عند حدود الرمـزية الروسيـة في
بداية هذا القرن، والإعتماد عليها في تفسير رموز تاركوفسكي وإستعاراته
الجمالية ليس بكاف (رغم الالتفاتة الرائعة من قبل ايف ماريا شميت لربط حالة
الصرع في فيلم (الحنين، نوستالجيا) باعمال دستويفسكي) من حيث:
أولا: إن الرمزية الروسـية ذاتها كانت تضم تحت لوائـها عـددا من
الشعراء والكتاب غير المتجانسين فكريا أو إبداعيا. وقد يكون تاركوفسكي قد
إقترب من عالمهم واستخدم بعض رموزهم أو طرح بعض أسئلتهم عن الجمال المطلق،
الحق المطلق، النقاء المطلق، وعناصر الأشياء، ‘لا انني أختلف معهم في انه
أستخدم (منطقـهم)، من حيث ان تاركوفسكي فنان جـدلي، لا يحب الإستعراض،
وربما يلتقي معهم في بعض جوانب (منطقهم) الفني، لكنه يختلف عنهم في سجاله
وفهمه لهذا المنطق، فهو اكثر رحابة، وربما يلتقي معهم في معالجة بعض جوانب
الصراعات الروحية ذات الطبيعة المسيحية، لكنه يختلف عنهم في ان عالمه أكثر
حسية منهم، فهو مليء بالماء، الفواكه، الأشجار،الجذور، الجياد البيض
والسود، الشمس والضباب والمطر، وليس هناك من أشباح وظلام وجحيم سوى داخل
النفس، وليس علـى الشاشة.
ثانيا: إن تاركوفسكي اقرب الى الأدب الروسي الكلاسيكي وتقاليده
العريقة، اقرب الى تولستوي ودستويفسكي وتشيخوف وليونيد اندرييف منه الى
الرمزيين الروس..!
ثالثا: إن محاولة تفسير افلام تاركوفسكي بالاستناد الى الأدب
والتأثيرات الأدبية فقط هي محاولة قاصرة ومغلوطة من الأساس اذا لم يتم أخذ
تاريخ السينما السوفيتية والعالمية، وتقاليدهـا، وموضوعاتها وجمالياتها
بالحسبان، فهو نتاجها، إذ ان تاركوفسكي سينمائي وليس شاعرا او كاتبا، او
فيلسوفا.
إن اهمية تاركوفسكي فنيا بالنسبة لتاريخ السينما الروسية والعالمية،
تكمن في هذا الدفـق الروحاني الذي يغمر افلامه، مثلما كان القلق الروحاني
هو نسخ الرواية الروسية. ليس هذا فحسب فمنذ (آيزنشتين)، عبقري السينما
الروسية والعالمية، لم تجد السينما الروسية فنانا إهتم بالأسلوب التعبيري،
وبمشاكل البحث الفني والتجريبي مثل تاركوفسكي وهذا يجب ان لا يفهم كنكران
لمحاولات: كوليشوف، بودوفكين، دوفجنكو، شنكلاي، كوزنتسيف، م. روم،
غيراسيموف، جوغراي، كوليتوزوف، كليجانوف، خوتسيف، لاريسا شبتكو، بانفيـلوف،
ميخائيلكوف، كليموف، وغيرهم. إن الصراع بين المعاناة الناتجة عن إدراك
تراجيديا الواقع البشري المعاصر، الخالي من التناسب والإتساق والعدالة،
وبين الثقة الطفولية بالإنسانية وبالحلم البشري عن عالم اخوي تحكمه الروح
الإنسانية، كان أحد مشاكل تاركوفسكي، مثلما كان شكل التعبير الفني عن هذا
الصراع هو مشكلة جمالية بحتة أقلقته كثيرا. فمع بداية الستينيات بدا
تاركوفسكي مساهماته السينمائية، أي كانت أمامه تجربة هائلة لأربعين عاما من
العمل السينمائي، حيث قطعت السينما السوفيتية، والعالمية،خلالها أشواطا
بعـيدة، وعاشت صراعات فكرية وجمالية ملتهبة، وعالجت قضايا إجتماعية
وسياسية ملحة، ورسمت مساراتها بوضوح، وخلقت تقاليدها الفنية. ففي
العشرينيات، كان السينمائيون السوفيت يسعون لخلق لغة سينمائية جديدة،
ويسعون ايضا لمنح السينما خصوصية فنـية تخلصها من تأثيرات الفنـون الاخرى
التي كانت السينما تابعة لها بهذا الشكل او ذاك. في إحدى المقابلات التي
أجرتها جريدة (الثقافة السوفيتية) في العام 1962، قال المـخرج ميخائيل
روم:(في النصف الثاني من الخمسينيات ظهر عدد من المخرجين الذين إستطاعوا
توحيد تقاليد سينما الثلاثينيات مع الأوضاع والظروف الجديدة امثال: جوغراي،
كوليجانوف، شفيستر، ألوف ونوموف،وغيرهم. فهؤلاء الشباب إستوعبوا الظواهر
الجديدة في السينما العالمية بشكل جيد، وفي هذه المرحلة إتضح لي نحن جيل
المخرجين القدماء بأن الإختلاف ليس في التجربة فقط، وانما في الفهم المبدئي
لجماليات السينما، ولكن في السنوات الأخيرة تالق فلمان هما(الطلقة 41)
لجوغراي، وفيلم (طفولة إيفان) لتاركوفسكي). أن أهمية هذه الملاحظة لا تكمن
في كونها صدرت من واحد من كبار المخرجين فقط، وانما لكونها صدرت من اهم
المنظرين في تاريخ السينما السوفيتية. وفي حديثنا عن تاركوفسكي يأخذ تعليق
روم بعدا مهما، فهو المخرج الذي تتلمذ عنده تاركوفسكي، وتاثر ببعض جوانب
إسلوبه ومفاهيمه النقدية والجمالية. منذ فيلم (طفـولة إيفـان) يخط
تاركوفسكي لنفسه إسما في تاريخ السينما. فمنذ أول فيلم له، وما سيتبعه من
أفلام، يعتمـد تاركوفسكي على (الـذاكرة). فالـذاكـرة هي المنبـع. إن هذه
الطريقة في التعبير والسرد السينمائي لدى تاركوفسكي تدخل ضمنيا في عملية
بناء الشكل الفني للفيلم، كما اتها وسيلة ناجحة لمعالجة العالم الروحـي
للإنسان ومنحه إمكانية (المنولوج الداخلي)، أي ان إشكالية الماضي والحاضر،
الذاكـرة والواقع، تطرح مشكلة مسؤولية الإنسان أمام نفسه وامام الآخرين،
أمام الزمن الذي يمتد من الأمس وحتى اليوم، ومن هنا يبدأ جـدل الواقع وجدل
التاريخ، مثلما تبدأ ولادة الأفكار الجديدة. إن إعتماد الذاكرة في عملية
البناء الفني والشكل التعبيري عند تاركوفسكي تأخذ اشكالا عديدة، فالذاكرة
تاريخ، مثلما التاريخ ذاكرة إجتماعية، وعند إستخدامه يكشف عن شرائح الواقع،
ولكن هدا التاريخ يكون أحيانا تاريخا شخصيا. ومن هنا نرى في أفلامه،
أحيانا، النبرة التسجيلية التي تصل حدود الخشونة. لذا فأن موضوعة الذاكـرة
هي مادة وثائقية يعالجها تاركوفسكي إخلاقيا وجماليا، مانحا إياها بعدا
فلسفيا، بالرغم من ان الفلسفة فـي إفلامه لا تخرج عن كونها فلسـفة،متجسدة
في النقاش الفلسفي المباشر حول الأخـلاق والـزمن والوجـود، الإبداع
والتقليد، والعقل والشعور، الجـزء والكـل. غير ان السلوك الشاعري للبطال
والمجسد على الشاشة بهذه الوثائقـية، يمنح العمل الفني تعبيرية عالية، وهذا
ما نلاحظه في جميع افلامه، ومن هنا أستطيع القول بأن في افلامـه يكمن ما
يسمى ب(الوثائقية الشاعرية)، وهنا بالذات نجد ملامح من تاثيرات ميخائيل روم
وكوزنتسيف وخوتسييف. أن تاركوفسكي لا يبحث فقط عن جمال الإشياء، وانما
يقدمها بشكل جميل، بل ويفجر لدى المشاهد الاحاسيس الجمالية، فهو لا يدفعنا
الى التفكير في تربية أرواحنا جماليا وانا يساهم في هذه التربية اي ان
أعماله تؤدي وظيفة الفن الكبرى (التطـهير)، مثلما تدفعنا لإعادة النظر
بالواقع، وهذه إحدى مهام الفن الحديث، أي انه يجسد مقولة الناقد الجمـالي
الروسي (تشرنشيفسكي)في (إن الشيء يكون جميـلا حينما يذكـرنا بالحيـاة). لكن
عملية (التطهـير) في الدراما اليونانية تستند الى كون ابطالها مأساويين،
فهل أبطـال تاركوفسكي مأساويون؟..نعم..إنهم مأساويون، لكنهم ليسوا كابطال
التراجيـديا الأغريقيـة، فهم لا يسيرون وفق مشيئة أقدار مقدرة سلفا، وانما
يختـارون اقدارهم بانفسهم، ومن هنـا فأن أبطاله أقرب الى ابطال الدراما
الشكسبيرية..! كما ان هناك معالجات أخلاقية في كل افلامه، إلا ان للتقاليد
الفنية دور مهم في هذه المعالجات الأخلاقية، لا سيما تقاليد الرواية
الروسية في القرن التاسع عشر، ويتجلى هذا بشكل بارز في فلميه (طفولة إيفان)
و (إندريه روبلوف)، وهنا نستذكر مقولة غوركي عن الأدب الروسي وسؤاله: من
المسؤول؟؟ ومـا العمـل؟؟.
