من أجمل وأرق الأفلام التي شاهدتها في الدورة الـ63 من مهرجان برلين
السينمائي فيلم "أفضل العروض"
The Best Offer
للمخرج الإيطالي جيوسيبي تورناتوري صاحب الفيلم- التحفة "سينما باراديزو"
الذي أفسح له مكانا للعبور إلى العالم قبل نحو ربع قرن.
ورغم أن الفيلم الجديد يخرج عن نطاق أجواء صقلية التي يعرفها
تورناتوري جيدا ويعبر عنها في أفلامه لكي يدور في "مكان ما في أوروبا" كما
نقرأ على الشاشة في مطلع الفيلم، إلا أنه نجح في صنع عمل يبقى في الذاكرة
والوجدان، ويعيدنا إلى جوهر فكرة السينما كفن، أي ذلك السحر الذي يحتويك
ويأسرك لمدة ساعتين ثم يرحل بك في رحلة على جناح الخيال، ليطوف بك عالما
فنيا ربما يتخذ صبغة الواقعية أو يحاول محاكاة الواقع (شأن سائر الأفلام)،
إلا أنه يجعلك تعيش في تلك المنطقة الواقعة بين الخيال والواقع، وبين
الأسطورة والحقيقة، بين ما نلمسه وما نتخيله، بين منطقة الحلم وبين التطلع
إلى الانعتاق من قسوة الزمن، ومن ضراوة العجز عن التواصل.
إن فيلم "أفضل العروض" يروي ببساطة "قصة حب"، هذا هو جوهر الفيلم.
لكنها قصة حب تقع في ظروف محددة لشخصيات محددة ليست كأي شخصيات نقابلها
يوميا في حياتنا، وفي "مكان ما في أوروبا"، أي في مكان مجرد تماما دلالة
على أنه من الممكن أن تقع في أي مكان، ولشخصيات تعيش متجاورة لكنها يمكن أن
تكون قد عرفت بعضها البعض في الماضي.. في الخيال، وربما أيضا ليس لها وجود
فعلي بل تعيش فقط في الخيال. وهي أيضا قصة حب مليئة بالتضاريس التي تجعل
منها كابوسا حقيقيا.
صُوّر الفيلم في مدن عدة مثل براغ وفيينا وميلانو، وهو ناطق باللغة
الإنجليزية حتى يمكن توزيعه على نطاق عريض وخاصة في أسواق الولايات
المتحدة، كما أن الإنجليزية هنا تجعله عملا غير مرتبط بثقافة محددة ضيقة،
بعد أن اصبحت الإنجليزية لغة العالم. ويستخدم تورناتوري فيه طاقما تمثيليا
من بلدان عدة، يتكون أساسا من شخصيات أربع هي: جيوفري راش
Rush
البريطاني، وسلفيا هوكس Hoeks
الهولندية في أول أدوارها بالإنجليزية، ودونالد سوذرلاند الأمريكي، وجيم
ستيرجس البريطاني.
الغرفة السرية
"العروض" offers
كلمة تشير إلى ما يقدم من عروض للشراء خلال المزايدة على قطع نادرة وأعمال
فنية في صالات المزادات العالمية، فالفيلم يدور حول شخصية رجل يدعى "فيرجيل
أولدمان" (يقوم بالدور جيوفري راش) في الستينيات من عمره، متزمت ومنظم
للغاية، لم يسبق له الزواج أبدا بل لم يسبق له أن أقام أي علاقات عاطفية أو
حسية مع أي إمرأة، أي أنه بهذا المعنى عذري بيوريتاني (من هنا إسمه "فيرجيل-
أولدمان" أي العذري المتقدم في السن. هذا الرجل- الذي يملك ثروة طائلة،
يغشى الفنادق الفخمة، ويرتدي أفخر الثياب، بل إنه كما تكشف لنا اللقطة
الأولى من الفيلم، لديه عشرات الأحذية والبذلات وربطات العنق، يعيش حياة
الرفاهية وينتقل من مدينة كبرى إلى أخرى، لكي يدير المزادات. وهو في الوقت
نفسه خبير في الأعمال الفنية يمكنه أن يكتشف بسهولة عما إذا كانت لوحة ما
عملا فنيا أصيلا أم مزيفا، وهو يحفظ عن ظهر قلب تاريخ كل ما يقدم في
المزادات التي يديرها. يختلي "فيرجيل" بنفسه كل ليلة بعد أن ينتهي من العمل
المرهق، داخل قاعة سرية يدلف إليها من داخل دولاب ضخم في غرفة نومه،
باستخدام شفرة رقمية سرية لفتح بابها، حيث يجلس بالساعات بين عدد من أكثر
اللوحات الفنية ندرة في العالم. هذه اللوحات هي تحديدا لوحات "بورتريه"
لوجوه النساء والفتيات، من أشهر اللوحات العالمية لكبار الفنانين مثل
رافاييل وتيتان وفيلاسكويز. إنه يعوض حرمانه من المرأة بالتطلع إلى وجوه
النساء، اللاتي جعل منهن ملكية خاصة نفيسة جدا!
الفيلم يقدم فيرجيل كرجل جاد، يوالي العمل بدأب، ولكن لديه أيضا نقطة
ضعف خطيرة. إنه ليس على هذا القدر من الاستقامة كما يبدو عليه من الوهلة
الأولى، فهو يتفق مع صديقه "بيللي" (دونالد سوذرلاند) الذي يرتبط معه
بصداقة عمر، على الوصول إلى حد معين في المزايدات على أعمال فنية معينة،
بأسعار تقل كثيرا عن الأسعار الحقيقية، ثم يجعلها ترسو على صديقه، وبعد ذلك
يحصل منه على تلك القطع الفنية لنفسه مقابل أن يدفع له مبلغا من المال. إنه
إذن فاسد، يغش في"اللعب" ويستخدم صنعته من أجل الإثراء والاستحواذ. وتكاد
ألاعيبه أن تنفضح ذات مرة عندما يخطيء وينسب العطاء بشكل تعسفي إلى صديقه
في حين تكون سيدة هي التي رفعت يدها طالبة شراء القطعة الفنية قبله بثوان.
ويضطر بالتالي إلى أن يسلم اللوحة الفنية إلى السيدة بسعر زهيد يقول إنه
يقل عن سعرها الحقيقي بعدة ملايين من الدولارات. لقد اضطرب "فيرجيل" بعد أن
اقتحم حياته ذلك المجهول وأثار فضوله لدرجة جعلت حياته كلها تنقلب رأسا على
عقب. ما الذي حدث إذن"
المرأة المجهولة
تتصل به هاتفيا فتاة ذات يوم تدعى "كلير إبستون" تنتمي لأسرة شديدة
الثراء، توفي والداها وورثت عنهما قصرا منيفا قديما يحتوي على مئات من
القطع والتحف الفنية التي لا تقدر بثمن، وتطلب منه، بل وتلح عليه إلحاحا،
أن يقوم بتقدير قيمة هذا الكنز الذي لديها والذي تعتزم بيعه والانتقال من
القصر.
تقطع له كلير موعدا تلو آخر لكنها تعتذر في اللحظة الأخيرة عن طريق
الهاتف. إنه لا يراها أبدا بل يسمع صوتها فقط. ولكنه يرفض التعامل مع شخصية
لا يمكنه أن يتحادث معها ويراها مباشرة وجها لوجه. يغضب ويغلق سماعة الهاتف
في وجهها، لكنها تعاود الاتصال به وتستعطفه أن يقوم بتقييم مقتنياتها
الموروثة، قائلة إنه الوحيد الذي يمكنه القيام بهذه المهمة، وأن يعد قائمة
بمحتويات القصر تمهيدا لبيعها كلها. هذه المهمة تسيل بالطبع لعاب "فيرجيل".
وعندما تتاح له الفرصة أخيرا لأن يزور القصر عن طريق مساعد عجوز كان
يعمل خادما للأسرة، يفاجأ بأن الرجل لا يعرف تلك الفتاة ولم يسبق له أن
رآها قط، ويقول لصاحبنا إنه يعرف أنها تعاني من مرض مخيف ولا ترى الناس بل
وتحبس نفسها داخل جدران غرفة معينة من القصر.
ويظل التحادث بينهما من وراء الجدران. وتترك له هي نسخة من مفتاح
القصر. وتسيطر الفتاة تماما على عقل فيرجيل، وتجعله يسعى بأي ثمن لرؤيتها
ومعرفة من تكون ولماذا تخفي نفسها. ويلجأ في هذا إلى نصائح صديقه "روبرت"
ذلك المهندس الذي يفهم في فك ألغاز الآلات وإعادة تجميعها والذي يمتلك ورشة
خاصة.
يختبيء ذات يوم وراء عمود في غرفة الصالون بالقصر بعد أن يوهمها أنه
قد غادر. ويراها تخرج من مكمنها، صبوحة الوجه، حلوة كالنسيم، متفتحة
كالزهرة، مملتئة بالحيوية والحياة. ويقع صاحبنا في حبها على الفور. يتردد
على المكان مرة ومرات لكي يراقبها خلسة، لكن وجوده يفضحه ذات مرة، ويكون
اللقاء بينهما وجها لوجه. إنها لا تعاني من أي أمراض عضوية بل تقول إنها
تخشى رؤية الناس أي أنها تعاني من حالة نفسية. يتطور الأمر بينهما إلى
علاقة عاطفية حارة، وتقول له، وسط دهشته وذهوله، إنها لا تستطيع الحياة من
دونه وتأخذ في مطاردته في كل مكان باتصالاتها الهاتفية، ويقتنع صاحبنا بتلك
العلاقة الغريبة التي يتذوق فيها للمرة الأولى طعم العلاقة مع المرأة.
كشف السر
تزوره الفتاة في منزله الفخم، ويطلعها هو على سره
الدفين، أي على مخزن لوحاته الثمينة، بعد أن يكون قد نجح أخيرا في إقناعها
بأن يصطحبها معه خارج القصر الذي كانت تحبس نفسها فيه قائلة إنها لم تخرج
للحياة منذ سنوات!
يكون فيرجيل بالطبع قد أعد قائمة بمحتويات قصر كلير، وحدد لكل قطعة
سعرا، لكن الفتاة تطلب منه ذات يوم، أن يصرف النظر عن بيع محتويات قصرها
بعد أن غيرت رأيها فيقوم بكل بساطة بتمزيق قائمة التسعير. لقد استولى الحب
على قلبه وعقله تماما. تستمر العلاقة بينهما ويستمر هو في تشككه وتساؤلاته
المعذبة القلقة التي يطرحها على صديقه "روبرت": هل من الممكن أن يكون كل
هذا الحب زائفا؟ نوع من التمثيل مثلا. أيمكن أن توجد علاقة من هذا النوع؟
لقد كان هو الذي يقول دوما إن في كل عمل فني مزيف، يوجد شيء أصيل، من روح
الفنان الذي قام بالتزييف او بالتقليد والمحاكات، وهل يمكن بالتالي أن يكون
ما يبدو حقيقيا وأصيلا مجرد وهم زائف؟ هل يمكن أن يكون قد وقع في علاقة
"مزيفة" وهو الخبير في التفرقة بين الحقيقي والزائف؟
انفضاح الكذبة
هذا التشكك وغياب اليقينية هو الذي يعذب فيرجيل ويجعله يتقلب في
فراشه. وعندما يتوجه ذات يوم إلى قصر الفتاة حاملا معه هدية ثمينة من
الماس، يتعرض للاعتداء الوحشي خارج القصر وسرقة ما معه، وتراه هي من
النافذة فتسرع إلى الذهاب به إلى المستشفى. هناك إمرأة عجوز قصيرة (من
الأقزام) حباها الله بنعمة تذكر كل ما تراه بكل دقة وخاصة الأرقام والمرات،
تشاهد كل ما يجري من نافذة الحانة القريبة من القصر، وهي الحانة التي يتردد
عليها فيرجيل بين حين وآخر.
في هذا اليوم الموعود يذهب لزيارة كلير في القصر لكنه لا يجدها، بل
ولا يجد أيا من محتويات القصر فيتجه إلى الحانة ينتظرها ويترقبها من
النافذة، لكنها لا تعود أبدا.. يسأل المرأة القزمة عنها فتقول له إنها
غادرت وإن تلك هي المرة الثلاثمائة وستين التي تغادر فيها القصر هذه السنة!
لقد كانت تخرج إذن، وكانت تكذب عليه. تنهار حياة فيرجيل رأسا على عقب،
لكن المفاجأة الكبرى تأتي عندما يعود إلى بيته فيجد أن كل محتويات غرفته
السرية من اللوحات النادرة قد اختفت!
يعرف فيرجيل أن كلير أتت بعربة نقلت فيها اللوحات ثم ذهبت مع صديقه
المهندس "روبرت" وصديقته السوداء واختفى الثلاثة. هل كان الأمر كله مجرد
"لعبة" لعبها الثلاثة عليه؟ هل هي خطة وضعت من البداية للاحتيال عليه
وسرقته وتدميره؟ أم أنها خطة نشأت خلال تطور العلاقة؟ ولماذا؟ ما الذنب
الذي جناه لكي ينتهي وتنتهي حياته بمثل هذه القسوة؟
ربما يصح هنا تذكرالمثل الذي يقول إن "الجزاء من جنس العمل" فقد كان
فيرجيل يسمح لنفسه بالاستيلاء على قطع معدنية صدئة صغيرة ملقاة في الطابق
التحت أرضي في قصر كلير، وكان يسلم هذه القطع القديمة إلى روبرت لكي يقوم
بتجميعها معا، وبالفعل ينجح ذلك المهنس العبقري في تشكيل كائن حديدي يقال
إنه أول نموذج للإنسان الآلي الناطق ينتمي للقرن الثامن عشر من تصميم فنان
شهير أي انه يحصل أيضا على قطعة تاريخية نادرة، وهي القطعة التي ستتركها له
كلير في نهاية الفيلم!
تكوينات مدهشة
النصف الأول من الفيلم تحفة كاملة لا يوجد فيها خطأ واحد، ولمدة ساعة
كاملة نتابع، الكشف طبقة طبقة، وكأننا نزيح صفحة وراء أخرى من كتاب
الأسرار، نكتشف شيئا في نهاية كل مشهد يشدنا للولوج في المشهد التالي
وهكذا.. شيء ساحر.
فيلم بديع في بنائه وتكويناته المدهشة، ومدير تصوير متمكن وواثق يقوم
بتوزيع الضوء بما يتناسب مع الأجواء السحرية للقصة، مع الإحاطة الهادئة
بقطع الديكور والإكسسوار، في باروكية حديثة مذهلة. موسيقى إنيو موريكوني
(صاحب موسيقى أفلام سيرجيو ليوني الشهيرة وغيرها)، تتألق بإيقاعاتها
الساخنة الصاخبة أحيانا، التي تضفي أجواء الإثارة العاطفية حينا، وطابع
اللغز أحيانا. وتحركات الممثلين التي يعرف تورناتوري كيف يضبط إيقاعها بدقة.
ربما يبدو الفيلم أقل تألقا وسحرا والإيقاع أكثر بطئا في النصف الثاني
منه، أي بعد الكشف عن شخصية كلير أمام الكاميرا، لكن هذا الكشف كان لابد
منه لكي تتطور القصة وتتخذ أبعادها التي أرادها لها المؤلف العبقري (وهو
تورناتوري نفسه).. وربما تبدو أن هناك بعض المشاهد الزائدة أو المكررة،
لكننا أمام الصورة السينمائية في أجمل حالاتها: كاميرا تتحرك وتراقب وتتابع
وتتلصص، وتكوينات بصرية رصينة وجذابة.