عن الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاماراتية
المدى العراقية في
25/06/2013
أندريه
تاركوفسكي... شاعر السينما
ياسر كريم
ليس قولاً جديداً أن أندريه"تاركوفسكي"من أبرز المخرجين الروس في
العصر الحديث، بل ومن أبرز المخرجين الذين مروا على السينما التي يتجاوز
تاريخها القرن وبضع سنوات، هذه المكانة التي شغلها"تاركوفسكي"تحققت عبر
أفلام قليلة، بالمقارنة مع غيره من عظماء السينما، بل ويمكن أن نحصرها
عددياً في سبعة أفلام تتابعت في تكوين مقولة"السينما قبل"تاركوفسكي"وبعده".
ولد"تاركوفسكي"عام1932م،في مدينة"زفراجيه" الروسية الواقعة على ضفاف
نهر الفولغا، ابناً للشاعر الروسي"أرسيني تاركوفسكي"، حيث أبدى اهتماماً
مبكراً بالرسم والموسيقى، ودرس العربية والجيولوجيا، وبعد أن عمل كجيولوجي
في بداية حياته، كانت خطوته الكبرى في الانتساب إلى المدرسة الرسمية
للسينما التابعة للدولة في موسكو، والتي كان يرأسها السينمائي
البارز"ميخائيل روم". قدم من خلالها"تاركوفسكي"فيلمه القصير"القتلة"عام
1958المأخوذ عن قصة قصيرة للأمريكي"إرنست همنجواي"، ثم تبعه بآخرين وبمدة
أطول وإن بقيا قصيرين،"لن يكون هناك رحيل اليوم"عام 1959م، محققاً في العام
التالي"المحدلة البخارية والكمان"، والذي كان مشروع تخرجه من المدرسة.
منذ بداية حياته السينمائية كمخرج، وفي أولى أعماله القصيرة، كانت
العناصر المكونة لشخصية"تاركوفسكي"في طفولته وحتى شبابه، تبدو ذات اتصال
وثيق بما يقدمه. ففي فيلمه الروائي الطويل الأول"طفولة إيفان"عام 1962م،
والذي لفت أنظار السينمائيين إليه في العالم بعد تحقيقه جائزة الأسد الذهبي
في مهرجان فينيسيا، حكاية طفل دمرته حروب، لم تزل تنشأ بأسباب واهية في
كثير من الأحيان، نجد فيها نقداً لاذعاً ومستفزاً استمر يتطور في جل أعماله
اللاحقة، مؤكداً حضوره كسينمائي ذي رؤية عميقة وواضحة وخلاقة، وباعثاً
لعداوة السلطات الروسية التي كانت لا تكف عن مراقبته ومراقبة كل فنان، تلك
العداوة التي حدت به بعد فيلمه الرائع"نوستالوجيا"الذي حققه في إيطاليا عام
1983م، عدم العودة إلى روسيا حتى وفاته في باريس عام 1986م بمرض سرطان
الرئة، ذات السنة التي حقق فيها فيلمه الأخير"القربان".
بعد سبع سنوات من عمله اللافت للأنظار "طفولة إيفان"، قام"تاركوفسكي"بإهداء
السينما أحد أجمل الأفلام السينمائية"أندريه روبيلوف"، الفيلم الذي يمكن
تمييزه كعمل يتباين في جملته مع"طفولة إيفان"، بورتريه عن فنان روسي أواخر
القرن الخامس عشر، ودراما مجازية عن محنة الفنانين الروس، رأى فيه بعض
النقاد نقداً حاداً لتأثيرات الحرب وآثارها الفوضوية على حياة الإنسانية.
وأيا كانت التفسيرات التي دائماً ما تتشعب وتتباين حين الحديث عن أفلام"تاركوفسكي"،
إلا أن"أندريه روبيلوف"هو عمله الأبرز والأكثر تعبيراً عن أساليبه
الإخراجية ولغته السينمائية التي اجتذبت مخرجين كبار ونالت استحسانهم أمثال
السويدي"بيرغمان"أو الياباني"كيراساوا". كان هذا الفيلم بحق معضلة"تاركوفسكي"الأولى
مع الرقابة الروسية، التي لم تسمح بعرضه في روسيا إلا عام 1971م، مما زاده
جماهيرية مضافاً إليها حصوله على جائزة في مهرجان كان.
"سولاريس"عام 1972م كان تطوراَ مثيراً لمسيرة هذا المخرج
المبدع، الذي تناول رواية خيال علمي للروائي الروسي"ستانيسلاف ليم"تحمل
العنوان ذاته، عن رائد فضاء فقد زوجته لكنه يجدها في وقائع غريبة على
الكوكب الذي أرسل إليه من وكالة الفضاء التي يعمل فيها للتحقيق في حوادث
غامضة، نقد آخر للمادية التي طغت على الإنسانية وساهمت في تلاشي القيم
الروحية والأخلاقية. في"المرآة"عام 1975م، لم يزل"تاركوفسكي"يغزل على ذات
المنوال، حيث يستلهم سيرة ذاتية ويقولبها في تسلسل تاريخي متميز، رجل يبدأ
بمعاصرة ذكرياته مرة أخرى، عن طفولة ومراهقة أسهمت القوى الجديدة في تدمير
معظمها. يربط بين ماضيها وحاضرها مرآة تقبع على جداره، وحيث أعتقد أن هذا
الفيلم من أنضج أفلام"تاركوفسكي"وأجملها، إلا أن أحكام التفضيل في أعمال"تاركوفسكي"،
تبدو منحازة بدون وعي بمجمل التجربة.
في عام 1979م كان"تاركوفسكي"يخرج آخر أفلامه في روسيا"المقتفي"،
المقتبس عن رواية قصيرة في الخيال العلمي للأخوين"أركادي وبوريس ستروقاتسكي"بعنوان"نزهة
على الطريق"1971م، فيلم ذكي بإبداع بصري مذهل يحوز معظم مفاهيم"تاركوفسكي"الإخراجية
وأساليبه الفنية. حيث يبرز مفهومه الخاص بنحت الزمن بوضوح بارز للغاية، عن
قصة بعثة علمية يقودها أحد المتسللين للوصول إلى أرض تبدو عليها آثار زيارة
من الغرباء -سكان الكواكب الأخرى- ومنطقة تتحقق فيها الرغبات -إشارة إلى
الآمال التي يتعلق بها البشر وأوهامهم بشأن السعادة- ووقائع تلك الزيارة،
ونتائجها المختلفة بالنسبة لكل فرد من أفراد البعثة.
بعد خروجه من روسيا وفي عام 1983م كان"تاركوفسكي"يحقق أحد أهم أفلامه
"نوستالوجيا" عن كاتب روسي يقوم ببحث عن موسيقى القرن الثامن عشر. وفي
إيطاليا بعيداً عن بلده الأم، ينجح الفيلم عبر مجازيته السردية الرائعة، في
تكثيف صورة من الحنين، تجعلنا نتفهم ما الذي يدفع"تاركوفسكي"المنفي هو
أيضاً إلى بلد الإلهام الديني، ذلك الإلهام الذي كان ينجح"تاركوفسكي"دائماً
في تطعيم أفلامه برموزه، دون أن ترتعش بحيرة الشعر التي تطفو عليها أفلامه.
في تلك الأثناء عاصر ظهور هذا الفيلم، فيلم وثائقي عنوانه"رحلة في الزمن"هو
استلهام لسيرة"تاركوفسكي"السينمائية وبالأخص عن فيلمه"نوستالوجيا"حيث كان
يستكشف مواقع الفيلم مع الكاتب السينمائي"توني جيورو"، هذا الفيلم الوثائقي
كان بالنسبة لمعجبي"تاركوفسكي"صيداً ثميناً، حيث يوثق هذا الفيلم"تاركوفسكي"الشخص،
بوجدانه وتعابيره، وكل ما جعلنا نتساءل عن هذا الرجل الأسطورة الواقف خلف
هذه الأعمال العظيمة منذ"طفولة إيفان"وحتى"القربان".
بعد هذا الفيلم وفي معدل ثلاث سنوات، وهو الوقت المعتاد حتى يظهر فيلم
آخر ل"تاركوفسكي"، كان آخر أفلامه"القربان"يعرض في صالات السينما، عن الرجل
الذي يتخلى عن كل شيء لأجل أن ينقذ أهله وذويه من الكارثة النووية الموشكة
على الحدوث. صور هذا الفيلم معه المصور السويدي الشهير"سفن نيكفست"الذي عمل
مع المخرج السويدي"بيرغمان"والحائز على جائزة الأوسكار مرتين. حيث تبرز
مكونات الصورة وهي تتكرر بشكل مبرر لتأكيد العناصر الأربعة، كل ذلك ومن
خلال التيمة المشهورة ل"تاركوفسكي"حيث يجد الدين طريقه ليظهر في أفلامه،
حيث تظهر هنا تيمة الخلاص والفداء (رمز توارتي ومسيحي بارز) مما يجعلنا
نتأكد من سيرة"تاركوفسكي"الذاتية التي تؤكد على دراسته للدين -بما فيه
الدين الإسلامي- كما عرف عنه.
بخلاف"نيكفست"، فقد عمل"تاركوفسكي" مع عدد من أبرز المصورين، يأتي على
رأسهم المصور الروسي الشهير"فاديم يوسوف". فقد اشتركا معاً في"طفولة إيفان"،"آندريه
روبيلوف"و"سولاريس"، وعندما طلب منه"تاركوفسكي "أن يصور"المرآة" رفض"يوسوف
"معللاً ذلك بأنه وجد في الطابع الذاتي المتعلق بالسيرة الذاتية لنص الفيلم
أمراً بغيضاً من وجهة نظر أخلاقية. فيما بعد حينما صور الفيلم"جورجي ريربرج"،
قال"يوسوف""لتاركوفسكي":"أكره أن أضطر لقول هذا يا آندريه. لكنه أفضل
أفلامك".