ولعل من أكثر جوانب الفيلم تألقا ذلك الأداء الواثق للممثل البريطاني
"جيوفري راش" في الدور الرئيسي. إنه موجود تقريبا في كل لقطة وفي كل مشهد،
يتحرك بدقة شديدة، ويؤدي بملامح الوجه والحركة الرصينة للجسد، والإيماءات
في لقطات الكلوز أب، وينفعل إنفعالات محكومة.. إنه أحد أساتذة الدراما
الإنجليزية التي لا تبارى.
فيلم "أفضل العروض" أخيرا يعيدك إلى براءة السينما، ويأسرك بسحرها
ويجعلك تتساءل كثيرا عن الحياة وما يقع فيها من مفارقات، لها مقدمات غريبة،
يمكن أن تترتب عليها نتائج أكثر غرابة.
أليست السينما في النهاية.. إحدى أعاجيب عصرنا!
الجزيرة الوثائقية في
17/07/2013
مهرجان الفيلم العربي في باريس: العرب سينمائيا
ندى الأزهري- باريس
معلقة الدورة
من جديد تعود السينما العربية إلى معهد العالم العربي. فبناء على
تجربة العام الماضي تقرر جعل هذا الموعد سنويا للتعريف بالفيلم العربي
والسعي لتوزيعه في فرنسا وأوروبا. المهرجان هو ثمرة تعاون وثيق مع مجموعة
كومن برود الدولية.
اقتصر برنامج التظاهرة ،التي دامت خمسة ايام و انتهت في الاسبوع الأول
من يوليو، على حوالى ثلاثين فيلما بين طويل (6) وقصير ووثائقي(9)، أُنجزوا
ما بين 2011 و 2013 ومثَلوا العالم العربي من المغرب إلى المشرق مرورا بدول
الخليج والسودان.
ركزت مواضيع الأفلام المختارة على الأحداث الاجتماعية والسياسية في
المجتمعات العربية وبالذات على "الحدث الحالي" بحيث عكس بعضها "المجتمع
العربي بتنوعه وغناه وتعقيداته" وفق تقديم المعهد في نشرته. وكان ثمة
اهتمام خاص بالفيلم القصير والوثائقي بحيث طغى حضور هذين النوعين بوضوح على
الفيلم الروائي الطويل.
من بين الأفلام الوثائقية كان فيلم "متسللون" للفلسطيني خالد جرَار.
إنه من تلك الأفلام التي تسجل وضعا كما هو، دون تدخل أو سيناريو مسبق، على
الأقل هذا ما أوحى به الفيلم الذي اعتمد في البداية على كاميرا تلاحق
الفلسطينيين"المتسللين" عبر منفذ ما في الجدار العازل، بعيدا عن الحواجز
وعن الممرات المقفلة في وجوههم. الصورة تكررت في بداية الشريط حول محاولات
العبور دون شرح يذكر، فلم يتبين المشاهد من أين يأتي هؤلاء المتسللين وإلى
اين يذهبون. أهمية الفيلم كانت إذا تصاعدية سواء على صعيد الشكل أم
المضمون. فاتخذت الصورة دورا أقل تسجيلية وأكثر فنية وشرع المتسللون في
الكلام، في تبيان دوافعهم الذاتية للتعرض هكذا للخطر. دوافع تباينت بين
رغبة في العمل في الطرف الآخر، أو السعي للصلاة في مسجد الصخرة أو لزيارة
الاقارب. ثمة لقطات كانت جدَ جميلة كالقبضات على الحواجز المعدنية، أو
معبرة ومؤثرة كتلك الفجوة الصغيرة التي لا تتسع سوى لتمرير كيلوغرامات من
الكعك، كعكة تلو أخرى لبيعها في الناحية الأخرى، وتمرير الرضيع في النفق...
عن الأنفاق كذلك جاء فيلم الفلسطيني محمد حرب. "نفق الموت" يبين
اساليب فلسطينيي غزة في تدبر معيشتهم حين إغلاق نفق بيت حانون. نجح الفيلم
في نقل معاناة السكان وبحثهم الخطر عن لقمة العيش. وعبرت في الفيلم لحظات
خففت من قسوة المشاهد كتلك التي تبدي عمليات نقل الأغنام عبر النفق.
عدة أفلام سورية جديدة (2013) شاركت في التظاهرة. السوري وائل طوبجي
نفَذ فيلم التحريك"إيد واحدة"، حيث الجندي يدهس في خطوة واحدة كل برعم
ينمو. الخطوة لا تلبث أن تتسع محاولة دعس براعم تبرز من كل صوب لتنجح في
النهاية وتمسي شجرة. الجندي لا يصبح إنسانا في الشريط إلا حين يتخلص من
بذلته العسكرية، تميز الفيلم بموسيقاه التصويرية. أما افتتاحية "الكلب"
للسوري فارس خاشوق فقد فاجئت الحضور بالخطاب" الموالي" لإحدى الشخصيات.
السيناريو رصد اسلوب تفكير موالين للنظام السوري مقيمين في بلدان الخليج
قبل أن يبدي التحولات التي تطرأ على شخصيتين. فمن متابعة تلفزيون "الدنيا"
السوري واستخدام أسلوبه في الهزء من مطالب المتظاهرين السوريين بالحرية،
إلى الشعور بثقل موالاتهم بعد ازدياد أعداد الضحايا ومنهم حمزة الخطيب..
استخدم المخرج أسلوبا فانتازيا بدا ثقيلا لرسم هذا التحول، فالشخصيتان
باتتا ترزحان تحت وطء خطوط وشمت على ظهورهما تمثل أسماء الشهداء السوريين.
وفانتازيا أيضا في الفيلم القصير" أقدام على الأرض" للجزائري أمين
حطَو عن شاب لا يستطيع الاستقرار على الأرض، كان لديه دائما إحساسا بأنه
يطير بعيدا، وكانت تجربة العمل في مجال الاتصالات كفيلة بقتل كل شعور
بالتحليق لديه. فيلم رمزي لا يخلو من شاعرية وبحث عن أسلوب متميز في
الإخراج.
وعلى الرغم من بعض المبالغات لم يخل فيلم البحريني محمد راشد بوعلي من
المتعة، ووفق تماما في شخصياته المختارة من الواقع( الأم والأب). "هنا
لندن" عن أبوين يريدان ارسال صورة لهما لولدهما المقيم في لندن. يبدو الامر
بسيطا لكن ثمة تعقيدات تفرضها التقاليد يحاول بو علي تقديمها بأسلوب ساخر
خفيف الظَل، لا يحكم عليها بقدر ما يبدي تناقضاتها.
تلك الخفة نقع عليها كذلك في فيلم روائي قصير ( 15د) آخر للبناني فريد
سمير ناصر(2010)، والذي نجح فيه في معاينة مشاعر صبي تجاه فتاة ساحرة
الجمال تكبره. “من نظرة" عن الحب الأول في حياة صبي، وإذ ينجح المخرج في
رصد محاولات الصغير المنبهرة بكل تحركات معشوقته فهو يميل أحيانا إلى بعض
المبالغات ولا سيما في مشهد لحاق الصبي بسيارة الفتاة ليعطيها منديلها الذي
سقط منها. ففي المشهد بدت المسافة جد قريبة بين الاثنين بحيث لم يكن ممكنا
عدم ملاحظتها له.
الفيلم اللبناني "ابي يشبه عبد الناصر" لفرح قاسم، يبدي مشاعر من نوع
آخر، مشاعر فتاة تصور يوميات والدها بحب، يغلف رغبتها في تسجيل أقواله
وتحركاته خوف من الفقدان. يحضر صوت الابنة دون صورتها مع استثناءات. لا
تبدو مشاهد من مدينة طرابلس حيث صور الفيلم بل فقط أماكن مغلقة. فيلم ذاتي.
عرض كذلك فيلما" الصرخة" لليمنية خديجة السلامي، و"ظل راجل" للمصرية
حنان عبد الله، وهما فيلمان وثائقيان حققا سنة 2011 وجابا مهرجانات عدة
وجرى الحديث عنهما في اكثر من مجال. وبالطبع هذا لا يمنع المتعة عند
مشاهدتهما من جديد للتوقف مع المخرجتين أمام نماذج جريئة ومستقلة من النساء
العربيات..
الجزيرة الوثائقية في
17/07/2013
فكر السينما التسجيلية
ترجمة : صلاح سرميني
هذه النصوص (الدروس) هي خلاصاتٌ نظرية لوثائق سمعية/بصرية، وأفلاماً
تسجيلية عن فكر السينما التسجيلية، متاحة للمُشاهدة العامة من خلال قناة
افتراضية هي Canal-U،
مشروعٌ يخصّ المجتمع الأكاديميّ، بدأ منذ عام 2000 بقيادة "الهيئة الرقمية
للتعليم العالي" التي تتبع "وزارة التعليم العالي، والبحوث"، ويُشرف على
هذا المشروع "مركز الموارد، والمعلومات الخاصّ بالوسائط الإعلامية للتعليم
العالي".
Canal-U
هي موقعٌ مرجعيّ للمواد السمعية/البصرية للتعليم العالي، وخزينة أفلام
رقمية، بإمكان الأساتذة، والطلبة أن يجدوا فيها برامج ثرية تتضمّن وثائق
تربوية معتمدة من طرف الهيئات العلمية للجامعات الرقمية المُتخصصة، وتتوجه
هذه القناة إلى الطلبة، والأساتذة، والباحثين بمُقتضى محورين :
ـ توفير موارد تعليمية بالإضافة إلى المناهج المُعتادة.
ـ مواكبة تطورات الجامعة الفرنسية بتطوير استخدام تكنولوجيا المعلومات،
والاتصالات في مجال التعليم العالي.
ومن بين المُشاركين في هذا المشروع "السينماتيك الفرنسية" التي تحتوي
خزينتها على مؤتمراتٍ مصوّرة، ولقاءاتٍ حول السينما.
الدرس1 (الجزء الأول).
المخرجون التسجيليون، وأدواتهم عبر السنين.
وُلدت السينما التسجيلية من اللقاء بين رغبة سينمائيين في اكتشاف العالم،
وعشق مُكتشفين في تسجيل الواقع
:
بين الأخوين لويّ، وأوغوست لوميير اللذان صورا غداءً عائلياً صامتاً بواسطة
كاميرا سينمائية بالأبيض، والأسود، و"دومينيك كابريرا" تصور نفسها بكاميرا
د. ف. د رقمية بالألوان، والصوت، هناك مئة عام من الكتابة التسجيلية،
والاختراعات التقنية.
أراد السينمائيون نقل الحياة اليومية لمُعاصريهم مع إبداء وجهة نظرهم
بالاقتراب تدريجياً من حميميتهم إلى درجة أنهم أصبحوا في بعض المرات
"ممثلين" لأفلامهم، ومن أجل تحقيق ذلك، تمّ تأسيس حواراتٍ دائمة بينهم،
وتوّجب على المخترعين، والمهندسين
:
ـ التفكير بتخفيف الكاميرات.
ـ وضعها على حوامل ثلاثية يمكن تحريكها في كلّ الاتجاهات بطريقةٍ انسيابية.
ـ ترويض ألوان الشريط السينمائي.
ـ الإقدام على فتح حقيقيّ لسماع الأشخاص الذين يصورهم المخرجون مباشرةً.
ـ جمع الصورة، والصوت في شريط واحد مع وصول الفيديو.
ـ اكتشاف تقنياتٍ جديدة للمونتاج أكثر بساطة، وسهولة.
ـ تصغير كلّ التجهيزات حتى الوصول إلى الكاميرا التي نعرفها اليوم.
(خلاصةٌ
نظرية مأخوذة من الفيلم التسجيلي : "المخرجون التسجيليون، وأدواتهم عبر
السنين"، إخراج "كاترين غوبيل"، 53 دقيقة، إنتاج عام 2003).
الدرس1 (الجزء الثاني).
يُصوّر كي يشاهد.
روبيرت فلاهرتي، واكتشاف الإخراج التسجيلي.
تسجيليّ : تمّ توثيق هذا الوصف التعريفيّ منذ عام 1876 (قاموس روبير)، وبدأ
تطبيقه على الفيلم في عام 1896.
في عام 1915 أصبحت كلمة
(Documentaire)
في اللغة الفرنسية وصفاً، وفي عام 1967 تمّ توثيق الاختصار (docu)،
ولكن، بإمكاننا الافتراض بأنها وُجدت قبل ذلك التاريخ في اللغة المحكية،
بينما الكلمة المُركبة
(docucu)
أكثر حداثةً، وتُستخدم بمعنى تحقيريّ(فيلمٌ تسجيليّ متواضع).
في اللغة الإنكليزية، ظهرت كلمة
(documentary)
عام 1926 في مقالة كتبها "جون غريرسون" في New York Sun
حول فيلم "موانا" لـ"روبيرت فلاهرتي".
(موانا،
تقريرٌ بصريٌّ لأحداثٍ من الحياة اليومية عن شباب سكان جزر المحيط،
وعائلاتهم، يمتلك قيمة تسجيلية).
وُفق "بول روثا"، (الكلمة مُستعارة من الفرنسية، وتُسخدم إذاً في تصنيف
أفلام الرحلات، والاكتشافات، وهي ليست تقارير ممّلة عن رحلات).
بدون شكّ، ساهمت المقالة التي كتبها "غريرسون" في جعل "روبرت فلاهرتي"
شخصية أسطورية "أبّ السينما التسجيلية".
تاريخياً، هذه المكانة محلّ دراسة : منذ عام 1895 ظهرت أفلام يمكن تصنيفها
تسجيلية، وقد يصبح النقاش التاريخي، والنظريّ حول هذا الموضوع بلا نهاية،
ومعقداً وبالتالي لابد من الانتباه إلى الملاحظات التالية
:
- كحال
الأدب، يتوّجب علينا تحديد تاريخ ظهور نوع سينمائي عندما يتمّ التعرف عليه،
وتحديده
- بإمكاننا
اعتبار الأفلام التي سبقت هذا التاريخ وعوداً، بدايات، تفريخات،
..
- فقط،
مفهومٌ غائيّ من تاريخ الفن يمكن أن يسمح بضمّها لاحقاً إلى نوع ما،
وتقييمها تعسفياً تحت خانة البدايات.
- لن
يكون هناك أصلاً، ولكن بدايات، إذاً، من غير المُجدي البحث بأيّ ثمن عن أول
"فيلم تسجيلي في تاريخ السينما الفرنسية"، لقد نشأ النوع بالتدريج، وظهر ما
بين 1915 (فرنسا)، و1926 (بريطانيا).
تعرضت كلمة "تسجيلي" مثل كلّ كلمات اللغة إلى تحولاتٍ في المعنى، حتى أنّ
متفرج اليوم يعاني من بعض الصعوبات في قبولها على هذا النحو، على سبيل
المثال، "رجل آران"، أو "قصة لويزيانا"، بنظرةٍ معاصرة، وبالاستناد على
إدارة الممثلين غير المحترفين، ونظام السرد الطفيف (وُفق تعبير "بول
روتا")، سوف يضعها بالأحرى في جانب الأفلام الروائية، علينا إذاً القبول
بأن أفلاماً تمّ تصنيفها تسجيلية، اليوم، يمكن أن لا ننظر إليها بمُقتضى
نفس التصنيفات، ويعتبر هذا التغيير جزءاً من تاريخ النوع.