بالنسبة لي لا أدري كيف يمكن أن أختار فيلماً ل"تاركوفسكي"لأمنحه لقب
الأفضلية، فقد بقيت محجوزاً فترة لا بأس بها في منطقة"المقتفي"ومثلها
في"المرآة"ومن قبلهما في"آندري روبيلوف"، وحين توقعت ألا غير،
كان"القربان"منطقة حجز أخرى.
"تاركوفسكي"يربطنا على الدوام ببيت مشهور من قصيدة لأبيه أرسيني
يقول"أنا أحد الذين يجذبون شبكات الصيد الأزلية".
المدى العراقية في
25/06/2013
مــرايــــــا شـــاعـــــر الســـــينـمـا ..
اندريه تاركوفسكي وكتاب المقارنات
احمد ثامر جهاد
• (لا
توجد في العالم سعادة، لكن توجد طمأنينة وإرادة..)
• (تبنى
الصورة السينمائية الحقيقية على هدم الفن) … تاركوفسكي
يرى البعض ان أفلام المخرج الروسي الشهير أندريه تاركوفسكي عسيرة
الفهم، غير واضحة، ذاتية وكئيبة إلى حد كبير، لكنهم يعترفون أيضا إن أفلامه
كالموسيقى العظيمة تترك انطباعا حسيا قاسيا لن ينسى حول معنى الحياة
والإنسان والموت، فيما يرى آخرون إن سينماه توثق شعريا لمعاناة الفرد وقلقه
الروحي وجهله بجوهر نواميس الكون. سينما طليعية،تأملية، إدراكية وذاتية
تعرض صورة التواصل الإنساني وتوقظ في الكائن بواطن مشاعره وأفكاره تجاه
مصيره النهائي. وبالنسبة لمخرجين كثر اعتادوا إثارة البهجة لدى جمهورهم بأي
ثمن، يبقى اسم تاركوفسكي مقترنا بغموض آسر يجتذب النخبة على نحو خاص.
في حوارها معه تعبر الناقدة (اولغا سوكورفا) عن هذا الانطباع وتكتب في
مقدمة كتابها (كتاب المقارنات) قائلة:"إن طابع صلة الفنان مع جمهوره، ليست
مقياسا نهائيا في فهم دور وأهمية إبداعه". فتدخل عبر وجوه حوارها المختلفة
والطويلة إلى عوالم تاركوفسكي الذهنية، وتعرفه بداية للقارئ من خلال
مراسلاته مع الجمهور التي تعرض جانبا من الجدل الواسع حول فيلمه الشهير
والعميق فلسفيا (المرآة) بوصفه اكثر أفلامه تأملية وأهمية، بعد (طفولة
ايفان) و(اندريه روبليف). لنرى كيف تتفاوت ردود فعل المتلقين واستجابتهم
إزاء هذا الفيلم، كما مع باقي أفلام تاركوفسكي التي لا تلبي بشكل تقليدي
رغبة من يبحث عن منطق رياضي لفهم الإنسان ومغزى حياته التي هي بالنسبة
للمخرج معاشرة روحية من نوع ما بين الأحاسيس والصور والذكريات. في كتابه
(السينما والحياة) جاء على لسان المخرج: الصورة هي انعكاس شاعري للحياة
نفسها. استعارة. نحن لا يمكننا أن نلمس الرحابة الفسيحة، لكن الصورة –
الاستعارة، قادرة على حصدها.."
يهتم تاركوفسكي كثيرا بالصدق الفني في نقل لوحة الحياة المتناقضة بشكل
رمزي، كما يراها هو بحسه الأخلاقي الجدلي الفريد، وبما يؤهله للمس أغوار
النفس البشرية ومعاينتها بشغف صانع اللوحة التشكيلية الذي يتفوه الحقيقة
بلغة إيحائية ساحرة، لا تصف ولا تشرح، لكنها تومئ حينما تسعى لترسيخ
جدارتها في فك التغامض المحايث للطبيعة البشرية. لذلك نراه ينطلق من الحاجة
الملحة في فهم هذا الموقف أو تلك الظاهرة وتغييرها وان كان ذلك عبر مصفاة
التصورات الذاتية والتجارب الشخصية ورسم الماضي بحنين موجع. ربما يعد هذا
أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت أفلامه غير مفبركة ولا مصنوعة ببريق خارجي
ظاهر مثلما يدعي نقاده، قدر انتمائها لوجهات نظر أصيلة مشفوعة باستدلالات
روحية حية تعرض للعالم بوصفه معضلة، ولتفكير الإنسان بوصفة تجريبا متواصلا
لا يهادن في إيصال اعمق رغباته والتعبير عنها، من دون أن يعني ذلك انسياقه
التام مع ديماغوجية عنيدة تعتقد بصواب الحتمي دوما.
ليس فقط لانه الابن الموهوب للشاعر آرسين تاركوفسكي، إنما لحساسية
فطرية تميز بها منذ سنوات عمره المبكرة، كان تاركوفسكي شاعرا مرهفا بما
يكفي لحب الحياة والانحياز لمنطقها الخفي والأصيل، سواء في رسم شخصياته أو
في صياغة مصائرها التي تجعلها صادقة ومقنعة، والاهم من ذلك كله في جعلها
جذابة ومؤثرة في مطلق خيرها وشرها وجمالها. فالفن بالنسبة لتاركوفسكي كما
هو للكاتب الروسي غوغول، يبدو قويا بالنسبة للآخرين بقدرته على الإقناع،
وبحيويته الفريدة. ويعبر المخرج عن رؤيته قائلا:"إن الفن يصبح خطيئة عندما
أبدأ باستخدامه لاهدافي واهتماماتي الخاصة. كذلك لا يجب أن انظر إلى ما
أريد القيام به، على انه إبداع حر، ولكن على أساس انه فعل لا بد من تحقيقه،
حيث أن العمل لا يمكن أن يوفر الراحة والمتعة، وانما يمثل واجبا صعبا
ومعذبا..(السينما والحياة).
ورغم تمسكه به حتى في اشد لحظات حياته حلكة، تعرض تاركوفسكي في موطنه
السوفيتي إلى سوء فهم وضغوطات كبيرة من السلطات البيروقراطية، وقد برع
خصومه في صياغة تهم مبتذلة تشكك بمواطنته ورجاحة عقله، فيما حاول نفر من
دعاة الالتزام المتفائل بمصير الأمة الجبارة وسعادة مواطنيها الأنقياء
اتهامه بخيانة مبادئ الثورة. لذلك يبدو تاركوفسكي في مسيرته الفنية كمنشق
انه لم ينجو من تهمة تحريف الديالكتيك التي كانت خطرة على اغلب إبداعه على
قدر خطورة عبقريته السينمائية الفذة على العقليات الحزبية البالية. فمن كان
بوسعه أن يخاتل العقيدة السوفيتية ليبرر لهذا المخرج اعتقاده القائل:"إن
الفنان المفكر سيصبح آيديولوجيا ومدافعا عن المعاصرة، وعاملا محفزا ومحتما
للتغيرات. فيما تكمن عظمة وجلاء الفن المرتبط بالهزات الأخلاقية والمعنوية
في انه لا يبرهن ولا يفسر ولا يجيب عن الأسئلة. انه ليس إلا نقوش محذرة
ومهددة". من كان بوسعه في ظل هول شبح الكرملين مجرد التفكير بذلك؟
تذكر (اولغا سوكورفا) في نص حوارها المسجل مع المخرج حول المبادئ
العامة الفن: إن تاركوفسكي لا يستطيع إلا أن يقف ضد ذلك النظام الحيواني
المتوحش لتلك الدائرة من الناس ضيقي الأفق، في اكثر أشكاله قسوة وحسما، لان
كل أفلامه في نهاية المطاف هي عن شئ واحد.. عن ذلك العطش الإنساني للانسجام
الرائع والسامي، والذي يرفع إلى الأعلى الروح الإنسانية، ويسعى إلى الحقيقة
الإنسانية. إن أفلامه تتحدث عن الثمن الدرامي القاسي الذي يدفعه الإنسان
نتيجة لسعيه هذا نحو الانسجام. ولكن بمقدار ما يرتفع ثمن القهر الممارس،
بمقدار ما يكون العقاب اكثر إيلاما.
هكذا يقدم (كتاب المقارنات) شهادات نظرية ذات أهمية فائقة في فهم
سينما تاركوفسكي من خلال حوارات مطولة وشروحات فكرية وفنية تمتلك خصوصيتها
في إضاءة إبداعه السينمائي. ورغم أن الكتاب لا يعرض لحياة المخرج الشخصية
والتي لعبت دورا كبيرا في تكوينه الفني والأخلاقي، إلا انه يطرح صورة شاملة
عن أفكار المخرج وتصوراته حول الفن والثقافة ونظريات الفيلم وأسس العملية
الإبداعية وقضايا الالتزام والحرية. وفي لجة الأجوبة الذكية والجريئة التي
تعبر عن رؤياه الفلسفية والفنية للعالم، لا يسعك النظر إلى تاركوفسكي إلا
بوصفه مثقفا روسياً من طراز خاص، ترك للعالم إبداعا سينمائيا إشكاليا يزخر
بالأسى الشعري. ولم تغير حقيقة أن معظم أفلامه كانت ممنوعة من العرض في
روسيا من حجم هذه العبقرية السينمائية في شتى أرجاء العالم، بل زادته شهرة
ومكانة بين مجايليه، فقد تجاوز المخرج ببساطة تقاليد التفكير السائد،
وتحدث بلغة شعوره الخاص بالعالم.
تاركوفسكي الذي احب أفلام بيرغمان وروايات دستويفسكي وموسيقى موتزارت
وباخ كان يحلم بصنع فيلم دون أبطال، معتبرا انه لكي تكتب بشكل جيد، يجب أن
تنسى القواعد. ويقول واصفا الغاز تجربته السينمائية:"إن تجربتي تبرهن على
عدم إمكانية التعلم بان تكون فنانا بواسطة معهد دراسي". فعقب تشربه
بالثقافة والفن والشعر والتقاليد الكلاسيكية في صناعة السينما كرس
تاركوفسكي جل حياته لمتابعة تحقيق حلمه ذاك، عبر خلق أفلام مغايرة ذات طابع
تحليلي، أفلام بطيئة، مضادة للنوازع التجارية وخالية من الجاذبية الرخيصة
للدراما السينمائية.
هامش:
كتاب المقارنات – حوارات مع تاركوفسكي: اولغا سوكورفا - ترجمة: يونس
كامل ديب. منشورات وزارة الثقافة - سلسلة الفن السابع (ع 68) 2003
المدى العراقية في
25/06/2013
حوار
مع المخرج الروسي الكبير أندريه تاركوفسكي
هذه المقابلة سُجلت صوتيًا في استوكهولم في مارس 1985، باللغة
البولندية. قام بترجمتها من البولندية إلى الإنجليزية"جان بيلويسكي". إليكم
المقدمة التي كتبها"إليج ونيوجر"اللذان عقدا المقابلة مع تاركوفسكي، وقاما
بكتابتها عام 1987.
جرت المحادثة المقدمة هنا في استوكهولم، في مارس 1985. في الوقت الذي
كان فيه تاركوفسكي يعمل في – إنهاء – فيلمه الأخير، المُعنون بـ"القربان"وهو
رسالة ميتافيزيقية عميقة، ذات أهمية بالغة تمامًا كما في فيلمه الأسبق.
كان محجوبًا عن الصحفيين والفضوليين بمجموعة كبيرة من المعاونين
والشركاء، وبصفة خاصة تمت مقابلتنا مع تاركوفسكي بعدما عرف أنه سيقابل
بولنديين، البلد القريب إلى قلبه، والذي حقق إنجازات وتحولات أوائل
الثمانينات، كان تاركوفسكي قد رحّب بها – كما اعترف – بفرحة غامرة، وقلق،
وأمل. وهكذا أصبحت هذه من أروع المقابلات فوق العادة التي مُنِحت للصحافة
من قبل مبدع عظيم مثله. وبعد أن كانت المدة المتفق عليها للمحادثة ساعة
واحدة استغرقت أربع ساعات خلالها كان انتقالنا من مبنى التليفزيون
باستوكهولم إلى منزل تاركوفسكي.
كان مٌحبطًا، فعلاقته مع الناس في الغرب تعرضت لكثير من سوء الفهم،
بيد أنه كانت السعادة بادية عليه لأنه يتكلم مع أشخاص من"هناك". تم تسجيل
أكثر من ساعتين على شريط الكاسيت ثم تفريغهما كتابة كما سيلي في واحد من
آخر الحوارات الطويلة التي أُجريت مع تاركوفسكي بعد أن حدث وانتشرت أخبار
المرض الذي كان قد تمكّن منه في جميع أنحاء العالم.
·
قدمت لنا في"المرآة"سيرتك
الذاتية. ما نوع المرآة التي استخدمتها؟ هل هي مرآة"ستندال"، التي ترحل عبر
الدروب، أم أنها المرآة التي وجدت نفسك فيها، تعلمت شيئًا عن نفسك لم تكن
تعرفه من قبل؟ بعبارة أخرى: هل هذا العمل واقعي أم أنه من وحي إبداعك
الذاتي؟ أو ربما يكون فيلمك محاولة تجميع قطع المرآة المهشمة وتأطيرها
مُستخدمًا الصورة السينمائية لتأليف وحدة كاملة منها؟
تاركوفسكي: السينما بصفة عامة هي دائمًا خلق إمكانية لوضع قطع متجاورة
داخل وحدة واحدة. برغم كل شيء فإن الفيلم يتكون من مجموعة من المشاهد
المنفصلة التي تشبه الفسيفساء – قطع مختلفة في اللون والنسيج. وكل قطعة
وحدها أو مستقلة بذاتها قد تبدو وهي منعزلة بلا مغزى. لكنها ضمن الكل ستصبح
عنصرًا ضروريًا تمامًا، إن معناها أو تواجدها هو فقط بتواجدها داخل حدود أو
إطار هذا الكل، لذلك تبدو السينما بالنسبة لي مهمة بمعنى أن كل جزئية صغيرة
في الفيلم لا يجوز النظر إليها منعزلة، ولا يمكن أن تكون أية قطعة في
الفيلم محلاً للتأمل والتفكير فيها بالعينين معًا، إذ لابد من توجيه إحدى
العينين بعيدًا، وعين في الآن نفسه تنظر إلى النتيجة النهائية. وكل قطعة
على حدة تحمل لونها باعتباره مساهمة ضمن اللون النهائي للعمل ككل. لذا، فإن
كل قطعة لا تؤدي دورًا رمزيًا مستقلاً ذا دلالة مستقلة بذاتها ولكنها
تتواجد فقط كجزء من عالم معين له أصالته وله تفرده وخصوصيته التي تخالف
تمامًا مدلول أي قطعة منعزلة في حد ذاتها.
·
لذلك فإن فيلم المرآة قريب بمعنى
معين أو من زاوية بذاتها من مفهومي النظري عن السينما. ولعلك تتساءل: أي
نوع من المرايا هذه؟
-
حسنًا، قبل كل شيء هذا الفيلم اعتمد في بنائه على سيناريو
حياتي الشخصية وليست به أية أحداث مُختلقة. الأحداث كلها كانت جزءًا
حقيقيًا من تاريخ عائلتي. كلها، دون استثناء. والحدث الوحيد الذي تم
اختلاقه هو مرض الراوي، المؤلف (الذي لم نره على الشاشة). بالمناسبة، كان
هذا الحدث شيقًا جدًا وضروريًا لكي ينقل الأزمة الروحية للمؤلف، الحالة
التي كانت عليها روحه. ربما كان مريضًا بشكل مميت وربما هذا هو سبب استدعاء
الذكريات، التي حيك منها الفيلم – ببساطة كأي رجل يتذكر أهم لحظات حياته
وهو يحتضر.
لذا فإن هذه ليست قسوة سهلة يمارسها المؤلف على ذاكرته – أتذكر فقط ما
أريده – لا، فهذه الذكريات خاصة برجل يحتضر، الأحداث التي يستدعيها لها
قدرها ووزنها في ضميره ووعيه. هكذا فإن الحدث الوحيد المخترع أصبح ضرورة،
مطلبًا أساسيًا يخدم بقية الأحداث وكلها حقيقية تمامًا. أنت تسأل إن كان
هذا النوع من الإبداع، حين يخلق الفرد عالمه الشخصي، هل هذا الإبداع هو
الحقيقة: حسنًا، إنها الحقيقة بالطبع لكن بعد أن انكسرت أشعتها في منشور
خلال ذاكرتي. لنأخذ على سبيل المثال بيت طفولتي الذي صوّرناه، الذي رأيته
في الفيلم. هذا البيت كان موقع تصوير على الطبيعة، أُعيد بناؤه بالتحديد في
نفس البقعة حيث كان موجودًا من قبل، منذ سنوات عديدة، قبل التصوير.
ما كان موجودًا هناك كان... ليس حتى الأساس، فقط الحفرة التي كانت
تحتويه يومًا ما. وبالتحديد في هذه البقعة أُعيد بناء البيت، شُيّد من جديد
عن طريق الصور الفوتوغرافية، بمنتهى الدقة.
كان هذا مهمًا جدًا بالنسبة لي – ليس لأنني أردت أن أكون واقعيًا أو
طبيعيًا نوعًا ما، ولكن لأن موقفي الشخصي كله نحو مضمون هذا الفيلم بُني
على هذا البيت؛ وكانت ستصبح دراما شخصية بالنسبة لي لو بدا البيت مختلفًا.
بالطبع نمت كثير من الأشجار في هذا المكان، كل شيء نما بشكل مُفرط، كان
علينا أن نقطع الكثير من الأشجار. لكنني عندما أحضرت أمي إلى هناك، وهي قد
ظهرت في أحداث عديدة، أثار المشهد مشاعرها إلى حد كبير، ولحظتها أدركت أنني
خلقت الانطباع الحقيقي.
سيُفكّر أحدهم: لماذا كان إتقان إعادة بناء الماضي عملية
ضرورية إلى هذا الحد؟ بل ليس مجرد الماضي لكن أيضًا ما قمت بتذكّره وكيفية
تذكّره. لم أحاول البحث عن إطار محدد لما كان داخل نفسي وللذكريات الشخصية،
بل إذا جاز التعبير؛ على العكس – لقد جاهدت لإعادة تقديم كل شيء بالطريقة
التي كان عليها، كررت حرفيًا ما تركّز بشكل ثابت في ذاكرتي. والنتيجة صارت
غريبة جدًا... كانت تجربة فريدة ورائعة بالنسبة لي. صنعت الفيلم من دون حدث
واحد اصطناعي أو مُختلق، من أجل إثارة الجمهور، وجذب انتباهه، أو شرح أي
شيء كان له – كانت هذه الذكريات الحقيقية المستعادة خاصة بعائلتنا، سيرتي
الذاتية، حياتي. وبرغم الحقيقة وأن المسألة شخصية – أو ربما بسببها – فقد
كانت فعلاً قصة حقيقية خاصة جدًا، تلقيت عديدًا من الخطابات فيما بعد من
المشاهدين الذين سألني كل واحد منهم السؤال البلاغي:"كيف استطعت أن تكتشف
حياتي أنا؟"وهذا مهم جدًا، مهم جدًا بالمعنى الروحاني الداخلي بالذات. ماذا
يعني هذا؟ لقد ذكرته كحقيقة أخلاقية مهمة جدًا وذات معنى روحاني،لأنه إذا
عبّر شخص ما عن مشاعره الصادقة في شكل عمل فني، فإن هذه المشاعر لن تستمر
كأسرار محجوبة عن الآخرين. وإذا كان المخرج أو المؤلف كاذبًا، ويعمل
الأشياء باصطناع، فسيصبح عمله بكل ما في الكلمة من معنى.