"تسجيليّ
: "هو فيلمٌ تعليميّ يُظهر وقائع حقيقية، وليست متخيلة" (قاموس روبير).
يتوضح الهدف التعليميّ للفيلم التسجيلي من الاسم نفسه، اشتقاقيا، الكلمة
مأخوذة من اللاتينية
(docere)،
وتعني : تعليم، تثقيف، تبيين،
Un documentum
هي مثال، نموذج، درس، تعليم، إظهار، هنا أيضاً، علينا الأخذ بعين الإعتبار
التحولات التاريخية للكلمات.
حالياً، بدأنا نعتبر نقل المعارف في فيلم تسجيلي من الآثار الجانبيةّ، وليس
بالضرورة أساسياً، ويكمن الجوهري إذاً في منح وجهة نظر حول حقيقة ما.
(ملاحظات
مأخوذة من مقالة كتبها "بيير بودري" : بعض المعارف الأساسية للتفكير في
الفيلم التسجيلي، نُشرت في ملفٍ بعنوان "الإخراج التسجيلي"، نصوصٌ جمعها
"جيل ديلافود"، إصدار عام 1994.
هذه الملاحظات أيضاً، هي خلاصةٌ نظرية مأخوذة من الفيلم التسجيلي : "يُصور
كي يشاهد، روبيرت فلاهرتي، واكتشاف الإخراج التسجيلي"، إخراج "جيل ديلافود"،
41 دقيقة، إنتاج عام 1994).
الجزء الأول
محاولات تعريف الفيلم التسجيلي.
ـ تعريف الفيلم التسجيلي يُحدث نقاشاً لانهاية له.
ـ هل الفيلم التسجيلي فقط : "تفسيرٌ إبداعيّ للواقع" ؟
ـ الفيلم التسجيلي ليس نوعاً بنفس المعنى الذي نُطلقه على أفلام النوع
المُصنفة وُفق موضوعاتها، أو تأثيراتها على المتفرجين.
ـ يمتلك الفيلم التسجيلي أنساباً، ويتطور عبر التاريخ.
ـ يمتلك الفيلم التسجيلي غاية محددة : تقديم المعرفة.
ـ غالباً، الفيلم التسجيلي ينقل قيما (حتى مشكوكٌ فيها)، ويمتلك غرضاَ
جاداً.
ـ لا تكفي الخصائص الشكلية للفيلم التسجيلي لتعريفه.
ـ عملياً، يتبين لنا، بأنّ الفيلم التسجيلي يتوافق مع بعض المُمارسات
الاجتماعية (إنتاج، وبث على سبيل المثال).
ـ من وجهة نظر أنثروبولوجية، الفيلم التسجيلي إنتاج رمزيّ من طراز خاصّ
(أنظر الدرس الثالث : نظرية الفيلم التسجيلي).
ـ يجب
فحص وظيفته في داخل المجموعات البشرية.
ـ خلاصة : يهدف الفيلم التسجيلي إلى نقل المعارف، ما يطرح مسألة طرائقه
الإستطرادية، وشعريته، ويشير إلى غير الروائي (أنظر الدرس الثالث : نظرية
الفيلم التسجيلي)، ويقدم صوراً متطابقة مع الواقع.
الجزء الثاني : لتوسيع النقاش
ـ لماذا التمييز بين روائي، وغير ـ روائي ؟ يرفض فكر ما بعد الحداثة هذا
الأمر، ولكن اقترابا نفعياً يأخذ بعين الاعتبار خصائصه.
ـ تمّ مسبقاً نقد الأنظمة السينمائية (التجهيزات)، ويمكن اليوم تجازوه.
ـ مع ذلك، يمتلك الفيلم التسجيلي وظيفة سياسية، يتعلق الأمر في نهاية
المطاف بطرح تساؤلات عن العالم.
ـ تخضع صور الواقع لبعض التناقض : حيث نحكم عليها بأنها موثوقة، أو لا وُفق
السياقات التي وردت فيها.
الدرس 3
نظرية الفيلم الوثائقي.
لقاء مع "جان لوك ليولت" (أستاذ في جامعة بروفانس/فرنسا)
أفلامٌ اجتماعية، إثنوغرافية، علمية، أو سياسية، طورت أشكالاً من السيرة
الذاتية، البورتريه، المُذكرات فيلمية : أشكال الفيلم التسجيلي متنوعة إلى
حدٍّ كبير، وبالتالي، سوف يكون تبسيطاً إستيعابه في "نوع"، "إنه مجالٌ
معقدٌ يكشف في الوقت ذاته عن معايير اقتصادية كما شبكات تصنيع، وبث، ومراجع
سينمائية، إنه مساحة عمل، لفتة، إشارة : من أجل التوجه نحو الحقيقي، ...
وتقترح هذه المناقشة التمهيدية الإرتكاز على التمييز الخاطئ بين التسجيلي،
والروائي، من أجل التساؤل حول مسألة التفريق بين الحقيقي، والمزيف، وإظهار
بأن إنتاج معنى محدد للفيلم التسجيلي يمكن أن يتطور في حالاتٍ مختلفة
...
-
في الأساس هناك طريقة واحدة لتجسيد العالم الحقيقي، والتي في نهاية المطاف
نجدها في الغالبية العظمى من الأفلام.
-
ومع ذلك، هناك أشكال مختلفة للمُحاكاة تؤدي وظائف مختلفة.
-
وبالتالي، تمتلك الأنشطة الخيالية/الروائية علاقة مع جانبٍ مسليّ، وترفيهي
للمحاكاة : في هذه الحالة، نوافق على تعليق القواعد المعتادة للواقع.
-
الإطار النفعيّ/الذرائعيّ للروائي هو تقاسم الخداع الترفيهيّ.
-
الإطار النفعيّ/الذرائعيّ للتسجيلي هو قبول جدية الواقع المُؤكد
.
-
إتفاق محدد ينشأ بين المؤلف، وجمهور الفيلم التسجيلي.
-
متفرج الأفلام التسجيلية يقظ، وحذر.
-
الشك، أو الاعتقاد في الصور؟
-
فيما يتعلق بالواقع، والحقيقة، المفردات الحالية غنية، ولكنها غير دقيقة.
-
من الناحية النظرية، هناك "مستويان" من الواقع : الأول ملموسٌ مع خصائصه
الموضوعية، والثاني يكمن في المعاني، والقيم التي نمنحها له.
-
المستويان في علاقة متبادلة، لا يمكن أن يكون المستوى الثاني موضوعياً.
-
لا يمكن التطرق للمستوى الثاني إلا من خلال وجهات نظر ذاتية متباينة.
-
وجهات النظر الذاتية المتباينة لا يمكن أن تضمن حكماً بالإجماع.
-
يشير الفيلم التسجيلي، بالآن ذاته، إلى كلا المستويين، الواقع الملموس،
والحقائق الرمزية.
-
ما يسمح الفيلم التسجيلي بإجماع على وجهات النظر المتباينة على تأكيداتٍ
جدية، وينطوي هذا الأمر على افتراض صحة هذه التأكيدات.
الجزيرة الوثائقية في
16/07/2013
دبلوماسية السينما
أحمد بوغابة / المغرب
مهرجان السينما الإفريقية الذي يُقام بمدينة خريبكة (وسط المغرب) هو
أقدم مهرجان على الإطلاق بالمغرب. فهو ثاني مهرجان تأسس بهذا البلد (سنة
1977) بعد تجربة مهرجان طنجة (شمال المغرب) لسينما البحر المتوسط سنة 1968.