·
حياتك وكذلك حياة أسرتك لم يتشكّلا وفقًا للنموذج الأساسي للواقعية. فلم
تكن ثمة نموذجية – بالرغم من أن المشاهدين وجدوا في الفيلم، كما ذكرت، صور
حياتهم الشخصية متجسدة فيه. ماذا قدم لك والداك وبيتهما ونطاق الأسرة
اللصيق بك؟ وأخيرًا، ما هو مصدر إلهامك الفني والثقافي؟ نحن نسأل هذه
الأسئلة لأن الفنانين الروس بالنسبة للمشاهد البولندي بدون سيرة ذاتية –
هذه صفة مميزة جدًا – في حين لا يعرف المشاهد البولندي عن الفنانين
الغربيين تقريبًا أي شيء عدا سيرهم الذاتية.
تاركوفسكي: أتعرف – هذا صحيح، لكنه أيضًا غير صحيح. أنت على صواب
وأيضًا مخطئ بمعنى من المعاني. مخطئ بخصوص الانطباع الذي أخذته عن
الفنانين الروس حيث لم تنتبه للقصص الأصلية لحياتهم. بالطبع، إذا قارنهم
أحد بغيرهم من الفنانين المُحدثين عندئذ ربما تكون على صواب. أنا عن نفسي
لم أعقد أبدًا أية مقارنات بيني وبين الفنانين الحاليين.
أشعر دائمًا بشيء ما يربطني بفناني القرن التاسع عشر. خذ
مثلاً"توليستوي، ديستويفسكي"، والكتاب الآخرون من نفس النوعية،"تشيخوف،
تورجنيف، ليرمنتوف"أو، قل"بونين"– عندئذ سترى أي حياة فريدة تلك التي كانوا
يعيشونها وكيف كانت أعمالهم قريبة جدًا ومتصلة بحياتهم، بأقدراهم.
طبعًا، ما أريد أن أقوله لا يعني تمامًا أنني ألغي نفسي، إن صح
القول، من السياق الثقافي للـستينات، والسبعينات والثمانينات في الإتحاد
السوفيتي. ليست هذه هي القضية. لكنني بشكل قاطع ضد بعض الآراء الفجائية
التي قامت بفتح تلك الهوة عقب الثورة. هذه الهوة تم خلقها عمدًا، لكي تكون
إلى حد ما بداية مرحلة جديدة من مراحل تطوير الثقافة الروسية، لكنني أعتقد
أن الثقافة لا يمكن أن تتطور في الفراغ. نحن قادرون على محاولة نقل بعض
النباتات عالية القيمة، نقطفها ونستزرعها. لكنها لن تنمو، لا شيء سينمو
ويكبُر. لذلك فإن الكتاب الذين مروا بنقطة التحول هذه انتهت بهم أقدارهم
إلى صورة مأساوية جدًا، هؤلاء الذين بدأو الكتابة قبل الثورة وواصلوا عملهم
بعد ذلك: ألكسي تولستوي، جوركي، مايا كوفسكي، بلوك، تلك هي المأساة.
و"بونين"... هذا يشكل بصفة عامة دراما فظيعة."أخماتوفا"... الله يعلم من
أيضًا. مأساة."تسفيتيفا"... لم يربح أحد أي شيء، كان الاستزراع مستحيلاً.
كان من الضروري ألاَّ يكون هناك استزراع. ببساطة يجب ألاّ يُسمح لأحد بهذا
التجريب الفظيع في الثقافة مثل هذه التشريحات أكثر قسوة من الانتهاكات التي
تمارس على جسم الإنسان، إنهم يسجنون الأرواح، خذ على سبيل
المثال"بلاتونوف"، وهو ينتمي إلى هذه الفترة تمامًا، ألا وهي فترة التطور
الخاصة بروسيا السوفيتية. إنه كاتب روسي نموذجي. كانت حياته بالطبع لا
تستحق اسم الحياة من أوجه عديدة وقد انعكست بوضوح في أعماله.
·
لذا فإنك بصفة عامة لست على
صواب. وعندما تتحدث عني في هذا السياق، فإن الروابط التي تربطني بالثقافة
الروسية الكلاسيكية مهمة جدًا بالنسبة لي. كانت لهذه الثقافة الفطرية
استمراريتها ولا يزال لديها حتى يومنا هذا. لا أعتقد أنها ماتت. كنت أحد
هؤلاء الفنانين الذين خلال حياتهم عملوا – ربما حتى دون وعي– على محاولة
إدراك العلاقة بين ماضي روسيا ومستقبلها. خسارة هذه الروابط سيكون شيئًا
قاتلاً بالنسبة لي، لا أستطيع أن أحيا بدونها. دائمًا الفنان هو الذي يعمل
على ربط الماضي والمستقبل. يعيش ليس فقط في لحظته الآنية، إنه وسيط إن جاز
التعبير، إنه المر اكبي الذي يتولى نقل الماضي إلى المستقبل.
تاركوفسكي: ما الذي يمكنني أن أقوله عن عائلتي؟ كان والدي شاعرًا. كان
صبيًا رائعًا عندما قامت الثورة، حقًا لا أحد يستطيع أن يقول أنه كان
بالغًا قبل الثورة. لن يكون هذا صحيحًا على الإطلاق. لقد شبَّ بالفعل
أثناء الفترة السوفيتية. ولد في 1906، لذا ففي 1917 كان قد بلغ الحادية
عشرة، حقًا لقد كان ولدًا غير ناضج، لكنه كان مُتشربًا للثقافة التقليدية،
لقد كان مثقفًا. تخرج في معهد"بريوسوف"الأدبي وقد عرف الكثير، تقريبًا كل
الشعراء الروس الرواد العظام. بالطبع لا يستطيع أحد أن يتخيله منفصلاً عن
الشعر الروسي التقليدي، من نوعية"بلوك، أخماتوفا، مانديليستام، باسترناك،
زابولوتسكي". كان هذا مهم جدًا بالنسبة لي، وبطريقة ما تلقيت هذا كله من
والدي.
قام أبي وأمي بتربيتي، وبصفة خاصة أمي لأن أبي تركها عندما كنت في
الثالثة. لذا فإن من رباني بالفعل هي والدتي. سيكون من الصعب أن أقول
بالتحديد أي شيء واضح عن تأثري بوالدي كشاعر. بالنسبة لأبي، أكثر ما أثّر
فيَّ كان على مستوى الحس البيولوجي، على مستوى اللاوعي – بالرغم من أنني
ببساطة لست من أنصار"فرويد". أنا غير مُعجب بـ"فرويد"على الإطلاق.
أيضًا"يونج"لا يناسبني. فرويد مادي ببساطة مادي وقح، مثل"بافلوف"لكن فقط من
زاوية مختلفة. نظريته قائمة على احتمال مادي واحد لتفسير النفس البشرية.
أعتقد أن والدي لم يكن له تأثير عليّ، تأثير داخلي. إنني أُدين بكل
شيء بصفة أساسية إلى أمي. هي من ساعدني أن أجد نفسي. إن من ينظر الفيلم
سيرى بوضوح كيف كانت ظروفنا المعيشية قاسية جدًا، وصعبة جدًا. هذا في كل
الأوقات. عندما تُرِكَت أمي وحيدة، كنت أنا في الثالثة، وأختي في عمر سنة
ونصف وببساطة كرّست بقية عمرها لتربيتنا، لم تتزوج أبدًا، كانت معنا
دائمًا. لم تتزوج ثانية، أحبت زوجها، أبي، طوال حياتها.
كانت امرأة غير عادية، قديسة بالفعل. في البداية كانت غير مستعدة
للحياة بالمرة، بأي حال من الأحوال وجدت نفسها امرأة بلا أية وسائل دفاعية
بينما ينهار العالم بالكامل من حولها، بمعنى من المعاني. أولاً، كان عندها
طفلان ولم يكن لديها أي عمل ترتزق منه. والداي كانا يدرسان في
معهد"برسيلوف"لكن أمي كانت حاملاً في أختي ولم تكن قد حصلت على أية شهادة،
لم تحصل على أي شيء، لم يكن عندها وقت لتجد نفسها كامرأة مثقفة، مؤهلة.
حاولت ممارسة الأدب، رأيت عينات من نثرها وغيره. كان من الممكن أن تدرك
نفسها بطريقة مختلفة كلية إن لم تحاصرها هذه الكارثة.
لذا لم يكن لدينا بالفعل أية وسيلة، أمي حصلت على عمل بسيط كمصححة
بروفات في دار نشر وظلّت تعمل هناك حتى النهاية، أي، حتى بعد انتهاء الحرب،
لفترة طويلة، حتى أتيحت لها فرصة للتقاعد. لا أستطيع أن أفهم على الإطلاق
كيف تدبَّرت الأمر، كيف صمدت هكذا، على الأقل جسديًا... إنه أمر غير مفهوم.
كيف استطاعت أن تتيح لنا أن نتعلم؟ أنهيت دراستي في مدرسة الرسم والنحت في
موسكو وكانت بمصروفات. من أين كانت تحصل على المال؟ أيضًا أنهيت مدرسة
الموسيقا وأخذت دروسًا عند مدرس كانت أمي تدفع أجره.
·
ما هي علاقتك بتقاليد السينما
الروسية العظيمة؟ من هم أساتذتك؟
تاركوفسكي: وما الذي تعنيه السينما الروسية العظيمة.
·
إيزنشتاين، وبودوفكين؟
تاركوفسكي: آه نعم. نعم... أتعرف، بالنسبة
لي"دوفجينكو"و"بودوفكين"أكثر أهمية من"إيزنشتاين"بكثير.
·
كمبدع "إيفان الرهيب" و "ألكسندر
نيفيسكي"؟
تاركوفسكي: بصفة عامة. بالمناسبة، "إيزنشتاين" نُظر إليه كمخرج بشكل
خاطئ تمامًا من قبل القيادة السوفيتية خاصة ستالين. أُسيء فهمه – لأن
ستالين لو كان قد فهم أعمال إيزنشتاين في جوهرها، ما كان قد قام باضطهاده
أبدًا. وهذا كله لغز بالنسبة لي. أعرف كيف حدث، كثيرًا أو قليلاً لديً
فكرة. إيزنشتاين كان ألمعيًا، مثقفًا متمكنًا، في الوقت الذي كان فيه
المخرجين في السينما غير مثقفين على الإطلاق، كان ذكيًاً جدًا.
آنئذ كان الإخراج السينمائي بيد صغار الأولاد الشبان، الصغار هم الذين
صنعوا السينما، علموا أنفسهم بأنفسهم، بدون تعليم نظامي على الإطلاق، لقد
جاءوا إلى السينما كإفراز مباشر أفرزته الثورة وقذفت به إلى الحقل
السينمائي.
·
لكن كانت هناك عواطف...
تاركوفسكي: آه طبعًا، كانت هناك عواطف... مشاعر ثورية، أماني
مستقبلية، تحول ما في البناء الثقافي... بصفة عامة كان شيئًا
جيدًا..."إيزنشتاين"كان أحد القلائل، ربما كان الوحيد الذي قدَّر أهمية
التقاليد، كان يعرف ما هو التواصل، والتراث الثقافي. لكنه لم يستوعبه، في
قلبه، كان عقلانيًا إلى أقصى الحدود، عقلانيًا بشكل مرعب، يحسب حسابات لكل
الأشياء، في برج عاجي، ويمارس الإخراج انطلاقًا من قوانين العقل وحدها، كان
يرسم السينما التي صنعها على الورق أولاً، وكأنه آلة حاسبة، كان يرسم
الأشكال التخطيطية لكل شيء. إنه لا يرسم فقط إطارات الأفلام ولكنه يفكر في
كل شيء من البداية إلى النهاية ثم بعد ذلك يحشر كل شيء داخل الإطار. لم
يقترب من الحياة، الحياة لم تؤثر فيه بأية حال من الأحوال. الأفكار التي
أثرت فيه، أي، التي قام بتركيبها، وتحويلها إلى بعض الأشكال، وكقاعدة، كانت
هذه الأشكال ميتة تمامًا، صارمة كالحديد، شكلية للغاية، وجافة، ومجردة من
أي شعور. إطار الفيلم، مقوماته وسماته الشكلية، الفوتوغرافيا، الإضاءة،
الجو العام – لا شيء منها على الإطلاق نابع منه، كل شخصياته مدروسة بإمعان،
سواء التي اقتبسها من الرسوم واللوحات الزيتية أو بعض المؤلفات المختلقة.
كان هذا على مستوى الحس مطابقًا تمامًا لصناعة السينما باعتبارها إحدى
الصنائع، حيث تبدو السينما من هذا المنظور الضيق كتجميع أو كاتحاد مجموعة
من الفنون التخطيطية، والرسم، والمسرح، والموسيقا، وكل شيء آخر – ما عدا
السينما التي لم تكن هناك. كما لو أن مجموع كل هذه الأجزاء يعطي هذا الفن
الجديد.
لنكن منصفين – ثمة سوء فهم هائل، فالسينما محكومة بطبيعة خاصة ومحددة
لها تميزها عن الفنون الأخرى. إيزنشتاين لم ينجح في التعبير من خلال فنه
عمّا نسميه خصوصية الفن السينمائي. لقد قام بتوظيف شيء ما من كل أنواع
التخصصات والفنون لكن دون أن يدرك ما هو بالضبط المطلوب في الفن السينمائي،
ولو كان قد أدرك ذلك لحذف كل إسهامات الفنون الأخرى وأبقى فقط على ذلك
الشيء الجوهري فيما قدمه إلينا.
·
هل توافق على أن نطلق على أفلامك
رومانسية.
تاركوفسكي: لا، لا أرغب.
·
رغم أننا نجد فيها مثل هذه القضايا الرومانسية تتواتر كالرحلات
الرومانتيكية للبحث عن الهوية الفردية، والقيم المطلقة، نتعامل مع تقديس
العالم، ونبحث عن المقدس، نُؤسطر الأحداث (نخترع الأساطير للأحداث)،
وأخيرًا، نحن لدينا ثقة تامة في الصفاء والنقاء الأصلي للثقافة الروحية
التي يعرضها الفنان. كل هذه الروحية هي شيء رومانتيكي جدًا.
تاركوفسكي: قلت هذا بشكل جميل جدًا لكن تولّد عندي انطباع بأن ما
ميزته هنا ليس من الرومانسية في شيء. فما قمت بوصفه الآن لا شيء منه
بالتأكيد يتناسب معها. أظن"إضفاء الرومانسية"... حينما أسمع لفظتي"إضفاء
الرومانسية"أخاف. لأن هذا الإضفاء هو محاولة... بل هو ليس محاولة، إنه
طريقة مبالغ فيها للتعبير عن رؤيتك للعالم، إدراكك للحقيقة حيث الإنسان يرى
ويعيش الأحداث الحقيقية – في عالم حقيقي أكثر مما هي عليه من حقيقة.
والحال هكذا عندما تذكر شيئًا ما مقدس، عليك أن تبحث عن الحقيقة، إلخ... –
بالنسبة لي هذه...
·
هذه ليست الرومانسية؟
تاركوفسكي: هذه ليست الرومانسية لأنني لن أتمكن من أن أجعل الحقيقة
أكبر مما هي عليه. بصفة عامة الحقيقة بالنسبة لي أكبر بكثير مما يمكن أن
أجده فيها، أكثر عمقًا وأكثر قداسة من قدرتي على الإدراك. الرومانسيون
الحقيقيون اعتقدوا أن الحياة كانت أغنى بكثير مما كانوا يرونها عليه، أعني
كانوا يخمنون، اعتقدوا أن الحياة لم تكن بسيطة أبدًا، بل أن بها عمق، قليل
مما يمكن أن نسميه غرابة، وميتافيزيقا، ما بداخلها يفلت من إدراكنا، ما لا
يمكن أن نفهمه عن طريق المعرفة.
كانوا يحاولون تخمينه، يحاولون أن يُظهروه ويعبروا عنه. دعني أضرب
مثالاً: هناك أناس بإمكانهم أن يروا الهالة، بالتحديد وهج متعدد الألوان
يحيط بالجسم البشري، هؤلاء الناس الذين يمتلكون هذه الأحاسيس المتطورة إلى
درجة أعلى من غالبية الناس. تحدثت منذ فترة ليست بالبعيدة إلى رجل كهؤلاء
في برلين، صيني – يمكن أن يعالج أمراضك، يعرف جيدًا أو بالضبط ما هي ظروفك،
حالتك، ما الذي تشعر به، ما هي مشاكلك – بإمكانه أن يرى كل هذا عن طريق
الهالة.
·
لكن الشخصيات في أفلامك تبدو
كالأبطال الرومانتيكيين، إنها دائمًا على الطريق وهذه الرحلة – الحج تصبح
تلقينًا: على سبيل المثال"ستالكر"تمت صياغته حسب نمط نموذجي للتلقين
الرومانسي.
تاركوفسكي: في هذه الحالة... أنا لا أعتقد أنك تزعم أن"ديستويفسكي"كان
رومانسيًا؟ لكنه لم يكن رومانسيًا – إذا نظرنا إليه في زمانه، في نظرته
للحياة. رغم أن أبطاله دائمًا على الطريق، أيضًا.
·
أكثر مما لو أنهم في متاهة.
تاركوفسكي: لا يهم. إنها دائمًا نفس قصة الإنسان الباحث، السائر نحو
هدفه، مثل "ديوجين" بمصباحه. "راسكولنيكوف" في "الجريمة والعقاب" – بالطبع
كان أمره نفس الشيء، لا تجعل أقل الشك يساورك في هذا."إليوشا كارامازوف"–
نعم بالطبع. إنه أيضًا دائمًا على الطريق – لكنه ليس رومانسيًا. لهذا عندما
تقول"إنسان دائمًا على الطريق"– هذا ليس ضروريًا كسمة لتعريف الرومانسي،
فليس هذا هو الأكثر أهمية في الرومانسية.
·
عندما تحدثنا عن أبطالك قلنا
عنهم، هائمون، حجاج. وهنا سؤال: بالنسبة لبطلك، الهائم، الحاج، أليست هناك
أية فرصة أمامه لكي يخترق فوضى الأحداث التي تهدده دائمًا؟ الزمن لا يرحم
في أعمالك، يُحوِّل كل شيء إلى خراب: الوقت والأحداث يؤذيان ويبيدان
الشخصيات، ومادة كل شيء. هل تعتقد ببقاء القيم مثل الإخلاص، وإحساس الفرد
بكرامته، وحقه في تحقيق ذاته؟
تاركوفسكي: م م م. من الصعب أن تُسمي هذا سؤالاً، إنه حشد من المشكلات
المتنوعة التي قمت بتسجيلها. من الصعب بالنسبة لي أن أجيب عن سؤال كهذا صيغ
بشكل واسع. من ناحية هناك ذكر للزمن الذي لا يرحم الذي يبيد الشخصيات –
وبعد ذلك تقول:"ومادة كل شيء". هذا غير واضح تمامًا بالنسبة لي. وبعد كل
شيء تلك الشخصيات ليست مجرد"مادة"وحسب. كل شيء مادي يخضع للفناء لكن هذه
الشخصيات ليست مجرد مادة – بل هي أولاً وأساسًا أرواح.