لكن هذا الأخير لم يُعَمر أكثر من دورة واحدة بعد اغتياله في نفس السنة وهو
في طريقه غصبا عنه إلى العاصمة الرباط. ليكون بذلك مهرجان خريبكة للسينما
الإفريقية هو المهرجان الوحيد الذي مازال صامدا إلى يومنا هذا، وهو الذي
عَبَرَ تضاريس صعبة ومشاكل كثيرة في مسيرته الطويلة تلك فراكم تجارب غنية
لمدة 36 سنة من عمره. وهذا ما حدا بالأستاذ نور الدين الصايل، رئيس مؤسسة
مهرجان السينما الإفريقية بخريبكة وأحد مؤسسيه، للقول في كلمته الترحيبية
عند افتتاح المهرجان في دورته الأخيرة (16) بأن "هذا الحلم الحميمي للقاء
بين المغرب وإفريقيا تعكسه القاعة بحضور أسماء وازنة في السينما الإفريقية
إلى جانب المغاربة وأوروبيين من إسبانيا وإيطاليا وكندا وفرنسا...، فهو
اعتراف إفريقي بالمهرجان بعد الاعتراف الدولي به والوطني أيضا". ليستأنف
قائلا بأن "مهرجان خريبكة هو أرخص مهرجان دولي في ميزانيته فينبغي أن
تتبناه المدينة ومنطقتها الواسعة وتحمله معنويا ورمزيا وماليا أيضا".
إن مهرجان السينما الإفريقية بخريبكة يشبه كثيرا مصير المدينة
المنجمية نفسها الشهيرة بالفوسفاط. مدينة عُمالية مناضلة التي تُعطي/ تُنتج
ولا تأخذ في المقابل ما تستحقه. والمهرجان بدوره يمتد إشعاعه في الخريطة
الإفريقية بما ينتجه من تأثير إيجابي دون أن يجد اعترافا له بالجميل من لدن
"بعض الجهات" بالمدينة ذات الأفق والتفكير المحدودين، ولم تستوعب الدور
السياسي للمهرجان في المرحلة الحالية. وهذا ما دفع بعامل المدينة ـ كمسؤول
أول عليها ـ لتنظيم حفل شاي رمزي على شرف الضيوف بمقره لتصحيح خطأ المجلس
البلدي، الخارج التغطية، وكتعبير واضح لرسالة سياسية لمن يريد أن يفهم.
يلعب مهرجان السينما الإفريقية بخريبكة في السنين الأخيرة ما يمكن
اصطلاحه بالدبلوماسية الموازية من خلال الفن السابع بموازاة مع ما يقوم به
المركز السينمائي المغربي في نفس الإطار السينمائي. وبالتالي فوجود المغرب
سينمائيا بإفريقيا من خلال المؤسستين المذكورتين يصحح أيضا خطأ غيابه من
الساحة السياسية بعد انسحابه من منظمة الوحدة الإفريقية سنة 1984 حين تم
الاعتراف حينها بعضوية الجهورية الصحراوية (ستغير المنظمة الإفريقية إسمها
في سنة 2001 لتصبح الاتحاد الإفريقي).
وعليه، فالمكانة المتميزة التي يحتلها المغرب حاليا في إفريقيا هي
سينمائية بالدرجة الأولى بفضل مشاركته الفعلية والعملية، سواء بالإنتاج
المشترك، أو بفتح مجال العمل في مختبر المركز السينمائي المغربي، أو
بالاستفادة من التجربة السينمائية المغربية. ولم يشمل هذا التعاون الأفلام
وحدها بالمساهمة في إنتاجها بل أيضا تقديم خدمات في تأسيس مؤسسات المراكز
السينمائية في بعض الأقطار التي لم تكن تتوفر عليها من قبل، وكذا في مجال
التعليم السينمائي، فضلا عن مساعدة بعض الشباب للدراسة بالمدرسة العليا
للفنون البصرية والسمعية بمراكش (جنوب المغرب). وأصبح المغرب ـ أيضا ـ
مشاركا في جميع التظاهرات السينمائية المقامة في مختلف الأقطار الإفريقية
من شمالها إلى جنوبها ومن غربها إلى شرقها. يجتهد كثيرا، من خلال
المؤسستين، ضمن رؤية شمولية للتعاون القاري أو ما يُطلق عليه ب "الجنوب –
الجنوب" أو بعبارة أصح "إفريقيا ـ إفريقيا" حسب ما جاء على لسان أحد
المخرجين المشاركين في المهرجان إبان الندوة الرئيسية. وهذا ليس مزايدة أو
من أجل الاستهلاك السياسي بقدر ما تثبته الأفعال. علما أن الطريق مازال
طويلا في القارة الإفريقية الممتدة على نصف الكرة الأرضية باختلافاتها
المختلفة والمتعددة.
الإنتاج المغربي/الإفريقي
ساهم المغرب، خلال ربع قرن، في إنتاج 43 فيلما بالقارة الإفريقية.
وهناك مشاريع في طريق إنجازها خلال السنة الجارية. فمن فيلمين إلى أربعة
أفلام في السنة التي كان يساهم فيها قبل عقد من الزمن إلى 8 أفلام في السنة
الماضية (2012). وكان مهرجان السينما الإفريقية في العام الفائت فضاء
مناسبا أيضا لتأسيس "تجمع السينما الإفريقية" بغرض تنسيق المجهودات
السينمائية في مختلف المرافق بين عدد من الأقطار الإفريقية ضم السنغال
وبوركينا فاصو والنيجر والبنين والكوت ديفوار ومالي... والمغرب طبعا. فهذا
"التجمع السينمائي" قابل للامتداد نحو اقطار أخرى من إفريقيا التي تسعى
لتكون السينما فيها لها دور ثقافي ومهام حضارية تبني من خلالها علاقات
شاملة بينها.
وفي هذا الإطار تم خلال انعقاد الدورة الأخيرة (16) للمهرجان تنظيم
ندوة حول "الإنتاج السينمائي المشترك بين المغرب والأقطار الإفريقية"
للحديث عن التعاون السينمائي المغربي/الإفريقي وتقييم ما تحقق وما ينبغي
القيام به لمواجهة الصعوبات والعراقيل التي واجهتها خاصة في مجال التوزيع
والقاعات السينمائية ودور القنوات التلفزيونية الغائبة إنتاجا ودعما. كما
امتد النقاش إلى واقع السينمات الوطنية في كل قطر وحالتها في ظل الأوضاع
المتدهورة في إفريقيا. شارك في تأطير هذه الندوة المسؤولين الحاليين في
المؤسسات السينمائية ببلدانهم وأيضا السابقين كالمخرج الشيخ عمر سيسيكو من
مالي الذي كان وزيرا سابقا للثقافة في بلاده، وفاديكا لانسيني المدير العام
للمؤسسة الوطنية في الكوت ديفوار، وميشيل ويدراوغو المندوب العام لمهرجان
"فيسباك"و ببوركينا فاصو، وإلى جانبهم أحد الأسماء الفرنسية البارزة في
دعمها للسينما الإفريقية وهو السيد دومينيك والون سواء حين كان مسؤولا
سابقا بالمركز الوطني الفرنسي للسينما أو بتنظيمه لمهرجان سينمائي إفريقي
بفرنسا حاليا. وقد أدار الندوة الأستاذ نور الدين الصايل، رئيس مؤسسة
مهرجان السينما الإفريقية بخريبكة ومدير المركز السينمائي المغربي، الذي
اعترف له جميع المتدخلين بالدور الكبير والنضالي لصالح السينما الإفريقية
منذ كان مسؤولا ومديرا للبرامج بالقناة الفرنسية "كنال أوريزون" في عقد
التسعينات من القرن الماضي وصولا إلى موقعه الحالي بالمركز السينمائي
المغربي ومرورا بإدارته للقناة المغربية الثانية في مطلع الألفية الثالثة
وكذا على رأس مهرجان خريبكة طيلة أزيد من ثلاثة عقود. وتفاعلت القاعة أيضا
بإيجابية مع الآراء المطروحة نقدا وتحليلا وبأسئلة عميقة واقتراحات ملموسة
لأفضل التعاون دون انتظار القرارات السياسية للخروج من دائرة تكرار تلك
الإشكاليات التي تتخبط فيها السينما الإفريقية منذ مدة، حيث كانت جل
التعليقات والمداخلات من مخرجين شباب جاؤوا من أقطار إفريقية مختلفة حتى
تحولت الندوة إلى شبه مناظرة حقيقية رغبة من الجميع لأجرأة خطوات ملموسة
إلى الأمام في الفعل السينمائي.