·
بالطبع.
تاركوفسكي: لذلك أعتقد دائمًا أنه من المهم – على نطاق الروح
الإنسانية غير القابلة للفناء – أن أعرض المادة، التي هي موضوع للتضاؤل،
والانحلال والتخريب والفناء – في مقابل الروح التي هي غير قابلة للتخريب أو
الإتلاف – أنت لن تجد هذا رغم ذلك في"روبلوف"، مع أننا نتعامل بوضوح فيها
مع الدمار، وهناك الإبادة أو الإعدام لكن هذا على مستوى التخريب الأخلاقي،
وليس مقابلة الروحي ضد الفيزيائي... بينما في"ستالكر"، بل ولنقل بالفعل
في"المرآة"– عندنا على سبيل المثال هذا البيت الذي لم يعد بعد موجودًا
بينما نجد ما يمكن اعتباره لمسة من روح المكان تظل إلى الأبد. الأم، عندما
تذهب إلى الخارج – أتتذكر هذا؟ – كانت تبقى دائمًا كما هي. كان مهمًا
بالنسبة لي أن أعرض هذه الشخصية أو الروح الخاصة بالأم باعتبارها خالدة.
بينما الباقي خاضع للانحطاط والتلاشي، بالطبع هذا مُحزن – فالروح تشعر
بالحزن أحيانًا لرؤيتها نفسها ترحل عن الجسد. هناك بعض التوق والحنين إليه،
حزن وهمي. هذا أيضًا بديهي ويبرهن نفسه بالنسبة لي، فهذا التدمير لا تبالي
به الشخصيات، فقط الأشياء المادية.
لهذا كان من المهم أن نحصل على هذه المقارنة – لكي نعرض الحقيقة من
منظور رحلة الفناء، فالمادة وإن شاخت أو بقيت إلى ما بعد زمنها، إلا أنها
توجد داخل زمن بذاته – بينما الإنسان يبقى دائماً كما هو، أو بالأحرى، لا
يبقى كما هو ولكن يتطور، إلى ما لا نهاية.
أنت تتحدث عن الكرامة. من الواضح أن الكرامة مهمة جدًا، أكثر أهمية من
أي شيء آخر. وأنت تتحدث عن المسار، الرحلة. إذا كنا نتحدث عن الرحلة،
وأيضًا بشكل مجازي، يكون ليس من المهم تحديد مكان الوصول أو نهاية الرحلة،
المهم هو الشروع في الرحلة.
·
في"ستالكر"على سبيل المثال...
تاركوفسكي: دائمًا، وفي كافة الظروف. وفي"ستالكر"؟ ربما، أنا لا أدري.
لكنني أريد أن أقول شيئًا آخر – أن المهم رغم ذلك ليس هو ما حققه الفرد
بمجهوده، لكن دخول الفرد في المسار لتحقيق ما سوف يحققه. لماذا لا يهم إلى
أين الوصول؟ لأن الطريق لا نهائي. والرحلة ليست لها نهاية. لأجل هذا فلا
أهمية مطلقًا لحجم الإنجاز أي للعاقبة سواء كنت واقفًا بالقرب من البداية
أو بالقرب من النهاية – لأن أمامك مُسبقًا رحلة لن تنتهي. وإذا لم تدخل
الطريق – أهم شيء على الإطلاق هو دخوله. هنا تكمن المشكلة. لهذا فإن ما
يعنيني ليس المسار نفسه ولكن لحظة دخول الإنسان، دخوله أي مسار كان.
في"ستالكر"، على سبيل المثال، الدليل نفسه ربما لا يكون مهمًا أبدًا
بالنسبة لي، الأكثر أهمية هو"الكاتب"الذي ذهب إلى"المنطقة"كمارق براجماتي،
ورجع كرجل يتحدث عن الكرامة الإنسانية، ويدرك أنه لم يكن رجلاً جيدًا من
قبل. حتى أنه يواجه لأول مرة فيها هذا السؤال: هل الإنسان جيد أم سيئ خير
أم شر؟ وإذا هو فكّر في هذا السؤال بالفعل – فإنه يكون هكذا قد دخل
الطريق... وعندما يقول الدليل أن كل مجهوداته قد أهدرت، فلا أحد يفهم
شيئًا، ولا أحد يريده – إنه مخطئ لأن الكاتب فهِمَ كل شيء. ولذلك فإن
الدليل نفسه ليست له أية أهمية.
شيء آخر مشوق في هذا الصدد. أردت أن أعمل فيلمًا آخر، تتمة لستالكر
بينما – كان هذا ممكنًا فقط في روسيا، في الاتحاد السوفيتي، إنه مستحيل
الآن لأن الدليل وزوجته يتطلبان كدورين أداءهما بنفس الممثلين. شيء آخر مهم
هنا: لقد تغير، إنه لم يعد يعتقد أبدًا أن الناس بإمكانهم أن ينالوا هذه
السعادة، سعادة التحول الذاتي، التغيير الداخلي. وقد بدأ هو في تغيرهم بعد
ذلك بالقوة، بدأ يجبرهم ويخطفهم إلى"المنطقة"بواسطة بعض الحيل – لكي يجعل
حياتهم أفضل. تحول إلى فاشي. وها نحن لدينا
مثالية يمكن – لأسباب أيديولوجية واضحة – أن تتحول إلى النقيض، وعندما نجد
أن الغاية تبرر الوسيلة تتغير شخصية الإنسان.
قاد ثلاثة رجال إلى"المنطقة"بالقوة – هذا هو ما أردت أن أعرضه في
الفيلم الثاني – وهو لا يخجل أبدًا حتى من إراقة الدماء مادام يُنجز هدفه.
هذه بالفعل هي فكرة أعضاء محكمة التفتيش أولئك الذين يصمون أنفسهم بالإثم،
من أجل... إن جاز التعبير... من أجل...- الخلاص.
تاركوفسكي: الخلاص. هذا هو ما كان يكتب عنه"ديستويفسكي"طوال الوقت.
·
في"الشياطين".
تاركوفسكي: في"الشياطين"وفي"الإخوة كرامازوف". حتى أنه في"الشياطين"لم
يكتب عن هذا – هناك بصفة عامة إنكار للحافز الأول، أيًا كان هذا الحافز،
حتى أكثر الحوافز نبلاً... ينكر حتى تلك.
·
تلك هي"الشياطين".
تاركوفسكي: نعم، تلك هي"الشياطين". لكن في"الإخوة كرامازوف"كتب عن
الاشتراكية، بالضبط عن كل أولئك الناس الذين يُؤثِّمون أنفسهم ويحملون على
أكتافهم وزر خطيئة العنف باسم سعادة الجماهير.
·
أو باسم بعض الأفكار أو أشياء
أخرى.
تاركوفسكي: أو أفكار. هذا لا يهم. في هذا الخصوص، الأكثر أهمية
بالنسبة لي ليس الطريق نفسه – الذي هو أيضًا مهم، بالطبع – لكن بشكل عام
موضوع هؤلاء الذين يدخلون أولا يدخلون الطريق، سيشرعون في الرحلة أو لن
يشرعوا.
لذا كل هذه السمات التي استمعت إليها هنا بالطبع مهمة بالنسبة لي. كل
الميزات الإنسانية مهمة إلى أبعد الحدود بالنسبة لي. الكرامة، الحرية...
الحرية الداخلية – في ضوء وعيك بأن الحرية السياسية والحرية الروحية
مفهومان مختلفان. عندما نتحدث عن الحرية السياسية فإننا في الحقيقة لا نقصد
الحرية – وإنما نقصد الحقوق. الحق في العيش بطريقة تتفق وضميرنا، تلك التي
نعتقد بأنها ضرورية. الحق في خدمة المجتمع – كما نفهم نحن هذه المهمة. الحق
في أن تشعر بأنك حر. الحقوق. وبعض الواجبات، بالطبع. الواحد لا بد أن يكون
له حقوق بغض النظر عن أي شيء آخر. لكن عندما نتحدث عن الحرية، يستقر في
الذهن... لا أدري – إذا أردت أن تكون حرًا فستكون دائمًا حراً. نحن نعرف
أنه حتى المسجونين يمكن أن يكونوا أحرارًا. أيضًا يجب على المرء ألا يربط
الحرية بالتقدم، هذا غير ممكن بالتأكيد. منذ بداية الوعي الإنساني والإدراك
الفردي، والإنسان يمكن أن يكون إما حرًا أو غير حر – إحساسه الداخلي أي
المعنى الباطني لكلمة"حرية". لذلك عندما نتحدث عن الحرية يجب ألاّ نخلط
موضوعي الحقوق والحرية، حرية الروح الداخلية.
إنهم هنا لا يفقهون أي شيء مما أقوله عن الموضوع. منذ فترة ليست
بالبعيدة كنت في لقاء مثل هذا وكتبوا بعدها في الجرائد: إنه لغريب جدًا أن
يتحدث"تاركو فسكي"عن بعض الروحانيات. بالطبع – إنه غريب بالنسبة لهم، فهم
ببساطة ليست لديهم أية فكرة، إنهم لا يفهمون ما أقوله.
إنهم لا يدركون أنني أتحدث عن الروحانية بمعنى أن الإنسان يجب أن يعرف
لماذا يعيش، يجب أن يفكر في معنى حياته.
ومن يبدأ التفكير في هذا يكون لديه بمنظور معين بصيرة ببعض الضوء
الروحي، هذا السؤال لن ينسى ثانية، ولن يستبعد، إنه بالفعل على الطريق.
أيًا كان، إذا هو لم يسأل نفسه أبدًا هذا السؤال، فسيحرم من روحانيته،
سيعيش بشكل برجماتي، كحيوان. ولن يفهم أي شيء. لا شيء من هذا يفهمونه.
وعندما يكون صحفيًا هو الذي كتب عني هذا – أنا ببساطة صدمت. بالتأكيد هو
يعتقد: منذ ذكرت الروحانية، أن هذا بالتأكيد شيء ما يتعلق بالكنيسة
الأرثوذوكسية، تقريبًا شيء حول بعض الأكليروسية. بالنسبة له بالتأكيد لن
تجد لديه أسئلة عن الروح الإنسانية أو مغزى سعي الإنسان الأخلاقي الواجب
عليه خلال رحلته.
·
إذا سمحت لنا باستخدام عباراتك – هل يمكن القول أن الجمهور لم يبدأ بعد
سيره في الطريق المؤدي لأفلامك، وأن الجماهير لا يزال أمامها هذه الرحلة؟
تاركوفسكي: إنه من الصعب جدًا بالنسبة لي أن أرى ما إن كان هذا صحيحًا
أم لا نظرًا لأنني لا أراقب عن قرب ردود أفعال الجماهير تجاه أفلامي. أعرف
شيئًا واحدًا فقط: أن أفلامي كانت تجد جمهورها في الإتحاد السوفيتي بصعوبة
بالغة. لكن مع كل فيلم كان الجمهور ينمو ويزداد ومؤخرًا بالنسبة للفيلمين
الأخيرين ببساطة كان من المستحيل أن تجد تذاكر. تلك الأفلام تم سحبها من
التوزيع بمجرد أن أدركت إدارة"جوسكينو"السوفيتية أن أفلامي أصبحت جماهيرية.
سحبوها على الفور. أطلقوها أول الأمر على أمل أن تفشل فشلاً ذريعًا. لكن لم
يحدث هذا، فقاموا بسحبها.
·
كل أفلامك عُومِلت بنفس الطريقة؟
تاركوفسكي: لا، فقط أشرت إلى الفيلمين الأخيرين:"المرآة"و"ستالكر".
هذا هو ما كان مخططًا. كان هذا طريقًا صعبًا لأنه كان هناك فقط شيء واحد
عليَّ أن أؤديه: أن أكون أمينًا وأتكلم بصوتي الخاص عن الأشياء القريبة مني
وتلك التي أرغب أيضًا في أن تراها الجماهير بالمثل. في البداية كان هذا
النوع لا يجذب المشاهدين، ثم أخذت أعدادهم تزداد بشكل تدريجي.
إنه غريب جدًا: عندما تركت – لسوء الحظ – الإتحاد السوفيتي، كان
جمهوري يتألف من أناس صغار جدًا، أعمارهم بين 16 – 17 سنة – وهم يفهمونني.
ببساطة فهموا أفلامي. ما معنى هذا، فهموا. أنهم قبِِلوها، كانت عالمهم
بمعنى ما. كنت سعيدًا جدًا بهذا الشأن. لكن كقاعدة كان الناس الذين في نفس
عمري لا يجدون أنفسهم قريبين من هذه الأفلام، ليسوا بقدر الشباب الصغار.
هذا غريب جدًا، وأنا لن أحاول أن أُفسر هذا.
نفس هذه العملية حدثت في الغرب، في لندن على سبيل المثال لديهم، أعتقد
خمسة، العديد على أية حال، من عروض أفلامي بغرض التأمل والتحليل. وبالنسبة
للفيلم الأخير، ليس منذ فترة بعيدة، شهر أو حوالي شهر، صفوف المنتظرين كانت
هائلة. ما هذا؟ هل يفهمون أفلامي – أم أنهم لن يفهمونها؟ لا يمكن أن أقول
بالضبط. أو هنا في"استوكهولم"، صفوف المنتظرين أيضًا كانت هائلة، العديد من
الناس جاءوا لمشاهدة أفلامي، بل ولازالت إلى الآن يعاد عرضها... لا أعرف،
أنا عمومًا سعيد بانتشار أفلامي، ولكن هناك خطر هائل عندما أصبح... حسنًا،
عندما يشاهد كل شخص هذه الأفلام. باختصار، يترتب على ما كنا نناقشه مسبقًا
أنه من الخطير جدًا أن ينال المخرج نجاح ضخم في شباك التذاكر. خطير جدًا.
أنا لا أعتقد أن هناك أهمية في محاولة إيصال شيء في هذه الحالة. هناك من
وصل بالفعل لقمة الروحية، عبر التقدم خلال مراحل التطور الداخلي بينما يدعو
الجمهور إلى أن يتبعه. العكس بالضبط – الفنان في هذه الحالة ينزلق بنفسه
إلى مستوى أدنى. ليس هناك شك في هذا.
طبيعيًا، من أجل أن توجد السينما وتستمر يكون على المخرج أن ينال
شعبية وهذه بالضبط مأساة السينما، والحقيقة أنها ولِدَت في مهرجانات
للتسويق والتسوق، في الإثم، في ساحة السوق. كانت عندهم هناك أداة غريبة
الشكل: حينما تنظر داخلها بإمكانك أن ترى بعض البنات يتعرين، وحينما كنت
تضع عملة معدنية كان شيء يحدث. وهذه هي المأساة – لأن السينما لم تتغير قيد
أنملة منذ هذا الوقت، ولكي يصنع السينمائي أفلامًا فإن عليه أولاً أن يحصل
على المزيد من الأموال. هذا الأمر مختلف بالكامل في الفنون الأخرى. المرء
بإمكانه أن يكتب كتابًا وهو جالس في البيت – مثل – مثل"كافكا"الذي كتب ولم
ينشر شيئًا. لكن الكتاب كُتِبَ بالفعل.
باختصار: مسألة الصلة مع المشاهدين والشعبية بشكل عام معقدة جدًا.
واستمراريتها تعتمد ليس على المشكلات والمهام التي يفرضها الفنان على نفسه
لكن على المهام التي يفرضها المنتجين، ويفرضها المال، على الفنان. ربما في
وقت ما مستقبلاً حينما تصل التكنولوجيا إلى مستوى لن تتكلف معه السينما أي
شيء، سوف نضع خوذة معدنية فوق رؤوسنا ونُسجل كل خيالاتنا وتصوراتنا كما في
تصوير المخ بالأشعة السينية ثم نقوم بعملية مونتاج لها في شكل فيلم. سيكون
هذا رخيصًا. لكن عليك أن تعيش زمنًا طويلاً كي ترى هذا متحققًا، كي تتحدث
عن هذا النوع من التكنولوجيا الرخيصة. أما حاليًا فهذا مكلف جدًا.
·
وشخصيتك أنت؟
تاركوفسكي: إذا كنت تسأل عني فلن أستطيع أن أعطيك أية إجابة لأنني غير
قادر بالمرة على أن أحكم على نفسي. سوف أحكم خطأ إذا حاولت عمل هذا.
·
"بونين"كان
سيعمل نفس الشيء.
تاركوفسكي: ماذا تقصد؟
·
"بونين"سيعطي
في الغالب نفس الجواب عن سؤالنا هذا.
تاركوفسكي: أتعتقد ذلك؟
·
نعم. أعتقد أن كل شخص يفكر
ويتصرف بهذه الطريقة وهو يعتقد أنها طريقة جيدة.
تاركوفسكي: ما هو الجيد.
·
الجيد هو التصرف بهذه الطريقة.
تاركوفسكي: لكننني لم أقل ولا أستطيع أن أقول عن نفسي أبدًا أن ما
أفعله كان أو يكون جيدًا. أولاً، أنا لا أعتقد أنني أعمل كل شيء بطريقة
جيدة، والأدهى، أن الكثير جدًا مما فعلته جاء بشكل سيئ. نعم – لكن تلك قصة
أخرى لا محل لها الآن، هكذا أشعر أنني أكثر قربًا وبشدة
من"توليستوي"كشخصية. كنمط لفنان – وهو أقرب إليَّ من، قل،"ديستويفسكي"أو
أي شخص آخر، كنمط، كنموذج.
الظاهرة الأكثر روسية بالنسبة لي، الأكثر أهمية والأقرب لي – بالمعنى
الروحي – هي المشكلة التي حسنًا، لنسمها عقدة"القديس أنطوني". إنها صراع
الروح والمادة. تلك المشكلة"الهاملتية"."هاملت"كما نعرف إبداع"شكسبيري"،
بالطبع، وبالتأكيد ليس"ديستويفسكيًا"– إذًا ليس بإمكان الواحد منا أن يقول
أن هذا اكتشاف روسي. و"القديس أنطوني"كما نعرف أيضًا
ليس شخصية روسية. أيًا كان، هذه العقدة بالنسبة لي هي القضية الأكثر أهمية.
إنها الصراع بين الروح والمادة. إنها معركة يحارب فيها الله الشيطان ثانية
داخل الإنسان. ذلك هو الأكثر أهمية. و"توليستوي"ببساطة شعر بهذا، وعانى
بسبب هذا. كان راغبًا في أن يظل أخلاقيًا إلى الأبد، واجه السؤال وعرضه
مباشرة: ما هو الفن؟ وقرر أن لا أحد في حاجة لكل هذا على أية حال. إنه وهم
التطير البرجوازي. كان بالفعل يساريًا كبيرًا مكتملاً في هذه الأيام. رفض
عمله الإبداعي الخاص، بدأ يكتب مبادئ إلخ. إلخ. أيضًا أراد أن يُفلِح الأرض
ويزرع. صراع. صراع بين المثال والممكن، ما هو محتمل واقعيًا.
عن مجلة الدوحة 2005
المدى العراقية في
25/06/2013 |