ويُلاحظ في الدورة الأخيرة لمهرجان السينما الإفريقية بخريبكة بأنه لم
يعد الحضور مغلقا ـ كالسابق ـ في الأقطار الناطقة بالفرنسية فحسب بل حضر
عدد من المخرجين والممثلين والممثلات الذين ينتمون للأقطار الناطقة
بالإنجليزية والبرتغالية وبأفلام لها نكهة خاصة، وبوجهات النظر جديدة. تُوج
هذا اللقاء/الندوة/المناظرة في الأخير بتوقيع إتفاقية جديدة بين المركز
السينمائي المغربي والمركز السينمائي بالنيجر لتنضاف إلى عدد من الاتفاقات
المبرمة، من قبل، مع أقطار مختلفة منذ سنة 1989 مع مالي ثم السنغال سنة
1992 والكوت ديفوار سنة 2011 ومؤخرا مع البنين. دون نسيان الدعم المغربي
لمهرجان "فيسباكو" ببوركينا فاصو الذي بدأ يعلن برامجه من مدينة طنجة خلال
المهرجان الوطني بطنجة.
وتضامن المهرجان مع محنة مالي الحاضرة على الدوام بتكريم سينماها عبر
تكريم المخرج ووزير الثقافة السابق الشيخ عمر سيسيكو في أمسية سينمائية
التي أشاد فيها الأستاذ نور الدين الصايل بهذه المعلمة السينمائية المناضلة
على مختلف الواجهات حيث جمع بين السياسة والسينما في تناسق متكامل دون ان
يكون لذلك تأثير سلبي على حساب الفن أو السياسة. وهذا التكريم والتضامن مع
مالي هو تأكيد آخر على انتصار دبلوماسية السينما للمغرب على مختلف المجالات
الأخرى التي تخلف فيها إفريقياً سواء الرياضية أو الفنية أوالسياسية.
صمود الثقافة السينمائية
فقد أصبح مهرجان السينما الإفريقية بخريبكة يشكل محطة أساسية للأفلام
الإفريقية الروائية منذ تحوله إلى مهرجان سنوي تديره مؤسسة خاصة به،
وبخروجه من مرحلة الهواية والغموض نحو الاحترافية رغم استمرار صعوبات كثيرة
أمامه تتلخص في غياب البنية التحتية بالمدينة واللامبالاة لبعض الجهات
الرسمية فيها التي تتصارع في ما بينها لأغراض سياسية انتخابوية صرفة عوض أن
تحتضن التظاهرة التي تعطيها إشعاعا خارجيا سواء كان دوليا أو قاريا أو
وطنيا، وأن تستوعب دور الدبلوماسية الموازية عبر السينما وتخدمها لكي لا
يبقى المغرب منعزلا كليا من جذوره الجغرافية والتاريخية. إن مهرجان السينما
الإفريقية بخريبكة هو واحد من أشهر أربع المهرجانات المقامة بالمغرب إلى
جانب المهرجان الوطني بطنجة والمهرجان الدولي بمراكش ومهرجان سينما أقطار
المتوسط بتطوان.
كانت إدارة مهرجان السينما الإفريقية بخريبكة ذكية باختيارها هذه
السنة برمجة فيلم الافتتاح "بولنوار" للمخرج حميد الزوغي الذي تم تصويره
بناحية المدينة وبفنانيها المحليين أيضا والذي يتطرق لعمال مناجم الفوسفاط
بالمنطقة. فكان حفل الافتتاح يتضمن كل الأبعاد الفنية والاجتماعية والنفسية
المريحة للكثيرين إذ كان بمثابة حفل المدينة بأكملها. إحتفل المهرجان
بالمدينة فاحتفلت به هي أيضا وبادلته الاعتراف خاصة وأن الفيلم شارك بدوره
في المسابقة الرسمية. رغم أن الفيلم لم يحصل على جائزة ما إلا أن مشاركته
من خلال حفل الافتتاح وحضور أغلب المشاركين فيه يوم عرضه الأول في المغرب
ثم في اليوم الموالي عند مناقشته فأعطى لذلك الحفل خصوصية لم يعرفها
المهرجان من قبل.
احتفظ المهرجان بإحدى تقاليده المتجسدة في تكريمه أسماء سينمائية
إفريقية منذ تأسيسه حيث تم في حفل الافتتاح، هذه السنة، تكريم الناقد
الراحل محمد الدهان والذي كان قد ترأس لجنة التحكيم في السنة الماضية
(الدورة 15) والذي فارق الحياة في شهر فبراير من السنة الحالية. ألقى
الناقد أيت عمر المختار (الرئيس السابق للجامعة الوطنية للأندية السينمائية
بالمغرب ومدير مهرجان الفيلم القصير بالقنيطرة) بالمناسبة كلمة جد
مُعَبِّرَة حيث اجتهد فيها بالخروج من الكلمات الروتينية التي تعودنا على
سماعها في مثل هذه المناسبات بذكر تاريخ الراحل وخصاله الحميدة ومساهماته
في مجاله التي يعرفها الجميع ومتوفرة لمن يسعى الاطلاع عليها. فقد كان أيت
عمر المختار ذكيا في حديثه عن محمد الدهان لكونه كان بعلم بحكم تجربته
ومواكبته للمهرجانات أن السيرة الذاتية للراحل ستكون مطبوعة في كتاب
المهرجان، وأنها متوفرة أيضا في الأنترنيت وقد تم تداولها عند إعلان وفاته،
لذلك اختار الحديث عن محمد الدهان بشكل مختلف من خلال كتاباته. خاصة
الكتابات الأخيرة التي يبدو فيها الراحل وكأنه يُقيم تجربته الشخصية وموقعه
في الساحة السينمائية عبر حديثه عن بعض الأفلام وكذا عن رحيل صديقه غازي
فخر عبد الرزاق الذي أسس معه الجامعة الوطنية للأندية السينمائية والذي
فارقنا هو أيضا في السنة الجارية. كانت كلمة الناقد المختار أيت عمر مقتضبة
لكنها غنية المحتوى بالتقاطه لبعض العناصر الأساسية في فكر الراحل محمد
الدهان.
عرف المهرجان فقرات سينمائية أخرى عدة منها الورشات في فنون السينما
لصالح التلاميذ كالتصوير والسيناريو والمونتاج الرقمي وإدارة الممثل وسينما
التحريك والفيديو. كما تم تكريم المخرج المغربي حسن بنجلون عند اختتام
المهرجان.
ليالي السينما
يتذكر السينمائيون الأفارقة والعرب وكل المدعوين من أوروبا، نقادا
وصحفيين ومدراء المهرجانات، تلك السهرات الليلية التي تمتد إلى طلوع الشمس،
في أغلب الأحيان، التي تكون غنية بالنقاشات السينمائية حول الأفلام
ومحتوياتها الفنية وكتاباتها، أو حول إشكالية ما تمس صميم السينما في
القارة السمراء. نقاشات غنية بالأفكار والردود والبحث فيها. ويتم أحيانا
عرض فيلم قصير أو متوسط في بداية الليلة ليكون موضوع النقاش والحديث بين
حساسيات مختلفة ومتنوعة المشارب الفكرية والفنية والسياسية حتى. ويمكن أن
يكون أحد المخرجين الحاضرين موضوع النقاش أيضا الذي يشارك فيه بحب ويتعامل
معه باحترافية عالية. لذا كثير ما ألتقي ببعض من الذين واكبوا المهرجان
ليسألوني عن تلك الليالي إن كانت مستمرة وبنفس الحماس والاهتمام. يتذكرها
كثير منهم أكثر مما يتذكرون أفلام الدورة والأسماء والعناوين. إن تلك
الليالي السينمائية هي جزء من خصوصية مهرجان السينما الإفريقية بخريبكة لا
نجدها في مهرجان مغربي آخر خاصة وأن الطقس الحار بالمدينة يسمح بالسهر.
كان موضوع "الليالي" لهذه السنة "ذاكرة وتاريخ الجامعة الوطنية
للأندية السينمائية بالمغرب" بعد أن تمكنت من جمع أطرافها ولملمة شملها
بتشكيل مكتب جديد يريد أن يعيد أمجادها (نتمنى ذلك بإخلاص وصدق لأن الأندية
كانت مدرسة للسينما). وتجدر الإشارة التاريخية هنا أن الجامعة الوطنية
للأندية السينمائية هي مُؤَسسة مهرجان السينما الإفريقية بخريبكة بتعاون مع
النادي المحلي للمدينة سنة 1977. وكان حينها قد انطلق كملتقى سينمائي ثقافي
محض قبل أن يصبح مهرجانا في أواخر الثمانينات من القرن الماضي ثم شملته
تعديلات كثيرة مع مرور السنوات عندما تدخلت أطراف كثيرة بالمدينة التي كانت
تريد الاستيلاء عليه بدعوى أنه يُقام في "تُرابها" وهي مُمَولته الأساسية.
لكن في الحقيقة كان الهدف مصلحي مرتبط بالانتخابات ففقد حينها دوره
السينمائي إلى أن تم استعادته من جديد وهيكلته بصيغة محترفة ضمن قوانين
واضحة تؤطره مؤسسة تتحمل كامل المسؤولية فيه وعليه.
كانت "ليالي" هذه السنة مخصصة لإحدى أهم الجمعيات السينمائية التي
عرفها التاريخ الثقافي للمغرب الحديث كما سبق القول قبل قليل. وهذه العودة
بمثابة للتذكير بالتاريخ الذي يجهله الكثيرون ويركب عليه البعض الآخر الذين
لم يكونوا حينها في صيرورة التاريخ السينمائي متوهمين أنهم بإمكانهم الكذب
على التاريخ الذي يحفظ بذاكرته. حضر هذا اللقاء تقريبا جل الرؤساء الذين
تناوبوا على رأس هذه الجمعية طيلة 40 سنة وبعض كتابها العامين. حضر التاريخ
طبعا من وجهات نظر مختلفة حيث تباينت الآراء فيه لكن الجميع ركز على سؤال
المستقبل وكيف التعامل معه في ظل التطورات التي عرفتها الثقافة السينمائية
المتأثرة بتطور الفرجة وتعددها وما وفرته التكنولوجية لها، وحتى تطور
السينما المغربية نفسها، وغيرها من الأسئلة الوجيهة والمهمة التي تم بسطها
للإجابة عنها جماعيا. وأجمع الجميع، وبدون استثناء، أن العمل في الأندية
مستقبلا سيكون بالضرورة مختلفا عما كان عليه في السابق إذ لا جدال في ذلك.
امتد النقاش في موضوع الأندية وجامعتها لليلتين متتاليتين لم تُستنفذ فيهما
كل الآراء والأفكار والاقتراحات والتقييمات بقدر ما كانت مجرد توطئة لنقاش
واسع يريد المكتب الجديد تعميمه على كل من يرى نفسه مؤهلا للمساهمة فيه
لتشكيل رؤية جديدة للعمل تتماشى مع الواقع الجديد. وقد أخبر المكتب الجامعي
بالمناسبة أنه بصدد إعداد لجامعة صيفية تنكب فقط على دراسة مستقبل هذه
الجمعية حتى تلتحق بالركب السينمائي المغربي بعد سنوات من الجمود لأن
مهمتها لم تنته بعد.
كما تم تخصيص ليلة من تلك الليالي للمخرج المغربي المتميز الراحل أحمد
البوعناني بعرض مشاهد من فيلم وثائقي عنه في إطار الإنجاز من طرف المخرج
الشاب علي الصافي وفيلم فيديو قصير أنتجته إبنته تودة انطلاقا من قصيدة شعر
كان قد كتبها ابوها لأمها/زوجته السينمائية الراحلة نعيمة السعودي واعتمادا
أيضا على لقطات ومشاهد من فيلم للراحل أحمد البوعناني بعنوان "مسيرة شاعر"
كانت أمها قد لعبت فيه دورا أساسيا. فقد مزجت تودة البوعناني بين القصيدة
والفيلم. وتم تخصيص ليلتين أيضا للسينما والأدب من خلال فيلم "الفهد"نموذجا
وهو للمخرج الإيطالي لتيشنو فيسكونتي.
تونس تفوز باسم فلسطين
فاز الفيلم التونسي " مملكة النمل" للمخرج شوقي ماجري في هذه الدورة
بالجائزة الكبرى للمهرجان التي تحمل إسم المخرج السنغالي الراحل "عصمان
سمبين". وهذا الفيلم يتناول القضية الفلسطينية من وجهة نظر مخرج تونسي.
فيما ذهبت الجائزة الخاصة للجنة التحكيم لفيلم "زامورا"للمخرج شمس بهانجي
من تانزانيا. بينما جائزة الإخراج كانت من نصيب المخرج السنغالي "موسى
توري" عن فيلمه "القارب" الذي حصد أيضا على جائزة الدور الثاني رجالي
للممثل "لايتي فال". وحاز الفيلم المصري "مصور قتيل" على جائزة السيناريو
لكريم العدل وحاز في ذات الوقت على جائزة أفضل ممثل حصل عليها أياد نصار.
وجائزة أفضل ممثلة تمكنت منها المغربية شيماء بن عيشة عن دورها في فيلم
"ملاك" للمخرج عبد السلام الكلاعي، وجائزة الدور الثاني نسائي للممثلة إيفا
ميكاليلا عن دورها في فيلم "فرجين ماركاريدا" للمخرج ليسينيو أزيفدو من
الموزمبيق. كما نوهت اللجنة أيضا بفيلم "ملغاشي منكاني" للمخرج حمينيانيا
راتوفورفوني من مدغشقر وبالممثلة كريمة إيسوفو عن دورها في فيلم "شريفة"
للمخرج "ستيفان آف" من الطوغو.
وترأس لجنة التحكيم الدورة 16 فاديكا كرامو لانسيني، المدير العام
للمركز الوطني للسينما بكوت ديفوار وبعضوية كل من الممثلتين المغربيتين
حنان الفاضلي وسناء العلوي، وكاترين جان جوزيف سانتيك من المعهد الوطني
للسينما بفرنسا والمخرج المغربي لحسن زينون والناقدين والباحثين والمخرجين
بول موكيتا ودوروتي دوكنون.
وقد شارك في المسابقة الرسمية 17 فيلما تمتد على مختلف الجهات بالقارة
الشاسعة حيث لم تعد المشاركة مقتصرة على الأقطار الإفريقية التي تُسمى ب"الفرنكوفونية"
وعلى شمال إفريقيا كما كان الحال سابقا في بدايات هذه التظاهرة بل تنوعت
الأفلام حاليا المشاركة آتية من اقطار تدخل في خانة الأنغلوسكسونية" وأخرى
كانت مُستعمرة من طرف البرتغال أيضا فأعطت لوحة سينمائية غنية بمختلف
أبعادها الثقافية والفنية والسياسية، تعكس تنوع القارة نفسها.
الجزيرة الوثائقية في
16/07/2013 |